الفصل التاسع
كانت ليلى جالسة في حجرتها تقرأ، وتحاول أن تقرأ في إمعان ولكن بلا جدوى؛ فقد كان علمها بهذه القطيعة التي يعانيها ابن خالتها عباس من أبيه تأخذ عليها تفكيرها، وهي تعلم عن عمها الشيخ سلطان المبالغة في الغضب، وتخشى أن يشغل الغضب عباس عن المذاكرة والإخلاص في هذه المذاكرة؛ لأن كلية الهندسة تريد من الطالب كل وقته، وهي في الوقت نفسه حائرة لا تدري ماذا تفعل لتهيئ لعباس ما هو أشد الحاجة إليه ليفرغ لعلومه. أتذهب إليه ترجوه أن ينصرف إلى المذاكرة ولا يهتم بأي شيء سواها؟ كيف تلقاه على انفراد؟ أترسل له لطفي؟ قد يظن أنها رسالة لا يليق به أن يحملها؛ فإن معاني الرجولة في ذهنه ما زالت مبهمة غير واضحة. أترسل أمها؟ ما أيسر ما تقول أمها: «وأنت ما شأنك؟» فإن أمها تعتقد عن ثقة لا سبيل إلى الشك فيها أن كل صلة بين رجل وامرأة لا تقوم إلا على الزواج أو الرغبة في الزواج، ولن تقبل أمها مطلقا التفسير الذي تقول به ليلى وهو أن عباس كأخيها، وأن أمره يهمها لهذه الصفة وحدها. لا، لا تستطيع الست حميدة أن تعي هذا أو تفهمه. كيف إذن البلوغ إلى عباس؟ إنه لا يقيم بالبيت إلا ريثما يتناول غداءه منفردا في مواعيد غير منتظمة، متحريا ألا يلتقي بأبيه. كيف السبيل إليه إذن؟ لا بد أن تحاول. وتركت الكتاب من يدها وقامت إلى باب حجرتها ونادت: لطفي، لطفي.
وجاءها صوت لطفي من حيث يحاول أن يذاكر هو أيضا: نعم يا ليلى، ماذا تريدين؟ - تعال.
وحين جاء إلى حجرتها قالت له: أريد أن أذهب إلى بيت خالتي.
وطفرت ابتسامة إلى وجه لطفي، ثم أعقبتها وجمة، ثم وجد نفسه يقول في غير تشبث ولا غضب: لا، لا أريد أن أذهب إلى هناك.
ودهشت ليلى هنيهة، ثم قالت: عجيبة! منذ متى؟ لقد كنت أنت من تتمحك في أن تذهب إلى هناك، ماذا جد علينا؟ - كان عباس فظا معي في آخر مرة رأيته فيها. - عباس، ألا تعلم ما هو فيه الآن؟ - الذي أعرفه أنني لا أحب أن يكون أحد فظا معي. - يا أخي هو لا يقصد، وأنت تعرف الأزمة التي يعانيها الآن. هيا هيا، لا تكن عنيدا. - طيب، انتظريني حتى أغير ملابسي. - وما لهذه الملابس؟ إنها عظيمة. - لا، سألبس الحلة الجديدة، انتظريني.
وتخايلت ابتسامة على شفتي ليلى وقالت: إذن أسرع.
ولم يكن محتاجا لهذه التوصية فقد كان يريد أن يسرع فعلا، ولكنه أيضا كان يريد أن يتأنق. وبين الرغبتين المتناقضتين كثر دهان الشعر حتى أصبح رأسه كالحذاء اللامع، ولم يستطع أن يختار رباط الرقبة الذي يتفق مع الحلة الجديدة؛ فقد ظل يجرب الأربطة الأربعة التي يملكها، واختار أسوأها من العجلة، ولكنه على كل حال استطاع أن يلبس أخيرا وأن يخرج إلى ليلى. ولن يخطئ من يراه أن يدرك أنه بذل أقصى جهده ليبدو أنيقا، ولكن جهده خذله فلم يستطع أن ينال ما يصبو إليه. وترقرقت ابتسامة ذكية على شفتي ليلى أحنقت لطفي فقال: ما لك؟
وخشيت أن تثيره فقالت في جد: لا شيء. هيا.
ونزلا، كل منهما يدرك ما يريد، ولكنه يحس كثيرا من سدوف الضباب تقف بين خلجات نفسه وبين شعوره الواعي. كلاهما في حيرة ذاهلة، وكلاهما لا يبذل كثير جهد ليزيل حيرته أو يجلو الإبهام عن عميق مشاعره.
Halaman tidak diketahui