لم يدر كيف جرؤ وقالها!
وصحيح أن وجهه قد تورم من الضرب بعدها، باعتبار أنه رد على الأسطى الكبير، وتلك جريمة لا تغتفر .. إلا أنه فوجئ بنفس الأسطى، بعدما شبع من صفعه وركله، يقول لأصحابه الذي يشربون الشيشة: إنما إيه رأيكم؟ عجبني .. رد علي صحيح إنما عجبني .. والنبي الواد ده ح يطلع أجدع من تشومبة!
وتشومبة المأخوذ من تشومبي، هو الصبي الأول للأسطى ومساعده، أكبر من إبراهيم في السن وأغمق في السمرة .. أكرت الشعر، فرطح الأنف، غليظ الصوت، على عكس أخيه «لممبا» .. فتشومبة لا هم له طوال اليوم إلا تعذيبه وصفعه وقوله: ابقى سلم على أمك ياد!
أول مرة قالها، صفعه، فضربه تشومبة علقة لا ينساها. إن أول عمل بالتأكيد سيفعله حين يكبر أن يقتل تشومبة .. ويقتل أول دبة يلقاها. والدبة بدت سخيفة جدا وهو يرددها مع الأولاد .. ولم يعد في ترديدها ما يثير، وأصبح انحناؤه ليدخل تحت السرير أشد .. وكالكبار، لم يعد ينام لحظة أن يضع رأسه على المخدة الطويلة التي بططت وجفت حتى أصبحت كلوح الخشب .. والهمس أصبح يفرقه عن الحفيف .. والدق لم يعد يستيقظ عليه. إنما قبله، من الأقدام الثقيلة وهي تزحف في الطرق المظلمة كان يتنبه ويعرف أن القوة أغلقت، وأنها أقدام إسماعيل أبو السباع .. ولم يكن وحده الذي يتنبه، فالسرير يزيق، وتنسل ساقا أمه وتشخشخ غوايشها، ثم الحفيف، وفتحة الباب، والهمسة الناعمة الصادرة عنها: مساء الخير. حتى هي التي تبدأ بالتحية، والحشرجة التي مهما بولغ في جعلها همسة تظل دائما حشرجة بغير معنى، ثم، ثم تلتهب عيناه، وكأنما تضيئان بعد هذا كل شيء مظلم في الحجرة، حتى وجهه الأسمر الذي تفردت ملامحه وتضخمت، يضيء، كل شيء يبدو واضحا من نور النهار، حتى قدماها العاريتان يراهما ويرى أصابع أحداهما وهي تنكمش وتتفرطح تحت ثقلها وهي تصعد ثم تنسحب إلى فوق، تاركة إياه يحيطه من كل جانب «داير» السرير، كأنما ليطل عليه في عالمه الصغير ويسخر منه .. وياسمين نائمة متقوقعة على نفسها، في بله «تريل»، وأخوه الصغير ممدد بالعرض عند أقدامها يتنفس بصوت مسموع وكأنه رجل يغط .. هم في البير والملائكة في السماء .. والسماء سقفها من خشب، تطل منه مرتبة تنبعج، ما تحت السرير يغوص .. كل دقيقة يغوص، والسماء الخشبية مهددة بالسقوط وقيام القيامة والجنة والنار، ورأسه يوم القيامة منكس .. وحين يأتي تشومبة لصفعه على قفاه، سيرعد الصوت العالي المدوي صوت الله: ارفع إيدك، وتنشل اليد، أليس باستطاعة القيامة تقوم الآن؟ ويرعد ذلك الصوت المدوي: ارفع إيدك .. فيصاب الخنزير بالشلل، وينحشر صوت أمه في صدرها إلى الأبد، ويكف تماما عن أن يتحول همسا، إلى ذلك الهمس الذي كان يحس أنها به تصبح غريبة عليه تماما، امرأة أخرى، ملامحها مختلفة، لا يعرفها ولم يرها في حياته .. امرأة يخجل منها، وكلما رأى همسها يخرج مريبا منخفضا، شعر وكأنها تخرج من جسدها سرا دفينا كان خافيا عليه. سرا كالعورة، لا بد له من غطاء، وكلما خفضته كان يتعرى أكثر حتى لا يكفي كل ما لديهم من أغطيه وبطاطين لستر همسها .. اسمع .. أهذا صوت المرأة التي ولدته، أمه بالضبط، إنه يتذكر، أجل .. كيف فاته أن يتذكر هذا، أيام كان في سن ياسمين وربما أصغر، وصحا وفتح فمه يريد أن يصرخ، ولكنه سمع كلاما أسكته .. فقد ميز صوت أبيه في الحال .. وكان أبوه يهمس. كان مع أمه فوق السماء الخشبية، وانتهى همسهما إلى ضحك، ضحك طويل لا ينتهي، دفعه لأن يبتسم وقد بدأ يحس أنه سعيد لمجرد إحساسه أن أبويه يضحكان. نسي تماما أن البول يؤلمه وأنه من لحظات كان يريد أن يصرخ .. ودوت خبطة أعقبها عراك ضاحك فوق السرير. اهتز بعنف له .. صرخة مكتومة، ثم عود إلى عراك انتظر له نهاية بلا جدوى .. واستغرب أن يكون أبوه المهاب المقدس، الذي يحبه إلى حد لا يستطيع معه مفارقته، طرفا في اللعبة، ولأمر ما استشاط غضبا حين أحس أن الطرف الآخر أمه، وفتح فمه يريد البكاء، غير أن البكاء بدا له سخيفا .. ليس فيه ذرة رغبة واحدة، فرغم استنكاره، كان إحساسه الأكبر الطاغي أنه في أمان حنون حبيب .. وأنه معهما، وكأنه الطرف الثالث في اللعبة، كل الناقص أن يشعرهما بوجوده، وبكي ليشعرهما، ولدهشته تصاعدت الضحكات من فوق لبكائه، من أمه وأبيه معا، ضحكات لا رهبة فيها ولا قداسة، جعلته يستمر في البكاء بدافع العناد وحده، ولكنه حين وجد الضحك مستمرا وجد نفسه هو الآخر يبدأ فجأة يضحك، فإذا بالضحك الأعلى يتحول إلى قهقهات .. اهتز لها السرير بشدة .. نفس السرير. الذي ترقد عليه أمه الآن ضعيفة .. مختلفة تماما عن قوتها الصارمة في النهار وملامحها الجادة، وحديثها المملوء بالوعيد .. ضعيفة تتألم .. وتتألم في ضعف مقيت، وكأنها بتألمها تطلب مزيدا من الضعف وتغري الخنزير بمزيد من الوحشية؛ إذ كان قد تحول إلى وحش، وحشرجة همساته أصبحت خوارا عميقا كخوار ثور مذبوح. إنه لم يعد صغيرا. فهو يعرف. لا يعرف بالضبط فهو ليس كبيرا تماما، ولكن هناك أشياء غريبة لا يستطيع حتى لو أراد أن يتصورها تدور فوق رأسه في السماء عند فوهة البئر. إن باستطاعته أن يصنعهما معا ويخرج بصورة كاملة، ولكنه يبقيها لإرادته، منفردة مجرد أصوات لا رابط بينها. مجرد ضعف ووحشية .. وهمس من ناحية وتهديد بسقوط «الملة» من ناحية أخرى، ومع هذا تفور دماؤه، مثلما كل مرة تفور .. والعرق الغزير يكسوه، وكأنما حتى لو أردنا لا نستطيع أن نوقف أجزاء في عقولنا عن أن تعمل وتربط وتعي، ورعب شديد وكأنما من فوقه شيطانان يجهران بالعصيان ويفعلان هذا في المساء أمام كل الناس ودون اكتراث لأحد، دون خوف، خواره كخوار واحد من أكلة لحوم البشر، ولو