وفي بداية الربيع كان في منطقة قريبة من قرية الديميرية مولد. وأحب الأب والأم أن يصحبا ابنهما إلى هذا المولد فرفض رفضا مطلقا، ولم يناقشه أحد منهما فقد كان كلاهما يعرف تماما الأسباب التي تجعله يصر على هذا الرفض.
وذهب فهيم مع تحية ودخلا الترك مسرح المولد.
ما هذا الشعور الذي تولى تحية.
إني أعيش ... هذا هو مكاني. كأني كنت في قبر وعدت إلى الحياة، بل كأني كنت في بلد غريب وعدت إلى حيث يجب أن أكون، أو حيث أحب أن أكون.
وجدت تحية الكثيرين والكثيرات من الزملاء وأحست من تحيتهم أن مكانتها عندهم لم تزل كما هي وتحسرت؛ فقد أصبح من الصعب عليها أن تترك ابنها اليوم، فإذا كان ماضيها قد جعل منه هذا الفتى التعيس فكيف إذا انضم الحاضر والمستقبل إلى هذا الماضي؟! لا، لا سبيل ... وداعا أيها المسرح! وداعا يا ليالي السعادة أيام كنا نمرح في شقائنا ونستلذه وتخفق القلوب منا بهذا التصفيق، وذلك الصفير، وتلك القروش المعدنية أو الفضية أو الورقية وهي تلقى إلى مناديلنا. كنا في هذه الأيام نحس أننا في قلب الحياة وفي شرايينها نصنعها كما تصنعنا ونطحنها كما تطحن كياننا ونفوسنا وكرامتنا.
أحس اليوم أنني واقفة على جسر الحياة وهي تمر لا تشعر بي وأشعر أنا بريحها الخاطفة تعصف بلحظات حياتي وتحيلها إلى غضون على وجهي وشعرات بيض في رأسي وملالة تملأ كل أيامي ونفسي. ولكن هيهات لا مكان لي اليوم إلا هذا الجسر.
كان فهيم جالسا إلى جوارها في كواليس المسرح ينظران إلى الراقصة التي حلت مكانها. وأحست تحية أن الرؤية إلى المسرح ليست جديرة بها. فما هذا مكانها؟ إنها لا تستطيع أن تكون متفرجة في الحياة ومتفرجة في المسرح أيضا. أحست شيئا خفيا يشدها أن تقف وأن تذهب حيث يتجمع زملاؤها وزميلاتها، وقالوا ولكن هي لم تقل شيئا فجميعهم يعرف أنها أصبحت أم فرغلي فأي جديد أو جديدة يمكن أن ترويه لهم بعد ذلك؟! إنهم هم وحدهم وهن وحدهن الذين يملكون أن يقولوا ويحكوا؛ فهم يرون في كل ليلة ما يصلح أن يكون موضوع رواية وحكاية.
اقترب منها الحاج وهدان أبو نار. - توحة.
وتخلجت لحظة ثم أفاقت؛ إنها هي التي يقصدها. - يوه يا حاج فكرتني بالذي مضى. - تعالي. - عيني. - لماذا لا نعيد الذي مضى؟ - وزوجي وابني. - الولد كبر وهذا الزوج يستطيع أن يجد غيرك ولكن مكانك هنا ... - وكيف يا حاج؟! - من غير كثرة كلام ... نحن قدامنا أسبوع. فكري وطبعا لن تنضمي إلينا إلا ونحن مسافرون حتى لا يحاول زوجك أن يجدك ويضايقك ويضايقنا. - يا ليت يا حاج ... كان من عيني. - فكري يا ستي وهل سآخذك الآن؟ قدامك أسبوع فكري. - لا أظن ... - أنا منتظر على كل حال. - ربنا يخليك ... يعني ما زلت أنفع؟ - وهل شفتني أرمي فلوسي. - فشر! أنت سيد من يعرف أين يحط قرشه. - ناصحة ... فكري وأنا منتظر ... مع السلامة.
أسبوع ... عادت إلى البيت وخلا بها الصباح، فهيم في المحطة وفرغلي في المدرسة، وهي وحيدة. ولا عمل؛ لا تنظيف للبيت إلا أن يكنس ويعاد إلى السريرين ما أشاعه فيهما النوم من اضطراب، ثم لا حاجة إلى طبخ الطعام؛ فالطبخ لا يكون إلا في أيام قلائل من أيام الأسبوع، وإطعام الطيور لا يحتاج إلى وقت كثير فما هي إلا الساعة أو بعض الساعة ثم يصبح اليوم كله خاليا بلا عمل. الملالة تملأ وقتها جميعا. ولو كان زوجها يعوضها عن هذه الملالة إشراقا أو حديثا يجعل حياتها سائغة بعض الشيء لكان من الممكن أن تتحمل هذا الفراغ القاتل.
Halaman tidak diketahui