إِجْمَاع من بعدهمْ فِيمَا لم يرو فِيهِ الصَّحَابَة وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمَشْهُور يضلل جاحده ثمَّ إِجْمَاعهم فِيمَا رُوِيَ خلافهم لَا يضلل جاحده وَنقل الْإِجْمَاع إِلَيْنَا قد يكون بالتواتر فَيُفِيد الْقطع؛ وَقد يكون بالشهرة فَيقرب مِنْهُ وَقد يكون بِخَبَر الْوَاحِد فَيُفِيد الظَّن وَيُوجب الْعَمَل وَالِاخْتِلَاف فِي الْعَصْر الأول لَا يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِي الْعَصْر الثَّانِي عندنَا وتخطئة الصَّحَابَة من حَيْثُ الْعَمَل دون الِاعْتِقَاد لَا يُسمى تضليلا، لِأَن التضليل يجْرِي فِي العقليات وَفِيمَا كَانَ من بَاب الِاعْتِقَاد دون الشرعيات، لِأَن الحكم الشَّرْعِيّ جَازَ أَن يكون على خلاف مَا شرع، وعَلى الْمُجْتَهد الْعَمَل فِي الشرعيات
الِاجْتِهَاد: افتعال من جهد يجْهد: إِذا تَعب؛ والافتعال فِيهِ للتكلف لَا للطوع؛ وَهُوَ بذل المجهود فِي إِدْرَاك الْمَقْصُود ونيله وَفِي عرف الْفُقَهَاء: هُوَ استفراغ الْفَقِيه الوسع، بِحَيْثُ يحس من نَفسه الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لتَحْصِيل ظن بِحكم شَرْعِي، وَلَا يُكَلف الْمُجْتَهد بنيل الْحق وإصابته بِالْفِعْلِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِك فِي وَسعه لغموضه وخفاء دَلِيله، بل ببذل الْجهد واستفراغ الطَّاقَة فِي طلبه، وَلَيْسَ فِيهِ تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق أصلا، خلافًا لجمهور الْمُعْتَزلَة والأشاعرة فِي صُورَة عدم تعدد الْحق والتكليف بِالِاجْتِهَادِ فِي العمليات
وأجمعت الْأمة على أَن الْمُجْتَهد قد يُخطئ ويصيب فِي العقليات، إِلَّا على قَول الْحسن الْعَنْبَري من الْمُعْتَزلَة
وَاخْتلفُوا فِي الشرعيات؛ والمروي عَن أبي حنيفَة أَن كل مُجْتَهد مُصِيب، وَالْحق عِنْد الله وَاحِد، مَعْنَاهُ: أَنه مُصِيب فِي الطّلب وَإِن أَخطَأ الْمَطْلُوب
[يحْكى أَن صَاحب " الْبَدَائِع " وَهُوَ أَبُو بكر الكاشاني نَاظر مَعَ فَقِيه فِي مَسْأَلَة وَهِي أَن الْمُجْتَهدين هَل هما مصيبان أم أَحدهمَا مُخطئ؟ فَقَالَ الْفَقِيه: الْمَنْقُول عَن أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن كل مُجْتَهد مُصِيب؟ فَقَالَ: لَا بل الصَّحِيح عَن أبي حنيفَة ﵀ أَنَّهُمَا مُصِيب ومخطئ وَمَا تَقوله فِي مَذْهَب الْمُعْتَزلَة]
وَالْإِجْمَاع على عدم الْعذر للمخطئ الْمُجْتَهد فِي طلب عقائد الْإِسْلَام وَالصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِي وفَاقا لِلْجُمْهُورِ أَن الْمُصِيب فِي الشرعيات وَاحِد، وَللَّه تَعَالَى فِيهَا حكم قبل الِاجْتِهَاد، وَأَن عَلَيْهِ أَمارَة، وَأَن الْمُجْتَهد مُكَلّف بإصابته، وَأَن الْمُخطئ لَا يَأْثَم بل يُؤجر لبذله وَسعه فِي طلبه، كَمَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث الِاجْتِهَاد
واتفقنا على أَن الْحق فِي العقليات وَاحِد، وَأَن الْمُجْتَهد فِيهَا يُخطئ ويصيب وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْعَنْبَري من أَن الْحق فِيهَا حُقُوق، وَأَن كل مُجْتَهد فِيهَا مُصِيب بَاطِل لما فِيهِ من تصويب الدهري والثنوي وَالنَّصَارَى والمجسمة والمشبهة، وَجعل كل فريق على الْحق وَهُوَ محَال
وَأما فِي الشرعيات فَمَا ثَبت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ فَالْحق فِيهِ وَاحِد حَتَّى يكفر راده ويضلل جاحده وَمَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد فقد اخْتلفُوا فِيهِ قَالَت الْمُعْتَزلَة: الْحق فِيهَا حُقُوق؛ وَقَالَ أهل السّنة: الْحق فِيهَا وَاحِد معِين، لِأَن الْجمع بَين النقيضين المتنافيين وَهُوَ الْحل وَالْحُرْمَة، وَالصِّحَّة وَالْفساد فِي حق شخص وَاحِد، فِي مَحل وَاحِد، فِي زمَان وَاحِد من بَاب التَّنَاقُض؛ وَنسبَة التَّنَاقُض إِلَى
1 / 44