نطق لنهش لحمه قبل عظامه، أمه نمرة على فمها دم، انتهت لتوها من التهام أخيه الصغير، وتتنمر في طلب المزيد .. والتوحش مجنون مكشوف حاد الأنياب كعراك الكلاب المسعورة، وثقلهما شديد، و«الملة» تغوص تحت الثقل وتجثم فوق صدره، وهما عليها وكذلك الأرض والسماء .. وكل أثقال الدنيا، وجميعها تدكه، في ضغطات بطيئة، تدفع ببطء وتهوي ببطء تدركه وتمنعه أن يتنفس .. إنه لا يستطيع الاحتمال، إنه سيموت، لا من الضغط وإنما من الجنون .. إن مخه يتكهرب ويسخن ويبرد ويطلق شرارات .. والرعب من الفجر يشل صوته عن أن يصرخ، ويمسك بزمام عقله عن أن يفقد السيطرة، ونفض هذا كله عن نفسه وينفجر غاضبا صارخا .. وينقض عليهما بالحذاء البني القديم يمزقهما .. أو بيد «الهون» يدشدش رأسيهما .. ولكنه يدرك، ومهما بلغت درجات انفعاله .. أنه غير قادر على الإتيان بشيء من هذا، كبرت وبلغت يا برهم حتى أصبحت كالدبة، وأذنك تسمع، وعيناك كالأسياخ المحمية تخترق «الملة» وتكاد ترى ما فوقها. وأنت صغير لم تكن تعرف، كنت فقط ترى، الآن ترى وتعرف .. لو فقط أمكن إلغاء كل ما فات والبداية من جديد، من الليلة مثلا، أو الغد وكأنه ما سمع قبلا أو رأى، وكأنه أول مرة يعرف ويفاجأ بالمعرفة ليستطيع أن يتصرف بمثل ما تمليه عليه المفاجأة .. ولكن العجز الذي يصيبه يعرف سببه .. العجز سببه أنها ليست المرة الأولى .. وقبل أن تكون الأولى كان هناك إحساس، كان غموض وكان تدريج، الهمس يتحول بعد حين في وعيه إلى كلام مفهوم، والكلام إلى أصوات، والأصوات يميزها ويعرف صوتها من صوته، ومع كل «حيل» طلوع يطلع له في فخذه، كان يكتشف شيئا فشيئا، ذاك الغموض .. وببطء شديد لا مجال معه للثورة، ولا فرصة للمواجهة، بحيث حين «عرف» و«وعى» لم يعرف أو يع بشيء جديد .. وإنما جاء كالخبر القديم بلا حرارة، كالشبح البعيد الذي خمنت من زمن قبل أن تقف وجهك في وجهه .. من يكون.
حتى إشعارهما بوجوده ما كان يجرؤ عليه؛ فقد كان يشعر أباه وأمه لأنه كان مطمئنا آمنا، أما هذان فمن يكونان غير غريبين عليه تماما، الرجل خنزير والمرأة دبة .. وهما على سطح الدنيا في السماء ، وهو وإخوته، مثلهم مثل أبيه، يضمهم هذا القبر ذو الداير الأبيض .. أيبكي؟ ويصبح حتى في نظر نفسه وكأنه «ملعبة» تشومبة كما يقول الأسطى؟ أيصرخ ويلم الناس .. باستطاعته أن يفعل، باستطاعته أن يقتلها حتى بعد ما يذهب الرجل الغريب .. ولكن المشكلة أنه بهذه الفعلة سيفقد ذلك الخيط الواهي. الذي أصبح يربطه بأمه .. فرغم كل شيء لا تزال أمه .. ولا يزال حيا لأن له أما .. ولا يستطيع أن يتصور الحياة بغيرها .. بله أن يتصور أنه هو الذي قتلها وأفقدها الحياة .. هو حي لأن له أما، ولأنها هذه الأم بالذات، ذلك الشيء الموجود رغم وهنه، لو فقده، لفقد الحياة .. فهي الآن، وهي مع الرجل الغريب مقطوعة الصلة به، يحس إحساسا عميقا شاملا أنه ضائع إلى حد الموت، لا أحد في الدنيا يخصه ولا يخص هو أحدا، ما يبقيه حيا هو أمله، مجرد أمله، أن تنتهي تلك اللحظة العارضة ليعود يربطه بها ذلك الخيط الواهي، ولو صرخ، لو عرفت أنه عرف لنبذته إلى الأبد، وكف التيار النابع منها ليحييه عن السريان، وانتهت أمه تماما، ولم يعد فيها غير المرأة الأخرى التي ترتدي الفستان الأسود فوق القميص الحريري الشفاف، والتي تشقى طول اليوم، كي تجلب من عملها؛ كدلالة وسمسارة وأشياء أخرى كثيرة، الطعام .. بل إنه ما كان يفرح بالطعام لأنه طعام ولكن لأنها هي جالبته .. هي التي تعبت وأحضرته، وتعبها هذا في إحضاره لا بد سببه أنها لا تزال تحبهم وتحبه. الطعام رمز الحب هو ما كان يفرحه. وأن تموت .. أن تنفضح، أن يواجهها؛ لمات قبل أن يحدث هذا؛ فحاجته إليها أقوى ألف مرة من حاجتها إليهم، بل هو لا يعتقد، منذ أن دخل هذا الرجل الغريب حياتهم، أنها أصبحت بالمرة في حاجة إليهم .. حياته وحياتهم لا تزال معلقة بأمومتها لا تنفصل، لهذا لا بد أن تظل تعيش وتظل حية، ويظل ساكنا، وتظل، لتظل حية في السماء .. أو فوق الفراش. لتظل تقابل عشرات الرجال وتشتغل معهم بأكل العيش وتعولهم وتحدثه بصوت مليء حتى بالوعيد .. لتظل تختار من بين الرجال ذلك الرجل الغريب لتقول له. وهي التي تبدؤه بصوت هامس مبحوح: مساء الخير، وليسمع هو، وليكن عليه أن يقضي جزءا كبيرا من الليل يسمع، والأصوات تأتيه من فوق سمائه الخشبية، ليس فيها ضحك أو سعادة، وإنما فيها ضعف، حتى لو أدى إلى رغبة في الضعف أكثر فهو حزين، وليس فيها صوت أبيه القريب الحنون، وإنما لهاث خنزير، وفحيح دبة سقطت في البئر الذي كان يخصه وحده وخلق له، وضحك ذات يوم حين احتله أبوه، حضن عن عمد تفتحه، وبإرادة منها تضم به ذلك الرجل المكتنز، وبلقائهما الشيطاني المتوحش يغوص كونه الصغير تحت السرير ويغوص، وهو قد كبر، ومن صغره وهو يسمع .. الآن أصبح يسمع ويجن، وبحكمة كبيرة يصنع في النهاية كما تعود أن يصنع، ويسكت .. ومع هذا لا تريد القيامة أن تقوم .. ليعلو ذلك الصوت الراعد: ارفع إيدك. فيصاب الخنزير الغريب بالشلل، وتموت المرأة المبحوحة الهمس .. وتعود له الأم. صرخة تتصاعد من تحت سماء خشبية محدودة إلى المدينة النائمة والأرض الكبيرة والكون والسماء التي لا نهاية لها .. ولأن القيامة لا تقوم فهو يستيقظ كل صباح وقد أصيب بخيبة الأمل .. وكل يوم يرمقها في خروجه ويحس أن الخيط يدق. والأم تنكمش وسنوات قد مضت على موت أبيه .. والمرأة ذات الهمس تطغى فيذهب إلى الورشة منكس الرأس ليرتفع كف تشومبة ويهوي بها على قفاه. قفا صبي صغير أسمر، قائلا: والله كبرت وبلغت وبقيت زي الدبة .. والدبة وقعت في البير.
