من أفضل ما قيل عن الكتاب
مقدمة: نظريات الأساطير
1 - الأسطورة والعلم
2 - الأسطورة والفلسفة
3 - الأسطورة والدين
4 - الأسطورة والطقوس
5 - الأسطورة والأدب
6 - الأسطورة وعلم النفس
7 - الأسطورة والبنية
8 - الأسطورة والمجتمع
الخاتمة: مستقبل دراسة الأسطورة
المراجع
من أفضل ما قيل عن الكتاب
مقدمة: نظريات الأساطير
1 - الأسطورة والعلم
2 - الأسطورة والفلسفة
3 - الأسطورة والدين
4 - الأسطورة والطقوس
5 - الأسطورة والأدب
6 - الأسطورة وعلم النفس
7 - الأسطورة والبنية
8 - الأسطورة والمجتمع
الخاتمة: مستقبل دراسة الأسطورة
المراجع
الأسطورة
الأسطورة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
روبرت إيه سيجال
ترجمة
محمد سعد طنطاوي
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
في ذكرى سكيب، قطتي المحبوبة
من أفضل ما قيل عن الكتاب
في هذا الكتاب - الذي يعد من أول المراجع العالمية التي وضعت عن تاريخ دراسة الأساطير - استطاع روبرت إيه سيجال أن يستعرض بدقة ورقي وسعة اطلاع أهم النظريات التي سادت القرنين التاسع عشر والعشرين حول هذا الموضوع، مستخدما قصة أدونيس كمقياس فعال لتقييم مختلف المناهج والأساليب.
آلان دندس، أستاذ الأنثروبولوجيا والفلكلور جامعة كاليفورنيا، بيركلي
يتناول هذا الكتاب النظريات التي وضعت حول الأساطير تناولا واضحا ومرتبا وشاملا ومميزا ... لم يتفوق أي من الكتاب الآخرين على روبرت سيجال فيما كتب عن نظريات الأساطير من حيث اطلاعه ووضوح فكرته.
إيفان سترينسكي، أستاذ بقسم الدراسات الدينية جامعة كاليفورنيا، ريفرسايد
إن هذا الكتاب يعد أفضل المناهج التي صادفتها على الإطلاق في مجال دراسات الأساطير وأكثرها فائدة.
جون بيب، المدير التنفيذي والرئيس السابق لمعهد سي جي يونج بسان فرانسيسكو
هدف سيجال من مؤلفاته أن يفهمها القراء ويسترشدوا بها ... سوف يتعلم المرء من هذا الكتاب كثيرا من الأشياء التي تشجعه وتيسر عليه قراءة المزيد.
ويليام إم كولدر الثالث، أستاذ الكلاسيكيات بجامعة إلينوي، إربانا-شامبين
هذا الكتاب الذي يتسم بالوضوح الشديد هو أوسع العروض التقديمية نطاقا بين كل ما كتب عن المناهج المعاصرة - على اختلافها - في التعامل مع الأساطير.
أنطوان فيفر، أستاذ فخري في الكلية التطبيقية للدراسات العليا قسم الدراسات الدينية، جامعة السوربون
إن جل ما ضمه الكتاب بين دفتيه إنما هو رحلة استكشافية عميقة لموضوع يمس التجربة الإنسانية مع الدين والفلسفة والدراما والأدب وعلم النفس، والآمال والتوقعات المنتظرة منهم.
جون روجرسون، أستاذ فخري في الدراسات الإنجيلية، جامعة شيفيلد
مقدمة: نظريات الأساطير
دعوني أكون واضحا من البداية؛ ليس هذا الكتاب مقدمة إلى الأساطير بل إلى طرق تناول الأساطير، أو نظريات الأساطير، وهو لا يتخطى في تناوله النظريات الحديثة. ربما تعود نظريات الأساطير إلى وقت نشأة الأساطير نفسها، ومن المؤكد أنها ترجع إلى فلسفة ما قبل سقراط على الأقل. غير أن هذه النظريات نحت فيما يبدو نحوا علميا في العصر الحديث فقط، خاصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ فحينها فقط ظهرت إلى الوجود مجالات مهنية سعت إلى تقديم نظريات علمية حقيقية عن الأساطير مثل العلوم الاجتماعية، التي ساهم علم الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وبدرجة أقل علم الاجتماع، الإسهام الأكبر فيها. وبينما كان هناك على الأرجح ما يناظر النظريات العلمية الاجتماعية للأسطورة قبل ظهورها، فإن التنظير الحديث للأسطورة لا يزال مختلفا عن مثيله السابق عليه. وبينما كان التنظير المبكر يعتمد على التخمين والتجريد اعتمادا كبيرا، يعتمد التنظير الحديث إلى حد بعيد على تراكم المعلومات. وتنطبق الاختلافات بين التنظير الحديث والقديم على العلوم الاجتماعية الأخرى أيضا فيما يلخصه عالم الأنثروبولوجيا جون بيتي على النحو التالي:
بناء عليه، قدمت تقارير التبشيريين والرحالة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أفريقيا، وأمريكا الشمالية، ومنطقة المحيط الهادئ، وفي مناطق أخرى؛ المادة الخام التي قامت عليها مؤلفات الأنثروبولوجيا الأولى التي كتبت في النصف الثاني من القرن الماضي. وبطبيعة الحال، كانت هناك محاولات تخمين كثيرة حول المؤسسات الإنسانية وأصولها قبل ذلك ... لكن على الرغم من عبقرية تخمينات المفكرين، لم يكن هؤلاء علماء تجريبيين؛ إذ لم تعتمد النتائج التي خلصوا إليها على أي نوع من القرائن التي يمكن قياس مدى صحتها، بل لم تكن تلك التخمينات سوى استنباطات جرى التوصل إليها عبر المبادئ التي كانت - في جانب كبير - منها جزءا من ثقافاتهم. وكان هؤلاء المفكرون في حقيقة الأمر فلاسفة ومؤرخين أوروبيين، لا علماء أنثروبولوجيا. (بيتي، «الثقافات الأخرى»، ص5-6)
وفيما ترجع بعض نظريات الأساطير الحديثة إلى مجالات الفلسفة والأدب العتيقة، فهي تعكس أيضا تأثير العلوم الاجتماعية. حتى ميرسيا إلياد - الذي تناطح نظريته المستلهمة من الدراسات الروحية نظريات العلوم الاجتماعية - يدرج بيانات مشتقة من العلوم الاجتماعية لدعم نظريته!
يتضمن كل مجال من المجالات المذكورة نظريات متعددة عن الأساطير. وعلى نحو دقيق، تنتمي نظريات الأساطير إلى مجال أرحب كثيرا لا تشغل الأسطورة فيه إلا مجرد فرع. على سبيل المثال، تعتبر النظريات الأنثروبولوجية للأساطير نظريات ثقافية «مطبقة» على حالة الأساطير، كما تعتبر النظريات النفسية للأساطير نظريات عقلية، ونظريات علم الاجتماع للأساطير نظريات مجتمعية. فلا توجد نظريات للأساطير قائمة بذاتها، إذ لا يوجد مجال معرفي منفصل للأساطير. وليست الأسطورة كالأدب الذي - مثلما كانت المزاعم التقليدية حوله دوما وما زالت قائمة - يجب دراسته «كأدب» لا كتاريخ، أو علم اجتماع، أو شيء آخر غير أدبي. فلا توجد دراسة للأسطورة في حد ذاتها.
إن ما يربط بين دراسة الأساطير في المجالات المختلفة التي توجد فيها هي الأسئلة المطروحة؛ وتتمثل الثلاثة أسئلة الرئيسة المطروحة حول الأسطورة في الأصل، والوظيفة، والموضوع. فيشير «الأصل» إلى السبب والطريقة التي نشأت بها الأسطورة، وتشير «الوظيفة» إلى السبب والطريقة التي تستمر بها الأسطورة في الوجود. وتتمثل إجابة السبب في أصل ووظيفة الأسطورة عادة في حاجة ما تستثيرها الأسطورة لتلبيتها، وتستمر من خلال مواصلتها في تلبية الحاجة. وتختلف الحاجة من نظرية إلى أخرى. بينما يشير «الموضوع» إلى المدلول في نظرية الأساطير. بعض النظريات تفسر الأسطورة تفسيرا حرفيا بحيث يتمثل المدلول في المعنى المباشر الصريح، مثل الآلهة، وفي المقابل، تفسر نظريات أخرى الأسطورة تفسيرا رمزيا قد يكون المدلول المجسد فيها أي شيء.
لا تختلف النظريات فيما بينها في الإجابات التي تقدمها بل في الأسئلة التي تطرحها أيضا. فبينما تركز بعض النظريات، وربما بعض المجالات المعرفية، على أصل الأسطورة، تركز نظريات أخرى على الوظيفة، فيما تركز نظريات أخرى على الموضوع. إضافة إلى ذلك، فيما لا تتناول الأسئلة الثلاثة سوى نظريات قليلة، لا تركز بعض النظريات التي تتناول أصل أو وظيفة الأسطورة إلا على «سبب» أو «طريقة» النشوء فقط، لا على كليهما.
من السائد قول إن نظريات القرن التاسع عشر ركزت على سؤال الأصل، وإن نظريات القرن العشرين ركزت على سؤالي الوظيفة والموضوع. ويؤدي هذا التمييز إلى الخلط بين الأصل التاريخي والأصل المتكرر. ولا تزعم النظريات التي تدعي تقديمها لأصل الأساطير معرفتها بمكان وزمان ظهور الأسطورة للمرة الأولى، بل بسبب وطريقة ظهور الأسطورة متى وأينما ظهرت. وكان موضوع الأصل المتكرر للأسطورة موضوعا شائعا في نظريات القرن العشرين مثلما كان كذلك في نظريات القرن التاسع عشر، وكان الاهتمام بالوظيفة والموضوع مسألة شائعة في نظريات القرن التاسع عشر مثلما كان الحال في نظريات القرن العشرين.
ثمة اختلاف حقيقي واحد بين نظريات القرن التاسع عشر ونظريات القرن العشرين؛ فكانت نظريات القرن التاسع عشر تنحو إلى النظر إلى موضوع الأسطورة باعتباره العالم المادي، وإلى الوظيفة باعتبارها التفسير الحرفي أو التعبير الرمزي عن ذلك العالم. وكانت الأسطورة تعتبر على نحو نموذجي النظير «البدائي» للعلم الذي كان يفترض حديثا في مجمله. ولم يجعل العلم الأسطورة مجرد شيء لا لزوم له، بل جعلها غير متوافقة معه على الإطلاق؛ ولذا توجب على الحداثيين - الذي كانوا علميين بطبيعتهم - لفظها. في المقابل، لم تمل نظريات القرن العشرين إلى النظر إلى الأسطورة باعتبارها نظيرا للعلم عفا عليه الزمن، سواء فيما يتعلق بالموضوع أو الوظيفة؛ بناء عليه، لا يتوجب على الحداثيين الاستغناء عن الأساطير من أجل العلم.
وإضافة إلى الأسئلة المتعلقة بالأصل، والوظيفة، والموضوع، تشمل الأسئلة المتعلقة بالأساطير الآتي: هل الأسطورة عامة؟ وهل هي حقيقية؟ تنبثق إجابات هذين السؤالين من الإجابات عن الأسئلة الثلاثة الأولى. فالنظرية التي ترى أن الأساطير تنشأ وتعمل على تفسير العمليات المادية سوف تقصر الأسطورة - على الأرجح - على المجتمعات التي يفترض افتقارها إلى العلم. وفي المقابل، النظرية التي ترى أن الأساطير تنشأ وتعمل على توحيد المجتمع قد تجعل من الأسطورة أمرا مقبولا، بل وربما لا غنى عنه في جميع المجتمعات.
تتمسك النظرية التي ترى أن الأساطير تعمل على تفسير العمليات المادية باعتقادها في زيف الأساطير، في حال إثبات أن التفسير المقدم لا يتماشى مع التفسير العلمي. من ناحية أخرى، قد تتلافى النظرية التي ترى أن الأسطورة تعمل على توحيد المجتمع؛ مسألة حقيقتها من خلال التأكيد على أن المجتمع يتوحد عندما «يؤمن» أعضاؤه بأن القوانين التي من المتوقع التزامهم بها وضعها أسلاف مبجلون قبل وقت طويل مضى، سواء وضعت هذه القوانين قبل هذا الوقت الطويل أم لا. ويتجنب مثل هذا النوع من النظريات مسألة حقيقة الأساطير؛ نظرا لأن الإجابات التي تقدمها لأسئلة الأصل والوظيفة تفي بالغرض نفسه.
تعريف الأسطورة
حضرت مؤتمرات عديدة طرح المتحدثون فيها آراءهم بحماس شديد حول «طبيعة الأسطورة» في الرواية «س» أو المسرحية «ص» أو الفيلم «ع». في المقابل، تعتمد معظم هذه الآراء على تعريف الأسطورة، فدعوني أطرح تعريفي للأسطورة.
بادئ ذي بدء، أقترح تعريفا للأسطورة كقصة. واعتبار الأسطورة قصة - أيا كان ما تمثله من أشياء أخرى - مسألة قد تبدو بديهية. وعلى أي حال، عندما نسأل عن ذكر بعض أمثلة الأساطير، يجول بخاطر معظمنا «قصص» عن الآلهة والأبطال اليونانيين والرومان. في المقابل، يمكن النظر إلى الأسطورة بصورة أعم باعتبارها معتقدا أو مذهبا، مثل «أسطورة من الأسمال إلى الثروة» أو «أسطورة الحدود» الأمريكيتين. وبينما كتب هوراشيو ألجر العديد من الروايات الشهيرة التي تشرح أسطورة تحول أشخاص من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، فإن المذهب في حد ذاته لا يعتمد على قصة. وينطبق الأمر نفسه على أسطورة الحدود.
إن جميع النظريات المدروسة في هذا الكتاب تعتبر الأسطورة قصة. وبينما يحول إي بي تايلور القصة إلى تعميم ضمني، لا يزال التعميم يصل إلى القارئ عن طريق قصة. وبالمثل، بينما يتجاوز كلود ليفي-ستروس حدود القصة وصولا إلى «بنية» الأسطورة، لا تزال البنية تعتمد على القصة في توصيلها. إضافة إلى ذلك، لا تزال النظريات التي تفسر الأساطير على المستوى الرمزي بدلا من التفسير الحرفي تنظر إلى موضوع الأسطورة، أو المعنى، باعتباره سردا لقصة.
إذن ، إذا ما جرى هنا اعتبار الأسطورة قصة، فما الذي ستدور القصة حوله؟ بالنسبة إلى دارسي المأثورات الشعبية بصفة خاصة، تدور الأسطورة حول خلق العالم؛ ففي الكتاب المقدس، لا ترتقي سوى قصتي الخلق (سفر التكوين 1-2) وقصة جنة عدن (سفر التكوين 3)، وقصة نوح (سفر التكوين 6-9) لمستوى الأساطير، بينما لا تمثل باقي القصص الأخرى سوى خرافات أو حكايات شعبية. وبعيدا عن الكتاب المقدس، تعتبر «أسطورة» أوديب - على سبيل المثال - خرافة في حقيقة الأمر. إنني لا أرغب أن أكون متشددا للغاية وسأكتفي بتعريف الأسطورة بأنها قصة تدور حول شيء مهم؛ فقد تدور أحداث هذه القصة في الماضي، مثلما كان الحال مع المؤرخ إلياد والعالم برونيسلاف مالينوفسكي، أو في الحاضر أو المستقبل.
وفيما يتعلق بالنظريات المستقاة من الدراسات الدينية بصفة خاصة، يجب أن تكون الشخصيات الرئيسة في الأسطورة آلهة أو أشباه آلهة. ولا أرغب هنا أيضا في أن أكون متشددا في تعريفي؛ إذ لو كنت كذلك، لاستبعدت معظم أجزاء العهد القديم الذي بينما قد «تشتمل» أحداث جميع قصصه على الإله - باستثناء الإصحاحين الأولين من سفر التكوين - فإنها تدور حول بشر مثلما تدور حول الإله. ولن أشدد هنا إلا على ضرورة أن تكون الشخصيات الرئيسة في الأساطير شخصيات إلهية أو بشرية أو حيوانية، ولن أستثني إلا القوى اللاشخصية، مثل «الخير» عند أفلاطون. ويعتبر تايلور من أكثر المنظرين انشغالا بالجانب الشخصاني في الأساطير، وكذلك جميع المنظرين الآخرين ممن سنتناولهم لاحقا، باستثناء ليفي-ستروس. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تكون الشخصيات فاعلة أو مفعولا بها في أحداث الأساطير.
باستثناء رودولف بولتمان وهانز يوناس، تناول جميع المنظرين محل النظر وظيفة الأسطورة، كما يركز عليها مالينوفسكي بصورة شبه حصرية. ويختلف المنظرون فيما بينهم حول وظيفة الأسطورة. وإنني لا أريد أن أملي هنا وظيفة الأسطورة لكنني في المقابل أشير فقط إلى أهمية الوظيفة بالنسبة إلى جميع المنظرين في مقابل الأهمية الأقل المولاة إلى الوظيفة في مجال الأساطير والحكايات الشعبية؛ بناء عليه، بينما أريد أن أشير إلى أن الأسطورة تحقق شيئا مهما بالنسبة للمؤمنين بها، فإنني لا أحدد على وجه الدقة ماهية هذا الشيء.
بلغة اليوم، تعتبر الأسطورة شيئا مغلوطا؛ فهي «مجرد» خرافة. على سبيل المثال، في عام 1997 نشر المؤرخ ويليام روبنستاين كتاب «أسطورة الإغاثة: لماذا لم تكن الدول الديمقراطية قادرة على إنقاذ المزيد من اليهود من النازيين». يسفر العنوان عن المعنى المراد، ويتحدى الكتاب القناعة السائدة بأنه كان يمكن إنقاذ كثير من ضحايا اليهود من براثن النازيين، حال التزام الحلفاء بإنقاذهم. ويناهض روبنستاين الافتراضات القائلة بأن الحلفاء لم يكترثوا بمصير اليهود الأوروبيين نظرا لأنها كانت معادية للسامية. ومن وجهة نظره، يشير مصطلح «الأسطورة» إلى تذبذب القناعة حيال الفشل في إنقاذ المزيد من اليهود، على نحو أكثر اكتمالا من استخدام عبارات ألطف مثل «اعتقاد مغلوط» و«سوء فهم عام». وبذلك تعتبر «الأسطورة» قناعة مغلوطة لكنها راسخة.
في المقابل، تستخدم عبارة «من الأسمال إلى الثروة» مصطلح الأسطورة بصورة إيجابية في الوقت الذي تشير فيه إلى رسوخ القناعة. وربما تبدو القناعة المغلوطة الفجة أكثر رسوخا من القناعة الصائبة؛ إذ إن القناعة تظل راسخة على الرغم من مغالطتها الواضحة. ولكن يمكن أن يتشبث بقناعة صائبة ثمينة بنفس قدر التشبث بقناعة مغلوطة، خاصة إذا كانت تدعمها قرينة مقنعة. وللمفارقة، ربما يتوقف بعض الأمريكيين، ممن لا يزالون يعتنقون عقيدة من الأسمال إلى الثروة، عن الإشارة إليها ك «أسطورة»؛ نظرا لأن مصطلح الأسطورة «صار» يعبر عن المغالطة؛ لذا أقترح ضرورة أن يتشبث المؤمنون بالأسطورة تشبثا شديدا بها حتى يمكن وصفها بالأسطورة؛ أي بالقصة التي تعبر لا شك عن قناعة. وفي المقابل، لا أشترط صحة القصة من عدمها.
أسطورة أدونيس
لتوضيح الفروق بين نظريات الأساطير المختلفة، أقترح عرض إحدى الأساطير المألوفة - أسطورة أدونيس - وبيان كيف تبدو في ضوء النظريات التي تناولناها. اخترت هذه الأسطورة في البداية لأنها لا تزال موجودة في نسخ متعددة؛ ومن ثم تبين مدى طواعية مفهوم الأسطورة. وترجع المصادر الرئيسة لأسطورة أدونيس إلى كتاب المؤرخ والكاتب اليوناني أبولودورس «المكتبة» (الكتاب الثالث، الفصل الرابع عشر، الفقرات 3-4) وملحمة الشاعر الروماني أوفيد «التحول» (الكتاب العاشر، السطور 298-739).
وفقا لرواية أبولودورس، الذي يقتبس نسخة القصة من الشاعر الملحمي بانياسيس، كانت سميرنا - والدة أدونيس - منجذبة إلى والدها بصورة لا تقاوم ثم صارت حبلى في طفل له. وعندما اكتشف والد سميرنا أن المرأة التي ضاجعها ليلا كانت ابنته، استل سيفه على الفور لقتلها، فهربت سميرنا، ولاحقها. وعندما كان على وشك الإمساك بها، ابتهلت سميرنا إلى الآلهة لتخفيها عن الأنظار، فاستجابت الآلهة مشفقة عليها فحولتها إلى شجرة مر، ولم يمض عشرة أشهر حتى انشقت الشجرة فخرج من باطنها أدونيس.
حتى عندما كان أدونيس طفلا، كان على قدر استثنائي من الجمال والوسامة. فتيمت به أفروديت، التي كانت تتولى حراسته فيما يبدو، أيما تيم، مثلما كانت سميرنا متيمة بأبيها. وحتى تستأثر به وحدها، خبأته في صندوق. وعندما فتحت برسيفوني، ملكة العالم السفلي (حادس)، الصندوق الذي ائتمنتها أفروديت عليه دون أن تفصح عما يحتويه؛ وقعت هي الأخرى في حب أدونيس، ورفضت إعادته إلى أفروديت. ولما كانت كل إلهة منهما تريد أدونيس لنفسها وحدها، لجأتا إلى ملك الآلهة، زيوس، الذي حكم بأن يقضي أدونيس ثلث العام مع برسيفوني، وثلثه مع أفروديت، والثلث المتبقي وحده. فتخلى أدونيس عن الثلث الخاص به لصالح أفروديت؛ ومن ثم لم يخرج أبدا عن كنف أي إلهة. وفي أحد الأيام، عندما كان يصطاد، جرحه خنزير بري فلقى حتفه إثر الجرح. ووفق أحد الروايات الأخرى للقصة في نسخة مجهولة الاسم لأبولودورس، كان الجرح من عمل آريز، إله الحرب، الذي كان غاضبا جراء تفوق أدونيس عليه كحبيب لأفروديت.
بالمثل، يرجع أوفيد قصة أدونيس إلى علاقة زنا المحارم بين والدته، ميرا، وأبيها المدعو في هذه القصة سينيراس. كانت ميرا على وشك شنق نفسها للتخلص من وطأة معاناتها التي كانت تمر بها، لولا وصيفتها العجوز التي كشفت عن مصدر معاناة ميرا، ومثلما سارت الأحداث في رواية أبولودورس، رتبت مضاجعة ميرا مع أبيها دون علمه. بالرغم من ذلك، في الليلة الثالثة، عندما طلب والد ميرا إضاءة المصابيح لمعرفة من أحبته إلى هذه الدرجة، وجدها ابنته. ومثلما ورد في رواية أبولودورس، استل سيفه لقتلها فهربت ميرا. ظلت ميرا التي حملت سفاحا تجوب في كل مكان لمدة تسعة أشهر. ووفقا لتسلسل الأحداث في رواية أبولودورس أيضا، صلت ميرا منهكة القوى للآلهة التي أشفقت عليها فحولتها إلى شجرة، وكان ذلك في نهاية حملها، لا في بدايته كما في رواية أبولودورس. رغم ذلك، ظلت ميرا تحتفظ بجانب إنساني وهي شجرة جعلها تنتحب، ومن دموعها استخلص عطر المر. كان على الطفل الذي دبت فيه الحياة في أحشائها أن يشق طريقه خارج الشجرة ليخرج إلى النور.
في رواية أوفيد، في مقابل رواية أبولودورس، ما إن التقت فينوس (الاسم الروماني المقابل لأفروديت) بأدونيس شابا حتى شغفها حبا في الحال، كتسلسل أحداث رواية أبولودورس. ولم تكن هناك أية صراعات عليه مع أية إلهة أخرى؛ لذا استأثرت فينوس بأدونيس لنفسها دون منازع. فكانا يذهبان إلى الصيد معا، وعلى الرغم من تحذير فينوس المتكرر لأدونيس بألا يصطاد سوى الحيوانات الأليفة، لم يعبأ أدونيس وسعى إلى اصطياد الحيوانات المتوحشة. ومثلما حدث في رواية أبولودورس، قتله خنزير بري، ولكن هذه المرة دون أن ترسله أية إلهة تتنافس مع فينوس على حبه.
فبينما تنتهي قصة أبولودورس بمقتل أدونيس، يواصل أوفيد قصته بذكر تفاصيل حداد فينوس عليه. وتكريما لذكراه، رشت فينوس رحيقا فوق دمائه، فتفتقت زهرة شقائق النعمان، وهي زهرة قصيرة العمر مثل أدونيس.
وعلى الرغم من أن الدورة السنوية للموت والميلاد من جديد «تسبق» الموت «النهائي» لأدونيس في رواية أبولودورس، «تتبع» الدورة السنوية في رواية أوفيد، ممثلة في الزهرة، وفاة أدونيس. وتسبق زراعة الزهرة الطقوس المصاحبة لأسطورة أدونيس، وهي صلة لم يرد ذكرها في رواية أبولودورس.
ومع أن الغضب هو الدافع الرئيس للأحداث في رواية أبولودورس، فالحب هو الدافع في رواية أوفيد. وبينما يعتبر أدونيس في رواية أبولودورس هو الضحية البريئة لصراع الآباء والآلهة المتنافسة، فإن أفروديت التعيسة في رواية أوفيد تعتبر ضحية بالمثل.
شكل 1: لوحة «فينوس وأدونيس» بريشة روبنز.
1
وفيما يطرح أبولودورس القصة باعتبارها حقيقية، يقدمها أوفيد في ثوب القصة الخيالية. وبينما يسرد أبولودورس أحداث القصة بصورة مباشرة، يحرفها أوفيد بحيث تسع لذكر موضوعات أكبر، خاصة موضوع التحول، مثل تحول ميرا إلى شجرة وأدونيس إلى زهرة. وفيما يهدف أبولودورس إلى تفسير قصته حرفيا، يستهدف أوفيد تفسير القصة مجازيا. وبينما يتبنى أبولودورس أسلوبا جادا في سرد القصة، يوظف أوفيد نبرة مرحة.
إنني أقترح استخدام أسطورة أدونيس؛ ليس فقط لأنها لا تزال موجودة في نسخ شديدة التباين، ولكن لشعبيتها الطاغية لدى منظري الأساطير في العصر الحديث. إضافة إلى ذلك، خضعت هذه الأسطورة لتحليل منظرين من أمثال جيه جي فريزر، ومارسيل ديتيان الذي اتبع لاحقا مدرسة ليفي-ستروس، وسي جي يونج وأتباعه.
تطبيق النظريات على الأساطير
يتمثل تحليل إحدى الأساطير في إجراء التحليل في ضوء إحدى النظريات؛ فلا مفر من التنظير. على سبيل المثال، كتيبات الميثولوجيا الكلاسيكية، التي تربط ربطا مباشرا بين رحلة أدونيس السنوية إلى برسيفوني ثم عودته إلى أفروديت، وبين مراحل إنبات الزهرة؛ تفترض مسبقا اعتبار الأسطورة نظيرا بدائيا للعلم. وبينما يعتبر التشكك في شمولية أية نظرية أمرا محل نظر، فإنه لا يمكن التخلي عن التنظير بصورة كاملة.
تحتاج النظريات إلى الأساطير بقدر حاجة الأساطير إلى النظريات. إذا فسرت النظريات الأساطير، فإن الأساطير بدورها تؤكد صحة النظريات. رغم ذلك، لا يؤكد التوافق التام بين النظرية والأسطورة صحة النظرية، ولا بد من ترسيخ المبادئ الأساسية للنظرية بصورة مستقلة. على سبيل المثال، إن توضيح أن نظرية يونج، عند تطبيقها، تفسر أسطورة أدونيس، لا يثبت في حد ذاته وجود لاوعي جمعي يفترض مسبقا في المقابل. وأحد الطرق - غير المباشرة - التي تساعد في تأكيد إحدى النظريات تتمثل في إظهار براعة تطبيقها «عند» التسليم بصحة مبادئها الأساسية، وهو ما يستند إلى صحة أو محدودية النظرية حال إثبات عدم نجاحها.
هوامش
الفصل الأول
الأسطورة والعلم
يرجع رفض الأسطورة في الغرب إلى أفلاطون الذي رفض أساطير هوميروس لأسباب أخلاقية بالأساس. واقتصر الأمر في الدفاع عن الأسطورة من هذا الاتهام على الرواقيين الذين أعادوا تفسير الأساطير مجازيا. ولم يأت رفض الأساطير الأساسي في العصر الحديث من علم الأخلاق بل من العلم. ويفترض هنا أن تفسر الأسطورة طريقة سيطرة الآلهة على العالم المادي بدلا من طريقة تعامل الآلهة مع بعضها البعض، مثلما كان يرى أفلاطون. وبينما كان أفلاطون يسخر من الأساطير لتقديم الآلهة كشخصيات تمارس الأفعال اللاأخلاقية، فإن نقاد العصر الحديث يرفضون الأساطير بسبب تفسيرها للعالم تفسيرا غير علمي.
الأسطورة كعلم حقيقي
كان من أشكال الرفض الحديثة للأساطير رفض مصداقيتها العلمية. فهل حدثت عملية الخلق في ستة أيام فقط، مثلما تشير القصة الأولى من قصتي الخلق في سفر التكوين (1: 1-2: 4أ)؟ هل كان هناك حقا طوفان غمر العالم بأكمله؟ هل يرجع تاريخ الأرض إلى ستة أو سبعة آلاف سنة فقط؟ هل أصاب المصريين عشرة ضربات بالفعل؟ كان أحد أكثر الدفاعات استماتة عن الأسطورة في هذا السياق هو الزعم بصحة الرواية المذكورة في الكتاب المقدس لهذه الأحداث، بسبب تنزيل الله للأسفار على موسى. ويتخذ هذا الرأي، المعروف باسم «نظرية الخلق»، صورا متعددة، تتراوح بين حساب عدد أيام الخلق باعتبارها ستة أيام بالضبط، وبين اعتبارها مسألة استغرقت «عصورا». وظهرت نظرية الخلق كرد فعل لكتاب «أصل الأنواع» لداروين (1859)، الذي يطرح تطور الأنواع تدريجيا بعضها من بعض، وليس خلقها بصورة منفصلة آنية. ومما يدعو للدهشة أن نظرية الخلق صارت أكثر، وليس أقل، تشبثا بالحرفية في تفسيرها لرواية الكتاب المقدس لقصة الخلق.
في الوقت نفسه، يتباهى مؤيدو نظرية الخلق من كافة المشارب بشأن رؤاهم باعتبارها علمية «وكذلك» دينية، وليست دينية «أكثر» من كونها علمية. و«نظرية الخلق» هي اختصار ل «علم الخلق»، الذي يقتنص أي دليل علمي من أي نوع لدعم مزاعمه، ودحض مزاعم النظريات اللادينية المنافسة مثل التطور. ولا شك في أن «علماء الخلق» قد يعترضون على استخدام مصطلح «أسطورة» للتعبير عن الرؤى التي يدافعون عنها؛ وذلك فقط نظرا للمعتقدات الزائفة المرتبطة بالمصطلح. وإذا جرى استخدام المصطلح بصورة محايدة للإشارة إلى معتنق راسخ، فإن نظرية الخلق ستعبر حينها عن أسطورة تزعم أنها علمية. ومن وجهة نظر علماء الخلق، لا يستند التطور إلى أي أساس علمي على الإطلاق. وفي حال وجود أي صدام بين الكتاب المقدس والعلم الحديث، يجب على العلم الحديث أن يفسح المجال لعلم الكتاب المقدس، وليس العكس.
الأسطورة كعلم حديث
يتمثل أحد الدفاعات الأكثر اعتدالا عن الأسطورة في وجه رفض العلم الحديث لها في التوفيق بينها وبين العلم. وفي هذا السياق، يتم التخلص من العناصر التي تصطدم بالعلم الحديث أو، بصورة أكثر براعة، إعادة تفسيرها بحيث تصير حديثة وعلمية. وتعتبر الأسطورة ذات مصداقية علمية؛ نظرا «لأنها» علم - علم حديث. ربما لم يكن بمقدور إنسان اسمه نوح (النبي) وحده جمع كل هذه الأنواع من الكائنات والحفاظ على حياتها في قارب خشبي قوي بما يكفي لتحمل أمواج أعتى البحار الموجودة آنذاك، لكن كان هناك طوفان. من ثم، يعتبر ما ظل قائما من الأسطورة صحيحا لأنه علمي. ويعد هذا الأسلوب في التناول متعارضا مع الأسلوب الذي يطلق عليه «التجرد من العناصر الخرافية»، الذي يفصل الجانب الخرافي عن العلمي. وسنتناول أسلوب التجرد من العناصر الخرافية في الفصل التالي.
