والعجيب أنها وجدت نفسها تلقفه في حضنها مع أحزانه، وكلاهما لا يدري ماذا يقول للآخر. •••
لم يكن أمام فرغلي شيء يعمله في البيت إلا أن يذاكر، أما في المدرسة فقد أصبحت عصابته المكونة منه ومن الثلاثة الآخرين هي مصدر تحطيم كل شيء جميل يملكه الآخرون؛ إن كان قلما سرقوه، أو كان حلة حرصوا على أن يلطخوها بالحبر. وكان من الطبيعي أن يبيعوا ما يسرقونه ويتقاسموه، ولكن فرحهم بالتخريب كان أعظم.
ولم يكن عجيبا أن يكون أربعتهم من الذين ينجحون في امتحانات الفترة وامتحانات آخر العام، ولم يكن عجيبا أيضا أن يكون فرغلي من المتقدمين لأن الثلاثة الآخرين يستطيعون طبعا أن يلعبوا مع أصدقاء. ولو لم يكن فرغلي قد حثهم على المذاكرة حتى لا يفقدوا عطف المدرسين لما أصابوا هذا النجاح الذي يصيبونه دائما.
ووصل فرغلي إلى السنة الثالثة الابتدائية، ولم تكن سنه متناسبة مع سنته الدراسية فقد بدأ التعليم متأخرا، ولكن السن لم تكن ذات شأن في هذه الأيام من حياة التعليم في مصر. كان فرغلي حينذاك يقترب من الرابعة عشرة.
4
انطلاق ... أم قيود؟
كان فرغلي في الأيام الأولى من السنة التي سيحصل فيها على الابتدائية، والابتدائية في هذه الفترة من الزمان معناها أن يذهب التلميذ حين ينالها إلى المرحلة الثانوية.
وكان فرغلي قد انفصل تماما عن منزله. وقد استطاع أن يكتفي بصداقة الثلاثة الذين قبلوه على ما به من هذه الأمومة التي أثارت عليه سخرية التلاميذ، وكان حريصا دائما ألا يتعرض للعب أو مناقشة مع تلاميذ آخرين. وأصبحت حكاية أمه الراقصة حقيقة لا تثير الحماس في المدرسة، ولكنه مع ذلك كان دائما يشعر بالقوة التي تهدده من الطلبة، وكأنما تحذره هذه العيون ألا يتعدى المكان الذي وضعته فيه أمومته.
والعجيب أن التلاميذ لا يعرفون ولا يهمهم أن يعرفوا شيئا عن مهن الآباء، ولا يتناقل الطلبة شيئا عن هؤلاء الآباء إلا إذا كان الأب ذا وظيفة ملحوظة في المديرية كالمدير أو وكيل المديرية أو رئيس في مصلحة. أو إذا كان الأب صاحب سوابق من خريجي السجون أو من المقيمين به ولم يكن في المدرسة أحد من هؤلاء. أما الأمهات فطبيعة الأمر تقضي أن يكن جميعهن غير عاملات، والفلاحات على ما يبذلن من جهد وجهاد في الحياة لا يعتبرن في نظر التلاميذ عاملات.
وهكذا شاءت الأقدار أن ينفرد فرغلي باهتمام التلاميذ بعمل أمه الذي تركته والذي لا يريد أن يتركها، وعلى كل حال فقد ساد التلاميذ ركود من الاهتمام بفرغلي أو أم فرغلي وساعد هو على أن ينسى التلاميذ أو يسكتوا على الأقل عن ذكر أمه أو تذكيره بها.
Halaman tidak diketahui