مارس 1965م
الأورطي
المهم ليس أنه جريا، المهم أنه كان في أكثر من اتجاه. يكاد يكون في كل اتجاه. لكأنه يوم الجري الأكبر. نوع غريب خاص من الجري؛ فهو ليس جري الخائف أو المستعجل أو من يسرع لإنقاذ .. جري تائه وكأن صاحبه ليبحث عن بقعة يبدأ منها الجري والإسراع، ولهذا فلا أحد يعرف هدف الآخر أو غايته، إنما الكل في حالة ترقب خائف أن يعثر أيهم على بدايته التي ربما حددت لهم البداية، ولهذا أيضا كنت ترى الشخص يجري كالمجنون، وكالمجنون أيضا يحاول عبثا أن يراقب خطو الآخرين وجريهم. بحيث ما إن يبدو أنه قارب العثور على غايته حتى يندفع العشرات إلى حيث يكون، على أمل أن يصل الواحد منهم أولا .. ليكون أول من ينطلق حتى يتحدد الهدف، وحين يصابون بخيبة الأمل ويجدون أن الذي أسرعوا إليه أكثر منهم حيرة، يندفعون إلى متلكئ أو مسرع آخر، علمية كانت البقعة فيها تبدو، إذا نظرت إليها من عل أو من بعيد، وكأنما تنبض، نبضات تجمع مفاجئ يعقبه التفرق، نبض يحدث في أكثر من مكان في نفس الوقت حتى ليبدو الميدان وكأنما فرش بقشرة، لولا تلك النبضات العشوائية الحادثة هنا وهناك، والدالة وحدها على الحياة، لظننتها قشرة صخر، أو لظننت الآدميين المتجمعين كتل ركام مختلف الألوان.
ولا أحد يعرف إن كان هناك ضرب أم لا، أنا شخصيا أصبت بأكثر من ضربة، ضربة قاصمة موجعة، وكان من المستحيل تحديد الضارب، فأنت بلا جار دائم .. والحركة الدائبة الجارية لا تتيح لك حتى مجرد التطلع إلى العشرات والمئات الذين تمر بهم أو يمرون بك، إنما بالتأكيد كان هناك ضرب، وكانت هناك اصطدامات، لا وقت حتى للاعتذار عنها، وكان أناس يسقطون، فجأة تتصاعد صرخة يعقبها أنين، يظل يخفت كرنين الجرس المعلق حتى تمحوه صرخة أخرى، ولا أحد يتوقف ليرى النهاية، ما دمت لست أنا الصارخ، ولا أزال قويا سليما لم أسقط بعد، فما معنى الوقوف، وشيئا فشيئا بدأت أدرك أن الحركة كلها ليست تلقائية، وأن هناك حركة أخرى خفية من الصعب، شبه المستحيل، إدراكها، حركة طاردة إلى الخارج، وكان الميدان يتمدد وينفجر انفجارا بطيئا خفيا منتظما طاردا الوسطانيين ليصبحوا أقرب إلى المحيط وإلى الخارج وإلى الشوارع الكثيرة الصابة في الميدان والآخذة منه، حركة لولاها ما كان باستطاعة قوة في الوجود أن تنتشلني من حيث كنت إلى حيث وجدت مجموعة من الناس كنت أجدها تجري بلا سبب آخر سوى الاستمرار اللاإرادي لما كنا نفعله في الميدان الكبير، استمرار لا نستطيع حتى لو أردنا إيقافه. وما خفي كان أعظم. ومن أين لي أن أدرك أني في اللحظة التالية سألتفت إلى جاري، أول جار أستطيع أن ألمحه وأحدق في ملامحه، فأجده لدهشتي الشديدة ولهولي، عبده. وكان إحساسي الطاغي التالي أن النقود معه، وأنه لا بد يخفيها في مكان ما معه، وكدت أموت فرحا، وأنا بشغف عمره وكأنما ألف عام، وبغيظ كالغاز الخانق القاتل الذي يتشبع به الجسد ولا نحس به إلا هناك قبل الموت بلحظة، حين تعي لأول ولآخر مرة أنه خنقك وقتلك. أجل الغيظ، أبشع أنواع الغيظ، حين تستأمن أو تثق ثم ترى الخديعة عيني عينك ودون أي اكتراث، حين ينسل الشخص الذي تعرف ومتأكد تماما أنه في يدك أردته وأنى أردته في يدك، فجأة تجده أمامك يذوب ويختفي، وتلتهب غيظا وغضبا ومجهودا ولا تستطيع منعه. عبده، بيدي الاثنتين أطبقت على رقبته. كل خوفي أن يذوب مرة أخرى، ويختفي .. وكل ضيقي أني لا أستطيع التهامه .. الوحش فينا لا يزال هناك، وحين نتشاجر لا نعض كي نؤلم الخصم، إنما نعضه لأننا فعلا نريد، كالأجداد الوحوش، التهامه. الأجداد الذين كانوا يهاجمون الخصم ويلتهمونه غيظا كي يستطيعوا إخفاءه وإخفاء وجوده داخل العدو وتستمد بناءها، نحن الآدميين الذين فقط نعض عن عجز، ونحقد ولا نستطيع التنفيس عن حقدنا بالطريقة الطبيعية، فيزيد حقدنا، فتنهشه كالأنياب المسمومة إلى داخلنا ينهشنا نحن ويقوضنا، وبالضبط هنا ما كنت أحسه وأنا أطبق على عبده، وأتمنى لو كان باستطاعة عواطفي أن تنطلق فتنشه وتدشدشه وتمضغه وأحس بأنيابي تلوك لحمه وأجزاءه وتشفي غليلها وتطحنه بكل ما تملك من قسوة وشراهة، وربما الأصل في الطعام أن يأكل الإنسان بناء على غيظ وبنية إخفائه عن الوجود واحتوائه تماما والقضاء عليه، ولهذا يستفيد الوحش من طعامه الفائدة القصوى، بينا يمرض الإنسان الآن بطعامه ويشقى.