وفي تعليق على الضربة الأولى؛ ألا وهي تحول مياه النيل إلى دم (سفر الخروج 7 : 14-24)، يجسد محررو «إنجيل أكسفورد المشروح» هذا الأسلوب المنطقي بقولهم: «كانت ضربة الدم تعكس بوضوح ظاهرة طبيعية في مصر؛ ألا وهي لون نهر النيل الضارب إلى الحمرة في أوج فيضانه في الصيف، والذي كان يرجع إلى جسيمات حمراء في الأرض أو ربما إلى كائنات حية دقيقة.» أما بالنسبة للضربة الثانية؛ ألا وهي ضربة الضفادع (سفر الخروج 8 : 1-15)، كتب المحررون قائلين في وضوح: «كان طمي النيل، بعد موسم الفيضان، هو البيئة الطبيعية لتكاثر الضفادع، ولم تتعرض مصر لهذه الضربة لأكثر من مرة من قبل؛ نظرا لوجود الطائر الآكل للضفادع؛ أبو منجل.» فيا لها من مصادفة، تلك التي وقعت حينما كان طائر أبو منجل ليس على الساحة عندما بسط هارون يده للتسبب في وقوع الضربة، وحتما عاد الطائر في الوقت الذي كان موسى يرغب فيه في رفع البلاء! فبدلا من وضع الأسطورة «في مواجهة» العلم، يسنح هذا الأسلوب بتحويل الأسطورة «إلى» علم، وليس كما هو رائج حاليا، تحويل العلم إلى أسطورة.
الأسطورة كعلم بدائي
حتى الآن، تمثلت أكثر ردود الفعل شيوعا حيال رفض العلم للأسطورة في التخلي عن الأساطير لصالح العلم. في هذا السياق، تعبر الأسطورة، التي لا تزال تقدم تفسيرا للعالم، عن تفسير فريد من نوعه، وليس تفسيرا علميا تحت غطاء خرافي. إذن، لا يتمثل جوهر المسألة في المصداقية العلمية للأسطورة، بل في مدى توافق الأسطورة مع العلم. وتعتبر الأسطورة علما «بدائيا» أو، بصورة أدق، نظيرا سبق ظهور العلم الذي يفترض كونه حديثا بصورة استثنائية. وتعتبر الأسطورة في هذا السياق جزءا من الدين، وبينما يوفر الدين - المنفصل عن الأسطورة - الاعتقاد في الآلهة، تملأ الأسطورة الفراغ بتفاصيل طريقة تنفيذ الآلهة للأحداث. ونظرا لأن الأسطورة جزء من الدين، أدى صعود العلم كتفسير حديث ومهيمن للأحداث المادية إلى سقوط الدين والأسطورة معا. ولأن الحداثيين يقبلون العلم بطبيعتهم، فإنهم يعجزون عن تقبل وجود الأسطورة أيضا، وهكذا تعد عبارة «الأسطورة الحديثة» متعارضة مع نفسها. وبذلك، تعد الأسطورة ضحية عملية العلمنة التي تؤلف الحداثة.
في الواقع، لم تكن العلاقة بين الدين والعلم متناغمة قط، وتعبر المؤلفات ذات العناوين المنحازة مثل «تاريخ حرب العلم مع اللاهوت في العالم المسيحي» عن وجهة نظر أحادية. وبالرغم من ذلك، كان الدين والعلم، وبناء عليه الأسطورة والعلم، يعارضان على نحو أكثر انتظاما في القرن التاسع عشر عنه في القرن العشرين، الذي جرى فيه التوفيق بينهما في كثير من الأحيان.
إي بي تايلور
شكل 1-1: إي بي تايلور، بريشة الفنان جي بونافيا.
1
يظل عالم الأنثروبولوجيا الرائد الإنجليزي الجنسية إي بي تايلور (1832-1917)؛ المؤيد الكلاسيكي لوجهة النظر القائلة بتعارض الأسطورة مع العلم. يصنف تايلور الأسطورة تحت الدين، ومن ثم يصنف كلا من الدين والعلم تحت الفلسفة. ويقسم تايلور الفلسفة إلى «بدائية» و«حديثة». فتتطابق الفلسفة البدائية مع الدين البدائي، غير أنه لا يوجد علم بدائي. على النقيض من ذلك، تتضمن الفلسفة الحديثة قسمين فرعيين: الدين والعلم. ومن بين الاثنين، يعتبر العلم هو الأكثر أهمية، كما يعتبر النظير الحديث للدين البدائي. ويتألف الدين الحديث من عنصرين - ما وراء الطبيعة وعلم الأخلاق - وكلاهما لا يوجد في الدين البدائي. فتتعامل ما وراء الطبيعة مع الكيانات غير المادية التي لا يدركها «البدائيون». وبينما لا يغيب علم الأخلاق في الثقافة البدائية، فإنه يقع خارج نطاق الدين البدائي: «يبدو أن ارتباط علم الأخلاق بالفلسفة الروحانية، لم يبدأ في الثقافة الدنيا، إلا نادرا، على الرغم من ارتباطهما وبقوة في الثقافة العليا.» ويستخدم تايلور مصطلح «المذهب الروحاني» للإشارة إلى الدين في حد ذاته، سواء الحديث أم البدائي؛ نظرا لأنه يستمد الاعتقاد في الآلهة من الاعتقاد في الأرواح. وفي الدين البدائي، تسكن الأرواح جميع الكيانات المادية بدءا من أجساد البشر. ويعتبر الآلهة هم الأرواح الساكنة في جميع الكيانات المادية «باستثناء» البشر الذين هم ليسوا آلهة.
يعتبر الدين البدائي هو النظير البدائي للعلم؛ نظرا لأن كليهما يقدمان تفسيرات للعالم المادي؛ بناء عليه، يصف تايلور الدين البدائي بأنه «بيولوجيا بدائية»، مؤكدا على «إحلال علم الفلك الميكانيكي محل علم الفلك الروحاني عند الأعراق الدنيا تدريجيا»، وأنه حاليا «يحل علم الأمراض البيولوجية محل علم الأمراض الروحانية تدريجيا.» إضافة إلى ذلك، يعتبر التفسير الديني شخصانيا؛ إذ تفسر قرارات الآلهة الأحداث، بينما يعد التفسير العلمي غير شخصي؛ إذ تفسر القوانين الميكانيكية الأحداث. وبذلك حلت العلوم في مجملها محل الدين كتفسير للعالم المادي، بحيث صار «علم الفلك الروحاني» و«علم الأمراض الروحاني» يشيران فقط إلى المذهب الروحاني البدائي، لا الحديث. وأسلم الدين الحديث راية تفسير العالم المادي إلى العلم، وانزوى إلى العالم غير المادي، خاصة إلى عالم الحياة بعد الموت، بعبارة أخرى إلى حياة الروح بعد موت الجسد. وفيما تعتبر الأرواح مادية في الدين البدائي، تعتبر غير مادية في الدين الحديث كما تقتصر على البشر:
في وقتنا هذا ودولتنا هذه، نلاحظ تلاشي فكرة أرواح المخلوقات. ويبدو المذهب الروحاني كأنه ينسحب من قواعده المترامية، ويمركز نفسه في وضعه الأول والرئيس، وهو مذهب الروح البشرية ... تخلت الروح عن مادتها الأثيرية، وصارت كيانا غير مادي، «ظلا لظل». ويتزايد انفصال نظرية الروح عن نطاق الأبحاث في علم الأحياء والعلوم العقلية، التي تناقش حاليا ظاهرة الحياة والفكر، الحواس والعقل، المشاعر والإرادة، استنادا إلى أساس من التجربة الخالصة. فظهر إلى الوجود منتج فكري يعتبر وجوده - في حد ذاته - في غاية الأهمية؛ ألا وهو «علم النفس» الذي لم يعد له علاقة ب «الروح». وتقع الروح في الفكر الحديث في مجال ما وراء الطبيعة الدينية، وتتمثل مهمتها الخاصة هناك في تقديم جانب فكري إلى المذهب الديني للمستقبل. (تايلور، «الثقافة البدائية»، المجلد الثاني، ص85)
بالمثل، فيما تعتبر الآلهة مادية في الدين البدائي، فإنها غير مادية في الدين الحديث؛ بناء عليه، لم تعد الآلهة فاعلة في العالم المادي - ويفترض تايلور هنا أن الآثار المادية لا بد أن تكون لها أسباب مادية - كما لم يعد الدين تفسيرا للعالم المادي. فنقلت الآلهة من العالم المادي إلى العالم الاجتماعي، وأصبحت نماذج للبشر، مثلما يجب أن يكونوا وفقا لأفلاطون. يرجع المرء إذن الآن إلى الكتاب المقدس لتعلم الأخلاق، وليس الفيزياء. ويقرأ المرء الكتاب المقدس، لا ليعرف قصة الخلق بل لمعرفة الوصايا العشر، مثلما تمكن أعمال هوميروس، بعد تنقيحها، المرء من فعل ذلك، حسب رؤية أفلاطون. وهكذا، يحاكى المسيح باعتباره إنسانا مثاليا وليس باعتباره صانع معجزات. ولقد عبر عن نموذج لهذه الرؤية الناقد الثقافي ماثيو أرنولد في العصر الفيكتوري.
يشبه هذا الموقف التوافقي موقف عالم الأحياء التطورية الراحل ستيفن جاي جولد، الذي يعتبر العلم - خاصة علم التطور - متوافقا مع الدين؛ نظرا لأن كليهما لا يتقاطعان أبدا. وفيما يفسر العلم العالم المادي، يقدم الدين وصفة أخلاقية ويعطي معنى للحياة:
يحاول العلم توثيق الطبيعة الحقيقية للعالم الطبيعي، وتطوير نظريات تنسق هذه الحقائق وتفسرها. على الجانب الآخر، يوجد الدين في مجال الأغراض والمعاني والقيم الإنسانية. (جولد، «صخور العصور»، ص4)
رغم ذلك، بينما أدى الدين «دوما» عند جولد وظيفة مختلفة عن وظيفة العلم ، أجبر الدين من وجهة نظر تايلور على التقهقر؛ نظرا لتهميش العلم له قسرا، وصارت وظيفته الحالية أضعف. ويعتبر تايلور أقرب إلى عالم الأحياء ريتشارد دوكينز، على الرغم من أن دوكينز، على عكس تايلور، غير مستعد حتى لأن يمنح الدين وظيفة أقل بعد ظهور العلم.
ويرى تايلور أن تضاؤل دور الدين، كتفسير للعالم المادي، كان يعني تضاؤل دور الأساطير بالكامل التي تقتصر من وجهة نظره على الدين البدائي. وعلى الرغم من أن الأساطير هي إسهاب للاعتقاد في الآلهة، فإن هذا الاعتقاد في حد ذاته قادر على الصمود أمام صعود العلم حيثما تعجز الأسطورة عن ذلك إلى حد ما. ومن الواضح أن الأساطير وثيقة الصلة بالآلهة كأياد فاعلة في العالم بصورة لا تسمح بإجراء أية عملية تحول مقارنة من الفيزياء إلى ما وراء الطبيعة. إذن، بينما يوجد «دين حديث»، على الرغم من كونه دينا لا يمارس الدور الرئيس في التفسير، فإنه لا توجد أساطير حديثة.
في وضع الأسطورة في مواجهة العلم، كما هي الحال في وضع الدين كتفسير في مقابل العلم، يجسد تايلور النظرة حيال الأساطير في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين، سار الاتجاه العام نحو التوفيق بين الأساطير والعلم من جهة وبين الدين والعلم من جهة أخرى، بحيث لا يستغني الناس في العلم الحديث عن الأسطورة أو الدين. مع ذلك، تظل وجهة نظر تايلور شائعة بلا شك، ويتبناها أولئك ممن يثير لديهم مصطلح «الأسطورة» قصصا تدور حول الآلهة اليونانية والرومانية.
ويرى تايلور أن العلم لا يجعل الأسطورة شيئا غير ضروري فحسب، بل يجعلها أيضا غير مقبولة. لماذا؟ لأن التفسيرات التي يطرحها كل من الأسطورة والعلم غير متوافقة. ولا يقتصر الأمر ببساطة على أن تفسيرات الأساطير شخصانية وأن التفسيرات العلمية غير شخصية، بل يتجاوز ذلك إلى أن كليهما يطرح تفسيرات «مباشرة» للأحداث «نفسها»، فلا تؤثر الآلهة في الأشياء من خلف أو من خلال قوى غير شخصية، بل تحل محلها؛ ففي الأسطورة، يجمع إله الأمطار، على سبيل المثال ، الأمطار في دلاء ثم يقرر تفريغها في منطقة ما أسفل منه، أما في العلم، تسبب الأحوال الجوية الأمطار. وبذلك، لا يستطيع المرء وضع التفسير الخرافي فوق التفسير العلمي؛ لأن إله المطر، بدلا من استخدام الأحوال الجوية، يسقط الأمطار ويتسبب فيها بدلا منها.
بصورة أدق، لا تعتبر السببية في الأساطير مسألة شخصانية بالكامل قط. ويفترض قرار إله المطر إنزال الأمطار فوق منطقة ما وجود قوانين فيزيائية يرجع إليها سبب تراكم الأمطار في السماء، وسعة الدلاء للاحتفاظ بالأمطار، وتوجيه الأمطار الهاطلة. ولكن، حتى يحافظ تايلور على الفجوة الصارمة بين الأسطورة والعلم، لا شك أنه سيجيب بأن الأساطير نفسها تتجاهل العمليات الفيزيائية وتركز على القرارات الإلهية فقط.
مع ذلك، حتى في حال عدم التوافق بين الأسطورة والعلم، لماذا لا تتسم الأسطورة بأنها علمية من وجهة نظر تايلور؟ لا بد أن الإجابة هي أن المسببات الشخصية غير علمية. ولم ذلك؟ لم يجب تايلور قط. وربما تتمثل الإجابة في أحد الأسباب التالية: أن المسببات الشخصية عقلية - أي إنها قرارات أياد فاعلة إلهية - بينما تعتبر المسببات غير الشخصية مادية. أن المسببات الشخصية لا يمكن التنبؤ بها أو اختبارها، بينما يمكن توقع وقياس المسببات غير الشخصية. أن المسببات الشخصية خاصة، بينما المسببات غير الشخصية معممة. وأن المسببات الشخصية نهائية أو غائية (لها غاية)، بينما المسببات غير الشخصية فاعلة ومؤثرة. ولكن، لا تفرق أي من هذه الأسباب في حقيقة الأمر بين المسببات الشخصية وغير الشخصية، مما يصعب معرفة كيف استطاع تايلور الدفاع عن قناعته بأن الأسطورة غير علمية.
نظرا لأن تايلور لا يشكك في هذا الافتراض أبدا، فإنه لا يسلم جدلا فقط بأن الأشخاص البدائيين لا يملكون إلا أساطير، بل والأدهى من ذلك أن الحداثيين لا يملكون إلا العلم. وليس من قبيل المصادفة، إذن، أن يشير تايلور إلى «مرحلة صناعة الأسطورة» في الثقافة. وبدلا من كون الأسطورة ظاهرة خالدة، مثلما يزعم كل من ميرسيا إلياد وسي جي يونج وجوزيف كامبل بتعالي، لا تعتبر الأسطورة من منظور تايلور أكثر من مجرد ظاهرة زائلة ، وإن كانت تزول ببطء. فلقد أدت الأساطير دورها باقتدار غير أن زمانها انتهى. وفشل الحداثيون الذين لا يزالون يتشبثون بالأساطير في إدراك أو التسليم بعدم توافقها مع العلم. وبينما لا يشير تايلور إلى تاريخ بداية المرحلة العلمية، فإن هذا التاريخ يتطابق مع تاريخ بداية الحداثة، ومن ثم لا يرجع إلى أكثر من قرون قليلة خلت. وعند وفاته في عام 1917، لم يتخيل على الإطلاق وجود مرحلة تتعدى الحداثة. وأحد الأمثلة الحديثة على موقف تايلور، عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي دافيد بدني.
أحد أسباب وضع تايلور للأسطورة في مواجهة مع العلم هو تصنيفه للأسطورة تحت مظلة الدين. ومن وجهة نظره، لا توجد أسطورة خارج مجال الدين، على الرغم من عدم وجود أسطورة في الدين الحديث. ولأن الدين البدائي يعتبر نظير العلم، كذلك يجب أن تكون الأسطورة، ولأن الدين يجب فهمه حرفيا، كذلك يجب فهم الأسطورة على النحو نفسه.
من الأسباب الأخرى لوضع تايلور الأسطورة في مواجهة مع الدين أنه يفسر الأسطورة تفسيرا حرفيا. ويعارض تايلور من يفسرون الأسطورة بصورة رمزية، أو شعرية، أو مجازية، وهي جميعا بالنسبة إليه مصطلحات متماثلة. ويعارض أيضا «الرمزيين الأخلاقيين» الذين يعتبرون أسطورة قيادة هيليوس اليومية لعربته عبر السماء وسيلة لغرس الانضباط الذاتي. بالمثل، يعارض تايلور «المؤلهين» الذين يرون الأسطورة مجرد أسلوب حيوي لوصف إنجازات بطل محلي أو قومي. (كان يوهيمروس - الذي اشتقت من اسمه لفظة «مؤله» باللغة الإنجليزية - جامع أساطير يونانيا قديما أرسى تقليد البحث عن أساس تاريخي حقيقي للأحداث الأسطورية.) ويرى تايلور أن أسطورة هيليوس تفسر شروق الشمس وغروبها؛ وهذه الوظيفة التفسيرية «تتطلب» تفسيرا حرفيا. ولا تعتبر الأسطورة من منظور الرمزيين الأخلاقيين والمؤلهين نظيرا بدائيا للعلم؛ نظرا لأن الأسطورة تدور حول البشر أكثر مما تدور حول الآلهة أو العالم، وذلك في حال تفسيرها بصورة رمزية. ويرى الرمزيون الأسطورة غير علمية، نظرا لأنها تقدم وصفة إلى البشر حول كيفية التصرف أكثر مما تشرح طرق التصرف، وذلك حال تفسيرها تفسيرا رمزيا.
كتفسيرات للأسسطورة، يرجع كل من الترميز الأخلاقي وتأليه الأشخاص إلى العصور القديمة، إلا أن تايلور يرى أن المؤيدين لكليهما المعاصرين له تدفعهما رغبة في الحفاظ على الأسطورة، على الرغم من رفض العلم الحديث لها على هذا النحو المميز. وفيما يرفض تايلور أولئك الذين يفسرون الآلهة على أنهم مجرد استعارات تشير إلى البشر باعتبارهم «مؤلهين»، فإن المؤلهين القدامى أنفسهم سلموا على نحو تقليدي بأن الآلهة - ما أن افترض وجودهم جدلا - يفسرون كآلهة، وذهبوا إلى أن الآلهة «ظهرت للوجود» بتفخيم البشر وإجلالهم، مثلما يرى تايلور نفسه. وكان المؤلهون القدامى يرون أن الآلهة الأولين كانوا ملوكا عظماء بحق، جرى تأليههم بعد مماتهم. ورأى يوهيمروس نفسه أن الآلهة الأولين كانوا ملوكا جرى تأليههم وهم على قيد الحياة.
يأتي على طرف النقيض من تايلور معاصره في الحقبة الفيكتورية، فريدريك ماكس مولر (1823-1900) - ألماني المولد عالم اللغة السنسكريتية - الذي قضى حياته العملية في أكسفورد. وبينما أساء الحداثيون - من منظور تايلور - تفسير الأسطورة لنحوهم نحوا رمزيا، وصل الأمر بالقدماء أنفسهم - في وجهة نظر مولر - إلى إساءة تفسير أساطيرهم، أو البيانات الخرافية لانتهاجهم على نحو تدريجي نهجا حرفيا. وفي الأصل، كان الوصف الرمزي للظواهر الطبيعية يفسر كوصف حرفي لصفات الآلهة. على سبيل المثال، البحر الموصوف شعريا بأنه «هائج» كان يعتبر بمرور الوقت صفة للإله المشخصن المسئول عن البحر، ثم لاحقا ابتكرت أسطورة للتعبير عن هذه الصفة. وتنبثق الميثولوجيا في رأي مولر من غياب أو شبه غياب الأسماء المجردة وعلامات التذكير والتأنيث في اللغات القديمة؛ بناء عليه، دائما ما كان يحول أي اسم أعطي للشمس، لنقل على سبيل المثال «مصدر الدفء»، كيانا مجردا غير شخصي إلى شخصية حقيقية، ثم ابتكرت الأجيال اللاحقة الأساطير لملء تفاصيل حياة هذا الإله المذكر أو المؤنث.
في حالة تطبيق منهج تايلور على أسطورة أدونيس، سنجد أن الأسطورة تعبر عن تفسير - قائم بذاته - لشيء مدهش جرت ملاحظته. ويرى تايلور أن روايتي أبولودورس وأوفيد تقدمان تفسيرا لأصل شجرة المر. غير أن رواية أوفيد تقدم تفسيرا لأصل زهرة شقائق النعمان، وتفسر أيضا سبب قصر حياة الزهرة، وهو ما يرمز إلى قصر حياة أدونيس. فإذا كان للمرء أن يعمم ما يحدث لزهرة شقائق النعمان وغيرها من النباتات، فقد تفسر الأسطورة لماذا لا تموت هذه الكيانات بل إنها تولد من جديد. على الجانب الآخر، يرى تايلور أن أدونيس يجب أن يكون إلها، وليس بشرا، كما يجب أن تربط الأسطورة بين مراحل إنبات الزهور والنباتات على مدار العام بصورة عامة، وبين رحلة أدونيس السنوية إلى حادس والرجوع منه. غير أن موت أدونيس سيتم تجاهله؛ فالتركيز في الأسطورة يقع على قدرة أدونيس على السيطرة على الكيانات الطبيعية التي كان مسئولا عنها. أما عن الدرس المستفاد من الأسطورة، فهو فكري من جميع جوانبه: ويتمثل في معرفة المرء سبب سلوك المحاصيل على هذا النحو الفريد - إذ تموت ثم تعود إلى الحياة، ولا يحدث ذلك مرة واحدة بل إلى الأبد.
مع ذلك، فإن الأسطورة نفسها لا تربط بين رحلة أدونيس السنوية وبين مراحل الإنبات، على الرغم من وجود هذا الارتباط في طقوس نثر البذور في «حدائق أدونيس» سريعة النمو، سريعة الموت. وحتى في حال عدم ربط رحلة أدونيس بمراحل الإنبات، لن يتأتى أي أثر على النبات من أي قرار يتخذه أدونيس، مثلما قد يشترط تايلور، بل كنتيجة تلقائية لأفعاله.
إضافة إلى ذلك، سيجري التخلي عن جانب كبير من الأسطورة. فلا تغطي نظرية تايلور موضوعات زنا المحارم، والحب، والغيرة، والجنس. وبصورة أدق، لا تستطيع نظرية تايلور تغطية هذه الموضوعات إلا من باب تناول دوافع أدونيس. في المقابل، تظل هذه الدوافع دوافع الأشخاص من حول أدونيس، لا دوافعه هو. ويعتبر أدونيس شخصية سلبية أكثر من كونها فاعلة. وعلى الرغم من الأحداث الإعجازية في حياة أدونيس، لا يزال أدونيس بشرا، وليس إلها. إجمالا، تركز الأسطورة فيما يبدو على علاقاته بالآخرين أكثر من تأثيره أو تأثير الآخرين على العالم المادي.
تبدو نظرية تايلور مفصلة خصيصى لنموذج أسطورة تعبر بصورة جلية عن قصة الخلق، بل تعبر عن آليات عمل الظواهر المادية الجاري. خذ سفر التكوين الإصحاح الأول على سبيل المثال، الذي يعتبره تايلور أسطورة وفق هذا المعيار. ولنستشهد ببعض المقتطفات:
وقال الله: «لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة.» وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضا، ومجتمع المياه دعاه بحارا. ورأى الله ذلك أنه حسن. (سفر التكوين 1 : 9-10 [النسخة القياسية المراجعة])
وقال الله: «لتفض المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء.» فخلق الله التنانين العظام، وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه. ورأى الله ذلك أنه حسن. (سفر التكوين 1 : 20-21)
وقال الله: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض.» فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: «أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض، وأخضعوها» ... ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا. (سفر التكوين 1 : 26-31)
تتناسب نظرية تايلور مع عناصر العالم تلك التي لم تخلق وفق نظام محدد مرة واحدة إلى الأبد، مثل اليابسة والبحار، فضلا عن الظواهر المتكررة مثل الأمطار، وتحولات الفصول، و(في قصة نوح) قوس قزح. يتناول سفر التكوين، الإصحاح الأول، العديد من الظواهر المتكررة مثل الليل والنهار، والشمس والقمر، وجميع الكائنات الحية. في مقابل ذلك، تتطلب نظرية تايلور وقوع الظواهر المتكررة استنادا إلى القرارات المتكررة للآلهة. ووفقا لتايلور، يمثل الآلهة للعالم المادي ما يمثله البشر للعالم الاجتماعي؛ إذ يتخذون قرارا جديدا في كل مرة يفعلون الشيء نفسه. ومن وجهة نظره، لا يخلق الآلهة الأشياء التي تظل للأبد، على النقيض مما يراه منظرون من أمثال برونيسلاف مالينوفسكي وإلياد.
ماذا عن الظواهر التي لم يشهدها أحد على الإطلاق، مثل وحوش البحر؟ كيف تصلح الأسطورة للتعبير عنها؟ تتمثل إجابة تايلور السهلة في أن واضعي سفر التكوين افترضوا مشاهدة أحد لها. ولن تختلف وحوش البحر في هذه الحالة عن الأطباق الطائرة المجهولة.
حتى في حال توافق نظرية تايلور مع عملية الخلق توافقا محكما في سفر التكوين، الإصحاح الأول، سيقع جانب كبير من الأسطورة خارج نطاق النظرية. فلا تقتصر النظرية على تفسير عملية الخلق فحسب، بل إنها تجري عملية تقييم لها، واصفة إياها بالحسنة بصورة دائمة. ونظرا لأن تايلور يصر على إجراء مقارنة بين الأسطورة والعلم، لا يدع أي مجال في الأسطورة للأخلاق، والدليل على ذلك معارضته للرمزيين الأخلاقيين. ويرى تايلور أن سفر التكوين، الإصحاح الأول، يجب أن يفسر قصة الخلق، لا أن يقيمها. وبالمثل، لا تقتصر قصة الخلق على تفسير قصة خلق البشر، بل ترتقي بهم إلى مصاف تعلو مراتب كافة الخلق، مانحة إياهم الحق والمسئولية في آن واحد في الإشراف على العالم المادي. إضافة إلى ذلك، إذا كانت «صورة» الله التي على مثالها خلق البشر أكثر من مجرد صورة تشريحية، فسنجد قصورا هنا أيضا في نظرية تايلور.
أخيرا، في حال نجاح نظرية تايلور، ماذا ستكشف عنه؟ إن التوافق بين نظرية ما وأسطورة بعينها أمر يختلف عن أن تفسر النظرية أية أسطورة تتوافق معها. فعلام تدلنا نظرية تايلور التي لولاها ما عرفنا ما سنعرفه منها؟ إحقاقا للحق، لم يستطع أحد سؤال تايلور عن «معنى» الأسطورة؛ إذ إن تايلور يتشبث بموقفه بتفسير الأسطورة تفسيرا حرفيا. بعبارة أخرى، تعني الأسطورة بالنسبة له ما تنص عليه. ويتمثل إسهام تايلور فيما يتعلق بالأسطورة في أصل ووظيفة الأسطورة. ومثلما يؤكد تايلور، لم ينشأ سفر التكوين، الإصحاح الأول، من تخمينات جامحة إزاء العالم، بل من ملاحظات منتظمة لعمليات طبيعية متكررة، وإن كانت مدهشة، تستدعي التفسير. وفيما بين مؤيدي نظرية الخلق، هناك جمهور يطري على نظرية تايلور - ليس لأنه يعتبر سفر التكوين، الإصحاح الأول، هو الرواية الصحيحة عن أصل العالم، بل لأنه يعتبره «رواية»؛ رواية دينية مميزة. ويطرح تايلور تصحيحا لعلماء اللاهوت في القرن العشرين الذين، بإصرارهم على جعل الكتاب المقدس كتابا مستساغا للحداثيين، يرون أن سفر التكوين، الإصحاح الأول، لا يعبر بأي صورة من الصور عن قصة الخلق، وهي رؤية تشبه وجهة نظر رودولف بولتمان حول العهد الجديد، كما سنرى في الفصل التالي.
جيه جي فريزر
لا تمثل رؤية تايلور سوى رؤية واحدة للعلاقة بين الأسطورة والعلم، أو بين الدين والعلم. وأقرب الرؤى إليها هي رؤية معاصره الرائد الأنثربولوجي جيه جي فريزر (1854-1941)، اسكتلندي المولد، ودارس الحضارة اليونانية والرومانية القديمة المنتسب إلى جامعة كامبريدج. يرى فريزر، وكذلك تايلور، أن الأسطورة جزء من الدين البدائي، كما يعتبر الدين البدائي جزءا من الفلسفة، التي تعد شاملة، والدين البدائي أيضا هو نظير للعلم الطبيعي الذي يعد حديثا في مجمله. ويرى كلاهما أيضا أنه لا يوجد توافق بين الدين البدائي والعلم؛ فيخطئ الدين البدائي والعلم يصيب. ولكن، بينما يمثل الدين البدائي عند تايلور، متضمنا الأسطورة، النظير المقابل ل «النظرية» العلمية، يمثل الدين البدائي عند فريزر النظير المقابل للعلم «التطبيقي»، أو التكنولوجيا. وبينما «يفسر» الدين البدائي في رأي تايلور الأحداث في العالم المادي، «يسبب» الدين البدائي الأحداث في منظور فريزر، خاصة نمو المحاصيل. وفيما يتعامل تايلور مع الأسطورة كنص مستقل، يربط فريزر الأسطورة بالطقوس التي تسببها.
يعتبر فريزر أسطورة أدونيس أحد الأمثلة الرئيسة على الأسطورة الأم من بين جميع الأساطير، وهي أسطورة كبير الآلهة، إله النبات. ويرى فريزر أنه كان من الممكن تمثيل أسطورة أدونيس، وذلك التمثيل الطقوسي كان يعتقد أنه سيحقق نجاحا باهرا في إحداث ما كان مرجوا منه. فكان من الممكن أن يؤدي تمثيل عودة أدونيس إلى عودته بالفعل، ومن ثم إعادة إنبات المحاصيل. كما أن الأسطورة لم يكن الهدف منها هو شرح سبب موت المحاصيل - فقد ماتت لأن أدونيس، عند نزوله إلى أرض الموتى، قد مات - بل استهدفت إحياء المحاصيل. ويعتقد فريزر أن الدرس المستفاد من هذه الأسطورة، وهو تجنب المجاعة، شديد العملية. أما عن تفسيره لأسطورة أدونيس، فسوف نوليه الدراسة بمزيد من التفاصيل في الفصل
الرابع
من هذا الكتاب.
تتمثل الصعوبة الكبرى في رؤية تايلور وفريزر للأسطورة كنظير بدائي للعلم في عجزها الواضح عن تبرير وجود الأسطورة بعد ظهور العلم. فإذا كانت الأسطورة لا تؤدي أكثر من الدور الذي يؤديه العلم ، فلماذا لا تزال موجودة؟ بطبيعة الحال، ربما يجيب تايلور وفريزر عن هذا السؤال على الفور قائلين إن أيا ما ظل قائما من الأسطورة لبعد ظهور العلم، فهو ليس أسطورة، وذلك يرجع إلى أنه لا يؤدي أي وظيفة علمية. في المقابل، يرى الفيلسوف الألماني المعاصر هانز بلومنبرج (1920-1996) أن استمرار الأسطورة إلى جانب العلم يقدم دليلا على أن الأسطورة لم تؤد «أبدا» نفس وظيفة العلم. رغم ذلك لم يقدم بلومنبرج أو تايلور أو فريزر تفسيرا حول سبب استدعاء الأسطورة، أو الدين ككل، «إلى جانب» العلم عند تفسير الأحداث المادية.
