كان عباس قد سئم من كثرة بعده عن البيت، كما أحس أنه قد آن له العود إلى المذاكرة. وكان عباس أيضا يحس شعورا غريبا نحو إيفون؛ إنه منذ تحرر من خوفه أحس كأنه أيضا يريد أن يتحرر من حبه. لم يعد شغفه بالذهاب إليها ملحا كما كان قبل هذه الليلة التي ذهب إليها على غير موعد.
ما الحب؟! نوع آخر من العبودية، ولكنني مع هذا أحب أن أذهب إليها، بل وأحب أن أطيل من الجلوس معها. أحب ذلك ولكن لا كما كنت قبيل هذه الليلة. ويل لهذا الجسم إنه يستعبدنا كما تستعبدنا التقاليد وأوامر الآباء وآراء المجتمع وطقوس الدين. ما الفارق بين هذه العبودية التي أدين بها للجسم، وبين هذه الألوان من العبودية التي تحررت منها؟ هل أستطيع أن أتحرر من عبوديته؟ ما هذا التخريف؟ أتريد ألا تأكل؟ كيف أستطيع أن أقاوم الجوع؟ وكيف أستطيع أن أقاوم نزوعي إلى إيفون؟ وما لي لا أقول حبي لإيفون؟ إنه حب، وإن يكن الشوق الصديان قد بل، إلا أن حبها ما زال. نعم، ما زال في قلبي، وقد أصبحت وإياها اليوم أشد ارتباطا. وكيف لا؟ ألست أنا، أنا وحدي من شاركها فيما صارت إليه؟ لقد فعلت وعلي أن أتحمل مسئولية ما فعلت - وأنا بغير تفكير - في هذا الواجب الذي لا بد أن أحمله وحدي. أنا أحبها، نعم أحبها.
واستطاع عباس أخيرا أن يفرغ إلى مذاكرته على هذه الثقة التي أودعها نفسه من أنه يحب إيفون. واستمر عباس في مذاكرته مقدرا أن أباه لن يلبث أن ينزل إلى القهوة دون أن يحس بوجوده في البيت، ولكن خاطرا آخر شغله عن المذاكرة: إنه في حاجة إلى البيت ليذاكر، وفي حاجة إلى أبيه ليعيش، فكيف إذن يريد أن يتحرر من أبيه؟ وما لبث أن صرف هذه الخاطرة. لقد أحضره أبوه إلى الدنيا فعليه أن يتحمل المسئولية، وليس على عباس أن يقدم إليه ضميره في مقابل رعايته له. إنه يحترمه ولكنه لا يبيعه ضميره في مقابل إيوائه، وإن رأيه أكرم عنده من أن يذله، وحريته أحب إليه من الدنيا كلها، وقد نالها ولن يتركها تفلت من يده مرة أخرى. وعاد إلى المذاكرة.
وأقبلت ليلى، وسمع عباس صوتها من حجرتها، فقام إلى البهو يلقاها، وعاجلته ليلى: أنت هنا؟ الحمد لله، أريد أن أراك. - وأنا أيضا أريد أن أراك. - وقالت وهيبة: تعالوا نجلس في حجرتي. - وقال عباس: ولماذا لا تجلسون في حجرتي أنا؟
وظل لطفي رانيا إلى وهيبة غير واع لهذا الحوار، حتى دخلوا إلى حجرة عباس، فدخل لطفي معهم تابعا وهيبة. واستقر بهم المجلس، ولم يكد حتى قالت ليلى: ماذا جرى يا عباس؟ لم نرك منذ جئت إلينا وأخبرتنا أنك على خلاف مع عم الشيخ سلطان.
وسكت عباس وقالت وهيبة: قولي له يا ليلى، أيصح أن يغضب أباه ويرفض أن يعتذر إليه؟
وقالت ليلى: وهيبة، هل خالتي هنا؟
فقالت وهيبة في دهشة: أهذا جواب سؤالي؟!
وأعادت ليلى سؤالها: هل هي هنا؟
وقالت وهيبة: لا، لقد ذهبت لزيارة أم إيفون.
Halaman tidak diketahui