وكف عن البكاء. وخفت أن يكون ما قاله مقدمة لنوبة، وما أبشع نوبات مرضى الاضطهاد .. إنها النوبات التي يقتلون فيها ويعتدون ويصبحون كالوحوش الهائجة التي لا يوقفها خوف أو تهديد، خير ما تفعله حينئذ أن تقتنع بكلامه .. وتجاريه، وقلت: هو عايز ياخد أرضك؟
وبانفعال حقيقي، كانفعال البشر العاديين، وجدت كل ذرة من جسده تنتفض داخل قميص الكتاف، وصدره يكاد يمزق القماش صاعدا هابطا لاهثا وهو يقول: ده يا بيه أخويا ابن أمي وأبويا، وأبويا مات وساب لنا تسع قراريط، واحنا ثلاث أخوات .. بدري دهه اللي بيشتغل شاويش وبياخد له ييجي عشرين جنيه من الحكومة، وواحد تاني، وأنا الصغير .. كل واحد منا نابه ثلاث قراريط! ليه وليه إلا بدري أخويا عايز ياخدهم مني عشان يبقى حداه ربع فدان، بقي له ست أشهر وهو كل يوم يهددني ويضربني وآخرتها عايز يوديني السراية .. عشان يستولي عليهم .. كدة يا بدري .. روح يا شيخ الله يسامحك.
كان بدري قد هم أكثر من مرة أن يقاطع أخاه، ولكني بإشارات قاسية كنت أزجره وأرغمه على السكوت، وما كاد أخوه ينتهي حتى انطلق كالبركان المتفجر يقول: بلاش فضايح يا محمد، كفاية بقى الحتة كل يوم تتفرج علينا .. جاي هنا كمان عايز تفرج علينا الدكتور؟!
ثم التفت إلي كمن لا حيلة له، قائلا: أهو زي ما انت شايف كدة يا بيه .. كل ساعة على ده الحال .. لما أنا نفسي قربت أتجنن.
وسألته: إنما صحيح أبوكم فات لكم تسع قراريط؟ - وحياة سعادتك ولا سهم .. حتى اسأل مراته .. يا فرحانة .. يا فرحانة .. تعالي هنا.
ودخلت فرحانة .. كالعروسة الحلاوة الملفوفة في ملاءة من ورق سولوفان، لا يخفي بقدر ما يظهر ويجمل ويجعل الريق يسيل. - انت مراته؟ - قسمتي يا بيه؟ - هو صحيح بيعمل الحاجات اللي قال عليها أخوه؟
قلت هذا وأنا أتفرس فيها، وأعجب بيني وبين نفسي لزوجة يجن زوجها ويمرض، وتذهب معه إلى مكتب الصحة بهذه الحواجب المرسومة والروج الموضوع بصبر وأناقة والبال الخالي .. الخالي حتى من نظرة تلقيها على الزوج المريض! - يا بيه .. أنا في عرضك .. دي مش مراتي .. دي مراته هوه!
هنا فقط التفتت إليه، ودبت على صدرها بيد مثقلة بالغوايش والخواتم قائلة: هي حصلت يا محمد؟ بقى ما نتاش عارفني كمان؟! اخص عليك! - والله ما هي مراتي يا ناس .. مراتي حابسينها في البيت وجايبين دي تعمل مراتي .. يا بدري أنا ف عرضك، إن كنت عاوز الأرض خدها .. هات العقد وأنا أمضي لك عليه!
ولدهشتي .. وجدت بدري يأخذ كلامه جدا، ويلتفت إليه قائلا، بعينين ناريتين: أرض إيه يا بني اللي آخدها؟ ما ربك غانيها من غير أرض .. أنا بتاع كلام من ده؟!
وربما كلامه هو الذي شجع الزوجة ودفعها لأن تقول: أرض إيه يا محمد اسم الله عليك .. عقلك يا خويا أحسن من ستين أرض .. مش عيب تقول على أخوك كدة؟ ربنا يشفيك! يا بيه ده موتني م الضرب ليلة امبارح .. أنا راجل كلوباتي على قد حالي وهوه شاويش في البوليس ومخوف الحتة .. وعاوز يأخذ التلات قراريط بالقوة .. ياخدهم ياخدهم .. بس بلاش توديني السراية وأنا مضروب يا عالم وجسمي مكسر .. اتفضل شوف! - والله يا بيه أنا ما ضربته ولا مديت إيدي عليه. ده حصل وإحنا بنحوشه وهو رافع السكينة على مراته دي .. ده طول الليل قاعد يهربد في نفسه ومطلع عنينا معاه .. كدة واللا لأ يا فرحانة؟
Halaman tidak diketahui