على سبيل المثال، عندما ينجو عدد محدود من الركاب من حادث اصطدام طائرة، يجري تفسير الاصطدام تفسيرا علميا، بينما يعزى سبب نجاة المسافرين على متنها إلى العناية الإلهية وليس - مثلا - إلى موضع المقاعد في الطائرة. وقطعا يمكن أن يرد تايلور وفريزر على ذلك قائلين إن الناجين لم يتقبلوا حقيقة عدم توافق تفسيرهم الديني مع التفسير العلمي، غير أنه يطغى على هذه المطالبة بالتوافق بينهما حاجة أكثر إلحاحا لا يمكن تلبيتها إلا بالتفسير الديني.
لوسيان ليفي-بريل
لوسيان ليفي-بريل (1857-1939) هو فيلسوف فرنسي وعالم نظري في مجال الأنثروبولوجيا، عارض آراء تايلور وفريزر ومنظرين آخرين ممن أطلق عليهم «المدرسة الإنجليزية للأنثروبولوجيا»، وإن لم يتحر الدقة عند اختيار هذا الاسم. وفي معارضته لآرائهم، أكد على وجود فجوة كبيرة جدا بين الأسطورة والعلم. وفيما يفكر البدائيون، من منظور تايلور وفريزر، مثل الحداثيين - ولكن على نحو أقل دقة - يفكر البدائيون في رأي ليفي-بريل تفكيرا مختلفا عن الحداثيين. وبينما يعد تايلور وفريزر التفكير البدائي منطقيا، وإن كان يشوبه الأخطاء، يعتبر ليفي-بريل هذا التفكير البدائي غير منطقي، أو باستخدام اصطلاحه المفضل، «قبل منطقي».
ووفقا لليفي-بريل وكذلك تايلور، لا يؤمن البدائيون بأن كل الظواهر الطبيعية لها أرواح فردية كالأرواح البشرية، أو آلهة، بل يؤمنون بأن جميع الظواهر، بما في ذلك البشر ومتعلقاتهم، تمثل جزءا من عالم غير شخصي ومقدس، أو «غامض»، يتخلل العالم الطبيعي . إضافة إلى ذلك، يؤمن البدائيون بأن «مشاركة» جميع الأشياء في هذا الواقع الغامض لا تجعل الظواهر تؤثر بعضها على بعض تأثيرا سحريا فحسب، بل تمكنها من أن تصبح إحداها الأخرى، وأن تحتفظ في الوقت نفسه بماهيتها: «يمكن أن تصبح الأشياء والكائنات والظواهر، نفسها وشيئا آخر غير نفسها - وإن كان بطريقة لا نفهمها نحن [الحداثيين].» فأفراد قبائل البورورو البرازيلية يعدون أنفسهم طيور مكاو حمراء، أو ببغاوات براكيت، إضافة إلى كونهم بشرا. ويصف ليفي-بريل هذا الاعتقاد بأنه قبل منطقي؛ نظرا لمخالفته قانون عدم التعارض، الذي ينص على أن الشيء يمكن أن يصبح ذاته وأن يصبح شيئا آخر في آن واحد.
وبينما تتضمن الأسطورة وفق وجهتي نظر تايلور وفريزر نفس عمليات الملاحظة والاستدلال والتعميم بصفتها علما، أو على الأقل علما حسب تفكيرهم؛ يرى ليفي-بريل أن التفكير الخرافي هو النقيض للتفكير العلمي. وفيما «يدرك» البدائيون العالم نفسه، في رأي تايلور وفريزر، كإدراك الحداثيين - وإن كانوا «يتصورونه» على نحو مختلف - فإن ليفي-بريل يظن أن البدائيين يرون العالم، ومن ثم يتصورونه، بصورة مختلفة عن الحداثيين؛ أي يرونه متوحدا معهم.
ويرى ليفي-بريل، وكذلك تايلور وفريزر، أن الأسطورة جزء من الدين، وأن الدين بدائي، وأن الحداثيين يرجحون كفة العلم على الدين. في المقابل، بينما يدرج تايلور وفريزر كلا من الدين والعلم تحت الفلسفة، يربط ليفي-بريل الفلسفة بالتفكير المتحرر من التوحد الروحي مع العالم. ويعتبر التفكير البدائي غير فلسفي؛ نظرا لعدم انفصاله عن العالم، وبذلك يمتلك البدائيون عقلية خاصة بهم، عقلية تشهد عليها أساطيرهم.
بل إن توظيف الأسطورة في وجهة نظر ليفي-بريل يتعلق بالاندماج الشعوري، وليس بالانفصال الفكري كما يراه تايلور وفريزر. ولا يستخدم البدائيون الدين، خاصة الأسطورة، لتفسير العالم أو التحكم فيه، بل يستخدمونه في التواصل مع العالم، والسبب الأدق لاستخدامهم الدين هو استعادة التواصل «الغامض» الذي بدأ في التلاشي تدريجيا:
ما دامت مشاركة الفرد في المجموعة الاجتماعية لا تزال محسوسة على نحو مباشر، وطالما كانت مشاركة المجموعة مع المجموعات المحيطة بها واقعية - بعبارة أخرى، ما دامت فترة التعايش الغامض لا تزال مستمرة - فإن الأساطير تكون قليلة العدد ومنخفضة القيمة ... فهل يمكن أن تصبح الأساطير بالمثل نتاج العقلية البدائية والتي تخرج إلى النور عندما تسعى هذه العقلية إلى تحقيق مشاركة لم تعد قائمة بالفعل؛ أي عندما لا تجد سوى اللجوء إلى العوامل الوسيطة والوسائل التي تهدف إلى ضمان وجود تواصل لم يعد موجودا على أرض الواقع؟ (ليفي-بريل، «كيف يفكر السكان الأصليون»، ص330)
في حالة أسطورة أدونيس كان من المؤكد أن يركز ليفي-بريل على علاقة أدونيس الغامضة بالعالم. فأدونيس في رواية أوفيد لا ينتبه إلى أي من التحذيرات من مخاطر العالم؛ لأنه يتخيل أنه يشعر بالأمان في العالم، وهكذا يشعر؛ لأنه والعالم كيان واحد مترابط. ويعجز أدونيس عن مقاومة الإلهتين؛ لأنهما بالنسبة له بمنزلة الأم التي لا يسعى إلى مضاجعتها، بل إلى المكوث في أحشائها. فهناك حالة بدائية من التوحد بينه وبين الإلهتين، يطلق عليها ليفي-بريل «غموض المشاركة».
برونيسلاف مالينوفسكي
كانت إحدى الاستجابات لرؤية ليفي-بريل هي إعادة التأكيد على الطبيعة الفلسفية للأسطورة، وهي استجابة نتناولها تفصيلا في الفصل التالي. ويعد بول رادين وإرنست كاسيرر هما المنظران الرئيسان اللذان صدرت منهما هذه الاستجابة. وكان من الاستجابات الأخرى قبول فصل ليفي-بريل للأسطورة عن الفلسفة، مع رفض وصف الأسطورة بأنها قبل فلسفية أو قبل علمية. وأهم المناصرين لوجهة النظر هذه هو عالم الأنثروبولوجيا بولندي المولد برونيسلاف مالينوفسكي (1884-1942)، الذي نزح مبكرا إلى إنجلترا. فبينما يؤكد ليفي-بريل أن البدائيين يسعون إلى التواصل مع الطبيعة بدلا من تفسيرها، يؤكد مالينوفسكي أن البدائيين يسعون إلى التحكم في الطبيعة بدلا من تفسيرها؛ فكلاهما يجمع بين أسلوب فلسفي وآخر تفسيري أو فكري، كما يجمعان بين هذه الرؤية والرؤية البريطانية - أقصد ما فعله مالينوفسكي في الجمع بين رؤيته ورؤية تايلور، وليس فريزر. وكلاهما يرجع هذه الفكرة المختلقة عن الأسطورة، وبصورة عامة، عن الدين، إلى فكرة مختلقة عن البدائيين.
استشهد مالينوفسكي بفريزر، الذي يعتبر الأسطورة والدين النظيرين البدائيين للعلم التطبيقي، في رؤيته أن البدائيين مشغولون للغاية بسعيهم الدءوب لكسب قوت يومهم إلى حد لا تتوفر لديهم عنده رفاهية التفكير في العالم من حولهم. وبينما يستخدم البدائيون - في رأي فريزر - الأسطورة «محل» العلم، الذي نؤكد تارة أخرى أنه حديث بصورة استثنائية، فإن مالينوفسكي يظن أن البدائيين يستخدمون الأسطورة ك «بديل طارئ» للعلم. ولا يملك البدائيون النظير المقابل للعلم فقط، بل يملكون العلم نفسه:
إذا كان يفهم من العلم أنه يتألف من مجموعة من القواعد والمفاهيم، التي تستند إلى الخبرة ويجري التوصل إليها من خلال الاستدلال المنطقي، والتي تتجسد في مجموعة من الإنجازات المادية وفيما يتفق مع شكل ثابت من أشكال التقاليد، ويجري تنفيذها عن طريق إحدى المنظمات الاجتماعية؛ فلا شك إذن في أن أقل المجتمعات البدائية تحضرا تمتلك بدايات علم، مهما كان بدائيا. (مالينوفسكي، «السحر والعلم والدين»، ص34)
يستخدم البدائيون العلم للتحكم في العالم المادي. وعندما لا يجدي العلم، يتحولون إلى استخدام السحر.
وعندما لا يجدي استخدام السحر، يتجه البدائيون إلى الأسطورة، ولكن ليس لإحكام السيطرة على العالم، مثلما يفترض فريزر، بل العكس، للتوفيق بين أنفسهم وبين سمات في العالم لا يمكن التحكم فيها، مثل الكوارث الطبيعية، والأمراض، وكبر السن، والموت؛ إذ ترجع الأساطير، التي لا تقتصر على الدين، أسباب هذه المصائب إلى الأفعال البدائية التي لا راد لها، سواء التي تصدر من الآلهة أو البشر. فوفقا لإحدى الأساطير النموذجية، يطعن البشر في السن لأن اثنين من الأسلاف قاموا بشيء أخرق جعل العمر المتقدم جزءا من العالم على نحو لا سبيل إلى تغييره:
فقدت القدرة المأمولة على الشباب الدائم واستعادة الشباب التي تمنح حصانة ضد الضعف والعمر القصير من خلال حادثة بسيطة كان في مقدرة طفل وامرأة منعها. (مالينوفسكي، «الأسطورة في علم النفس البدائي»، ص137)
على سبيل المثال، تفسر الأسطورة طريقة حدوث الفيضان - بقول إنه قد سببه إله أو إنسان - بينما يحاول العلم البدائي والسحر القيام بشيء حياله. وفي المقابل، تؤكد الأسطورة على عدم القدرة على فعل شيء حيال الفيضان. وتدور الأساطير التي تجعل البدائيين يستسلمون إلى القوى التي لا قبل لهم بالتحكم فيها حول الظواهر المادية. أما الأساطير التي تدور حول ظواهر «اجتماعية»، مثل العادات والقوانين، فإنها تهدف إلى إقناع البدائيين بتقبل ما «يمكن» مقاومته، مثلما سنبين لاحقا في الفصل
الثامن .
ماذا عسى مالينوفسكي أن يقول عن أسطورة أدونيس؟ سيركز على الأرجح على الأسطورة كتعبير عن حتمية الموت لجميع البشر، وسينظر إلى أدونيس باعتباره بشرا لا إلها، كما سيعتبر عدم مبالاة أدونيس بأنه فان درسا يتعلم منه الآخرون. في المقابل، لن تنجح نظرية مالينوفسكي إلا إذا كانت الأسطورة «تفسر» الموت أكثر مما تفترض وجوده المسبق. إذ تتعلق الأسطورة في رأي مالينوفسكي - وكذلك إلياد مثلما سنرى - بالأصول. وسيعتبر مالينوفسكي أن رواية أوفيد لأسطورة أدونيس ما هي إلا رواية مطولة تدور حول زهرة شقائق النعمان، وسيسعى إلى إثبات أهمية الزهرة في حياة اليونانيين أو الرومان القدماء. كما سيفسر الأسطورة حرفيا مثل تايلور.
كلود ليفي-ستروس
في معارضته لرؤية مالينوفسكي للبدائيين بأنهم عمليون وليسوا مفكرين، ولرؤية ليفي-بريل لهم بأنهم عاطفيون وليسوا مفكرين؛ سعى عالم الأنثروبولوجيا البنيوية الفرنسي كلود ليفي-ستروس (1908-2009) إلى إحياء النظرة الفكرية إلى البدائيين وإلى الأسطورة بجرأة. من النظرة الأولى، تشبه آراء ليفي-ستروس آراء تايلور فيما يبدو؛ إذ تعتبر الأسطورة في رأيه، وكذلك تايلور، بدائية بصورة استثنائية، على الرغم من أنها تتسم بالفكر العميق. وبإعلان أن البدائيين «كانوا مدفوعين بحاجة أو رغبة لفهم العالم من حولهم، ويتقدمون عبر وسائل فكرية، تماما مثلما يمكن أن يحدث وسوف يحدث مع الفيلسوف، أو إلى حد ما مع العالم»، لا يبدو ليفي-ستروس مختلفا عن تايلور.
رغم ذلك، يعتبر ليفي-ستروس ناقدا عنيفا لتايلور الذي يرى أن البدائيين يختلقون الأساطير بدلا من ابتكار العلم؛ نظرا لأنهم يفكرون بصورة أقل نقدية من الحداثيين. ويرى ليفي-ستروس أن البدائيين يختلقون الأساطير لأنهم يفكرون بصورة مختلفة عن الحداثيين، وهم - على خلاف ما يراه ليفي-بريل - لا يزالون يفكرون، وأن تفكيرهم دقيق. ويعتقد كل من تايلور وليفي-ستروس أن الأسطورة هي النموذج المصغر للتفكير البدائي.
وبينما يعتقد تايلور أن التفكير البدائي شخصاني والتفكير الحديث غير شخصي، يرى ليفي-ستروس أن التفكير البدائي ملموس والتفكير الحديث مجرد. ويتعامل التفكير البدائي مع الظواهر بطريقة كيفية، في مقابل التفكير الحديث الذي يتعامل مع الظواهر بصورة كمية. ويركز التفكير البدائي على ما هو قابل للملاحظة، وعلى الجوانب الحسية للظواهر، في مقابل ما هو غير قابل للملاحظة وغير حسي في التفكير الحديث:
بالنسبة إلى هؤلاء الناس [أي البدائيين] ... يتألف العالم من معادن، ونباتات، وحيوانات، وأصوات، وألوان، ومنسوجات، ونكهات، وروائح ... والفرق شديد الوضوح بين التفكير البدائي والتفكير العلمي [الحديث]؛ ولا يتمثل في الحاجة الماسة إلى المنطق، قلت أم زادت. وتتلاعب الأساطير بخواص الإدراك هذه، التي طردها الفكر الحديث من العلم، بمولد العلم الحديث. (ليفي-ستروس، نقلا عن أندريه أكون وآخرين، «حوار مع كلود ليفي-ستروس»، ص39)
في المقابل، وفي تعارض واضح مع تايلور، لا يعتبر ليفي-ستروس الأسطورة أقل علما من العلم الحديث. فهي جزء من «العلم المادي» أكثر منها جزءا من «العلم المجرد»:
هناك نمطان متمايزان للفكر العلمي؛ ولا شك في أنهما لا يقومان بأي وظيفة في المراحل المختلفة للعقل البشري، بل إن لهما وظيفة في مستويين استراتيجيين يستطيع البحث العلمي عندهما اختراق الطبيعة: أحدهما يتغير ليتلاءم مع الإدراك والخيال، بينما يبتعد الآخر عنهما. (ليفي-ستروس، «العقل البدائي»، ص15)
فيما يرى تايلور أن الأسطورة هي النظير البدائي للعلم في حد ذاته، يرى ليفي-ستروس أنها هي النظير البدائي للعلم «الحديث». وبينما تعتبر الأسطورة علما بدائيا، فإن ذلك لا يجعلها علما ذا قيمة أقل.
وإذا كانت الأسطورة مثالا على التفكير البدائي لأنها تتعامل مع ظواهر مادية ملموسة، فإنها مثالا على التفكير نفسه نظرا لأنها تصنف الظواهر. ويرى ليفي-ستروس أن جميع البشر يفكرون في إطار تصنيفات، خاصة في إطار أزواج من المتعارضات، ثم يطبقون هذه التصنيفات على العالم. وتعبر العديد من الظواهر الثقافية عن هذه التعارضات. وتعتبر الأسطورة متميزة من ناحية حل أو - على نحو أدق - التخفيف من حدة هذه المتعارضات التي تعبر عنها. وفيما يعتقد تايلور أن الأسطورة مثل العلم نظرا لأنها تتجاوز حدود الملاحظة إلى التفسير، يعتبر ليفي-ستروس الأسطورة علمية بصورة مباشرة نظرا لأنها تتجاوز حدود تسجيل الظواهر المتعارضة التي جرى ملاحظتها إلى تخفيف حدتها. ولا يمكن العثور على هذه التعارضات في الحبكة أو الأسطورة بل فيما يشتهر إطلاق ليفي-ستروس عليه «البنية». وسيخصص فصل بالكامل، هو الفصل
السابع ، لمناقشة أسلوب تناول الأسطورة الذي يطلق عليه بناء على تسمية ستروس «البنيوية»؛ وسيجرى تحليل أسطورة أدونيس فيه باستفاضة.
روبين هورتون
رفض عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي روبين هورتون (ولد 1932)، الذي قضى حياته المهنية في نيجيريا، استغراق تايلور في التفسيرات الخرافية والدينية باعتبارها تفسيرات شخصانية، وفي التفسيرات العلمية باعتبارها غير شخصية. ويسير هورتون على خطى تايلور في جوانب كثيرة، حتى إنه سمي «تايلور الجديد»، وهو لقب منح إياه للتقليل من شأنه، لكنه تقبله بفخر. وعلى غرار تايلور، يعتبر هورتون الدين والعلم مجالين يقدمان تفسيرات حول العالم المادي. وشأنه شأن تايلور أيضا، يعتبر هورتون التفسير الديني بدائيا، ويفضل الإشارة إليه باستخدام التعبير الأكثر قبولا؛ «تقليدي»، كما يعتبر التفسير العلمي حديثا. ومثله كذلك، يعتبر التفسيرين البدائي والعلمي متنافيين بعضهما مع البعض. وبينما لا يركز هورتون على الأسطورة بصورة خاصة، تعتبر الأسطورة بالنسبة إليه، وكذلك تايلور، جزءا من الدين.
لا يفند هورتون معادلة تايلور بين الدين والتفسيرات الشخصانية، وبين العلم والتفسيرات غير الشخصية. في المقابل، يختلف هورتون عن تايلور في رد الأمر إلى مجرد «اختلاف في مصطلح الاجتهاد التفسيري» - وهو الأمر الذي شغل تايلور أيما انشغال. وبما يتعارض مع ما جاء به تايلور، لا يعتبر هورتون استخدام الأسباب الشخصية في تفسير الأحداث أقل تجريبية من استخدام الأسباب غير الشخصية، على الرغم من اعتبار إياها غير علمية، متفقا في ذلك مع تايلور ومختلفا مع ليفي-ستروس.
يرجع تايلور التفسيرات الشخصانية إلى تفكير البدائيين الأقل نقدا، فهم يتقبلون أول التفسيرات المتاحة لهم. وشأنهم شأن الأطفال، يجرون عملية قياس على التفسيرات المألوفة في السلوك الإنساني. ويفترض هورتون أيضا أن البدائيين يعتمدون على ما هو مألوف لديهم، غير أنه يرى أن الحداثيين يفعلون ذلك أيضا. ويرى أن الظواهر المألوفة هي تلك الظواهر التي تنضح بالنظام والتكرار. ونظرا لأنه في «المجتمعات الصناعية المعقدة سريعة التغير، يعتبر المشهد الإنساني في حالة حراك مستمرة»، فإن هذا النظام والتكرار يتجلى «في عالم الجماد»؛ بناء عليه، «يتجه العقل الذي يبحث عن حالات قياس تفسيرية إلى عالم الجماد بسهولة ويسر.» على النقيض من ذلك، في المجتمعات الأفريقية، يعتبر النظام والتكرار «أقل وضوحا بكثير» في عالم الجماد عن عالم البشر؛ حيث «لا يمكن تصور وجود قدر أقل منهما في المنزل مع الأقران، مقارنة بوجودهما في عالم الجماد»؛ بناء عليه، «يتجه العقل الذي يبحث عن حالات قياس تفسيرية تلقائيا إلى عالم الإنسان وشبكة علاقاته»؛ إذن يشكل إرجاع الدين في أفريقيا السبب في الأحداث المختلفة إلى قرارات تتخذها كيانات لها طابع إنساني منطقا نظريا سليما.
يختلف هورتون اختلافا كبيرا عن تايلور في التفرقة بين التفسيرات الدينية والعلمية على أساس «السياق» أكثر من «المحتوى». وباستخدام مصطلحات كارل بوبر، يرى هورتون أن التفسيرات الدينية تسري في المجتمع «المغلق»، فيما تسري التفسيرات العلمية في المجتمع «المفتوح». ففي أي مجتمع مغلق، أو مجتمع غير نقدي، «لا يوجد وعي متطور ببدائل تحل محل مجموعة المعتقدات النظرية الراسخة.» على الجانب الآخر، ينقد المجتمع المفتوح نفسه نقدا ذاتيا؛ حيث يكون فيه «هذا الوعي متطورا للغاية.» وفيما تكون للمعتقدات السائدة في المجتمع المغلق مكانة مقدسة - نظرا لعدم نقدها - ويعد أي نقد لها بمنزلة التجديف والتطاول، لا تملك المعتقدات القائمة في المجتمع المفتوح أي قداسة - نظرا لمعارضتها - ومن ثم يمكن تقييمها بصورة شرعية.
على غرار تايلور، لا يملك هورتون الكثير ليقوله حول أسطورة أدونيس، فيما يملك الكثير ليقوله حول سفر التكوين، الإصحاح الأول، الذي ينظر إليه - وكذلك تايلور - دون مواربة باعتباره تفسيرا قبل علمي لأصل العالم المادي؛ تفسيرا لا يستطيع الحداثيون الاعتقاد فيه جنبا إلى جنب مع التفسير العلمي. وبينما لا يستطيع الحداثيون الاعتقاد في مثل هذا التفسير إلا من خلال إعادة تحديد وظيفته أو معناه، لا يقبل هورتون - شأنه شأن تايلور - أيا من الخيارين.
على النقيض من هورتون، يحيي عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ستيوارت جثري جهود تايلور واستغراقه في التفسيرات الشخصانية، أو المؤنسنة، في الدين. فيرى جثري، وكذلك تايلور، أن الأنسنة تشكل جوهر التفسير الديني، بما فيه من تفسير خرافي. في المقابل، يختلف جثري عن هورتون، وعن تايلور أيضا، في الإشارة إلى وجود الأنسنة في العلم والدين. وفيما تعد الأنسنة عند كل من هورتون وتايلور طريقة بدائية استثنائيا لتفسير العالم، يراها جثري طريقة عامة وشبه شاملة لتفسير العالم.
كارل بوبر
يختلف كارل بوبر (1902-1994) - فيلسوف العلوم المولود في فيينا، والذي استقر في نهاية المطاف في إنجلترا - عن تايلور اختلافا أكثر راديكالية من اختلاف هورتون عنه؛ أولا: لا يقدم تايلور أي تفسير على الإطلاق حول طريقة ظهور العلم، فيما يقدم الدين، بما فيه من أسطورة، تفسيرا شاملا، وغير قابل للدحض فيما يبدو، لجميع الأحداث في العالم المادي. ثانيا: لا يعتمد العلم في رأي تايلور على الأسطورة لكنه يحل محلها. أما بوبر، فيرى أن العلم ينبثق «من» الأسطورة؛ ليس من خلال «قبول» الأسطورة بل من خلال «نقدها»: «بناء عليه، يجب أن ينطلق العلم من الأساطير، ومن خلال نقد الأساطير.» ولا يقصد بوبر ب «النقد» هنا الرفض، بل التقييم الذي يصير علميا عندما يخضع لمحاولات دحض صحتها المزعومة.
يصل بوبر بطرحه إلى بعد أعمق، قائلا إن هناك أساطير علمية وأساطير دينية، وهو ما يتعارض مع قول تايلور الذي لم يقتبس منه بوبر إطلاقا. والفرق بين الأساطير العلمية والدينية لا يكمن في محتواها، بل في الموقف حيالها. فبينما تلاقي الأساطير الدينية قبولا حاسما، تتعرض الأساطير العلمية للتشكيك:
يتمثل طرحي في أن ما نطلق عليه «علما» يختلف عن الأساطير السابقة عليه، ليس لكونه مميزا عن الأسطورة، بل لارتباطه بتقليد ثانوي؛ ألا وهو تناول الأسطورة تناولا نقديا. قبل ذلك، كان هناك تقليد أساسي فقط ؛ إذ كان يجري تناقل قصة محددة لا تتغير. أما في ضوء نقد الأسطورة، يتم الإبقاء على تناقل القصة بالطبع، لكن مع مصاحبتها بشيء مثل نص صامت يصدر من شخصية ثانوية: «أنقل القصة إليك، لكن دلني، ما رأيك فيها. دقق النظر، فربما تستطيع تقديم قصة مختلفة» ... يجب أن نفهم أن العلم - من منظور ما - يعبر عن عملية صناعة الأساطير، شأنه شأن الدين. (بوبر، «تخمينات وتفنيدات»، ص127)
يرى بوبر أيضا أن النظريات العلمية «تحتفظ» بالطابع الخرافي؛ إذ إن النظريات، كالأساطير، لا يمكن إثباتها، بل يجري دحضها فحسب، ومن ثم «تظل غير مؤكدة أو افتراضية بصورة أساسية.»
ليس من الجلي ما عسى بوبر أن يقوله عن أسطورة أدونيس. فالأساطير التي تستحوذ على اهتمامه تنحصر في أساطير الخلق؛ لأنها تطرح تخمينات جريئة عن أصل العالم، ومن ثم تستهل عملية التنظير العلمي. جدير بالذكر أن بوبر نفسه ألف كتابا عنوانه «أسطورة إطار العمل»، وكان يعني بلفظة «أسطورة» في الكتاب ما يقصده ويليام روبنستاين في كتاب «أسطورة الإغاثة» باستخدام نفس اللفظة: أي القناعة المغلوطة الراسخة، التي لا يجب التمادي في اختبارها، بل وجب التخلي عنها!
شأنه شأن بوبر، يقول الفيلسوف المتخصص في الحضارتين اليونانية والرومانية القديمة - إنجليزي الجنسية - إف إم كورنفورد (1874-1943)، بأن العلم في اليونان انبثق من الأسطورة والدين. مع ذلك، يقصر كورنفورد قوله على محتوى الأسطورة، ولا يتطرق مطلقا إلى الموقف من الأسطورة. فهو يرى أن العلم يخلد المعتقدات الدينية والخرافية، وإن كان في صورة علمانية لادينية، ومن ثم يؤكد أن علم اليونانيين القدماء قطع صلته بالدين وصار علما تجريبيا. ولاحقا، قال كورنفورد إن علم اليونانيين القدماء لم يقطع صلته مع الدين على الإطلاق، ولم يصبح قط علما تجريبيا.
بينما يقارن تايلور نفسه بين قابلية العلم للاختبار وعدم قابلية الأسطورة له، لا يحدد طبيعة الاختبار:
إننا نتدرب على حقائق العلم المادي، التي يمكن اختبارها مرارا وتكرارا، ونشعر بالتراجع عن بلوغ هذا المستوى العالي من البرهان عندما نتحول بعقولنا إلى بيانات عتيقة تستعصي على الاختبار، بل ويقر الجميع على أنها تحتوي على عبارات لا يعتمد عليها . (تايلور، «الثقافة البدائية»، المجلد الأول، ص280)
مع ذلك، يجب أن يسمح تايلور للبدائيين بممارسة النقد؛ إذ لولا ذلك، كيف كان سيفسر الإحلال النهائي للعلم محل الأسطورة؟ ومن سوى الجيل الأخير من البدائيين كان حاضرا لوضع اللبنات الأولى للعلم، وإحلاله محل الأسطورة، وتشكيل الحداثة؟
هوامش
الفصل الثاني
الأسطورة والفلسفة
تتداخل العلاقة بين الأسطورة والعلم مع العلاقة بين الأسطورة والفلسفة؛ لذا ربما كان بوسعنا هنا استعراض آراء الكثير من المنظرين الذين أشرنا إليهم في الفصل السابق، غير أن هناك نطاقا أوسع من الرؤى والمواقف حول العلاقة بين الأسطورة والفلسفة: من قبيل أن الأسطورة جزء من الفلسفة، وأن الأسطورة «هي» الفلسفة، وأن الفلسفة هي الأسطورة، وأن الأسطورة تنبثق من الفلسفة، وأن الفلسفة تنبثق من الأسطورة، وأن الأسطورة والفلسفة مستقلتان إحداهما عن الأخرى، لكنهما تؤديان الوظيفة نفسها، وأن الأسطورة والفلسفة مستقلتان إحداهما عن الأخرى، وتؤديان وظائف مختلفة.
بول رادين
تذكر أنه بينما أدرج تايلور وفريزر الأسطورة والعلم تحت الفلسفة، وضع ليفي-بريل الأسطورة، كرد فعل لهما، في مقابل العلم والفلسفة معا. ويرى ليفي-بريل أن التوحد البدائي مع العالم، مثلما تدلل الأسطورة على ذلك، هو النقيض للانفصال عن العالم الذي ينادي به كل من العلم والفلسفة.
من ثم، جاء رد فعل أكثر حدة على رؤية ليفي-بريل من عالم الأنثروبولوجيا بولندي المولد، بول رادين (1883-1959)، الذي جاء إلى أمريكا رضيعا. ويفسر عنوان كتابه الرئيس «الرجل البدائي فيلسوفا» نفسه. فعلى الرغم من عدم ذكر رادين لتايلور في كتابه قط، يحيي رادين رؤية تايلور فيما يحجمها ويوسع نطاقها في ذات الوقت. ويفترض رادين جدلا أن «معظم» البدائيين لا يمتون إلى الفلسفة بصلة، ويشير إلى أن معظم الأشخاص في أي ثقافة على هذه الحال أيضا. ويفرق رادين بين الشخص العادي، «رجل الأفعال»، والشخص الاستثنائي، «المفكر» بقوله:
يشعر الشخص العادي [رجل الأفعال] بالرضا لوجود العالم، ولتتابع الأحداث فيه. لكن لتفسيرات هذه الأحداث أهمية ثانوية. فهو مستعد لتقبل التفسير الأول الذي يأتيه عرضا، ولا يكترث البتة بأية تفسيرات عميقة، بل ينزع لتفسير في مقابل تفسير آخر. ويفضل هذا الشخص التفسير الذي يؤكد فيه تأكيدا خاصا على العلاقة المباشرة بين تسلسل الأحداث. ويتميز الإيقاع العقلي له - إذا جاز لي استخدام هذا التعبير - بالحاجة إلى التكرار اللانهائي لنفس الحدث أو - في أفضل الأحوال - بتكرار الأحداث التي تقع جميعها على المستوى العام نفسه ... في المقابل، يعتبر الإيقاع العقلي للمفكر مختلفا تماما؛ فهو يرى أن افتراض وجود علاقة مباشرة بين الأحداث لا يكفي؛ ولذا يصر على تقديم وصف للتقدم التدريجي والتطور من وضع إلى أوضاع متعددة، ومن البسيط إلى المعقد، أو يصر على افتراض وجود علاقة بين السبب والتأثير. (رادين، «الرجل البدائي فيلسوفا»، ص232-233)
يوجد «النمطان المزاجيان» في جميع الثقافات وبنفس النسبة. وإذا كان ليفي-بريل مخطئا إذن في إنكار أن أي بدائي يعد مفكرا، فسيعد تايلور بالمثل مخطئا في افتراض أن جميع البدائيين مفكرون. غير أن رادين يعتقد أن هؤلاء البدائيين المفكرين يمتلكون مهارات فلسفية فائقة أروع من المهارات التي يسلم تايلور بوجودها عند صانعي الأساطير أنفسهم، ويطلق عليهم «فلاسفة بدائيين». ويرى رادين أن التخمينات البدائية - الموجودة في صورتها الكاملة في الأساطير - تتجاوز مجرد تقديم تفسير للأحداث في العالم المادي، مثلما، للأسف، يقال عن أسطورة أدونيس. وتتعامل الأساطير مع جميع أنواع موضوعات ما وراء الطبيعة، مثل المكونات النهائية للحقيقة. وعلى النقيض من تايلور، يستطيع البدائيون ممارسة النقد بدقة:
من غير الإنصاف على الإطلاق القول بأن الأشخاص البدائيين يفتقرون إلى القدرة على التفكير المجرد أو إلى القدرة على ترتيب هذه الأفكار بصورة منهجية، أو، أخيرا، القدرة على جعلهم وبيئتهم بالكامل عرضة للنقد الموضوعي. (رادين، «الرجل البدائي فيلسوفا»، ص384)
إن القدرة على النقد هي الصفة الأساسية لعملية التفكير، وذلك على الأرجح في رأي رادين، وكذلك كارل بوبر وروبين هورتون بكل تأكيد.