ولكن، حتى كطعام، كان عبده لا يدفع إلا للاشمئزاز وقتل الرغبة فقد كان نحيفا غلبان، ما حفلت عيناه بنظرة تحد ولا واجه أحد مرة بنية إثبات الوجود أو الدفاع عنه، كان طيبا، ذلك النوع الباهت السلبي من الطيبة ، مصابا بفتق مزدوج، ويغني في خلوته، مواويل عذبة ، وكأنه أنى يحل غريب، لم يعثر له أبدا على وطن، وإذا فاض الحال بكى، امتلأت عيناه فجأة بدموع لا يصاحبها أي احمرار، إنما يتجمع الاحمرار في أنفه، فيبدو وكأنما تورم وحفل بالإفراز، ويصعب عليك فقط لأنه عبده، وإنما لأنه وهو الرجل، كالأطفال والنساء يبكي، بكاء لا ليونة أو طفولة فيه ولا يستدر العطف، إنما الكارثة أنه بكاء رجال يستدر الاشمئزاز. حرامي قروش لا يأخذها إلا مضطرا، وبأقل مقدار، وإذا ضبطته ارتبك وتلعثم وأقسم أيمانات كاذبة، وحذار أن تشدد عليه وإلا بكى وأصابك باشمئزاز يستمر معك اليوم كله وربما لبضعة أيام. ثلاثة أيام بأكملها بلياليها، وبساعاتها الطويلة، ومغاربها وعصاريها، وأنا أبحث عنك يا عبده، أرفع أرصفة مصر وأقلبها، واقتحم البيوت، وأوصى، وأواعد وأستجير، ولا أترك شارعا أو زقاقا أو حارة، وحين يهدني التعب أنام وأستيقظ على روحي تكاد تطلع بالغيظ والحنق يأسا من العثور عليك، وحلمي وكابوسي وألم يقظتي ومنامي، أن ألتفت مرة لأجدك يا عبده، أين كنت يا عبده وأين أخفيت النقود. والغريب المذهل ما قاله. قال إنه ما إن غادر المنزل يومها، حتى أمسكته فرقة من التي تبحث عن المرضى لتأخذهم عنوة إلى المستشفيات «تماما كفرق الشفخانات التي تأخذ الحيوانات المريضة بالقوة!» وأنهم أخذوه معهم إلى المستشفى مشتبهين في أمره، وهناك كشف عليه الباشحكيم بنفسه، وقرر أنه مريض بمرض خطر، يهدد أن يعدي المصريين جميعا به وأن لا علاج له إلا بعملية جراحية يجرونها له في الحال، ويقطعون بها الأورطي له، وفعلا عملوا له العملية، وقطعوا له الأورطي، ورقد لثلاثة أيام ثم أخرجوه اليوم فقط، بعدما منحوه عكازا ليستعين به في السير، أما النقود، فمن لحظة أن دخل المستشفى وهو لا يدري ما حل بها.
Halaman tidak diketahui