إرنست كاسيرر
من ردود الأفعال الأقل استهانة بليفي-بريل ما بدر عن الفيلسوف ألماني المولد، إرنست كاسيرر (1874-1945)، الذي ينتهج نهج ليفي-بريل بالكامل في رؤية أن التفكير الخرافي، أو «الصانع للأسطورة»، هو تفكير بدائي، ومحمل بالمشاعر، وهو أيضا جزء من الدين، وإسقاط للتوحد الروحي على العالم. في المقابل، يزعم كاسيرر اختلافه الجذري مع ليفي-بريل في التأكيد على أن التفكير الخرافي يحظى بمنطق فريد من نوعه. وفي حقيقة الأمر، يطرح ليفي-بريل القول نفسه بل ويبتكر مصطلح «قبل منطقي» لتجنب وسم التفكير الخرافي بصفات مثل «غير منطقي» أو «لا منطقي». ويزعم كاسيرر أيضا اختلافه الجذري مع ليفي-بريل في التأكيد على استقلالية الأسطورة كأحد أشكال المعرفة، حيث تشكل اللغة، والفن، والعلم الأشكال الرئيسة الأخرى لها:
على الرغم من أن تبعية الأسطورة لنظام عام من الأشكال الرمزية يبدو أمرا حتميا، فإن ذلك يشكل خطرا محققا ... فقد يؤدي [هذا الأمر] إلى القضاء على الصورة الجوهرية [أي المتميزة] للأسطورة. ولم تكف المحاولات في حقيقة الأمر عن تفسير الأسطورة من خلال اختزالها إلى شكل آخر من الحياة الثقافية، سواء أكان ذلك معرفة [أي علما] أم فنا أم لغة. (كاسيرر، «فلسفة الأشكال الرمزية»، المجلد الثاني، ص21)
يرى كاسيرر في الوقت نفسه، على نحو لا يختلف عن ليفي-بريل، أن الأسطورة لا تتوافق مع العلم، وأن العلم يأتي خلفا لها: «يصل العلم إلى صورته الخاصة به، فقط من خلال رفض جميع المكونات الخرافية ومكونات ما وراء الطبيعة» (كاسيرر، «فلسفة الأشكال الرمزية»، المجلد الثاني، ص
xvii ). ويعتقد كل من كاسيرر وليفي-بريل أن الأسطورة بدائية بصورة استثنائية، وأن العلم حديث بصورة استثنائية أيضا. في المقابل، لا يزال توصيف كاسيرر للأسطورة كأحد أشكال «المعرفة» - كأحد أنشطة الإنسانية في صناعة الرموز ورسم معالم العالم - يضع الأسطورة في نفس مرتبة العلم، التي لم يكن ليفي-بريل ليضعها فيها.
بناء عليه، صار كاسيرر ينظر إلى الأسطورة على أنها بدائية وكذلك حديثة. وعندما فر إلى أمريكا هربا من هتلر في ألمانيا، صب جام اهتمامه على الأساطير السياسية الحديثة، خاصة أساطير النازية. وتكافئ الأسطورة في هذا السياق الأيديولوجية. فبعد أن كان مهتما بالموضوعات الأثيرية والمعرفية، تحول إلى الموضوعات الاجتماعية العلمية البسيطة، مثل: كيف تترسخ الأساطير السياسية وتستمر؟ وبعد أن كان يزدري اهتمام ليفي-بريل المزعوم بالجانب اللاعقلاني في الأسطورة، صار يؤيد وجوده:
في جميع اللحظات المهمة في حياة الإنسان الاجتماعية، لم تعد القوى العقلانية التي تقاوم صعود المفاهيم الخرافية القديمة واثقة من نفسها. وفي هذه اللحظات، حل زمن الأسطورة مرة أخرى. (كاسيرر، «أسطورة الدولة»، ص280)
ربط كاسيرر بين الأسطورة والسحر، والسحر والجهد المضني للتحكم في العالم، ليطبق تفسير الأساطير «البدائية» التي طرحها برونيسلاف مالينوفسكي على الأساطير «الحديثة»:
إن هذا التفسير [الذي طرحه مالينوفسكي] لدور السحر والميثولوجيا في المجتمع البدائي ينطبق بالتساوي على المراحل المتطورة في الحياة السياسية للإنسان. ففي المواقف الصعبة، يلجأ الإنسان دائما إلى الوسائل الصعبة. (كاسيرر، «أسطورة الدولة»، ص279)
يختلف كاسيرر عن مالينوفسكي في جعل العالم الذي لا يمكن السيطرة عليه هو العالم الاجتماعي وليس العالم المادي، وفي إضفاء قوة سحرية على الأسطورة نفسها، والأدهى من ذلك، في النظر إلى الأسطورة كمجال حديث. ولكن هناك مشكلة تخفى على البعض: وهي أن الأساطير الحديثة تمثل إحياء رجعيا للبدائية.
وبينما حلل كاسيرر الأسطورة سابقا باعتبارها شبيهة بالفلسفة، فإنه الآن يفصل بين الأسطورة والفلسفة. فهو يرى أن الأسطورة ليست سوى صورة من صور المعرفة، لها منطقها المتميز الذي يمكن استخلاصه. ولم يبق سوى الدور المهمش للفلسفة المتمثل في دحض الأساطير السياسية:
لا تستطيع الفلسفة في حدود قدرتها تقويض الأساطير السياسية؛ إذ إن الأسطورة حصينة إلى حد ما؛ فهي لا تتأثر بالحجج العقلانية، ولا يمكن دحضها من خلال القياس المنطقي. على النقيض من ذلك، تستطيع الفلسفة أن تولينا معروفا؛ فتستطيع أن تجعلنا نفهم الخصم ... فعندما سمعنا للمرة الأولى عن الأساطير السياسية، وجدناها منافية للعقل ومتناقضة، مدهشة ومثيرة للضحك، حتى أصبح من الصعوبة بمكان إقناعنا بتقبلها بصورة جدية. وحاليا، صار من الواضح للكافة أن ذلك كان خطأ كبيرا ... فيجب أن ندرس الأصل والبنية والوسائل والأساليب الخاصة بالأساطير السياسية دراسة جادة، ويجب أن نرى الخصم وجها لوجه حتى نعرف كيف نحاربه. (كاسيرر ، «أسطورة الدولة»، ص296)
من الصعوبة بمكان إدراك كيف تصبح دراسة الأساطير السياسية على هذا النحو المقترح مهمة الفلسفة، وليس مهمة علم الاجتماع. فالآن، لا تعد الأسطورة قبل منطقية فحسب، بل وغير منطقية على الإطلاق، وهو موقف أكثر تطرفا من ذلك الذي ينتقد كاسيرر ليفي-بريل عليه!
آل فرانكفورت
ورد تطبيق نظريات ليفي-بريل وكاسيرر بالكامل على الفلسفة في كتاب نشر عام 1946 عنوانه «المغامرة الفكرية للقدماء: مقال حول الفكر التأملي في الشرق الأدنى القديم»، وقد ألفه مجموعة من المتخصصين في الشرق الأدنى. عند إعادة نشر الكتاب في نسخة ورقية الغلاف في عام 1949، جعل العنوان والعنوان الفرعي في صورة عنوان فرعي من شقين، فيما اتخذ الكتاب عنوانا جديدا رئيسا دالا على محتواه، هو «قبل الفلسفة». ووفقا للزوجين هنري وإتش إيه فرانكفورت، اللذين يطرحان النظرية، عاشت شعوب الشرق الأدنى القديم في مرحلة بدائية من الثقافة عرفت عن حق بأنها «قبل فلسفية». وتعود عملية تصنيف القديم تحت البدائي إلى تايلور وفريزر. ويرى آل فرانكفورت أن الحداثيين يفكرون «فلسفيا»، وهو ما يعني التفكير بصورة مجردة ونقدية وغير عاطفية. فمجال الفلسفة هو مجال واحد فحسب يوظف التفكير الفلسفي، أما نموذج التفكير «الفلسفي» الحقيقي فيمثله العلم. ويستخدم تايلور وليفي-بريل وآخرون مصطلح «فلسفة» استخداما واسع النطاق، فيما يترادف مع مصطلح «فكر»، وبالمثل يعتبرون العلم أنقى تجلياتها. وعلى الطرف النقيض من الحداثيين، حسبما يؤكد آل فرانكفورت، يفكر البدائيون تفكيرا «صانعا للأسطورة»، وهو ما يعني التفكير بصورة مادية، وبطريقة غير نقدية، وعاطفية. ولا تعد الميثولوجيا سوى تعبير واحد عن التفكير الصانع للأسطورة، إن لم يكن التعبير الأكثر ثراء على الإطلاق بين صور التعبير الأخرى.
في حقيقة الأمر، تعتبر طرق التفكير الفلسفية والصانعة للأساطير أكثر من مجرد أساليب مختلفة لتصور العالم؛ إذ تعتبر أساليب مختلفة لإدراك العالم، مثلما يراها ليفي-بريل. ويتمثل «الفرق الرئيس» في أن العالم الخارجي من منظور الحداثيين يعبر عنه بالضمير «هو» - للإشارة إلى غير العاقل - بينما هو «أنت» من منظور البدائيين؛ وقد أخذ هذان المصطلحان عن الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر. وتعتبر العلاقة بين «أنا وهو» علاقة انفصالية وفكرية، أما العلاقة بين «أنا وأنت » فعلاقة تشاركية وعاطفية، إذا نحينا العنوان الرئيس الأصلي المحير لكتاب آل فرانكفورت جانبا؛ إذن فالعلاقة المثالية بين «أنا وأنت» هي علاقة حب.
إذا قلنا إن البدائيين يتعاملون مع العالم باعتباره «أنت» وليس «هو»، فسيعني ذلك أنهم يتعاملون معه كشخص وليس كشيء. وبذلك، لا يعزى هطول الأمطار بعد فترة من الجفاف إلى التغيرات الجوية، بل فلنقل إلى إلحاق إله المطر الهزيمة بإله غريم، كما يرد في الأسطورة. وإذا جرى فهم العالم باعتباره «أنت»، سيعني ذلك طمس حقائق يومية تمييزية في ثنائية «أنا وهو». فلا يستطيع البدائيون التفرقة بين الذاتي والموضوعي؛ فهم يرون الشمس تشرق وتغرب، ولا يرون الأرض تدور حولها. يرى البدائيون الألوان، ولا يرون الأطوال الموجية. لا يستطيعون التفرقة بين المظهر والمخبر؛ فالعصا «تبدو» منثنية في الماء وليست هكذا تكون. والأحلام حقيقية؛ نظرا لأنهم رأوها كأنها حقيقية. ولا يستطيعون التمييز بين الرمز والشيء المرموز له؛ فالاسم يتطابق مع صاحبه. وإعادة تمثيل الأسطورة تعني تكرارها، كما سنرى في مناقشة لنظرية فريزر في الفصل
الرابع .
يرى آل فرانكفورت أن المصريين وسكان ما بين النهرين القدماء عاشوا في عالم استثنائي صانع للأساطير. وبدأ الانتقال من التفكير الصانع للأساطير إلى التفكير الفلسفي على يد بني إسرائيل، الذين دمجوا العديد من الآلهة في إله واحد، ووضعوا هذا الإله خارج نطاق الطبيعة. وبذلك مهد بنو إسرائيل الطريق لليونانيين، الذين حولوا هذا الإله الشخص إلى قوة واحدة أو أكثر غير شخصية، تشكل أساس الطبيعة، أو مظهر الأشياء. ولم تنتقل الطبيعة في النهاية إلى مرحلة «خلع الثوب الخرافي»، حتى تحول الخيال السائد في حقبة ما قبل سقراط إلى العلم التجريبي.
هناك مشكلات عديدة مع طرح آل فرانكفورت: أولا: يعبر صنع الأسطورة أحيانا فيما يبدو عن المذهب الروحاني الذي أتى به تايلور، والذي يقول بأن البدائيين يمتلكون العقلية نفسها التي يمتلكها الحداثيون. ثانيا: لا تتضمن ثنائية «أنا وأنت» لبوبر التعامل مع «الشيء » كشخص، بل تشمل فقط التعامل مع «الشخص» كشخص. ثالثا: يمكن التعامل مع أية ظاهرة بكل تأكيد باعتبارها «هو» و«أنت»: تدبر مثال التعامل مع حيوان أليف والتعامل مع مريض. رابعا: لا تستطيع أية ثقافة إشراك الطبيعة فحسب في الأحداث باعتبارها «أنت»، بل تفصلها بصورة كافية تسمح لها بإنبات المحاصيل على سبيل المثال. خامسا: إن توصيف ثقافات الشرق الأدنى القديمة بأنها صانعة للأساطير من جميع الجوانب، ووصف إسرائيل بأنها غير صانعة للأساطير إلى حد كبير، ووسم اليونان بأنها علمية بالكامل؛ كل ذلك يعد اختزالا مخزيا، كما تبين بوضوح آراء إف إم كورنفورد حول علم اليونانيين.
على كل حال، يجب الثناء على آل فرانكفورت لمحاولتهما تطبيق نظرية ليفي-بريل المجردة على حالات محددة. واتباعا لنهج ليفي-بريل وكاسيرر، يرى آل فرانكفورت بإيمان عميق أن الأساطير، بينما هي قصص في حد ذاتها، تفترض افتراضا مسبقا وجود عقلية متميزة. وللمفارقة، يتطابق أشد نقد يوجهه آل فرانكفورت إلى ليفي-بريل مع النقد الذي يوجهه كاسيرر إليه، وإن كان مثله في غير مكانه؛ فليفي-بريل نفسه يصر على أن التفكير البدائي متميز، مع كونه منطقيا. أما عن تطبيق نظرية آل فرانكفورت على أسطورة أدونيس، فإنها ستكون كمثل تطبيق نظرية ليفي-بريل عليها، من حيث التركيز على توحد أدونيس عاطفيا مع العالم، وما ترتب على ذلك من عدم قدرة على النظر إلى العالم بصورة سليمة.
رودولف بولتمان وهانز يوناس
قدر ما يتميز كاسيرر خاصة في المراحل المبكرة من أعماله بأنه فلسفي - شأنه شأن منهج تناوله للأسطورة - فإنه لا يرى أبدا أن الأسطورة «تعني» الفلسفة. ولا يطرح ذلك من المنظرين سوى عالم اللاهوت الألماني رودولف بولتمان (1884-1976)، والفيلسوف ألماني المولد هانز يوناس (1903-1993)، الذي استقر بصورة نهائية في الولايات المتحدة. وكلاهما لا يستقي فحسب معنى الأسطورة من الفلسفة - من الفيلسوف الوجودي مارتن هيدجر في مراحله المبكرة - بل يضيق أيضا دائرة الدراسة حول مسألة المعنى. ولا يهتم أي منهما بأصل أو وظيفة الأسطورة؛ ولا تعتبر الأسطورة في منظورهما جزءا من أي نشاط. وشأنهما شأن بعض علماء الأنثروبولوجيا النظريين، يتعامل كلاهما مع الأسطورة كنص مستقل، لكنهما على عكس تايلور ، لا يتأملان حتى ولو نظريا طريقة نشوء الأسطورة أو طريقة عملها.
لا مراء أن بولتمان ويوناس يترجمان الأسطورة إلى مصطلحات وجودية بغرض جعل معناها مستساغا للحداثيين، لكنهما لا يبحثان في سبب الحاجة إلى الأسطورة، خاصة عندما تتطابق رسالة الأسطورة مع رسالة الفلسفة. على سبيل المثال، لا يقترح أي منهما أن الأسطورة، مثل الأدب بالنسبة إلى أرسطو، تمثل طريقة أسهل لتوصيل الحقائق المجردة إلى الآخرين. ونظرا لأن نماذج الأساطير التي يبحثانها - العهد الجديد عند بولتمان، والغنوصية عند يوناس - نماذج دينية وليست نماذج فلسفية صرفة، فإننا سننظر بمزيد من التفصيل في نظريتيهم في الفصل التالي حول الأسطورة والدين.
ألبير كامو
أحد أوضح أمثلة اختزال الأسطورة إلى فلسفة يوجد في التفسير الشهير للأسطورة اليونانية سيسيفوس (وتعرف أيضا بسيزيف) لألبير كامو (1913-1960)، وهو كاتب وجودي فرنسي. فمن بين الشخصيات التي يصادفها البطل أوديسيوس في تارتاروس - جزء من حادس (العالم السفلي) مخصص لأولئك الذين تطاولوا على الإله زيوس - كان سيسيفوس الذي عوقب أبديا برفع صخرة ضخمة إلى قمة هضبة شديدة الانحدار، لا لشيء سوى أن ترتد متدحرجة في كل مرة يوشك فيها على بلوغ القمة. ويصف أوديسيوس هذا المشهد كالتالي:
رأيت سيسيفوس أيضا؛ وكان يعاني من آلام مبرحة،
وكان يستخدم كلتا ذراعيه في الإمساك بالصخرة الضخمة، مجاهدا
بيديه وقدميه في محاولة دفع الصخرة إلى أعلى
قمة الهضبة، لكن عند اقترابه من بلوغ
قمة الهضبة، كانت قوة الجاذبية تدفع الصخرة إلى الخلف،
فتتدحرج بلا رحمة إلى أسفل السفح. فيحاول مجددا
دفع الصخرة لأعلى، باذلا أقصى ما في وسعه من جهد، والعرق يتصبب
على جميع أجزاء جسده، وتعلو رأسه سحابة من الغبار. (هوميروس، «الأوديسة»، السطور 593-600)
شكل 2-1: سيسيفوس في تارتاروس، نقش يرجع إلى القرن الثامن عشر، للفنان بي بيكارت.
1
لم يكشف هوميروس عن الإثم الذي اقترفه سيسيفوس، ويختلف في ذلك عما ورد في المراجع القديمة. وكان سيسيفوس محل شفقة في روايات جميع القدماء، غير أن كامو يراه مثيرا للإعجاب. وبدلا من تجسيد المصير الذي ينتظر تلك الحفنة من البشر الذين يجرءون على تحدي الآلهة، يرمز سيسيفوس إلى مصير جميع البشر الذين يجدون أنفسهم محكوما عليهم بالعيش في عالم لا وجود للآلهة فيه. ويثير سيسيفوس الإعجاب لأنه تقبل الهراء الذي ينطوي عليه الوجود الإنساني، الذي هو أقل في جوره من عبثيته. وبدلا من الاستسلام والانتحار، يواصل سيسيفوس كده وكدحه، على الرغم من إدراكه الكامل أن محاولاته لا طائل منها. وتعتبر بطولة سيسيفوس هي البطولة الوحيدة التي يتيحها عالم لا معنى له لخلوه من الآلهة. ويستخدم كامو أسطورة سيسيفوس للتعبير دراميا عن الحالة الإنسانية.
كانت أسطورة سيسيفوس جزءا من الدين، شأنها شأن الأساطير التي حللها بولتمان ويوناس، بل ولا تزال جزءا منه في رأي بولتمان. ويتعامل كامو مع الأسطورة، تماما مثل بولتمان ويوناس، كنص مستقل، مقطوع الصلة بأي دين راسخ ويمارس. ومن منظور ثلاثتهم، تعد الأسطورة حكاية فلسفية؛ لأنهم يرونها «تعبيرا» عن الفلسفة.
هوامش
الفصل الثالث
الأسطورة والدين
يستدعي تناول الأسطورة في نطاق مجال الدراسات الدينية إدراج الأسطورة تحت الدين، ومن ثم تعريض الأسطورة للرفض الذي يلقاه الدين من العلم. وقد سعت نظريات القرن العشرين المشتقة من الدراسات الدينية إلى التوفيق بين الأسطورة والعلم من خلال التوفيق بين الدين والعلم.
ولقد كان هناك استراتيجيتان رئيستان للتوفيق بين كليهما؛ تمثلت الأولى في إعادة توصيف موضوع الدين ومن ثم الأسطورة. فمما قيل أن الدين لا يدور حول العالم المادي، وهو ما يجعل الدين في هذه الحالة في مأمن من أية تعديات عليه من جانب العلم. وبينما تعتبر الأساطير التي جرى تحليلها وفق هذا الأسلوب في تناول الدين أساطير تقليدية - مثل أساطير الكتاب المقدس والأساطير الكلاسيكية - فإنها تفسر في الوقت الحالي رمزيا وليس حرفيا. ومن المزاعم الحالية أن الأسطورة كانت تتعارض مع العلم؛ لأنها لم تفسر تفسيرا صحيحا. ويعطي نقد تايلور العنيف للرمزيين الأخلاقيين والمؤلهين، بسبب تفسيرهم الأسطورة تفسيرا غير حرفي، مثالا مصغرا على عدم تفسير الأسطورة على النحو الصحيح، من جانب تايلور نفسه!
تمثلت الاستراتيجية التوفيقية الأخرى في ترقية الظواهر العلمانية ظاهريا إلى مصاف الظواهر الدينية. ومن جوانب هذه الترقية أن الأسطورة لم تعد مقتصرة على الحكايات الدينية القديمة الجلية؛ فهناك أساطير حديثة علمانية صريحة أيضا. على سبيل المثال، فيما تعتبر القصص التي تدور حول الأبطال قصصا تدور في حقيقتها حول مجرد بشر، يرتقى بهؤلاء البشر إلى مصاف أعلى بكثير من مصاف البشر الفانين فيصيرون آلهة فعليين. في الوقت نفسه، لا تعتبر أفعال هذه «الآلهة» خارقة، ومن ثم فهي غير متنافية مع العلم. وبذلك، تبقي هذه الاستراتيجية على تفسير الأسطورة تفسيرا حرفيا، إلا أنها تعيد تصنيف الحالة الحرفية للشخصيات الفاعلة في الأسطورة.
هناك استراتيجية ثالثة تتمثل في إحلال الأساطير العلمانية محل الأساطير الدينية. فتنقذ هذه الاستراتيجية الأسطورة من مصير الدين من خلال الفصل بين الأسطورة والدين؛ بناء عليه، فإن هذه الاستراتيجية تعد النقيض للاستراتيجية الثانية، التي تحول الأساطير العلمانية إلى أساطير دينية. وبفصل الأسطورة عن الدين، تقع هذه الاستراتيجية بوضوح خارج مجال مناقشة الفصل الحالي.
رودولف بولتمان
كان أكثر المدافعين عن التفسير الرمزي للأساطير الدينية التقليدية رودولف بولتمان وهانز يوناس، اللذين تناولنا آراءهما بصورة موجزة في الفصل السابق. ومثلما أشرنا سابقا، بينما يضيق الاثنان نطاق بحثهما حول تخصصيهما - المسيحية والغنوصية - فإنهما يطبقان عليهما نظرية عن الأسطورة ذاتها.
في مأخذها الحرفي، تتطابق الأسطورة في رأي بولتمان مع الأسطورة في رأي تايلور تطابقا دقيقا؛ إذ يعتقدانها تفسيرا بدائيا للعالم، وتفسيرا لا يتوافق مع التفسير العلمي؛ ومن ثم فهي تفسير لا يقبله الحداثيون، الذين يرجحون كفة العلم. وبتفسير الأسطورة تفسيرا حرفيا، يرى بولتمان أنه لا بد من رفضها دون مناقشة مثلما يرفضها تايلور. لكن على عكس تايلور، يفسر بولتمان الأسطورة تفسيرا رمزيا. وفي عبارته الشهيرة، وإن كانت محيرة إلى حد كبير، «يجرد» بولتمان الأسطورة «من العناصر الخرافية»، ولا يعني ذلك التخلص من الميثولوجيا، أو «خلع الثوب الخرافي عنها»، وإنما استخلاص المعنى الرمزي الحقيقي وراءها. والبحث عن قرينة في حادث الطوفان الذي غمر العالم أجمع - مع استبعاد الفكرة الإعجازية المتمثلة في اشتمال سفينة على جميع أنواع المخلوقات - يستدعي «خلع الثوب الخرافي» عن أسطورة نوح. في المقابل، يستدعي تفسير الطوفان كعبارة رمزية للإشارة إلى هشاشة الحياة الإنسانية «التجرد من العناصر الخرافية».
وبتجرد الأسطورة من العناصر الخرافية، تتوقف عن تعبيرها عن العالم، فتصير تعبر عن «خبرة» الإنسان بالعالم، وتتوقف أيضا عن كونها تفسيرا، فتصبح تعبيرا عن «حال» من يعيشون في العالم، ولا يمكن الاستمرار في وسمها بأنها بدائية، بل تصبح شاملة، وفي النهاية لا يمكن أن تتصف بالزيف، بل تصير حقيقية؛ إذ تقدم وصفا للحالة الإنسانية. ويعبر بولتمان عن ذلك بقوله:
إن الغرض الحقيقي من الأسطورة ليس تقديم صورة موضوعية عن العالم كما هو، بل التعبير عن فهم الإنسان لنفسه في العالم الذي يعيش فيه. ويجب ألا يتم تفسير الأسطورة من المنظور الكوني، بل من منظور أنثروبولوجي، أو وجودي، وهذا أفضل. (بولتمان، «العهد الجديد والميثولوجيا»، ص10)
حرفيا، يصف العهد الجديد بالتحديد معركة كونية بين مخلوقات الخير والشر للسيطرة على العالم المادي. ولا تتدخل الشخصيات الخارقة في عمل الطبيعة فقط، كما هي الحال عند تايلور، بل في حيوات البشر أيضا. وبينما توجه المخلوقات الخيرة البشر لفعل الخير، تجبرهم المخلوقات الشريرة على فعل الشر. وبذلك، يعبر العهد الجديد حرفيا عن رؤية تسبق الرؤى العملية:
ينظر إلى العالم باعتباره بناء مؤلفا من ثلاثة طوابق: تشغل الأرض الطابق الأوسط، والسماء الطابق العلوي، والعالم السفلي الطابق الأدنى. وتمثل السماء مقام الإله والكائنات السماوية؛ أي الملائكة. ويمثل العالم السفلي الجحيم؛ مكان التعذيب. أما الأرض، فتعتبر أكثر من مجرد مسرح للأحداث الطبيعية اليومية التي تشمل الأنشطة المعتادة التافهة والشائعة، لتعد مكانا تقع فيه الأنشطة الخارقة للإله وملائكته من جانب، والشيطان وأتباعه وأشياعه من جانب آخر. فتتدخل هذه القوى الخارقة في مسار الطبيعة، وفي جميع ما يفكر فيه ويريده ويفعله البشر. ولا تتصف المعجزات بالندرة على هذه الأرض، ولا يتحكم الإنسان في حياته. ربما تتملكه الأرواح الشريرة، وربما أيضا يوسوس له الشيطان بالأفكار الشريرة. على الجانب الآخر، ربما يلهم الإله الإنسان ويرشد مقاصده. (بولتمان، «العهد الجديد والميثولوجيا»، ص1)
وبتجرد العهد الجديد من العناصر الخرافية، فإنه لا يتوقف عن الإشارة جزئيا إلى العالم المادي، لكنه في هذه الحالة عالم يحكمه إله واحد غير مؤنسن، إله متعال، لا يبدو كالبشر، ولا يتدخل بصورة إعجازية في شئون العالم:
تعبر الميثولوجيا عن فهم محدد للوجود الإنساني، وتؤمن بأن العالم والحياة الإنسانية لهما جذورهما وحدودهما في قدرة تتخطى قدرة أي إنسان على حسابها أو التحكم فيها. وتدور الميثولوجيا حول هذه القدرة بصورة غير ملائمة وغير كافية؛ نظرا لأنها تتناولها كما لو كانت قدرة دنيوية [بعبارة أخرى، مادية]. وتدور الأسطورة [بصورة سليمة] حول الآلهة الذين يمثلون القدرة التي تقع خارج نطاق العالم المرئي المدرك. [في المقابل،] تتحدث الأسطورة عن الآلهة كما لو كانوا بشرا، وعن أفعالهم كما لو كانت أفعالا بشرية ... وربما يقال إن الأساطير تمنح الحقيقة المتسامية حقيقة ذاتية كامنة، متمثلة في هذه الموضوعية الدنيوية. (بولتمان، «المسيح والميثولوجيا»، ص19)
وبتجرد الإله من العناصر الخرافية، يستمر بقاؤه ولكن يصير الشيطان مجرد رمز للميول الشريرة داخل النفس البشرية. ولا تشير اللعنة حينئذ إلى مكان في المستقبل، بل إلى حالة عقلية راهنة، تظل قائمة ما دام المرء يرفض وجود الإله. ويشير الخلاص، إذن، إلى حالة المرء العقلية بمجرد تقبل وجود الإله. لا يوجد جحيم مادي؛ فالجحيم يرمز إلى القنوط في ظل عدم وجود الإله، ولا تشير الجنة إلى مكان في السماء بل إلى الحبور في ظل وجود الإله. ولا يشعر المرء بالملك (الإلهي) من عوامل خارجية، عبر أحداث كونية هائلة، بل من داخله، متى آمن بالإله.
إجمالا، يقدم العهد الجديد، بتجرده من عناصره الخرافية، طرقا متعارضة مع طرق التعامل القديمة مع العالم، مثل الاغتراب الذي يشعر به أولئك الذين لم يعثروا على الإله بعد، في مقابل الألفة التي يشعر بها أولئك الذين عثروا على الإله. أما بالنسبة لأولئك الذين لا إله لهم، فيرون العالم مكانا باردا قاسيا ومخيفا . على الجانب الآخر، يشعر من عثر على الإله بأن العالم مكان دافئ وجذاب وآمن.
وبمأخذ حرفي، تعتبر الأسطورة، كتفسير شخصاني للعالم المادي، غير متوافقة مع العلم، ومن ثم غير مقبولة بالنسبة إلى الحداثيين:
تطورت معرفة وقدرة الإنسان على التحكم في العالم بالعلم والتكنولوجيا إلى درجة صار فيها من غير الممكن لأي شخص أن يتشبث بالرؤية التي يطرحها العهد الجديد للعالم. وفي حقيقة الأمر، لا يوجد أحد يتشبث بها. ولم نعد نعتقد في وجود عالم مؤلف من ثلاثة طوابق، على عكس ما تسلم به قوانين المسيحية. (بولتمان، «العهد الجديد والميثولوجيا»، ص4)
ما إن تتجرد الأسطورة من العناصر الخرافية، حتى تصير متوافقة مع العلم؛ لأنها أصبحت تشير إلى العالم المتسامي غير المادي، بل قل إلى خبرة الإنسان بالعالم المادي - كما هي الحال مع الدين الحديث «بدون» الأسطورة في رأي تايلور.
لا يحث بولتمان، بصفته عالم لاهوت، المسيحيين الحداثيين على تقبل العهد الجديد فقط، بل إنه يبين لهم كيف يفعلون ذلك، من خلال ترجمة العهد الجديد إلى مصطلحات وجودية. ولا يبرر بولتمان ذلك بأن الحداثيين لن يتقبلوا الكتاب المقدس المسيحي إلا على هذا النحو، بل بأن معناه الحقيقي كان دوما وجوديا.
رغم ذلك، لا يفسر قول إن الأسطورة يمكن أن يقبلها الحداثيون من أصحاب العقول العلمية سبب وجوب تقبلها. فعندما قدم بولتمان هذا «الموضوع» الحديث حول الأسطورة، لم يقدم لها «وظيفة» حديثة. فربما يرى أن الوظيفة واضحة من تلقاء نفسها؛ ألا وهي وصف الحالة الإنسانية. ولكن، لماذا يعتبر وصف الحالة الإنسانية مهما؟ ولماذا تستخدم الأسطورة في وصفها؟ لا يستطيع بولتمان قول إن الأسطورة «تكشف» عن الحالة الإنسانية؛ لأنه هو نفسه يستخدم الفلسفة في العثور على المعنى نفسه في الأسطورة.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن يتقبل الحداثيون الأسطورة، حتى عند تجردها من عناصرها الخرافية، فقط عندما يجرد وجود الإله من العناصر الخرافية بالمثل. وعلى قدر حماسة بولتمان لجعل الأسطورة مقبولة للحداثيين من أصحاب العقول العلمية، فإنه غير مستعد لاستبعاد تفسير الإله بكل جوانبه؛ أي خلع ثوب الأسطورة عنه تماما. فيجب على كل من يقبل الميثولوجيا أن يستمر في الإيمان بالإله، مهما كان هذا التصور معقدا . وفيما ربما يكون التوافق مع العلم ضروريا من أجل اعتناق الأسطورة في عالم اليوم، فإن ذلك وحده ليس كافيا على الإطلاق.
ماذا عسى بولتمان أن يقول عن أسطورة أدونيس؟ بكل تأكيد، سيجري بولتمان مقارنة بين العوالم التي يجد أدونيس نفسه فيها؛ إذ ينشأ أدونيس، الذي لم يبتعد أبدا عن عناية إلهة تغمره بالاهتمام الخانق، ويترعرع في عالم يشبه الرحم، عالم آمن تماما يشعر فيه بالحماية، بل وينغمس فيه إلى الدرجة التي لا يعبأ عندها بالمخاطر الموجودة في العالم «الواقعي» الذي - وفق رواية أوفيد - تحاول فينوس تحذيره منه مرارا وتكرارا. فبتجرد هذه الأسطورة من عناصرها الخرافية، نجدها تصف خبرات متعارضة في العالم المادي؛ وهذا العالم هنا ليس علمانيا في مقابل عالم ديني، بل هو عالم طفولي في مقابل عالم ناضج.
جدير بالذكر أن بولتمان يتسم بتناقض طرحه. فعلى الرغم من توصيفه الظاهري للأسطورة في حد ذاتها بأنها تعبير رمزي للحالة الإنسانية، فإنه يأخذ الأساطير القديمة، التي انبثقت عنها المسيحية، مأخذا حرفيا، مثل الأساطير اليهودية الخاصة بسفر الرؤيا وأساطير الغنوصية؛ بناء عليه، بينما يخص بولتمان المسيحية فحسب بالتجرد من العناصر الخرافية، فإنه يقر في عدم اتساق واضح بفضل يوناس الوجودي المعاصر له في تجرد الغنوصية على نحو غير مسبوق من عناصرها الخرافية!
هانز يوناس
يرى هانز يوناس أن الغنوصية القديمة تقدم الرؤية الأساسية نفسها للحالة الإنسانية التي تقدمها الوجودية الحديثة، وإن كانت وجودية إلحادية، كما يراها بولتمان، أكثر منها وجودية دينية. وتؤكد الغنوصية والوجودية كلاهما على اغتراب البشر الشديد عن العالم:
يتكون جوهر الوجودية من ثنائية؛ غربة بين الإنسان والعالم و... أن هناك موقف واحد [فقط] ... تتحقق فيه هذه الحالة وتعاش بكل ما يحمله أي حدث جلل من شدة واحتدام؛ وتلك هي الحركة الغنوصية. (يوناس، «الدين الغنوصي»، ص325)
على النقيض من بولتمان الذي يسعى جاهدا لرأب الصدع بين المسيحية والحداثة، يقر يوناس بالفجوة بين الغنوصية والحداثة؛ وبناء عليه، لا يسعى إلى اكتساب معتنقين جدد حداثيين للغنوصية. ونظرا لأن الغنوصية القديمة، على عكس المسيحية السائدة، تضع اللامادي في مقابل المادي، يظل البشر مغتربين عن العالم المادي حتى بعد عثورهم على الإله الحق. وفي حقيقة الأمر، لا يمكن العثور على هذا الإله إلا من خلال رفض العالم المادي وإلهه المزيف. ويتغلب الغنوصيون على الغربة عن هذا العالم من خلال التسامي عنه. في المقابل، يظل اغتراب الغنوصيين مؤقتا، بينما يعتبر الاغتراب دائما عند الحداثيين. ويرى يوناس أن الميثولوجيا الغنوصية لا تزال مقبولة لدى الحداثيين، ولكن ليس المؤمنين منهم، كما هي الحال مع بولتمان، بل المتشككين. وتستطيع الميثولوجيا نيل قبولهم؛ نظرا لأنها لا تدور حول طبيعة العالم، بل حول طبيعة العيش في العالم - أي هذا العالم - إذا جرى فهمها على النحو الصحيح. ومثل بولتمان، يسعى يوناس إلى التوفيق بين الأسطورة والعلم من خلال إعادة توصيف موضوع الأسطورة.
ولجعل الغنوصية القديمة مستساغة في رأي الحداثيين، يجب على يوناس، مثل بولتمان، تخطي تلك الجوانب التي تنطوي عليها الأساطير والتي تتعدى على العلم من خلال تقديم أصل العالم أو مستقبله. وتعتبر «حقيقة» اغتراب الإنسان عن العالم، وليس مصدر الاغتراب أو الحل المقترح له، هي موضوع الأسطورة الذي تم تجريده من العناصر الخرافية؛ بناء عليه، تلقى العناصر الغنوصية في صفات الألوهية، وفي الفيض الإلهي، وفي الإله الخالق، وفي العالم المادي؛ تجاهلا. والأدهى من ذلك، يتم تجاهل إمكانية النجاة من العالم المادي التي تنطوي عليها الغنوصية. باختصار، تختزل معظم جوانب الميثولوجيا الغنوصية إلى مجرد ميثولوجيا يجب استبعادها، أو خلع الثوب الخرافي عنها، مثل «جميع» الميثولوجيا في رأي تايلور.
لا يعرض يوناس - شأنه شأن بولتمان - أي وظيفة للأسطورة تؤديها للحداثيين. وحتى إذا كانت الأسطورة تعبر عن الحالة الإنسانية، فما الداعي للتعبير عن تلك الحالة بصفة عامة، بعيدا عن الأسطورة، إذا كانت الفلسفة تعبر عنها؟ لم تصدر عن يوناس إجابة عن هذا السؤال، بل يحصر هو وبولتمان مجال بحثيهما في معنى، أو موضوع، الأسطورة.
يعارض أسلوب بولتمان ويوناس في تناول الأسطورة أسلوب تايلور في التعاطي معها معارضة شديدة. فمن ناحية، يسلم تايلور بأن الأسطورة يجب تفسيرها حرفيا كي يمكن أخذها على محمل الجد، ويرى أن الرمزيين الأخلاقيين والمؤلهين يقللون من قيمة الأسطورة عن طريق تفسيرها تفسيرا رمزيا. ومن ناحية أخرى، يرى بولتمان ويوناس، فضلا عن منظرين آخرين مثل جوزيف كامبل، النقيض؛ إذ يعتقدون أن الأسطورة يجب تفسيرها تفسيرا رمزيا حتى يمكن أخذها على محمل الجد. وبينما يرى تايلور أن الأسطورة يمكن أن يصدقها البدائيون، فقط لأنهم يفسرونها حرفيا، فإن بولتمان ويوناس يعتقدان أن الأسطورة كانت محل تصديق المسيحيين الأوائل والغنوصيين القدماء أيما تصديق؛ لأنهم كانوا يفسرونها وجوديا. وفيما يرى تايلور أن الحداثيين لا يستطيعون تصديق الأسطورة، وذلك على وجه التحديد لأنهم يفسرونها تفسيرا حرفيا بحق، يرى بولتمان ويوناس أن الحداثيين يمكن أن يصدقوا الأسطورة، فقط ما داموا يفسرونها تفسيرا رمزيا بحق. ومع ذلك، فإن تايلور لا يعترض على رؤى أولئك المنظرين الذين يفسرون الأسطورة رمزيا للحداثيين، بل على أولئك الذين يفسرونها رمزيا للبدائيين؛ بناء عليه، كان تايلور لينتقد بولتمان ويوناس انتقادا لاذعا فيما يقولاه عن المسيحيين الأوائل والغنوصيين القدماء، أكثر مما ينتقدهما فيما يقولاه عن الحداثيين.
وللمفارقة، يكتب تايلور وبولتمان ويوناس جميعا مؤلفات تدافع عن الأسطورة. والفرق بين كل منهم يتمثل في أن الدفاع عند تايلور يتطلب التخلي عن الأسطورة في ظل وجود العلم، بينما يتطلب الدفاع عنها عند كل من بولتمان ويوناس تبيين المعنى الحقيقي للأسطورة في ظل وجود العلم. وهذا المعنى ليس جديدا من ابتكار الحداثيين لإنقاذ الأسطورة، بل هو معنى طالما انطوت عليه الأسطورة، ولم يدرك بالكامل إلا بعد أن تعرض للضغط من خطر العلم. وبإجبار الحداثيين على الرجوع إلى النصوص العتيقة لاكتشاف المعنى الذي لم تنفك الأسطورة تعبر عنه دوما، جعل العلم من إحدى الضرورات فضيلة.
ميرسيا إلياد
إن السير الذاتية التي تعلي من شأن المشاهير تحولهم إلى أشباه آلهة، وتجعل من سير حياتهم الحافلة بالبطولات أساطير. على سبيل المثال، بعد وقوع حرب الخليج الأولى مباشرة، أثنت السير الذاتية للقائد الأمريكي الأعلى شوارزكوف، أو «نورمان العاصف»، بأنه أذكى وأشجع عسكري في العالم، بل إنه أذكى وأشجع من أي إنسان؛ ما جعله يتجاوز مرتبة البشر.
والمنظر الرئيس هنا في هذا القسم هو مؤرخ الأديان روماني المولد ميرسيا إلياد (1907-1986)، الذي قضى العقود الثلاثة الأخيرة من حياته في الولايات المتحدة. وعلى عكس بولتمان ويوناس، لا يسعى إلياد إلى التوفيق بين الأسطورة والدين من خلال تفسير الأسطورة رمزيا. فهو يفسر الأسطورة حرفيا كتايلور. وعلى عكس بولتمان ويوناس، لا يغير إلياد من الوظيفة الظاهرية للأسطورة؛ فهو يرى، متفقا في كثير من الجوانب مع تايلور، أن الأسطورة تفسر أصل الظواهر وليس فقط تكرارها تفسيرا دقيقا. وبما يتعارض مع بولتمان ويوناس، لا يحاول إلياد تحديث الأساطير التقليدية. ويختلف أيضا عن تايلور الذي يلتزم بالأساطير الدينية التقليدية الصريحة، ليحول أنظاره نحو الأساطير الحديثة غير الدينية ظاهريا. وبدلا من محاولة التوفيق بين هذه الأساطير والعلم، مثلما قد يفعل بولتمان ويوناس، يجد إلياد أن كثافة وجودها يؤكد على توافقها مع العلم؛ فإذا كان الحداثيون الذين يملكون علما، في رأي إلياد وغيره من المنظرين، يملكون الأساطير إلى جانبه، فيجب أن تكون الأسطورة متوافقة مع العلم.
شكل 3-1: ميرسيا إلياد، باريس، 1978.
1
يتمثل معيار الأسطورة عند إلياد في أن تنسب قصة إلى بطلها عملا بطوليا استثنائيا يجعل من هذا البطل شخصا خارقا. فتفسر الأسطورة كيف أن إلها أو شبه إله، في حقبة «مقدسة» في أول الزمان، خلق ظاهرة لا تزال مستمرة في الوجود. وربما تكون هذه الظاهرة اجتماعية «أو» طبيعية: على سبيل المثال، الزواج أو الأمطار:
تبين الأسطورة، من خلال أفعال الكائنات الخارقة، كيف ينشأ واقع ما في الوجود، سواء أكان ذلك الواقع كاملا، مثل الكون، أو جزءا منه فقط، فلنقل كالجزيرة، أو أحد أنواع النباتات، أو نمط معين من أنماط السلوك الإنساني، أو مؤسسة. (إلياد، «الأسطورة والحقيقة»، ص5-6)
بينما يعزى الفضل في خلق الظواهر الطبيعية إلى الآلهة، يعزى الفضل إلى «أبطال الثقافة» في خلق الظواهر الاجتماعية. فالعمل البطولي الفذ الخرافي يعد بمنزلة الخلق.
وفيما تؤدي الأسطورة في وجهة نظر إلياد وظيفة تفسيرية، فإن لها وظائف تفوق التفسير؛ إذ يتبين لنا أن التفسير مجرد وسيلة لبلوغ غاية؛ ألا وهي التجديد. غير أن الاستماع إلى سرد الأسطورة وقراءتها وإعادة تمثيلها - بصفة خاصة - كل ذلك يعني العودة بصورة سحرية إلى زمن وقوع أحداثها، إلى الحقبة الزمنية لأصل الظاهرة التي تفسرها الأسطورة أيا كانت:
بما أن الرواية الطقوسية لأسطورة نشأة الكون تنطوي على تجديد الحادث البدائي الأصلي، فإنه يترتب على ذلك أن ينتقل الشخص الذي تروى له الأسطورة إلى «ذلك الوقت»، إلى «أول الزمان»، فيصبح هذا الشخص معاصرا لأحداث نشأة الكون. (إلياد، «المقدس والمدنس»، ص82)
تعتبر الأسطورة كالبساط السحري، وإن كانت بساطا يمضي في اتجاه واحد. فبرجوع المرء إلى الوراء إلى أول الزمان، تعمل الأسطورة على إعادة توحده مع الآلهة؛ لأنهم وقتئذ كانوا الأقرب إليه، مثلما تصور الواقعة التي وردت في الكتاب المقدس، عن «الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار» (سفر التكوين 3 : 8). وتعكس «إعادة التوحد» المشار إليها الانفصال الذي حدث بين المرء والآلهة بعد أن كانوا في جنة عدن، وتجدد روحانية المرء:
باختصار، يتمثل الأمر في العودة إلى الوقت الأصلي، والغرض العلاجي من هذه العودة، أن تبدأ الحياة مجددا وتولد ميلادا رمزيا تارة أخرى. (إلياد، «المقدس والمدنس»، ص82)
وبذلك يعتمد الدرس المستفاد نهائيا من الأسطورة على التجربة: وهي في هذه الحالة مقابلة الإله. فلا توجد نظرية للأسطورة تمتد بجذورها في الدين أكثر من نظرية إلياد.
من الواضح أن العلم لا يقدم أية وظيفة تجديدية، بل يفسر فقط. إذن، يمكن أن تؤدي الأسطورة وظائف لا يستطيع العلم القيام بها. في المقابل، لا يتمثل الطرح الرئيس حول استمرار الأسطورة لإلياد في أنها تؤدي وظيفة فريدة، بل في أنها تؤدي هذه الوظيفة للحداثيين والبدائيين على حد سواء. وبحسب إلياد، يظن الحداثيون في أنفسهم الالتزام بأقصى درجات العقلانية والفكر وعدم الانسياق العاطفي والنظرة التطلعية إلى المستقبل . باختصار، يرون أنفسهم علميين. ولكن يرى إلياد في المقابل أن الحداثيين أنفسهم لا يستطيعون التخلي عن الأسطورة:
قد يكتب مجلد كامل عن أساطير الرجل الحداثي ، وعن الأساطير المتخفية في ثوب المسرحيات التي يستمتع بمشاهدتها، وعن الكتب التي يقرؤها. أما السينما، «مصنع الأحلام»، فهي تقتبس موضوعات خرافية لا حصر لها وتوظفها؛ كالصراع بين البطل والوحش، والمبارزات والمحاكمات التعذيبية البدائية، والشخصيات والصور النمطية (الفتاة، البطل، وصف الجنان، الجحيم، إلخ). حتى القراءة قد تشتمل على وظيفة خرافية ... نظرا لأن الإنسان الحديث ينجح، من خلال القراءة، في تحقيق «الفكاك من الزمن» مقارنة ب «الظهور خلال الزمن» الذي يحدث في الأساطير ... فتلقي القراءة بالإنسان الحديث خارج زمنه وتجعله جزءا من إيقاعات أخرى، ليعيش في «تاريخ» آخر. (إلياد، «المقدس والمدنس»، ص205)
وبذلك تعتبر المسرحيات والكتب والأفلام مثل الأساطير؛ لأنها تكشف عن وجود عالم آخر - عادة أقدم - إضافة إلى العالم اليومي؛ عالم يشتمل على شخصيات وأحداث استثنائية تشبه تلك الموجودة في الأساطير التقليدية. إضافة إلى ذلك، تفسر أفعال تلك الشخصيات الحالة الراهنة للعالم اليومي. والأدهى من ذلك أن الحداثيين يستغرقون في المسرحيات والكتب والأفلام، حتى إنهم يتصورون أنفسهم عادوا إلى الوراء؛ إلى زمن الأسطورة. وبينما يشير بولتمان ويوناس باعتدال إلى أن الحداثيين «قد» يكون لديهم أساطير، يؤكد إلياد في قوة على أن «لديهم» أساطير. وإذا كان لدى الملحدين المعترفين بإلحادهم أسطورة، إذن من المؤكد أنها ليست فقط مقبولة عند الحداثيين، مثلما يرى بولتمان ويوناس، وإنما حتمية - فهي ذات طابع إنساني. وفيما يفترض تايلور وفريزر أن الأسطورة ضحية عملية العلمنة، يرى إلياد أنه لم تجر أية عملية علمنة حقيقية. ويظل الدين، ومعه الأسطورة، باقيين «بتخف».
شكل 3-2: جون إف كينيدي الابن على غلاف مجلة «يو إس ويكلي»، يونيو 2000.
2
كيف يمكن تطبيق نظرية إلياد على أسطورة أدونيس، الذي يبدو أبعد ما يكون عن البطولة؟ مثل الأبطال اليونانيين الآخرين غير الاستثنائيين، إيكاروس وفايثون، يتصور أدونيس نفسه قديرا. وفي واقع الأمر، لا يبالي أدونيس، مثلهما، بمخاطر العالم، فيموت جراء تهوره النرجسي.
ربما يعتبر جون إف كينيدي الابن (1960-1999) نسخة حديثة من أدونيس، فهو بطل جذاب للكثيرين ورمز جنسي لا يقاوم بالنسبة إلى النساء. وقد مات، متجاهلا تحذيرات تشبه تحذيرات فينوس، عندما أصر في طيش على الطيران في ظروف جوية لم يكن مبتدئ مثله مستعدا لها على الإطلاق. وبسقوط طائرته إلى الأرض، أصبح كينيدي قريب الشبه بإيكاروس وفايثون عن أدونيس. فكان رثاؤه في كافة الأرجاء رثاء لبطل محتمل أكثر منه رثاء لبطل حقيقي.
شكل 3-3: جورج واشنطن قبل معركة يورك تاون، 1824-1825، بريشة الفنان رامبرانت بيل.
3
ربما يتمثل أحد أكثر الشخصيات ملاءمة لنظرية إلياد في البطل غير المتنازع عليه جورج واشنطن (1732-1799). فقد وقره وأجله جميع الأمريكيين باعتباره الأب الروحي للبلاد، وعمل هو في البداية كقائد أعلى للجيش القاري في الحرب ضد البريطانيين، الذين هزموا في نهاية المطاف في عام 1781. واعتزل واشنطن بعد ذلك الحياة العامة لكنه عاد ليترأس المؤتمر الدستوري؛ الذي كان دعمه فيه لا غناء عنه للتصديق على الدستور. وجرى انتخاب واشنطن بالإجماع أول رئيس للولايات المتحدة (عن طريق المجمع الانتخابي) في عام 1789، ثم أعيد انتخابه بالإجماع تارة أخرى، وكان سيجري انتخابه مجددا إذا رغب في ذلك. فلقد كان ينظر إليه في إعجاب شديد وإجلال إلى الحد الذي جعل كثيرا من الثوريين يخشون من أن يؤسس هو أو المناصرون له حكما ملكيا، ومن ثم تتقوض الأهداف الجمهورية التي حوربت الثورة لأجل تحقيقها. ولذا فإن رفضه هذا الإغراء جعله أكثر إجلالا في نظر الآخرين.
أوشك الاحترام الذي منحه الأمريكيون لواشنطن في عصره وبعده بوقت طويل أن يكون تأليها، كما كانت معاملته أقرب إلى العبادة. وحتى قبل أن يصبح أول رئيس للولايات المتحدة - ناهيك عن أثناء فترته الرئاسية وبعدها - كانت هناك عملات تحمل صورته، وعدد غير مسبوق من اللوحات والتماثيل له، وأغان وأشعار تمتدحه، ومقاطعات ومدن تحمل اسمه، واحتفالات مهيبة بأعياد ميلاده، واستقبالات صاخبة له أينما ذهب. وبالنسبة إلى إلياد، تمجد الأسطورة قيام أحد أبطالها بتأسيس شيء في العالم المادي أو الاجتماعي يستمر إلى اليوم - مثلا أمريكا في حالة الأب المؤسس؛ واشنطن. ويعبر وصف أحد المؤرخين للاحتفالات بعيد ميلاد واشنطن عن «القداسة» التي تمتع بها فيما يلي:
بحلول عام 1791، بعد عامين من توليه منصبه، صار الاحتفال «الملكي» و«التقديسي» بعيد ميلاده عادة قومية. ولم يكن هناك مدينة مهما صغر حجمها لم تقم حفلا أو وليمة واحدة على الأقل في ذلك اليوم احتفاء بواشنطن ... فكانت مناسبة قومية، لا تضاهيها سوى مناسبة الرابع من يوليو في الحماسة والبهاء. وصار مولد الأمة ومولد واشنطن علامتين تذكاريتين للشعب الأمريكي ... واتخذت شعائر الاحتفال بمولد واشنطن طابع الشعائر الدينية ... فكان يوم ميلاد واشنطن يوما مقدسا بحق؛ وقتا للم الشمل وإعادة التأكيد على قداسة الأمة، وقوة تمسك الشعب بها. (شوارتز، «جورج واشنطن»، ص77-79)
بعد فترة طويلة من مماته، لم يقتصر الاحتفال بميلاد واشنطن - الذي لا يزال إلى اليوم عطلة رسمية - على إحياء ذكرى أعماله، بل يتم لإعادة أفعاله، وإعادته هو شخصيا، إلى الحياة. وكان جزء من الاحتفال - الطقوسي - يتمثل في ذكر النقاط المضيئة في سيرته؛ الأسطورة. وبوضوح، تشير العبارة الأمريكية المتناقلة على الألسن «جورج واشنطن نام هنا» إلى الوظيفة الأساسية للأسطورة من منظور إلياد؛ ألا وهي تقديم وسيلة اتصال بالإله.
بطبيعة الحال، قد يعترض أحد المتشككين؛ فهل يعتبر أي بطل بشري - مهما كان موقرا - إلها؟ وهل يعني الاحتفال العبادة؟ وهل يؤدي الاحتفال بحياة بطل ميت إلى إعادة البطل نفسه إلى الحياة؟ هل يعتقد المحتفلون حقا أنهم عادوا بالزمن إلى الوراء وليس فقط في مخيلتهم؟ وبقدر ما تفسر العلوم الاجتماعية الإنجازات الخالدة للأبطال، ماذا تبقى للأسطورة كي تفسره؟ وبقدر ما يثير جهد إلياد من إعجاب إزاء ضمان مكان راسخ للأسطورة في العالم الحديث العلمي، فهل هذا الجهد مقنع؟
هوامش
الفصل الرابع
الأسطورة والطقوس
يشيع أن الأسطورة مؤلفة من كلمات، وعادة ما تكون في صورة قصة، فتقرأ الأسطورة أو تسمع، وبذلك تعبر عن شيء ما. غير أن هناك منهجا لتناول الأسطورة يعتبر هذه النظرة للأسطورة مصطنعة. فبحسب نظرية الأسطورة والطقوس، أو النظرية الطقوسية للأسطورة، لا تقوم الأسطورة بذاتها بل ترتبط بالطقوس. ولا تعتبر الأسطورة مجرد تعبير لكنها فعل. ويذهب أكثر أشكال هذه النظرية تشددا إلى أن جميع الأساطير تصاحبها طقوس، وأن جميع الطقوس تصاحبها أساطير. وفي نسخ أخرى من النظرية أقل جموحا، قد تزدهر بعض الأساطير في ظل عدم وجود طقوس، أو تزدهر بعض الطقوس في ظل عدم وجود أساطير. وربما يتزامن عمل الأساطير والطقوس معا في الأصل، ثم يتفرقا لاحقا كل في طريقه، وربما تنشأ الأساطير والطقوس منفصلة ثم تتلاحم لاحقا. وأيا ما كانت الصلة بين الأسطورة والطقوس، تختلف النظرية الطقوسية للأساطير عن النظريات الأخرى للأساطير، وعن النظريات الأخرى للطقوس، في التركيز على الصلة بين الأسطورة والطقوس.
ويليام روبرتسون سميث
كان ويليام روبرتسون سميث (1846-1894) - دارس الكتاب المقدس والمستعرب الاسكتلندي - هو رائد النظرية الطقوسية للأسطورة. وفي كتابه «محاضرات حول دين الساميين»، يرى سميث أن الإيمان بينما يعد مسألة مركزية في الدين «الحديث»، فإنه لا يعتبر كذلك في الدين «القديم»، الذي كانت الطقوس فيه هي التي تحتل المكانة المركزية. ويسلم سميث جدلا بأن القدماء مارسوا الطقوس بلا شك لسبب ما. ولكن هذا السبب كان ثانويا، بل كان يمكن أن يتغير. وبدلا من الإعلان الرسمي عن اعتقاد أو عقيدة لذلك، كان السبب هو قصة أو «أسطورة» تصف ببساطة «الظروف التي تأصل في ظلها الطقس للمرة الأولى من خلال الأمر الإلهي أو المثل المباشر الذي يضربه الإله.»
كانت الأسطورة في حد ذاتها «ثانوية»؛ وبينما كانت الطقوس إجبارية، كانت الأسطورة اختيارية. وفيما كانت الطقوس محددة، كان يمكن أن تفي أية أسطورة بالغرض. حتى إن الأسطورة لم تنشأ إلا عندما كان السبب الأصلي غير الخرافي الممنوح للطقوس قد ذهب نوعا ما في طي النسيان:
إن الأسطورة لهي مجرد تفسير لأحد الاستخدامات الدينية، ولا يبرز هذا التفسير عادة إلا عندما يكون المدلول الأصلي للاستخدام قد طواه النسيان بصورة أو بأخرى. (سميث، «محاضرات حول دين الساميين»، ص19)
وبينما كان سميث أول من قال بأن الأساطير يجب فهمها في مقابل الطقوس، فإن العلاقة بينهما لا تتطلب بأية حال من الأحوال أن تتساوى الأساطير والطقوس في الأهمية. ويرى سميث أنه لا توجد أسطورة إطلاقا دون طقوس، وسواء أكانت هناك أسطورة أم لا، لذهبت الطقوس طي النسيان.
ولأن أدونيس كان إلها ساميا، يذكره سميث في كتابه «محاضرات حول دين الساميين». وفي إطار طرحه الإجمالي بأن الدين القديم لم يوجد فيه أي إحساس بالخطيئة، بحيث لم تكن التضحية - وهي الطقس الرئيس - تكفر الخطيئة؛ يضع سميث على طرفي نقيض كلا من التفسير الخرافي اللاأخلاقي «للعويل والتأسي» الطقوسي على أدونيس المتوفى من ناحية، و«الفكرة المسيحية اللاحقة القائلة بأن موت الإله-الإنسان يمثل موتا لخطايا الناس» من ناحية أخرى:
إذا جرت محاولة لتفسير الطقوس السنوية، مثلما حدث في أسطورة أدونيس، بدلا من التفسير الذي تقدمه القصة، والذي يتمثل في أن الإله قتل ثم بعث مجددا، فإن التفسير المقدم في القصة ينبثق عن التحلل المادي وتجدد الطبيعة. وقد كان المتعبدون ينظرون إلى أدونيس الكنعاني أو تموز ... باعتباره مصدر جميع صور النماء والخصوبة الطبيعية؛ بناء عليه، كان موت أدونيس يعني التعليق المؤقت لحياة الطبيعة ... وكان المتعبدون يرثون موت حياة الطبيعة لشعورهم بالتعاطف الفطري، دون أي وازع أخلاقي، تماما مثلما يشعر الرجل الحداثي بحزن دفين عند سقوط أوراق الخريف. (سميث، «محاضرات حول دين الساميين»، ص392)
بعبارة أخرى، كان هناك في الأصل التضحية الطقوسية التي قام بها الإله أدونيس، إضافة إلى أي سبب غير خرافي قدم تبريرا لها. ولم تقتصر تلك الطقوس على القتل فقط بل على الحداد وأيضا الأمل في بعث أدونيس. وما إن ذهب سبب الطقوس طي النسيان، حتى اختلقت أسطورة أدونيس باعتباره إله النبات الذي مات وبعث بعد الموت لتفسير الطقوس. والأسطورة كتعبير وثني وليس مسيحيا لا ترى في القتل خطيئة.
تتمثل أحد أوجه القصور الرئيسة في نظرية سميث في أنها تفسر الأسطورة فقط وليس الطقس، الذي يفترض وجوده المسبق. ويتمثل أحد أوجه القصور الأخرى في أن النظرية تقصر الأسطورة بوضوح على الطقس، وإن كان سميث يتتبع التطور اللاحق للأسطورة بصورة مستقلة عن الطقس. ولكن بقدر ما تشمل الأسطورة - باعتبارها تفسيرا للطقوس - أفعال الإله بطريقة نموذجية، تدور من البداية حول ما هو أكثر من الطقس الصرف، مثلما يرى سميث نفسه.
إي بي تايلور
في زعمه أن الأسطورة تفسير للطقس، كان سميث ينكر المفهوم الشائع للأسطورة، الذي تبناه إي بي تايلور. ولنتذكر معا أن تايلور اعتبر الأسطورة تفسيرا للعالم المادي، ليس للطقس، وأنها تمتلك تأثيرا مستقلا عن الطقس، وأنها تعبير وليس فعلا، وترتقي إلى مرتبة العقيدة، وتقدم في صورة قصة. وفي رأي تايلور، يمثل الطقس بالنسبة إلى الأسطورة ما تمثله الأسطورة بالنسبة إلى الطقس من منظور سميث؛ أي شيئا ثانويا. وبينما تفترض الأسطورة، كما يرى سميث، الوجود المسبق للطقس، يفترض الطقس في رأي تايلور الوجود المسبق للأسطورة. ويعتقد تايلور أن الأسطورة تعمل على تفسير العالم كغاية في حد ذاتها، وأن الطقس يطبق هذا التفسير للتحكم في العالم. ويعتبر الطقس هو «تطبيقا» للأسطورة، وليس «موضوعا» لها، بينما يظل موضوعها هو العالم. ولكن لأن الطقس يعتمد على الأسطورة والأدهى من ذلك أن التفسير من منظور تايلور يعتبر أكثر أهمية من التحكم في العالم، فإن الأسطورة تعد سمة مهمة للدين أكثر منها سمة مهمة للطقس. إذن، ربما كان سميث يتحول تدريجيا إلى معارضة تايلور من خلال قوله إن «الدين في العصور البدائية لم يمثل نظاما لمعتقدات لها تطبيقات عملية»، وإنما كان «مجموعة من الممارسات التقليدية الثابتة».
ويشبه سميث تايلور في ملمح واحد مهم؛ فكلاهما يعتبر الأسطورة قديمة بالكامل. فلا يشتمل الدين الحديث على الأسطورة ولا على الطقس أيضا. ولا تعتبر الأسطورة والطقس قديمين فقط، بل «بدائيين» أيضا. وفي حقيقة الأمر، يرى تايلور وسميث أن الدين القديم ليس سوى إحدى حالات الدين البدائي، الذي يختلف اختلافا أساسيا عن الدين الحديث. وبينما لا يوجد في الدين الحديث أسطورة وطقوس في نظر تايلور - لأن الدين لم يعد يدور حول العالم المادي، بل يمثل مزيجا من الأخلاقيات وما وراء الطبيعة - فإن الدين الحديث في رأي سميث لا يشمل أسطورة وطقوسا؛ لأن الدين الحديث مزيج من الأخلاقيات والمعتقدات. ويذهب تايلور إلى أن الدين الحديث، نظرا لافتقاره إلى الأساطير، يعد تدهورا عن عليائه القديمة والبدائية، بينما يعتبره سميث قفزة إلى الأمام بعيدا عن بداياته القديمة والبدائية؛ بسبب انفصاله عن الأسطورة، بل عن الطقس. ويتمثل النموذج الأمثل للدين الحديث في نظر سميث في مذهبه البريسبيتاري الكاره للطقوس؛ نظرا لمعاداته الكاثوليكية. ويدور النقد الرئيس الموجه لكل من تايلور وسميث حول حصرهما للأسطورة والطقس على حد سواء في الدين القديم والبدائي.
جيه جي فريزر
في الطبعات العديدة لكتاب «الغصن الذهبي»، أخذ جيه جي فريزر النظرية الطقوسية للأسطورة لمنحى أبعد مما وصل إليه صديقه سميث، الذي أهدى إليه الكتاب. وبينما يشتهر كتاب «الغصن الذهبي» بالتقسيم الثلاثي لجميع الثقافات؛ إلى مراحل ثلاثة: السحر والدين والعلم، يتحدث الجانب الأعظم من الكتاب في الحقيقة عن مرحلة وسيطة بين الدين والعلم؛ مرحلة تشتمل على السحر والدين مجتمعين. ولا يمكن العثور على طقوسية الأسطورة إلا في هذه المرحلة البينية، التي تتصف بالقدم والبدائية؛ لأن في هذه المرحلة فحسب تعمل الأساطير والطقوس معا.
وفي حقيقة الأمر، يعرض فريزر - الذي نادرا ما يكون طرحه متسقا - نسختين متمايزتين من النظرية الطقوسية للأسطورة. في النسخة الأولى، وهي النسخة التي ناقشناها بالفعل في الفصل
الأول ، تصف الأسطورة حياة إله النبات، الإله الرئيس في معبد الآلهة، ويمثل الطقس الأسطورة التي تصف موته وبعثه من جديد. ويعتمد الطقس في تمثيله للأسطورة على قانون التشابه السحري، الذي من خلاله يؤدي تقليد فعل ما إلى وقوعه. ويتمثل أوضح الأمثلة على هذا النوع من السحر في سحر الفودو؛ يتلاعب الطقس بصورة مباشرة بإله النبات، وليس بالنبات نفسه، ولكن ما يحدث للإله ينعكس تلقائيا على النبات. ويعتبر خضوع النبات مباشرة إلى أحد الآلهة ميراثا متخلفا عن الدين، بينما تعتبر إمكانية التحكم في النبات، حتى لو كان ذلك فقط بصورة غير مباشرة عن طريق الإله، ميراثا متخلفا عن السحر. ويعني مزج الأسطورة والطقس المزج بين الدين والسحر:
بناء عليه، استبدلت النظرية السحرية القديمة للفصول وحلت محلها نظرية دينية، أو بالأحرى استكملتها. ويرجع ذلك إلى أن البشر، على الرغم من أنهم صاروا الآن يعزون الدورة السنوية للتغيير إلى تغييرات مقابلة في آلهتهم، كانوا لا يزالون يعتقدون أنهم بإجراء طقوس سحرية محددة سيستطيعون مساعدة الإله الذي كان يمثل مبدأ الحياة، في صراعه مع مبدأ الموت المعارض له. فتصور هؤلاء إمكانية استجماع قواه الخائرة، بل وبعثه من الموت. (فريزر، «الغصن الذهبي»، ص377)
تمارس الطقوس عندما يريد المرء أن ينتهي فصل الشتاء؛ على الأرجح عندما تشرف المؤن المخزنة على النفاد. فيلعب إنسان، عادة الملك، دور الإله ويمثل ما يحث الإله على القيام به بصورة سحرية.
في نسخة فريزر الثانية من النظرية الطقوسية للأسطورة، التي لم يرد ذكرها حتى الآن، يعتبر الملك شخصية مركزية. ولا يكتفي الملك هنا بلعب دور الإله بل يكون هو نفسه الإله، وهو ما يعنيه فريزر بقوله إن الإله يسكنه. وكما تعتمد صحة النبات على صحة إلهه، فإن صحة الإله تعتمد على صحة الملك. فكيفما يكون الملك، يكون إله النبات، ومن ثم يكون النبات نفسه. ولضمان توفير حصة ثابتة من الغذاء، يقتل المجتمع الملك وهو لا يزال في أوج قوته؛ ومن ثم تنتقل روح الإله في أمان إلى خليفته:
يعتقد [البدائيون] ... أن حياة أو روح الملك ترتبط ارتباطا وثيقا وتناغميا بازدهار المجتمع ككل، وإذا مرض الملك أو طعن في السن سيمرض القطيع ويتوقف عن التكاثر، وستتعفن المحاصيل في الحقول، وسيموت البشر جراء مرض متفش؛ بناء عليه، وفق وجهة نظرهم، لا يمكن التخلص من هذه الفواجع إلا عن طريق قتل الملك بينما لا يزال في أوج صحته؛ حتى يمكن أن تنتقل الروح الإلهية، بدورها، التي ورثها من سابقيه إلى خليفته، بينما لا تزال في كامل قوتها ولم يمسها بعد ضعف المرض والشيخوخة. (فريزر، «الغصن الذهبي»، ص312-313)
يقتل الملك في نهاية فترة حكم قصيرة أو عند ظهور أول علامة من علامات الضعف. وكما هي الحال في النسخة الأولى، الهدف هو إنهاء الشتاء، الذي يشير إلى ضعف الملك في هذه الحالة. ولا يبين فريزر على الإطلاق كيف يمكن أن يأتي الشتاء - ناهيك عن ضرورته سنويا - إذا جرى التخلص من الملك عند أو حتى قبل بداية ضعفه .
على أية حال من الأحوال، أثبتت هذه النسخة الثانية من النظرية الطقوسية للأسطورة أنها الأكثر تأثيرا إلى حد بعيد، على الرغم من أنها لا توفر في الواقع سوى رابطة واهية بين الأسطورة الدينية والطقس السحري. وبدلا من تمثيل أسطورة إله النبات، يغير الطقس من مكان إقامة الإله. فلا يموت الملك تقليدا لموت الإله بل كتضحية للحفاظ على صحة الإله. وليس من السهولة بمكان تحديد الدور الذي تلعبه الأسطورة هنا. وبدلا من إحياء الإله عن طريق التقليد السحري، يحيي الطقس الإله عن طريق الاستبدال.
في سيناريو فريزر الأول للنظرية الطقوسية للأسطورة الحقة، تنشأ الأسطورة قبل الطقس وليس بعده، كما يذهب سميث. فالأسطورة التي يجري تمثيلها في المرحلة الوسيطة المشتملة على السحر والدين، تنشأ في مرحلة الدين؛ ومن ثم تسبق الطقس الذي تطبق عليه. وفي هذه المرحلة الوسيطة، تفسر الأسطورة الهدف من الطقس - عند فريزر وكذلك سميث - ولكن من البداية. فتمنح الأسطورة الطقس معناه الأصلي والوحيد. ودون أسطورة الموت والبعث لذلك الإله، لم يكن موت وبعث إله النبات سيمثلان طقوسيا. في المقابل، تعتبر الأسطورة في منظور فريزر، وكذلك تايلور، تفسيرا للعالم - لمراحل الإنبات - وليست فقط تفسيرا للطقس، كما يذهب سميث. وفي رأي فريزر، على عكس تايلور، لا يعتبر التفسير سوى وسيلة للتحكم في العالم؛ لذا تعتبر الأسطورة النظير القديم والبدائي للعلم التطبيقي أكثر منها نظيرا للنظرية العلمية، كما هي الحال مع تايلور. وبينما قد لا يزال الطقس تطبيقا للأسطورة، تعتبر الأسطورة تابعة للطقس.
لا تتمثل أفدح أوجه القصور في النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر في إعاقة الأساطير والطقوس الحديثة - كما هي الحال مع سميث - بل في قصر النظرية الطقوسية للأسطورة القديمة والبدائية على الأساطير التي تدور حول إله النبات، وخاصة على الأساطير التي تدور حول موت وبعث ذلك الإله.
وفيما يناقش سميث حالة أدونيس مناقشة عابرة، يجعل فريزر أدونيس مثالا رئيسا للنمط الخرافي والطقوسي لإله النبات الذي يموت ثم يبعث. وسواء أكان فريزر متسقا أم لا، فإنه يضع أدونيس فعليا في جميع مراحل الثقافة الثلاثة التي تسبق ظهور العلم: وهي مراحل السحر، والدين، ومرحلة السحر والدين مجتمعين.
يضع فريزر حدائق أدونيس النباتية الشهيرة في مرحلته السحرية الأولى. وفي هذه المرحلة، يؤمن البشر بأن القوى غير الشخصية، وليس الآلهة، هي التي تتسبب في الأحداث في العالم المادي. كان اليونانيون القدماء ينثرون بذورهم على الأرجح في أواني زرع مملوءة بالطين؛ ليس لإقناع أحد الآلهة بإنمائها، ولكن لإجبار الأرض نفسها غير الشخصية على النمو، عن طريق قانون التشابه السحري: «إذ يفترض الجهلاء أنهم، بتقليد الفعل الذي يرغبون في تحقيقه، يسهمون بالفعل في تحقيقه.» ونظرا لعدم وجود آلهة في هذه المرحلة، من الصعب أن يكون أدونيس إله النبات. ولكن يعتبر أدونيس هو النبات نفسه؛ فلا يرمز النبات إلى أدونيس، بل أدونيس نفسه هو الذي يرمز إلى النبات.
في مرحلة فريزر الدينية الثانية، تحل الآلهة محل القوانين السحرية كمصدر للأحداث في العالم المادي، ومن ثم يصبح أدونيس، على الأقل على المستوى الحرفي، إله النبات. وباعتباره إلها للنبات، تطلب منه المحاصيل، أو يمكن أن يدعم هذا الطلب من خلال طاعة الأوامر الطقوسية والأخلاقية للإله. ويكتب فريزر نفسه أن طقوس الحداد كانت تمارس حزنا على أدونيس؛ ليس للرجوع عن موته، كما هي الحال في المرحلة التالية، بل لطلب الغفران منه له. فلم يمت أدونيس، كما هي الحال في المرحلة التالية، لأنه هبط إلى العالم السفلي، وإنما لأن البشر قتلوه بقطع ودهس وطحن الذرة؛ النبات الذي يرمز إليه. وبدلا من «التحلل الطبيعي للنباتات بصورة عامة في ظل حرارة فصل الصيف أو برودة فصل الشتاء»، فإن موت أدونيس هو «تدمير الذرة بعنف من جانب الإنسان.» ولكن لا يزال أدونيس حيا للدرجة التي تمكنه من معاقبة البشر، وهو شيء تسعى طقوس الغفران لتفاديه. ولأن أدونيس يموت بسبب موت النباتات نفسها، فإن الإله هنا، كما في المرحلة الأولى، ليس إلا استعارة تشير للعنصر الذي يتحكم فيه على الأرجح. وتارة أخرى نؤكد أن ما يحدث للنباتات يتعرض له أدونيس.
شكل 4-1: رقصة خصوبة الذرة الخضراء لقبيلة ميناتاري في أمريكا الشمالية، صورة رسمت بريشة جورج كاتلين في القرن التاسع عشر.
1
أما في مرحلة فريزر الثالثة التي تجمع بين السحر والدين، أخيرا يبدو أدونيس إلها. فإذا كان - في المرحلة الثانية - ما يحدث للنبات ينعكس على أدونيس، فإن ما يحدث في هذه المرحلة لأدونيس ينعكس من ثم على النبات. ويشير موت أدونيس إلى هبوطه إلى العالم السفلي ليقيم مع برسيفوني. ويفترض فريزر أن أدونيس أضعف من أن يرتقي بنفسه، سواء أكان يرغب في ذلك أم لا، ومن خلال تمثيل انبعاثه، يسهل البشر ارتقاءه بنفسه. ومن جانب تستعين عملية التمثيل بقانون التشابه السحري، ومن جانب آخر لا تجبر عملية التمثيل أدونيس، كما هي الحال في المرحلة الأولى، على شيء بل تدعمه، وهو الذي بالرغم من حالة موته الراهنة لا يزال يتمتع بما يكفي من الصحة لإحياء ذاته، وإن كان ذلك في ظل وجود مساعدة. وفي هذه المرحلة، لا تزال الآلهة تتحكم في العالم المادي، إلا أن تأثيرهم عليه فطري وليس متعمدا. ويعتبر تمثيل انبعاث أدونيس حافزا لانبعاثه الفعلي، ومن خلاله تبث الروح في النباتات من جديد.
ولكن حتى في هذه المرحلة، يتمثل الملمح الوحيد لحياة أدونيس الذي عرضه فريزر في شيء يوازي مراحل عملية الإنبات سنويا، وهو موته وانبعاثه، مع تجاهل الجوانب «غير الطبيعية» الأخرى في حياته بدءا من ميلاده الناتج عن زنا المحارم. والأدهى من ذلك أن موت أدونيس النهائي قد تم تجاهله، وهو موت غير طبيعي وقع بالقتل، بل بالقتل العمد. وإذا كانت حياة أدونيس ترمز إلى مراحل عملية الإنبات، يجب أن يستمر أدونيس في الموت والانبعاث، وهو ما لا يحدث. ولكن يتغلب أدونيس مهما كانت الوسائل على الموت سنويا في رواية أبولودورس، وإن كان ذلك لا يحدث إلى الأبد. وفي رواية أوفيد، لم يمت أدونيس قط من قبل ثم بعث، ولم تشعر فينوس بكل هذا الأسى لأن أدونيس مات ولم يعد مرة أخرى للحياة. كيف إذن ترمز حياته القصيرة الفانية إلى عملية الانبعاث الأبدي؟ وكيف يمكن أن يكون إلها؟ لا يجيب فريزر عن ذلك أبدا.
أخيرا، يعلن فريزر، الذي لا ينتبه إلى عدم الاتساق في طرحه، في الوقت ذاته عن أن حياة أدونيس في المرحلة التي تجمع بين السحر والدين ترمز إلى مراحل عملية الإنبات نفسها: فأسطورة قضاء أدونيس جزءا من السنة في العالم السفلي:
تفسر تفسيرا بسيطا وطبيعيا بافتراض أنه يمثل النبات، خاصة نبات الذرة، الذي يبقى مدفونا تحت الأرض نصف السنة، ثم يعاود الظهور فوق الأرض في النصف الثاني. (فريزر، «الغصن الذهبي»، ص392)
يثبت أدونيس الآن أنه ليس السبب في مصير النبات، بل لا يمثل سوى استعارة تشير لهذا المصير، لتوضيح أن ما يحدث للنبات في المرحلة الثالثة وكذلك المرحلة الثانية ينعكس على أدونيس، وليس العكس. وليس من السهولة بمكان استيضاح كيف تعد النظرية الطقوسية للأسطورة ممكنة في حال عدم وجود إله يمكن إحياؤه طقوسيا، وعندما لا يكون هناك سوى وصف - وليس تفسيرا - لمراحل الإنبات. وفي النظر إلى الميثولوجيا على أنها وصف رمزي للعمليات الطبيعية، يشبه فريزر مجموعة من المنظرين الألمان في القرن التاسع عشر يعرفون عن حق بأنهم خبراء في الأسطورة الطبيعية.
جين هاريسون وإس إتش هوك
شهدت النظرية الطقوسية للأسطورة المرحلة التالية على يد جين هاريسون (1850-1928) وإس إتش هوك (1874-1968)، الرائدين الإنجليزيين للمجموعة الرئيسة الأولى من علماء النظرية الطقوسية للأسطورة: دارسي الحضارتين اليونانية والرومانية ودارسي الكتاب المقدس. والجدير بالذكر أن رؤى جين هاريسون وإس إتش هوك متقاربة؛ فكلاهما يتبع النسخة الأولى من النظرية الطقوسية للأسطورة - التي وضعها فريزر - في جزء كبير منها، على الرغم من أن هوك، الذي يتميز بعدم اتساقه مثل فريزر، يتبع أحيانا نسخته الثانية. ولكن على عكس فريزر، تفترض هاريسون وهوك عدم وجود مراحل مختلفة تسبق مرحلة السحر والدين. ويبدأ كلاهما بمرحلة تكافئ مرحلة السحر والدين مجتمعين في نظرية فريزر . ومثل فريزر، يعتبر كلاهما أن النظرية الطقوسية للأسطورة هي النظير القديم والبدائي للعلم الحديث، الذي لا يحل محل النظرية الطقوسية للأسطورة فحسب، بل يحل محل الأسطورة والطقس في حد ذاتهما. والأهم من ذلك أن هاريسون وهوك ينهجان نهج فريزر في استعدادهما للنظر إلى الأديان السماوية عالية المقام حينئذ - أثناء حقبة اليونان الهيلينية وإسرائيل المذكورة في الكتاب القدس - كأديان بدائية. وكانت ولا تزال في الغالب الرؤية التقليدية والدينية تقول بأن اليونان وإسرائيل تقفان في مرتبة تعلو المساعي الجهولة والسحرية التي تبذلها الدول المجاورة لهما.
بتجاوز فريزر وهوك، تضيف هاريسون إلى طقس تجديد الإنبات طقس الابتداء أو التقديم إلى المجتمع، حتى إنها ترى أن الطقس الأصلي، بينما يمارس سنويا، فقد كان ابتدائيا بالكامل، في ظل عدم وجود أسطورة. إذن فهي ترى - وكذلك سميث - أن الطقس يسبق الأسطورة، وكان الإله مجرد صورة ذهنية للابتهاج الناتج عن ممارسة الطقس؛ بناء عليه، صار الإله إله النبات، ونشأت أسطورة الموت والانبعاث لذلك الإله، وأصبح طقس الابتداء طقسا زراعيا أيضا. وكما يموت المبتدئون رمزيا ثم يولدون من جديد كأعضاء ناضجين في المجتمع، ينطبق الأمر على إله النبات، وبالتالي تموت المحاصيل حرفيا ثم تولد من جديد. وفي النهاية، يتلاشى الجانب الابتدائي للطقس المجمع، ولا يبقى سوى طقس فريزر الزراعي.
في مقابل سميث، تنفي هاريسون وهوك نفيا تاما أن تكون الأسطورة تفسيرا للطقس. وعلى حد قول هاريسون: «لا تعتبر الأسطورة محاولة لتفسير الحقائق أو الطقوس.» ولكن في حقيقة الأمر لا يختلف كل منهما عما يقصده فريزر؛ فلا تزال الأسطورة تفسيرا لما يحدث في الوقت الراهن في الطقس، وليس تفسيرا لطريقة نشوء الطقس. وتعتبر الأسطورة مثل الصوت في فيلم، أو السرد في التمثيل الإيمائي الصامت. وعن ذلك كتب هوك: «بصورة عامة، يتألف الجزء المنطوق من الطقس من وصف لما يجري فعله ... وهذا هو المعنى الذي يستخدم به مصطلح «أسطورة» في مناقشتنا»، بينما تصيغ هاريسون العبارة بطريقة جامعة وموجزة في قولها: «يتمثل المعنى الأساسي للأسطورة ... في العلاقة التبادلية المنطوقة بين الطقس الممثل والشيء المنجز.»
تمضي هاريسون وهوك لأبعد بكثير من فريزر في طرح أن قوة الأسطورة، بينما تعد في وجهة نظر فريزر درامية بحتة، فهي في رأيهما سحرية بالكامل. وكتب هوك: «تمتلك الكلمة المنطوقة ... قوة الفعل.» بينما كتبت هاريسون: «تتحول الأسطورة عمليا إلى قصة ذات معنى وقوة سحرية.» وفي هذه العبارة نرى كلمة سحر. ويشير علماء النظرية الطقوسية للأسطورة المعاصرون مثل دارس الحضارة اليونانية والرومانية القديمة الأمريكي جريجوري ناجي إلى طبيعة الأدب الشفهي، في مقابل الأدب المكتوب، للذهاب إلى أن الأسطورة كانت في الأصل مرتبطة ارتباطا وثيقا بالطقس، أو الأداء، ما يطبعها هي نفسها بالطابع الطقوسي:
بمجرد النظر إلى الأسطورة كأداء، نستطيع أن نرى الأسطورة نفسها على أنها شكل من أشكال الطقس: وبدلا من التفكير في الأسطورة والطقس بصورة منفصلة وكمجالين متقابلين، يمكن النظر إليهما باعتبارهما متسلسلة تمثل الأسطورة فيها ملمحا لفظيا للطقس، بينما يمثل الطقس ملمحا فكريا للأسطورة. (جريجوري ناجي، «هل يمكن إنقاذ الأسطورة؟»، ص243)
ولكن ليس من الواضح على الإطلاق كيف يختلف هذا الموقف من الأسطورة والطقس عن موقف هوك وهاريسون.
تطبيق النظرية
طبق دارسو الحضارة اليونانية والرومانية القديمة: جيلبرت موراي، وإف إم كورنفورد، وإيه بي كوك، الإنجليزيون أو المقيمون في إنجلترا؛ نظرية هاريسون على ظواهر يونانية قديمة مثل: التراجيديا، والكوميديا، والألعاب الأوليمبية، والعلم، والفلسفة. ويجري تفسير هذه الظواهر التي تبدو علمانية، بل ومعادية للدين، كصور تعبير كامنة تشير إلى أسطورة موت وانبعاث إله النبات.
ومن بين دارسي الكتاب المقدس، اختلف السويدي إيفان إنجل، والويلزي أوبري جونسون، والنرويجي سيجموند موينكل حول مدى التزام إسرائيل القديمة بالنمط الطقوسي للأسطورة؛ فيرى إنجل التزاما من جانب إسرائيل بذلك النمط أكثر مما يرى هوك الحذر، فيما يرى جونسون وخاصة موينكل التزاما أقل.
وكما فعل فريزر، طبق برونيسلاف مالينوفسكي - الذي عرضنا نظريته في الفصل
الأول - نسخته الخاصة الفعالة من النظرية على أساطير السكان الأصليين حول العالم؛ فيرى مالينوفسكي أن الأسطورة، التي يتطابق رأيه فيها مع رأي سميث، تفسر أصل الطقس، وتسبغ على الطقوس ماضيا عتيقا ومن ثم تصدق عليها. ويعتمد المجتمع على الأسطورة لتحفيز الالتزام بممارسة الطقوس. في المقابل، إذا كانت جميع الطقوس تعتمد على الأسطورة، فإن العديد من الممارسات الثقافية الأخرى، التي يعتمد عليها المجتمع، تعتمد أيضا على الأسطورة وذلك في رأي مالينوفسكي. وتمتلك المجتمعات أساطير خاصة بها؛ بناء عليه لا يتزامن وجود الأسطورة مع الطقس.
طبق ميرسيا إلياد، الذي جرى تناول نظريته في الفصل
الثالث ، صورة مشابهة من النظرية على الثقافات الحديثة والبدائية على حد سواء، وتجاوز بذلك ما قدمه مالينوفسكي. وتصدق الأسطورة في وجهة نظر إلياد على جميع أنواع الظواهر، وليس الطقوس فقط، من خلال منحها أصلا يمتد إلى أول الزمان. وفي رأي إلياد أيضا، لا يتزامن وجود الأسطورة والطقس معا. في المقابل وتارة أخرى، يتجاوز إلياد ما طرحه مالينوفسكي في التأكيد على أهمية التمثيل الطقوسي للأسطورة في تحقيق الوظيفة النهائية لها، إذ عند تمثيلها، تقوم الأسطورة مقام آلة الزمن، فتحمل المرء إلى زمن الأسطورة في الماضي ومن ثم يقترب المرء أكثر من الإله.
تطبيق النظرية على الأدب
كان أبرز التطبيقات للنظرية الطقوسية للأسطورة خارج نطاق الدين على مجال الأدب. وقد استقت هاريسون نفسها بجرأة جميع أشكال الفن - وليس الأدب وحده - من الطقس. فهي ترى أن الناس توقفوا تدريجيا عن الاعتقاد في أن محاكاة فعل ما يتسبب في حدوثه فعليا. ولكن بدلا من التخلي عن الطقس، يمارسه الناس كغاية في حد ذاته؛ فصار الطقس في حد ذاته فنا، والمثال الأبرز الذي ضربته هاريسون على ذلك هو الدراما. وقد أرجع موراي وكورنفورد، على نحو أكثر تواضعا من هاريسون، الملحمة والتراجيديا والكوميديا اليونانية بوجه خاص إلى النظرية الطقوسية للأسطورة، وطبق موراي لاحقا النظرية على أعمال شكسبير.
يشمل رواد النظرية أيضا كلا من: جيسي وستون في تطبيقها على أسطورة الكأس المقدسة، وإي إم باتلر على أسطورة فاوست، وسي إل باربر على كوميديا شكسبير، وهربرت وايسنجر على التراجيديا التي قدمها شكسبير وعلى التراجيديا كجنس أدبي، وفرانسيس فيرجسون على التراجيديا، واللورد رجلان على أساطير الأبطال وعلى الأدب ككل، ونورثروب فراي وستانلي إدجار هيمان على الأدب بصورة عامة. وكنقاد أدبيين، لم يهتم علماء النظرية الطقوسية للأسطورة هؤلاء بوضوح بالأسطورة نفسها قدر ما اهتموا بالأصل الخرافي للأدب؛ ولذا تفسر الأعمال الأدبية على أنها منبثقة من الأساطير بمجرد ارتباطها بالطقوس. ويرجع الأدب، في رأي النقاد الأدبيين هؤلاء الذين يدينون بالفضل إلى فريزر - وكذلك أغلبية النقاد - إلى السيناريو الثاني للنظرية الطقوسية للأسطورة عند فريزر. فتصبح عبارة «يجب أن يموت الملك» هي العبارة الإيجازية المألوفة لدى مستمعيها.
ويرى علماء النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة أن الأسطورة تصير أدبا عندما تنفصل عن الطقس. وتعتبر الأسطورة المتصلة بالطقس أدبا دينيا، فيما تعتبر الأسطورة المنفصلة عن الطقس أدبا علمانيا أو أدبا صرفا. وعند ربطها بالطقس، يمكن أن تؤدي الأسطورة أيا من الوظائف الفعالة التي يعزيها علماء النظرية الطقوسية إليها. وبتجريدها من الطقس، تختزل الأسطورة إلى مجرد شروح.
لا تدور النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة حول الأسطورة والطقس أنفسهما، الذي يجري افتراضهما، بل حول أثرهما على الأدب. في المقابل، هي لا تعتبر نظرية عن الأدب أيضا؛ إذ إنها لا تقبل اختزال الأدب إلى أسطورة، وإنما تعتبر النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة تفسيرا لتحول الأسطورة والطقس إلى أدب، وهو ما سنتناوله بمزيد من التفصيل في الفصل التالي.
رينيه جيرار
في كتاب «البطل»، الذي سوف نناقشه بمزيد من التفصيل في الفصل التالي، يوسع اللورد رجلان نطاق سيناريو فريزر الثاني من النظرية الطقوسية للأسطورة، من خلال تحويل الملك الذي يموت من أجل الجماعة إلى بطل. وفي كتاب «العنف والمقدس» وفي أعمال أخرى كثيرة لاحقة، يقدم الناقد الأدبي، فرنسي المولد والمقيم في أمريكا، رينيه جيرار (ولد عام 1923) نسخة معدلة ساخرة من نظرية رجلان الذي لم يشر إليه قط. وبينما لا يجد بطل رجلان مانعا في الموت من أجل الجماعة، يقتل بطل جيرار أو تنفيه الجماعة؛ نظرا لما سببه لهم من فواجع. ويعتبر «البطل» في البداية مجرما يستحق الموت، ولاحقا فقط يتحول الشرير إلى بطل يموت، كما في طرح رجلان، مضحيا بنفسه من أجل الجماعة. ويذكر رجلان وجيرار أوديب كمثال نموذجي على ما يرميان إليه. (ولكن لا يجعل ذلك من أيهما فرويديا؛ فكلاهما يرفض فرويد رفضا شديدا.) وفي رأي جيرار، فإن تحول أوديب من المنفي البغيض حيث كان في مسرحية سوفوكليس «أوديب ملكا» إلى منعم موقر في مسرحية سوفوكليس «أوديب في كولونس»؛ نموذج مثالي على تحول المجرم إلى بطل.
غير أن هذا التغيير لا يعتبر في رأي جيرار سوى النصف الثاني من العملية. ويتمثل النصف الأول في التغير من ضحية بريئة إلى مجرم. في الأصل، يتفجر العنف بين أفراد الجماعة، ويرجع السبب في ذلك إلى الميل إلى تقليد الآخرين، وهو شيء فطري في الطبيعة الإنسانية، ومن ثم الرغبة في الحصول على الأشياء نفسها التي يملكها من يجري تقليدهم. فيؤدي التقليد إلى المنافسة التي تؤدي إلى العنف. وفي محاولة مضنية لإنهاء العنف، تنتقي الجماعة عضوا بريئا لإلقاء ملامة وقوع الاضطرابات عليه. وقد يكون «كبش الفداء» هذا أي شخص، وربما يكون أكثر الأشخاص الذين لا حول لهم ولا قوة أو أعلى الأشخاص مقاما، بما في ذلك الملك، كما هي الحال مع أوديب. وعادة ما تقتل الضحية، كما هي الحال مع أوديب، أو تنفى. ويعتبر القتل هو التضحية الطقوسية. وبدلا من «توجيه» الطقس، كما عند فريزر، تنشأ الأسطورة في رأي جيرار «بعد» القتل «لتبريره». وبينما تنبثق الأسطورة عن الطقس، كما عند سميث، فإنها تنبثق عنها «للتبرير» وليس لتفسير الطقس، كما هي عند سميث. فتحول الأسطورة كبش الفداء إلى مجرم يستحق الموت، ثم تحول المجرم إلى بطل مات طواعية لصالح الجماعة.
قد تبدو نظرية جيرار، التي تتمحور حول مكانة البطل في المجتمع، غير قابلة للتطبيق إلى حد كبير على أسطورة أدونيس؛ فأدونيس لا يموت طواعية أو إيثارا. وتبدو العوالم التي يعيش فيها - الغابات والعالم السفلي - بعيدة كل البعد عن المجتمع. وفي الفصل
الثامن ، سوف تفسر هذه الأسطورة من منظور اجتماعي، كما سيقدم تفسير جيرار لأسطورة أوديب.
فيما لا يورد جيرار ذكر رجلان على الإطلاق، يشير إلى فريزر بصورة متكررة، قاصرا طرحه على السيناريو الثاني من نظريته الطقوسية للأسطورة، مما جعله يثني عليه لإدراكه الطقس البدائي الرئيس لقتل الملك وينتقده لعدم إدراكه الأصل والوظيفة الحقيقية للقتل. ويرى فريزر أن التضحية هي التطبيق البريء لتفسير جهول قبل علمي للعالم؛ إذ يقتل الملك ويحل محله شخص آخر بحيث يحتفظ أو يستعيد إله الإنبات صحته، فتسكن روح هذا الإله في الملك الجديد. ولا تعتبر وظيفة التضحية زراعية بصورة كاملة. ولا توجد كراهية للضحية الذي يؤدي واجبه كملك ويحتفى به عبر أحداث الأسطورة لتضحيته بذاته. ومن منظور جيرار، ينخدع فريزر بعملية الإخفاء الخرافية. ويعتبر الأصل والوظيفة الحقيقية للطقس، وبالتالي الأسطورة، اجتماعية أكثر منها زراعية، مثلما سنرى في الفصل
الثامن .
والتر بوركرت
ربما كان أول من خفف من رسوخ الرأي القائل بأن الأساطير والطقوس منفصلان هو عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي كلايد كلوكهون. وقد تجاوز دارس الحضارة اليونانية والرومانية القديمة الألماني والتر بوركرت (ولد في عام 1931) ما وصل إليه كلوكهون، ليس فقط في السماح بالاستقلال الذي تتمتع به الأسطورة والطقس في الأصل، بل في افتراضه بالكامل. ويرى بوركرت أنه عندما يجتمع الاثنان، لا يؤديان وظيفة مشتركة فقط - كما يفترض كلوكهون - بل يدعمان بعضهما البعض. فالأسطورة تدعم الطقس من خلال منح السلوك الإنساني الصرف أصلا إلهيا، كمثل قول: افعل هذا لأن الآلهة فعلته أو تفعله. من الوجهة المقابلة، يدعم الطقس الأسطورة من خلال تحويل قصة عادية إلى سلوك موصى به من أكثر السلوكيات التزاما، كمثل قول: افعل هذا من باب القلق، إن لم يكن العقاب. وبينما تخدم الأسطورة في رأي سميث الطقس، يخدم الطقس في رأي بوركرت الأسطورة بقدر متساو.
وشأنه شأن جيرار، يرجع بوركرت جذور الأسطورة إلى التضحية وجذور التضحية إلى العدوان، لكنه لا يقصر التضحية على التضحية الإنسانية، بل يرجعها إلى الصيد - التعبير الأصلي عن العدوان. إضافة إلى ذلك، لا تعمل الأسطورة من منظور بوركرت على إخفاء حقيقة التضحية، كما هي الحال عند جيرار، بل على العكس تعمل على الحفاظ عليها، ومن ثم الإبقاء على آثارها النفسية والاجتماعية. أخيرا، لا يربط بوركرت بين الأساطير وطقوس التضحية فحسب بل إنه، مثل هاريسون، يربط بينها وبين طقوس الابتداء. فتؤدي الأسطورة في هذا السياق الوظيفة الاجتماعية نفسها التي يؤديها الطقس .
شكل 4-2: صيد الخنزير الكاليدوني من تشيرفيتيري، كأس يوناني صنع في مقاطعة لاكونيا، القرن السادس قبل الميلاد.
2
ويعتبر الطقس بالنسبة إلى بوركرت «كأنه» سلوك. ولنضرب مثلا بنموذجه المحوري؛ فلا يعتبر «الطقس» من وجهة نظره تجسيدا للعادات والشكليات التي تتضمنها عملية الصيد الفعلية بل هو صيد درامي. ولا تتمثل الوظيفة، إذن، في توفير الغذاء، كما هي الحال عند فريزر؛ إذ ينشأ الطقس الحق فقط بعد حلول الزراعة محل الصيد كمصدر رئيس للغذاء:
فقد الصيد وظيفته الأساسية بظهور الزراعة قبل نحو عشرة آلاف عام مضت. في المقابل، صار طقس الصيد من الأهمية بمكان حتى صار لا يمكن التخلي عنه. (بوركرت، «البنية والتاريخ في الميثولوجيا والطقوس اليونانية»، ص55)
كانت الطبيعة المجتمعية للصيد الفعلي وللصيد الطقوسي فيما بعد تعمل على التخفيف من حدة القلق حيال عدوانية المرء وفنائيته، وفي الوقت نفسه توطد الروابط بين المشاركين فيه. وكانت هذه الوظائف نفسية واجتماعية، وليست زراعية.
إذن تمثل أسطورة أدونيس حالة تهكمية لطرح بوركرت، فلا يكتفي أدونيس بالصيد وحده بدلا من الصيد في جماعة، بل إنه لا يعتبر صيادا في الأساس، دع عنك أنه شخص ينهكه القلق. وفيما يتعلق بأدونيس، يعتبر الصيد رياضة أكثر منه مسألة حياة أو موت؛ بناء عليه، من الصعب أن يساعد الصيد أدونيس نفسيا أو اجتماعيا. وفي المقابل، لا تزال قصة أدونيس البطولية تؤدي وظيفة تحذيرية للآخرين، كما سنناقش ذلك في الفصل
الثامن .
هوامش
الفصل الخامس
الأسطورة والأدب
أخذت العلاقة بين الأسطورة والأدب أشكالا متباينة، وكان أبرز هذه الأشكال استخدام الأسطورة في الأعمال الأدبية. ومن الموضوعات المتكررة في المناهج الأدبية، المشي على خطى الشخصيات والأحداث والموضوعات الكلاسيكية في الأدب الغربي تباعا؛ ابتداء من آباء الكنيسة، الذين استعانوا بالميثولوجيا الكلاسيكية فيما كانوا يحاربون الوثنية، ومرورا ببترارك، وبوكاشيو، ودانتي، وتشوسر، وسبنسر، وشكسبير، وميلتون ، وجوته، وبايرون، وكيتس، وشيلي، ثم جويس، وإليوت، وجيد، وكوكتو، وأنويه، ويوجين أونيل. وجرى تطبيق الأسلوب نفسه مع أساطير الكتاب المقدس؛ إذ كان يتم قراءة مجموعتي الأساطير بالتبادل حرفيا ورمزيا، وكان يعاد ترتيب أحداثهما، بل وسردهما مجددا بصورة مختلفة جذريا. ويمكن العثور على هذه الأساطير في جميع أنواع الأدب، بما في ذلك الموسيقى والفيلم. وقد استخدم فرويد الشخصيتين أوديب وإلكترا للإشارة إلى أعمق الدوافع الإنسانية، كما اقترض من الأطباء النفسيين شخصية نارسيسوس للإشارة إلى حب الذات.
يحقق شيوع الميثولوجيا الكلاسيكية أو الوثنية إنجازا يفوق ما تحققه ميثولوجيا الكتاب المقدس؛ إذ استمرت الميثولوجيا الكلاسيكية بعد انهيار الدين الذي كانت جزءا أصيلا منه قبل ألفي عام. في المقابل، استمرت ميثولوجيا الكتاب المقدس في الوجود بدعم من الوجود شبه المهيمن للدين الذي تظل جزءا منه. وفي الواقع، حفظت الميثولوجيا الكلاسيكية من خلال الثقافة المتصلة بالدين الذي قضى على الدين الكلاسيكي. وحتى وقت قريب، كان لمصطلح «الوثنية» دلالة سيئة. ويعد استمرار الميثولوجيا الكلاسيكية - فيما لم يستمر الدين الذي كانت جزءا منه - رؤية عكسية ساخرة من رؤية تايلور حول مصير كليهما، على الرغم من أن تايلور يشير إلى استمرار المسيحية، وليس الوثنية، وإلى استمرار المسيحية في ظل العلم الحديث، وليس في ظل أي دين منافس.
الأصل الخرافي للأدب
يتمثل أحد الأشكال الأخرى للعلاقة بين الأسطورة والأدب - وهو ما أشرنا إليه بالفعل في الفصل السابق - في نشوء الأدب من الأسطورة، وهو أسلوب كان من رواده جين هاريسون وزميلاها العالمان في الحضارة اليونانية والرومانية القديمة جيلبرت موراي وإف إم كورنفورد. ولنضرب بعض الأمثلة الآن على هذا الأسلوب.
في كتاب «من الطقس إلى الرومانسية»، طبقت عالمة القرون الوسطى الإنجليزية جيسي وستون (1850-1928) النسخة الثانية من نظرية فريزر الطقوسية للأسطورة على أسطورة الكأس المقدسة. وقد اتبعت منهج فريزر وذهبت إلى أن خصوبة الأرض، في نظر القدماء والبدائيين على حد سواء، كانت تعتمد على خصوبة الملك نفسه، الذي كان يسكنه إله النبات. ولكن بينما كان الطقس الرئيس في رأي فريزر هو استبدال ملك مريض، كان الهدف من عملية البحث عن الكأس المقدسة هو «إعادة الشباب» للملك في رأي وستون. وكذلك تضيف وستون بعدا أثيريا روحيا يتسامى على نموذج فريزر؛ فيتضح أن الهدف من عملية البحث عن الكأس المقدسة هو تحقيق التوحد الروحي مع الإله، وليس فقط الحصول على الغذاء من الإله. وكان ذلك البعد الروحي للأسطورة هو الذي أوحى إلى تي إس إليوت للرجوع إلى وستون في نظم «الأرض الخراب». وبينما لا تختزل وستون أسطورة الكأس المقدسة إلى أسطورة وطقس بدائيين، فإنها ترجعها إليهما. وتعتبر الأسطورة نفسها أدبا، لا أسطورة. ولأن السيناريو الثاني من النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر لا يدور حول تمثيل أية أسطورة لإله النبات، بل يدور حول حالة الملك الحاكم؛ فإن الأسطورة التي تتمخض عنها الأسطورة لا تمثل حياة إله كأدونيس، بل تمثل حياة ملك الكأس المقدسة نفسه.
في كتاب «فكرة مسرح»، طبق فرانسيس فيرجسون (1904-1986)، وهو ناقد مسرحي أمريكي مرموق، النسخة الثانية من النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر على التراجيديا ككل كجنس أدبي. ويرى فيرجسون أن قصة المعاناة والخلاص من الخطيئة التي يعيشها بطل المأساة تستقى من نسخة نظرية فريزر الخاصة بقتل الملك واستبداله. على سبيل المثال، يجب على أوديب، ملك طيبة، التضحية بعرشه، وليس بحياته، لصالح رعاياه. ولا يتوقف البلاء إلا من خلال تخلي الملك عن عرشه. ولكن في رأي فيرجسون، وكذلك وستون، لا يعتبر التجديد المطلوب بدنيا قدر ما هو روحي، وكما يرى فيرجسون، يسعى أوديب إلى التجديد لنفسه وللآخرين.
يهتم فيرجسون أكثر من معظم علماء النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة الآخرين بالناتج؛ أي الدراما، قدر ما يهتم بالمصدر؛ أي الأسطورة والطقس. حتى إنه ينتقد هاريسون، ومواري بصورة خاصة، بسبب تفسير معنى التراجيديا من منظور قتل الملك الذي طرحه فريزر بدلا من تفسيره مثلا من منظور موضوع التضحية بالذات. وفي رأي فيرجسون، وكذلك وستون، يقدم السيناريو الذي تطرحه نظرية فريزر الخلفية للأدب باعتباره أسطورة وطقسا وليس أدبا.
في كتاب «تشريح النقد»، يرى الناقد الأدبي المشهور نورثروب فراي (1912-1991) أن جميع أجناس الأدب - وليس جنسا واحدا - مستقاة من الأسطورة، خاصة أسطورة حياة البطل. ويربط فراي بين دورة حياة البطل ودورات أخرى عديدة، منها الدورة السنوية للفصول، والدورة اليومية للشمس، والدورة الليلية للحلم والاستيقاظ. ويستلهم فراي الربط بين دورة حياة البطل ودورات الفصول من فريزر، وربما يستلهم الارتباط مع دورة الشمس من ماكس مولر، وهو ما لا يعزيه أبدا إليه، ويستلهم الارتباط مع الحلم والاستيقاظ من يونج، وربما يستلهم ارتباط الفصول مع البطولة من رجلان - الذي سنتناول إسهامه بعد قليل - غير أن فراي لم يعز إلى رجلان أيضا هذا الارتباط. ويقدم فراي نمطه البطولي الخاص الذي يطلق عليه «البحث-الأسطورة»، وهو يتألف من أربعة مراحل رئيسة: ميلاد البطل، ونصره، وعزلته، وهزيمته.
يقابل كل جنس رئيس في الأدب في وقت واحد فصلا من فصول السنة، ومرحلة في اليوم، ومرحلة في الوعي، والأدهى من كل ذلك مرحلة في الأسطورة البطولية؛ فتقابل الرومانسية في وقت واحد الربيع، وشروق الشمس، والاستيقاظ، وميلاد البطل؛ وتقابل الكوميديا الصيف، ومنتصف النهار، والوعي اليقظ، وانتصار البطل؛ وتقابل التراجيديا الخريف، وغروب الشمس، وأحلام اليقظة، وعزلة البطل؛ ويقابل الهجاء الشتاء، والليل، والنوم، وهزيمة البطل. ولا تقتصر الأجناس الأدبية على مقابلة الأسطورة البطولية فقط، بل تستقي منها أيضا. وتستقي الأسطورة نفسها من الطقس، من نسخة النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر التي يقتل فيها الملوك ويستبدلوا.
ومثل معظم علماء النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة، لا يختزل فراي الأدب إلى أسطورة. على النقيض من ذلك، فهو يصر بحزم أكثر من غيره على استقلال الأدب. ومثل فيرجسون، لا ينتقد فراي موراي وكورنفورد على تنظيرهم حول الأصل الطقوسي الخرافي للتراجيديا (موراي) والكوميديا (كورنفورد) - وهو موضوع غير أدبي - بل على تفسير معنى كليهما باعتباره تمثيلا لسيناريو فريزر من النظرية الطقوسية للأسطورة التي ترى في الأسطورة نموذج قتل الملك، وهو الموضوع الأدبي.
على الجانب الآخر، يستعين فراي بفريزر ويونج لمساعدته في استخلاص معنى الأدب، وليس أصله فقط؛ وذلك لأنه يعتبر أعمالهما الرئيسة أعمال نقد أدبي ولا تقع في صميم أعمال الأنثروبولوجيا أو علم النفس حصريا:
إن الإثارة التي يخلقها كتاب «الغصن الذهبي» وكتاب يونج حول رموز الرغبة الجنسية [«رموز التحول» (أعمال يونج المجمعة، المجلد الخامس)] في نفوس النقاد الأدبيين ... تعتمد ... على حقيقة أن هذه الكتب تعتبر بصورة أساسية دراسات في النقد الأدبي ... ولا يدور كتاب «الغصن الذهبي» حول ما فعله الناس في زمن سحيق بدائي، بل حول ما يفعله الخيال الإنساني عندما يحاول التعبير عن نفسه تجاه الأسرار الكبرى؛ أسرار الحياة والموت والحياة الآخرة. (فراي، «أنماط الأدب الأصلية»، ص17؛ «رمزية اللاوعي»، ص89)
بالمثل، «لا يعتبر» كتاب يونج «علم النفس والخيمياء» (أعمال يونج المجمعة، المجلد الثاني عشر)، الذي ينتقيه فراي أيضا، «مجرد كتاب مقبول يقدم ما يشبه العلم الميت [الخيمياء] وأحد الكتب الكثيرة التي تنتمي إلى مدارس علم النفس بفيينا، بل يبين هذا الكتاب قواعد الرمزية الأدبية، التي يعدها كل طلاب الأدب الجادين من الأهمية بمكان وآسرة للغاية.»
ولا شك أن فراي يمضي بعيدا في توصيف فريزر ويونج على أنهما في الأصل جامعا أساطير أكثر من كونهما منظرين. ويهدف كل من فريزر ويونج إلى بيان أصل الأسطورة ووظيفتها، وليس فقط معناها، كما يقدمان «القواعد» الذي يعرضانها كبراهين، وليس كمجموعة من الرموز. ويزعم فريزر وقوع عملية قتل الملك الطقوسية في الواقع، حتى لو جرى التخفيف منها لاحقا بجعلها مجرد دراما. ويزعم يونج أن الأنماط الأصلية موجودة بالفعل في العقل، بل وفي العالم الواقعي.
ونظرا لأن فراي يربط بين الأسطورة والأدب ربطا وثيقا، دون اختزال الأدب إلى أسطورة، فإن نقده الأدبي يسمى بصورة ملتبسة «نقد الأسطورة»، الذي يعتبر هو أحد أكبر ممارسيه. بالمثل، يطلق على نقده الأدبي على نحو شائع «نقد الأنماط الأصلية»؛ حيث إنه في إطلاق مصطلح «أنماط أصلية» على الأجناس الأدبية ببساطة، يشار إليه خطأ بأنه ينتمي إلى مدرسة يونج، فضلا عن الإشارة المغلوطة إليه بأنه من كبار ممارسي نقد الأنماط الأصلية. ولزيادة هذا الالتباس تعقيدا، يوجد نقاد أدبيون من أتباع يونج قلبا وقالبا يطلق عليهم بحق نقاد الأنماط الأصلية، بدءا من مود بودكين في كتاب «الأنماط الأصلية في الشعر». ومرة أخرى، لزيادة الالتباس تعقيدا أكبر، هناك نقاد جاءوا بعد يونج يطلقون على أنفسهم «علماء نفس الأنماط الأصلية» بدلا من أتباع يونج. ويعتبر أبرز أمثلة هؤلاء جيمس هلمان وديفيد ميلر، اللذان كتبا بغزارة عن الأسطورة.
في «العنف والمقدس» وأعمال أخرى، يقدم رينيه جيرار، الذي تناولنا نظريته في الفصل السابق، نموذجا للفصل الحاد بين الأسطورة والأدب. ومثل فيرجسون وفراي، ينتقد جيرار هاريسون وموراي على دمج الأسطورة والطقس مع التراجيديا، كما ينتقدهما نقدا أكبر لترويض التراجيديا. فهاريسون وموراي يريان أن دور الأسطورة يقتصر على «وصف» الطقس كما يراه فريزر، ولا تفعل التراجيديا سوى «إضفاء الصبغة الدرامية عليه». الأسوأ من ذلك أن التراجيديا تحول حدثا حقيقيا إلى مجرد موضوع. ومن منظور جيرار، «تبرر» الأسطورة الطقس، فيما «تكشف» التراجيديا، كما هي الحال في مسرحية سوفوكليس التي تدور حول أوديب، «عن الحقيقة». في المقابل، يوجه نقد جيرار نحو السيناريو الثاني من النظرية الطقوسية للأسطورة، لفريزر، الذي يقتل الملك فيه؛ ولذا يلجأ هاريسون وموراي إلى السيناريو الأول من نظرية فريزر الذي يلعب الملك فيه دور إله الإنبات فقط. ووفق تلك النسخة، بينما يموت الإله لا يموت الملك، وربما يموت الإله دون أن يقتل، كما الحال مع رحلة أدونيس السنوية إلى حادس. ويعتبر انتقاد جيرار لهاريسون وموراي، بل ولفريزر بصورة جزئية - بأنهم يتغاضون عن القتل الإنساني الذي يعتبر مكونا أساسيا في جميع التراجيديا - انتقادا جانبه الدقة بصورة مخزية.
الأسطورة كقصة
تمثل ملمح آخر للأسطورة باعتبارها أدبا في التركيز على قصة شائعة، فلا يوجد أي ذكر في طرح تايلور أو فريزر للأسطورة باعتبارها قصة، (وسأستخدم هنا مصطلح «قصة» بدلا من «سرد»؛ المصطلح الأكثر تفضيلا اليوم.) ولا يتعلق الأمر بأن تايلور أو فريزر قد ينكران اعتبار الأسطورة قصة، بل بأن كليهما يعتبران الأسطورة تفسيرا سببيا للأحداث التي تقع فتأخذ صورة قصة. وتتطلب المقابلة بين الأسطورة والعلم التقليل من أهمية الأسطورة كقصة والتأكيد على أهمية المحتوى التفسيري. وبطبيعة الحال، تقص الأسطورة بالنسبة إلى تايلور وفريزر «قصة» كيف صار هيليوس مسئولا عن الشمس، وكيف يمارس هذه المسئولية، بينما ينصب اهتمام كليهما على المعلومات نفسها، لا الطريقة التي يجري توصيلها بها. كما يتم تجاهل الاعتبارات الأدبية التقليدية، مثل التوصيف، والوقت، والصوت ، ووجهة النظر، واستجابة القارئ، كما الحال في تحليل أي قانون علمي.
ونظرا لأن الأسطورة في رأي تايلور وفريزر تهدف إلى تفسير أحداث متكررة، فإنها يمكن إعادة صياغتها كقانون. على سبيل المثال، عندما يسقط المطر، فهو يسقط نظرا لأن إله المطر قرر ذلك، وللسبب نفسه دوما. وعندما تشرق الشمس، فهي تشرق نظرا لأن إله الشمس قرر أن يستقل عربته، التي تلتصق بها الشمس، وأن يقود عربته عبر السماء، وللسبب نفسه دوما. فقدر ما يعتبر فريزر الآلهة رموزا للعمليات الطبيعية، فإن الأسطورة التي جرى إعادة صياغتها ستؤدي فقط وظيفة وصفية وليست تفسيرية: فستقول الأسطورة ببساطة إن المطر يسقط (بانتظام أم لا) أو إن الشمس تشرق (بانتظام) دون أن تقدم «سببا».
وفي رأي تايلور بصورة خاصة، الذي يفسر الأسطورة حرفيا، تعتبر الأسطورة بعيدة كل البعد عن كونها أدبا، ولا يعتبر تناول الأسطورة باعتبارها أدبا إلا تقليلا من شأنها، وذلك يحدث بتحويل مزاعم حقيقتها التفسيرية إلى مجرد توصيفات شعرية منمقة. وبينما يرى فراي وآخرون أن الأدب غير قابل للاختزال إلى أسطورة، يرى تايلور أن الأسطورة غير قابلة للاختزال إلى أدب. وبعد فترة الحداثة، التي أعيد فيها توصيف الطروح في جميع المجالات، بما فيها العلم والقانون، في صورة قصص، يعتبر عدم اكتراث تايلور بالجانب القصصي للأسطورة ملحوظا.
لا يعتبر فصل تايلور للأسطورة عن القصة أقل وضوحا عند النظر إليه من وجهة نظر الناقد الأدبي الأمريكي كينيث بيرك (1897-1993). ففي كتاب «بلاغة الدين» بصفة خاصة، يرى بيرك أن الأسطورة هي الصورة المتحولة لما وراء الطبيعة إلى قصة. وتعبر الأسطورة رمزيا، وفق الأولوية الزمنية، عما لا يستطيع البدائيون التعبير عنه حرفيا: أي أولوية ما وراء الطبيعة. وفي عبارة بيرك المشهورة، الأسطورة هي «مماطلة على الجوهر». على سبيل المثال، تضع قصة الخلق الأولى في سفر التكوين في صورة ستة أيام ما يعتبر في حقيقة الأمر «تصنيفا» للأشياء الموجودة في العالم إلى ست فئات:
بناء عليه، بدلا من قول «وذلك يتمم القسم الأول الكبير، أو التصنيف، لموضوعنا»، نقول: «وكان مساء وكان صباح يوما واحدا». (بيرك، «بلاغة الدين»، ص202)
بينما تمثل الأسطورة بالنسبة إلى بيرك في نهاية المطاف تعبيرا عن حقائق خالدة، فإنها لا تزال تعبر عن الحقائق الخالدة في صورة قصة، بحيث إذا برزت الحاجة إلى استخلاص المعنى من الشكل القصصي، لا تزال القصة هي ما يجعل الأسطورة أسطورة. ويشبه بيرك هنا ليفي-ستروس، الذي سيجرى تناول أسلوبه في التعاطي مع الأسطورة باعتبارها قصة في الفصل
السابع . وما يسميه بيرك «جوهر»، يطلق ليفي-ستروس عليه اسم «بنية».
أنماط الأسطورة
بينما تتسم الأساطير بصورة عامة بالتنوع على نحو يحول دون تحديد حبكة مشتركة بينها، فإنه جرى تقديم حبكات مشتركة لأنواع محددة من الأساطير، وهي غالبا الأساطير التي تتمحور حول بطل. وقد أظهرت أقسام الأساطير الأخرى مثل أساطير الخلق، والطوفان، والفردوس، والمستقبل، تنافرا كبيرا فيما بينها إلا في اشتراكها في ملامح كبرى. ويرى تايلور أنه بينما تدور الأساطير حول طريقة اتخاذ الإله لقرار بوقوع حدث طبيعي، فإنها لا تدور حول صورة الإله أو طريقة تصرفه. وفي تركيزه أكثر على آلهة النبات، يشير فريزر إلى أن الآلهة تموت ثم تنبعث، دون ذكر كيفية حدوث أي من ذلك.
وبالرجوع إلى عام 1871، يرى تايلور نفسه - متحولا بصورة مدهشة ووجيزة من تناول أساطير الآلهة إلى أساطير الأبطال - أنه في كثير من أساطير الأبطال، يتخلى عن البطل عند ميلاده، ثم ينقذه أشخاص أو حيوانات أخرى، ثم ينشأ ليصبح بطلا قوميا. وكان تايلور يسعى إلى وضع نمط مشترك، وليس إلى تطبيق نظريته حول أصل ووظيفة وموضوع الأساطير بصورة عامة على أساطير الأبطال. في المقابل، يلجأ تايلور إلى تناسق النمط للزعم بأنه مهما كان أصل أو وظيفة أو موضوع أساطير الأبطال، فإن هذه الجوانب جميعا يجب أن تتطابق في جميع أساطير الأبطال بحيث تبرر التشابه في الحبكة فيها:
يتيح التعامل مع الأساطير المتشابهة التي تأتي من مناطق مختلفة - من خلال تنظيمها في مجموعات مقارنة كبيرة - تعقب طريقة عمل العمليات التخيلية المتكررة في الميثولوجيا من خلال التناسق الواضح للقانون العقلي ... (تايلور ، «الثقافة البدائية»، المجلد الأول، ص282)
بينما يعزي فراي الأسطورة إلى الخيال الجامح، يعزي تايلور الأسطورة إلى الخيال الخاضع لقيود معرفية صارمة، وهو ما يعد استباقا لما يعرف اليوم باسم علم النفس الإدراكي.
في عام 1876، استخدم الأكاديمي النمساوي يوهان جورج فون هان أربع عشرة حالة للدفع بأن جميع حكايات الأبطال «الآرية» تتبع صيغة «تخل وعودة» أكثر شمولا مما في نظرية تايلور. ففي كل حالة من هذه الحالات، يولد البطل ولادة غير شرعية، وخوفا من نبوءة تحوله إلى شخص عظيم في المستقبل يتخلى عنه أبوه، وتنقذه الحيوانات، ويربيه زوجان متواضعا الحال، ويخوض غمار الحروب، ويعود إلى الديار منتصرا، ويهزم مضطهديه، ويحرر أمه، ويصبح ملكا، ويبني مدينة، ويموت شابا. وعلى الرغم من أن فون هان خبير في الأساطير التي تدور حول الشمس، فإنه يحاول، على غرار تايلور، وضع نمط لأساطير الأبطال. ولو أن فون هان تقدم في طرحه منظرا حول الحكايات، ربما كانت ستعتمد نظريته على القاسم المشترك في الحبكة.
بالمثل، في عام 1928، سعى عالم التراث الشعبي الروسي فلاديمير بروب إلى بيان أن الحكايات الخرافية الروسية تتبع حبكة مشتركة ينطلق فيها البطل في مغامرة ناجحة، وعند عودته يتزوج ويحصل على العرش. ويتفادى نمط بروب ذكر ميلاد وموت البطل. وعلى الرغم من ماركسيته، لا يحاول بروب في مرحلته الشكلية المبكرة طرح ما يزيد عما طرحه تايلور وفون هان؛ ألا وهو وضع نمط مشترك لقصص الأبطال. وتارة أخرى نؤكد على أن أي إسهام نظري من المفترض أنه كان يعتمد على القاسم المشترك في الحبكة.
من بين العلماء الذي نظروا حول الأنماط التي وضعوها لأساطير الأبطال من هم أكثر أهمية من غيرهم، أمثال المحلل النفسي الفييني أوتو رانك (1884-1939)، وجامع الأساطير الأمريكي جوزيف كامبل (1904-1987)، وعالم التراث الشعبي الإنجليزي اللورد رجلان (1885-1964). فرغم أن رانك انفصل إلى غير عودة عن سيجموند فرويد، إلا أنه وقت تأليف كتاب «أسطورة ميلاد البطل» كان تابعا له. وبينما لم يكن كامبل تابعا ليونج بصورة كاملة، إلا أنه كتب «البطل ذو الألف وجه» وكأنه توءمه الروحي. وقد كتب رجلان «البطل ذو الألف وجه» مرتديا عباءة فريزر. ولسوف نتناول أعمال رانك وكامبل تفصيلا في الفصل التالي، حول الأسطورة وعلم النفس. ولنأخذ رجلان هنا مثالا على مركزية الحبكة.
اللورد رجلان
يطبق رجلان النسخة الثانية من النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر على أساطير الأبطال. وبينما يماهي فريزر بين الملك وإله النبات، يماهي رجلان بدوره بين الملك والبطل. ومن منظور فريزر، ربما يعتبر استعداد الملك للموت من أجل الجماعة عملا بطوليا، غير أن رجلان يعطي الملك مباشرة لقب البطل. ويقدم فريزر نمطا بسيطا لأسطورة الإله؛ متمثلا في موت الإله ثم انبعاثه. بيد أن رجلان يقدم نمطا مفصلا مؤلفا من اثنتين وعشرين خطوة لأسطورة البطل، وهو نمط يطبقه بعد ذلك على إحدى وعشرين أسطورة. في المقابل، لا يقف رجلان عند هذا الحد، بل يربط بين الأسطورة والطقس. تذكر أنه في النسخة الثانية من نظرية فريزر لم يكن الطقس الممثل هو أسطورة موت وانبعاث الإله، بل نقل روح الإله من ملك إلى آخر. ولا توجد أسطورة في ذلك في حقيقة الأمر على الإطلاق. فيطابق رجلان، من خلال جعل جوهر أساطير الأبطال فقدان العرش وليس الحصول عليه، بين أسطورة البطل وطقس فريزر المتمثل في التخلص من الملك. ويقابل الملك في الأسطورة الذي يفقد عرشه ثم حياته لاحقا، الملك في الطقس الذي يفقد كليهما مرة واحدة. ولا تعد الأسطورة التي يربطها رجلان بالطقس أسطورة عن الإله، بل إنها أسطورة عن البطل، الذي يكون شخصية أسطورية يتوقع من الملوك الفعليين تقليده في إيثاره. وبصورة أدق إذن لا تمثل الأسطورة نص الطقس، كما هي الحال في السيناريو «الأول» من النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر، قدر ما تمثل مصدر إلهام للطقس.
نمط رجلان لأسطورة البطل، من كتاب «البطل» (1) أم البطل عذراء ومن عائلة ملكية؛ (2) أبو البطل ملك؛ (3) عادة أحد الأقرباء من الدرجة الأولى لأمه، لكن (4) ظروف حمله غير طبيعية، (5) وهو مشهور أيضا باعتباره ابن إله. (6) وعند ميلاده، يتعرض لمحاولة القتل، عادة من أبيه أو جده لأمه، لكنه (7) ينتقل سحريا إلى مكان آخر، (8) ويتولى تربيته والدان بديلان في بلد بعيد. (9) لا نعرف شيئا عن طفولته، لكن (10) عند بلوغه سن الرجولة يعود أو يذهب إلى مملكته المستقبلية. (11) بعد تحقيق انتصار على الملك و/أو أحد العمالقة؛ تنين، أو وحش بري، (12) يتزوج من أميرة، عادة ابنة الملك السابق، (13) ويصبح ملكا. (14) يحكم المملكة دون أية منغصات، (15) ويسن القوانين، لكن (16) يفقد تفضيل الآلهة له و/أو رعيته، (17) ويخلع من عرشه ويطرد من المدينة، وبعدها (18) يموت في ظروف غامضة، (19) عادة فوق قمة تل. (20) لا يخلفه أبناؤه، إن وجدوا. (21) ولا يواري جثته الثرى، لكن (22) يقام له ضريح مقدس أو أكثر.
على عكس أنماط تايلور وبروب، أو رانك أو كامبل، مثلما سنرى، يغطي نمط رجلان، مثل نمط فون هان، حياة البطل بأكملها.
يساوي رجلان بين بطل الأسطورة وإله الطقس. أولا: يرتبط الملك بالبطل ليكون الإله؛ فالأبطال ملوك، والملوك آلهة. ثانيا: تعتبر كثير من الأحداث في حياة البطل خارقة، خاصة النقطتين 5 و11. وبينما يجب أن يموت البطل، فإنه يجب أن يتحقق جراء موته عمل إلهي؛ ألا وهو إحياء النباتات. ثالثا: في كل من الأسطورة والطقس، يضمن التخلص من الملك بقاء الجماعة، التي ستموت جوعا لو لم يمت الملك. وفي كل من الأسطورة والطقس يعتبر الملك مخلصا.
شكل 5-1: دوق ودوقة وندسور يوم زفافهما، يونيو 1937، بعد تخلي إدوارد عن العرش.
1
لا شك أن رجلان لا يتوقع على الإطلاق أن يناسب أدونيس هذا النمط. فبينما تبدو النقاط من 1 إلى 4 منطبقة تماما على الأسطورة، فإنه لا ينطبق عليها سوى نقاط أخرى قليلة. على سبيل المثال، هناك محاولة تجري لقتل أم أدونيس، ولكن ليست من محاولة لقتل أدونيس نفسه، على الأقل في البداية (حتى النقطة 6). وربما يقال إن أدونيس قد نشأ وتربى على أيدي أبوين بديلين - أفروديت وبرسيفوني - في أرض بعيدة (النقطة 8)، لكن لم يحدث ذلك لأنه انتقل بصورة سحرية إلى ذلك البلد البعيد (النقطة 7). الأهم من ذلك أن أدونيس لم يصبح ملكا قط، ومن ثم لم يكن هناك عرش ليفقده، لكنه فقد حياته، ولم يحدث ذلك أثناء حكمه كملك، أو حتى بينما كان يعيش في المجتمع. ومن بين جميع الأمثلة التي ينتقيها رجلان، يعتبر المثال الأكثر ملاءمة هو مثال أوديب. ومن أبطال الكتاب المقدس ممن قد يناسبون هذا النمط أيضا شاول الملك. وعلى عكس فريزر، يتحفظ رجلان كثيرا فلا يذكر مثال المسيح. ومن الأمثلة الحديثة التي تناسب نمط رجلان مثال الملك إدوارد الثامن ملك إنجلترا، الذي كان جوهر حياته تخليه عن العرش.
إن ما يهمنا في هذا الفصل هو مركزية الحبكة في نظرية رجلان. فيستند رجلان إلى شيوع الحبكة للدفع بأن معنى أساطير الأبطال يكمن في تلك الحبكة المشتركة، وأن جوهر الحبكة المشتركة هو فقدان العرش، وأن وجود الطقس المصاحب الخاص بقتل الملك يجعل التركيز الشائع في الأسطورة على خلع الملك منطقيا. ولا تقتصر النظرية الطقوسية للأسطورة لرجلان على جعل الحبكة هي سيناريو الطقس بل تدفع بنشوء الطقس من الحبكة.
هوامش
الفصل السادس
الأسطورة وعلم النفس
هناك نظريات عديدة في كل مجال معرفي ساهمت في دراسة الأسطورة. ففي علم النفس، هيمنت نظريتان على المجال هيمنة شبه كاملة: نظرية الطبيب النمساوي سيجموند فرويد (1856-1939) ونظرية الطبيب النفسي السويسري سي جي يونج (1875-1961).
سيجموند فرويد
بينما يحلل فرويد الأسطورة عبر كتاباته، تقع مناقشته الأساسية لخرافته الرئيسة، أسطورة أوديب، في كتاب «تفسير الأحلام» على نحو لائق؛ إذ إن فرويد، وكذلك يونج، يوازيان بين الأساطير والأحلام:
إذا كانت مسرحية «أوديب ملكا» تثير مشاعر الجمهور الحداثي بصورة لا تقل عن إثارة مشاعر الجمهور اليوناني المعاصر، فإن تفسير ذلك الوحيد هو أن الأثر الذي تحققه لا يكمن في التناقض بين القدر والإرادة [الحرة] للإنسان، بل يجب البحث عنه في الطبيعة الخاصة للمادة التي تعد مثالا لهذا التناقض. ولا بد أن ثمة شيئا [كامنا] يجعل صوتا بداخلنا مستعدا للنطق بإدراك القوة الإجبارية للقدر في مسرحية «أوديب ملكا» ... ويثير مصيره [أوديب] مشاعرنا لأنه كان من الممكن أن يكون مصيرنا نحن؛ لأن الوحي الإلهي أنزل علينا قبل ميلادنا اللعنة نفسها التي أنزلها على أوديب ... وتقنعنا أحلامنا بأن الأمر كذلك. ويبين لنا الملك أوديب، الذي ذبح أباه لايوس وتزوج أمه يوكاسته، تحقق رغباتنا الطفولية. في المقابل، فإننا، بحظ أكبر من حظه، نجحنا في الفصل بين رغباتنا الجنسية وبين أمهاتنا، وفي نسيان غيرتنا من آبائنا، قدر استطاعتنا عدم الانزلاق نحو الإصابة بالاضطرابات الانفعالية. (فرويد، «تفسير الأحلام» المجلد الرابع، ص262-263)
شكل 6-1: سيجموند فرويد.
1
على المستوى السطحي أو الظاهري، تروي قصة أوديب جهوده العبثية في الفكاك من مصيره الذي فرض عليه. في المقابل، على المستوى الأعمق، يريد أوديب أن يفعل ما لا يريد أن يفعله من الناحية الظاهرية. فهو يريد أن يمثل «عقدة أوديب». وبذلك، فإن المستوى الظاهري أو الحرفي للأسطورة يخفي المعنى الكامن الرمزي. وعلى المستوى الظاهري، يعتبر أوديب الضحية البريئة للقدر، بينما على المستوى الأعمق الكامن يعتبر مذنبا. وإذا جرى فهم الأسطورة بصورة صحيحة، فإنها لا تصور فشل أوديب في التغلب على قدره المحتوم، بل في نجاحه في تحقيق أمتع رغباته.
في المقابل، لا يتوقف المعنى الكامن عند هذا الحد، فلا تقتصر الأسطورة على أوديب على الإطلاق. وكما أن المستوى الظاهري، الذي يعتبر أوديب فيه ضحية، يخفي مستوى كامنا يعتبر فيه أوديب جانيا؛ فإن هذا المستوى بدوره يخفي مستوى أكثر كمونا، يعتبر الجاني الحقيقي فيه هو صانع الأسطورة، وأي قارئ تأسره الأسطورة. فتدور الأسطورة هنا حول تحقق عقدة أوديب في القارئ أو صانع الأسطورة من الذكور، وهو الذي يتماهى مع أوديب ومن خلاله يحقق عقدته هو. وفي جوهرها، لا تعتبر الأسطورة سيرة بل سيرة ذاتية.
في أي شخص تكمن عقدة أوديب؟ إلى حد ما تكمن في جميع الذكور البالغين، الذين لم ينضج أي منهم تماما بحيث يتغلب على رغباته التي أثيرت لأول مرة في الطفولة. ولكن لا تزال هذه العقدة كامنة في الذكور البالغين المضطربين انفعاليا الذين لا يزالون عالقين في مرحلتهم الأوديبية. ولأسباب عديدة، لا يستطيع هؤلاء إشباع رغباتهم بصورة مباشرة. فربما لم يعد آباؤهم أحياء، أو إذا كانوا أحياء صاروا لا يعدون مصدر تهديد أو جاذبية كما كانوا. إضافة إلى ذلك، لم يكن أكثر الآباء تدليلا ليوافقوا لأبنائهم على إشباع رغباتهم. وعلى الأرجح سيجري الإمساك بأي ابن ينجح في ذلك ومعاقبته. فضلا عن ذلك، سيكون الذنب الذي سيشعر به الابن لقتله الأب الذي يحبه قدر ما يكرهه، ولفرض نفسه على أم تقاومه؛ هائلا. غير أن العقبة الكبرى في تمثيل العقدة هي مسألة أعمق من ذلك بكثير، وهي ألا يعرف المرء أن لديه عقدة في المقام الأول، لأنها قمعت.
في ظل هذه الظروف، توفر الأسطورة النموذج الأمثل لإشباع الرغبات. وبينما تخفي الطبقات الخارجية للأسطورة معناها الحقيقي ومن ثم تحول دون الإشباع، تكشف هذه الطبقات في الوقت نفسه عن ذلك المعنى الحقيقي ومن ثم توفر الإشباع. على أية حال، حتى على المستوى الحرفي، يقتل أوديب أباه ويضاجع أمه، ويفعل ذلك عن غير قصد. فإذا كان أوديب هو الذي يفعل ذلك عن عمد في المستوى التالي - وليس صانع الأسطورة أو القارئ - فإن الفعل سيكون متعمدا. ويكشف المستوى الأعلى إذن، على الرغم من إخفائه المعنى الحقيقي جزئيا، عن المعنى في المستوى الأدنى. ويكمن المعنى الحقيقي دوما في المستوى الأدنى، إلا أنه لا يصل إلا من خلال المستوى الأعلى. ومن خلال توحدهم مع أوديب، يحقق الذكور البالغون المضطربون انفعاليا إشباعا جزئيا لرغباتهم الأوديبية المصاحبة لهم منذ وقت طويل دون وعي منهم بوجودها. تمثل الأسطورة إذن حلا وسطا بين جانب النفس الذي يريد إشباع الرغبات بالكامل، والجانب الآخر الذي لا يريد أن يعرف أن هذه الرغبات موجودة. وبالنسبة إلى فرويد، تؤدي الأسطورة وظيفتها «من خلال» معناها. فتنفس الأسطورة عن الرغبات الأوديبية من خلال عرض قصة يجري تمثيل هذه الرغبات فيها رمزيا.
من خلال هذه الطرق جميعا، تقابل الأسطورة الأحلام التي - مثل العلم في رأي تايلور وفريزر - تقدم نموذجا يحلل به فرويد ويونج الأساطير. وبالتأكيد، هناك فوارق بين الأساطير والأحلام: فبينما تعتبر الأحلام خاصة، فإن الأساطير عامة؛ وبينما تقتصر الأساطير بالنسبة إلى فرويد على الأشخاص المضطربين انفعاليا، فإن الأحلام شاملة للجميع . في المقابل، تعتبر أوجه الشبه بين الأساطير والأحلام من منظور فرويد ويونج أكثر أهمية.
أوتو رانك
توجد التحليلات الفرويدية الكلاسيكية للأسطورة في كتاب كارل أبراهام «الأحلام والأساطير» وكتاب أوتو رانك «أسطورة ميلاد البطل». وينهج أبراهام ورانك نهج الأستاذ (فرويد) في مقارنة الأساطير بالأحلام - مثلما يشير عنوان كتاب أبراهام - وفي اعتبار أن الإشباع الخفي الرمزي للرغبات الأوديبية المكبوتة والمسيطرة على النفس شعور مصاحب لصانع الأسطورة أو القارئ البالغ منذ وقت طويل. في المقابل، يدرس رانك أساطير أكثر ويحللها بمزيد من التفصيل، ويقدم حبكة مشتركة، أو نمطا لفئة واحدة من الأساطير؛ ألا وهي فئة أساطير الأبطال، خاصة أساطير الأبطال الذكور. ويحلل أتباع فرويد جميع أنواع الأساطير ولا يكتفون بتحليل أساطير الأبطال فقط. ولكن يحول أتباع فرويد الأنواع الأخرى للأساطير إلى أساطير أبطال. ويحول رانك نفسه الميلاد والبقاء إلى إنجازات بطولية. وقد جرى النظر إلى أساطير الخلق باعتبارها أساطير يتحقق فيها إنجاز ولادة العالم من خلال الذكور والإناث على حد سواء.
بالنسبة إلى رانك، الذي ينهج نهج فرويد، تتعامل البطولة مع ما يطلق عليه يونج «النصف الأول للحياة». ويتضمن هذا النصف الأول من الحياة - أي الميلاد، الطفولة، المراهقة، والرجولة المبكرة - ترسيخ المرء لنفسه كشخصية مستقلة في العالم الخارجي. ويتجلى تحقيق الاستقلال بصورة واضحة في الحصول على وظيفة عمل وشريك حياة. ويتطلب الحصول على أي من ذلك الانفصال عن الوالدين والتحكم في الغرائز. ولا يشير الاستقلال عن الوالدين إلى رفضهما بل إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي. بالمثل، لا يشير التحكم في الغرائز إلى إنكارها بل إلى السيطرة عليها. وعندما قال فرويد إن معيار السعادة يتمثل في القدرة على العمل والحب، فإنه يشير بجلاء إلى غايات النصف الأول من الحياة، الذي يستمر إلى الأبد من وجهة نظره. وتتضمن المشاكل الفرويدية التعلق بأي من الأبوين أو بالغرائز. ويعتبر المرء عالقا في مستوى طفولي للتطور النفسي عندما لا يزال معتمدا على أبويه لإشباع غرائزه أو لإشباع غرائزه بطرق تنافي العرف الاجتماعي.
نمط رانك لأسطورة البطل، من كتاب «أسطورة ميلاد البطل»
ربما تصاغ القصة البطولية النموذجية نفسها وفق الملخص التالي: البطل هو ابن لأبوين عظيمين، عادة ابن ملك. يسبق مجيئه إلى الحياة صعوبات، مثل كبح الشهوة، أو الحرمان الجنسي لفترة طويلة، أو الاتصال الجنسي السري بين الوالدين لموانع أو عقبات خارجية. وخلال فترة الحمل أو قبلها، تظهر نبوءة - في صورة حلم أو أمر إلهي - تحذر من ميلاد الطفل، وعادة ما ينطوي التحذير على مخاطر تهدد الأب (أو من يمثله). وكقاعدة، يجري التخلص من الطفل بإلقائه في المياه أو في صندوق. فينقذ الطفل بعد ذلك حيوانات، أو أشخاص متواضعو الحال (رعاة)، ويرضع الطفل من ثدي أنثى حيوان أو امرأة بسيطة. وبعد أن يكبر، يعثر البطل على والديه العظيمين، بطرق متباينة. فيأخذ البطل ثأره من أبيه، من جانب، ويعترف به من جانب آخر. وأخيرا، يحقق البطل مكانة وأمجادا.
يقع نمط رانك، الذي يطبقه على أكثر من ثلاثين أسطورة عن الأبطال، في النصف الأول من الحياة. وفيما يشبه بالكاد نمط يوهان جورج فون هان، الذي جرى الإشارة إليه في الفصل
الخامس
وهو النمط الذي لم يدر به رانك على ما يبدو، ينتقل رانك من مرحلة ميلاد البطل إلى الحصول على «وظيفة».
حرفيا، أو عن وعي، يعتبر البطل شخصية تاريخية أو أسطورية مثل أوديب. ويعتبر البطل بطلا نظرا لأنه يصعد من العدم إلى العرش. وحرفيا، يعتبر البطل ضحية بريئة لأبويه أو للقدر. وعلى الرغم من أن والديه كانا يرغبان في طفل ثم قررا التضحية به فقط لإنقاذ الأب، فإنهما يقرران فعليا التضحية به. إذن فانتقام البطل متوقع في ظل هذه الظروف، إذا كان قتل الأب يحدث عن وعي. فمن لن يفكر في قتل شخص يريد قتله؟
ورمزيا، أو بصورة غير واعية، يعتبر البطل بطلا ليس لأنه يجرؤ على الفوز بالعرش بل لأنه يجرؤ على قتل أبيه. وبطبيعة الحال، القتل هنا متعمد، ولا يرجع السبب في ذلك إلى الأخذ بالثأر بل إلى الإحباط الجنسي؛ إذ رفض الأب أن يسلم زوجته لابنه، وهذا هو الهدف الحقيقي لمساعي الابن:
وكقاعدة، يرجع السبب الأعمق غير الواعي بصورة عامة في كره الابن للأب، أو شقيقين بعضهما لبعض، إلى التنافس على الإخلاص في الرعاية وحب الأم. (رانك، «أسطورة ميلاد البطل»، ص66)
ولأنه أفظع من أن يتم مواجهته، يخفى المعنى الحقيقي لأسطورة البطل من خلال قصة مصطنعة تجعل من الأب، وليس الابن، مذنبا. ويتمثل النمط ببساطة في:
التماس العذر، فيما يبدو، للمشاعر العدوانية التي يكنها الطفل لأبيه، والتي في هذه الأسطورة توجه ضد الأب. (رانك، «أسطورة ميلاد البطل»، ص63)
إن ما يسعى البطل إليه يصاغ في صورة نزاع على السلطة، وليس في زنا محارم. الأدهى من ذلك، يصير البطل - البطل المحدد في الأسطورة - طرفا ثالثا؛ وليس صانع الأسطورة أو أي شخص يتأثر بها. وبالتوحد مع هذ البطل المحدد، يحتفي صانع الأسطورة أو القارئ بانتصار البطل احتفاء غير مباشر، فيما يعبر عن احتفائه هو نفسه في حقيقة الأمر. وبذلك يشير الضمير «هو» إلى البطل الحقيقي للأسطورة.
وحرفيا، تصل الأسطورة إلى نقطة الذروة عند اعتلاء البطل العرش. ورمزيا، يحصل البطل على رفيقة أيضا. وربما يستخلص المرء إذن أن الأسطورة تعبر بذكاء عن الهدف الفرويدي للنصف الأول من الحياة. وفي واقع الأمر، تعبر الأسطورة عن العكس تماما. فلا تتمثل الرغبة المشبعة في انفصال المرء عن والديه وعن غرائزه الخارجة عن العرف الاجتماعي بل، على العكس، في أكثر العلاقات حميمية مع والدي المرء وفي أكثر الغرائز خروجا على العرف الاجتماعي: قتل الأب وزنا المحارم، إن لم يكن الاغتصاب. ولا يشير استيلاء المرء على وظيفة الأب والانقضاض على أمه إلى الاستقلال التام عنهما.
وبينما يكون صانع الأسطورة أو القارئ إنسانا بالغا، فإن الرغبة التي جرى التنفيس عنها بالأسطورة لا تكشف إلا عن طفل لا يتجاوز عمره ثلاث أو خمس سنوات:
يصنع البالغون الأساطير، إذن، من خلال التقهقر إلى خيالات الطفولة، ويعزى للبطل الفضل بسبب التاريخ الطفولي الشخصي لصانع الأسطورة. (رانك، «أسطورة ميلاد البطل»، ص71)
ويكمن الخيال في إشباع الرغبة الأوديبية لقتل والد المرء بغرض الوصول إلى والدته. فتشبع الأسطورة رغبة لا يتجاوزها أبدا البالغ الذي يخترعها أو يستخدمها. ويعتبر ذلك البالغ طفلا أبديا من الناحية النفسية. وفي ظل عدم تطور أنا قوية تتحكم في غرائزه، يعتبر هذا البالغ مضطربا انفعاليا:
هناك فئة محددة من الأشخاص، الذين يطلق عليهم المضطربون انفعاليا، أظهروا من خلال تحليلات فرويد بقاءهم أطفالا، إلى حد ما، وإن بدوا ناضجين. (رانك، «أسطورة ميلاد البطل»، ص58)
بما أن الطفل لا يستطيع التغلب على أبيه، يتخيل صانع الأسطورة نضجه بما يكفل له القيام بذلك. باختصار، لا تعبر الأسطورة عن الهدف الفرويدي للنصف الأول من الحياة، بل عن هدف الطفولة المستدام الذي يمنع المرء من تحقيقه.
ومن غير ريب، إن إشباع الرغبة الأوديبية رمزي أكثر منه حرفيا، مستتر أكثر منه علنيا، غير واع أكثر منه واعا، عقلي أكثر منه بدنيا، وغير مباشر أكثر منه مباشرا. ومن خلال التوحد مع البطل المحدد، يمثل صانع الأسطورة أو قارئها في عقله أفعالا لا يجرؤ على القيام بها في العالم الواقعي. حتى إن الأفعال الأوديبية للبطل «المحدد» تعد مستترة؛ إذ إن النمط البطولي يعمل على المستوى الظاهر أو بالقرب منه، وليس على المستوى المستتر. في المقابل، تحقق الأسطورة إشباعا ما، بل تحقق أفضل إشباع ممكن في ضوء الصراع بين دوافع وأخلاقيات الشخص المضطرب انفعاليا. ويقارن رانك بين هذا الشخص المضطرب انفعاليا، الذي قمع دوافعه ومن ثم يحتاج إلى التنفيس عنها بصورة غير مباشرة، وبين «الشخص المنحرف جنسيا»، الذي يحقق دوافعه ومن ثم لا يحتاج على الأرجح إلى وسيلة وسيطة مثل الأسطورة لإشباع رغباته.
جاكوب أرلو
تغير الاتجاه السائد في التحليل النفسي كثيرا منذ ظهور كتاب رانك «أسطورة ميلاد البطل». ويرى المحللون النفسيون المعاصرون مثل الأمريكي جاكوب أرلو (1912-2004) أن الأسطورة تسهم في التطور الطبيعي للأشخاص، وليس في ترسيخ الاضطراب الانفعالي، وقد أرشدهم في هذه الرؤية تطور علم نفس الأنا، الذي وسع نطاق التحليل النفسي من الشخصية غير الطبيعية إلى الشخصية الطبيعية. وفي رأي هؤلاء، تساعد الأسطورة على النضج بدلا من البقاء طفلا، كما هي حال بيتر بان. وتحث الأسطورة على التكيف مع العالمين الاجتماعي والمادي بدلا من الهروب الطفولي منهما. وبينما لا تزال الأسطورة تعمل على إشباع رغبات الهو (ذلك الجزء من العقل الذي تنشأ منه الدوافع الغريزية)، فإنها تؤدي بصورة أكبر وظائف الأنا؛ الدفاع والتكيف، والأنا العليا؛ نكران الذات. إضافة إلى ذلك، تفيد الأسطورة الجميع من منظور أتباع فرويد المعاصرين، ولا تقتصر فقط على المضطربين انفعاليا. وباختصار، ينظر أولئك إلى الأسطورة بصورة إيجابية بدلا من النظر إليها بصورة سلبية مثل أتباع فرويد الكلاسيكيين. ونقلا عن أرلو:
يسهم التحليل النفسي إسهاما أكبر في مجال دراسة الميثولوجيا من [مجرد] إظهار الرغبات، من خلال الأساطير، التي تدور في تفكير المرضى اللاواعي. وتعتبر الأسطورة نوعا خاصا من الخبرة الجماعية، فتمثل شكلا خاصا من أشكال الخيال المشترك، كما تعمل على جذب الفرد لإقامة علاقات مع أعضاء جماعته الثقافية بناء على حاجات مشتركة بعينها. ومن ثم، يمكن دراسة الأسطورة من وجهة نظر وظيفتها في تحقيق التكامل النفسي، فيما يتعلق بكيفية أداء دورها في إبعاد مشاعر الذنب والقلق، وكيف تمثل وسيلة للتكيف مع الواقع ومع الجماعة التي يعيش الفرد بين أفرادها، وكيف تؤثر في تبلور الهوية الفردية وتشكيل الأنا العليا. (أرلو، «علم نفس الأنا ودراسة الميثولوجيا»، ص375)
وبينما تشبه الأساطير الأحلام في رأي أتباع فرويد الكلاسيكيين، فإنها لا تشبه الأحلام من منظور أتباعه المعاصرين. وفيما لا تزال الأحلام تعمل على إشباع الرغبات، فإن الأسطورة تعمل على إنكار الرغبات أو التسامي بها. ويرى أتباع فرويد الكلاسيكيون أن الأساطير تعد أحلاما عامة، غير أنها في منظور أتباعه المعاصرين تعمل على التآلف مع الآخرين «نظرا لأنها» عامة.
برونو بتلهايم
في كتابه الأكثر مبيعا، «استخدامات السحر»، يتفق المحلل الفرويدي المعروف برونو بتلهايم (1903-1990)، نمساوي المولد وأمريكي الإقامة، مع أرلو في كثير من أطروحاته، بيد أن كتابه يدور حول الحكايات الخرافية «وليس» حول الأساطير، التي يضعها في مقابل الحكايات الخرافية بطريقة مثيرة ويفسرها بطريقة فرويدية كلاسيكية. ويميل أتباع فرويد الكلاسيكيون إلى النظر إلى الأساطير والحكايات الخرافية باعتبارها متشابهة، مثلما يعتبرون الأساطير والأحلام متشابهة. وبينما يضع أتباع فرويد المعاصرون الأساطير في مقابل الحكايات الخرافية، فإنهم يفضلون الأساطير عنها، حيث يرون أن الأساطير تخدم الأنا أو الأنا العليا، بينما تخدم الحكايات الخرافية الهو. (ولا يستثنى من أتباع فرويد الكلاسيكيين في تشبيه الأساطير بالحكايات الخرافية إلا عالم الأنثروبولوجيا المجري جيزا روهيم [1891-1953]، الذي يضع الأساطير في مقابل الحكايات الخرافية، أو الحكايات الشعبية، بطريقة تنبئ عن أسلوب أرلو في مقاربته لاحقا.)
يفعل بتلهايم عكس ما يفعله أرلو تماما. فمما لا شك فيه أنه لا يعتبر الأساطير إشباعا للرغبات، غير أنه يكرر أطروحات أرلو، فيرى أن:
الأساطير عادة ما تقحم متطلبات الأنا العليا في صراع مع الأفعال التي يحركها جزء الهو، ومع رغبات الأنا لحفظ النفس. (بتلهايم، «استخدامات السحر»، ص37)
في المقابل، يرى بتلهايم، على خلاف أرلو، أن الأنا العليا الخرافية لا تتسم بأية مرونة، حتى إنها تجعل عملية النضج التي تتبناها مستحيلة التحقيق. وبينما تدعو الحكايات الخرافية - شأنها شأن الأساطير - إلى تحقيق النضج، فإنها تفعل ذلك بصورة أكثر رفقا؛ ومن ثم تنجح فيما تفشل فيه الأساطير. ففي الأساطير، ينجح الأبطال، الذين هم عادة آلهة؛ لأنهم استثنائيون. أما في الحكايات الخرافية، يعتبر الأبطال أشخاصا عاديين يلهم نجاحهم الآخرين لتقليدهم. باختصار، بينما ينتهي المطاف بالأساطير في رأي بتلهايم بعرقلة النمو النفسي، تدعم الحكايات الخرافية النمو النفسي.
آلان دندس
لم يرفض جميع أتباع فرويد المعاصرين الأسلوب الكلاسيكي في تناول الأسطورة؛ إذ اتبع عالم التراث الشعبي الأمريكي البارز آلان دندس (الذي ولد عام 1934) النمط القديم بجرأة وتحد. ففي رأيه، تشبع الأسطورة الرغبات المكبوتة بدلا من إنكارها أو التسامي بها. فيكتب:
يعتبر محتوى التراث الشعبي ... غير واع إلى درجة كبيرة؛ بناء عليه ، فإنه يمثل الهو، وليس الأنا، في الغالب الأعم. ومن هذا المنظور، لا يستطيع علم نفس الأنا أن يلقي الضوء على معظم محتوى التراث الشعبي. (دندس، «الدراسة النقدية للعادات»، ص
xii )
يستمتع دندس بالكشف عن الرغبات الخفية المخالفة للأعراف الاجتماعية التي تنفس عنها الأساطير؛ وهي رغبات تتضمن ممارسة الجنس الشرجي، والعلاقات الأوديبية، والعلاقات السوية، والعلاقات المثلية، وفي بعض الأوقات تشمل الرغبات موضوعات غير جنسية على الإطلاق.
رانك منفصلا عن فرويد
بينما كان فرويد مستعدا للتسليم بأن «فعل الميلاد يمثل التجربة الأولى للقلق، ومن ثم فهو مصدر ونموذج الشعور بالقلق»، فإنه لم يكن مستعدا على الإطلاق لجعل الميلاد المصدر الرئيس، ناهيك عن الوحيد، للقلق والاضطراب الانفعالي. ورفض أيضا أن يصنف عقدة أوديب، التي تتمحور حول الأب، تحت صدمة الميلاد، والتي تتمحور بالضرورة حول الأم. أما بالنسبة إلى رانك، الذي اختلف مع فرويد حول هذا الموضوع، يعتبر شعور القلق لدى الرضيع عند الميلاد مصدر جميع أنواع القلق اللاحقة. فيصبح الصراع مع الأب نتيجة لأن الأب يمنع شوق الطفل للعودة إلى رحم الأم، وليس لأن الأب يمنع الابن من إشباع رغبة مضاجعة الأم. فيحل الخوف من الأب محل الخوف من الأم التي تزيد من عذاب ابنها بتخليها عنه وليس بحرمانه منها جنسيا؛ ولذا تعتبر الرغبة الجنسية تجاه الأم وسيلة للعودة إلى الرحم، لا وسيلة لإشباع رغبة أوديبية.
يدلل كتاب رانك «أسطورة ميلاد البطل» على الفجوة بين طرحه اللاحق، بعد انفصاله عن فرويد، والذي يركز على ميلاد البطل، وبين طرحه الأصلي الفرويدي الذي يركز على أفعال البطل. فبينما يشير عنوان الكتاب إلى ميلاد البطل فقط بصورة لا لبس فيها، فإن نمط الأسطورة يصنف عملية الميلاد تحت أفعال البطل: فلا تعتبر عملية الميلاد حاسمة نظرا لانفصال البطل عن أمه، بل نظرا لمحاولة الآباء منع الآثار المترتبة على نبوءة قتل الأب عند الميلاد. ويشير رانك أنه على الرغم من أن ميلاد البطل يشكل من ثم تحديا للأبوين، فإن الأبوين أنفسهما هما من يعارض ميلاد الابن، وليس الابن هو الذي يقاوم ميلاده.
يأتي التحول الحقيقي في تناول رانك لهذا الموضوع في كتاب «صدمة الميلاد»، الذي يفسر فيه بصورة منهجية جميع مراحل الحياة البشرية بحيث تتلاءم مع صدمة الميلاد. ويستمر رانك في اعتبار الأسطورة إشباعا للرغبة، إلا أن الرغبة المشبعة الآن هي الرجوع عن الميلاد أو خلق رحم ثان، كما هي الحال في باقي جوانب الثقافة. فبينما يعتبر الأب مذنبا في كتاب «أسطورة ميلاد البطل» نظرا «لمعارضته» عملية الميلاد، تعتبر الأم هي الطرف المذنب في كتاب «صدمة الميلاد» نظرا «لوضعها» طفلا. ولا يمثل غض أوديب بصره عن أفعاله الأوديبية عند اكتشاف ارتكابه زنا المحارم ذنبا ارتكبه بل يمثل:
عودة إلى ظلام رحم أمه، وتارة أخرى يعبر اختفاؤه النهائي من خلال صخرة مشقوقة نقلته إلى العالم السفلي عن الرغبة نفسها في العودة إلى الأرض الأم. (رانك، «صدمة الميلاد»، ص43)
بالتأكيد، ستعتبر أسطورة أدونيس هنا حالة قبل أوديبية - وليس أوديبية - عن الارتباط بالأم، بل الأدهى من ذلك أنه حتى لا يدرك أنه قد ولد ودفع به إلى العالم. إذ يفترض أدونيس أنه لا يزال يعيش في عالم يشبه الرحم، ويدلل موته - وليس ميلاده - على هلاكه، ولا يقدم له أية وسيلة للعودة إلى الرحم.
سي جي يونج
بينما تقتصر البطولة في رأي فرويد ورانك على النصف الأول من الحياة، فإنها تنطوي أكثر من منظور سي جي يونج على النصف الثاني من الحياة. فكل من فرويد ورانك يريان أن البطولة تنطوي على العلاقات مع الآباء والغرائز، غير أن يونج يعتبر أنها تنطوي على العلاقات مع اللاوعي. وفي النصف الأول من الحياة، لا تشير البطولة إلى الانفصال عن الآباء والغرائز المنافية للعرف الاجتماعي فحسب، بل تشير أكثر إلى الانفصال عن اللاوعي. ويرى يونج أن نجاح أي طفل في صياغة وعي هو إنجاز بطولي خارق. ومثل أتباع فرويد، يحلل أتباع يونج جميع أنواع الأساطير جملة واحدة، وليس أساطير الأبطال فقط، كما يفسرون الأنواع الأخرى من وجهة نظر بطولية. على سبيل المثال، ترمز أساطير الخلق إلى خلق الوعي من اللاوعي.
وفي رأي فرويد، اللاوعي هو نتاج قمع الغرائز، غير أن يونج يرى أنه يورث ولا يخلق، ويشمل أشياء أخرى أكثر بكثير من الغرائز المقموعة. ويشير استقلال اللاوعي في رأي أتباع يونج إذن إلى ما هو أكثر من استقلال الغرائز؛ فيشير إلى تشكيل الوعي، الذي يتمثل موضوعه في النصف الأول من الحياة في العالم الخارجي.
شكل 6-2: سي جي يونج.
2
وفي رأي يونج وأتباعه، يتمثل هدف النصف الثاني المميز في الوعي أيضا، إلا أن هذا الوعي هو وعي باللاوعي كما يراه يونج وأتباعه وليس وعيا بالعالم الخارجي. فعلى المرء العودة إلى اللاوعي الذي تنقطع صلته به دوما. في المقابل، لا يتمثل الهدف في قطع المرء صلاته بالعالم الخارجي بل في العودة إلى العالم الخارجي. والحل الأمثل لذلك هو تحقيق التوازن بين الوعي بالعالم الخارجي والوعي باللاوعي. وبذلك يكون الهدف في النصف الثاني من الحياة هو استكمال إنجازات النصف الأول وليس التخلي عنها.
ومثلما تتضمن مشكلات نظرية فرويد الكلاسيكية الفشل في ترسيخ المرء خارجيا، تتضمن مشكلات نظرية يونج على نحو خاص الفشل في إعادة ترسيخ المرء داخليا. وتنبثق المشكلات الفرويدية من الارتباط الزائد بعالم الطفولة، بينما تنبثق مشكلات نظرية يونج من الارتباط الزائد بالعالم الذي يلجه المرء عند تحرره من عالم الطفولة؛ أي العالم الخارجي. ويعني الانفصال عن العالم الداخلي الشعور بالخواء والفقدان.
جوزيف كامبل
يسمح يونج نفسه بتحقيق البطولة في نصفي الحياة، على عكس جوزيف كامبل الذي يعتبر كتابه «البطل ذو الألف وجه» نظيرا لكتاب رانك «أسطورة ميلاد البطل»، ولكن من منظور كلاسيكي خاص بيونج. ومثلما يحصر رانك البطولة في النصف الأول من الحياة، يحصرها كامبل في النصف الثاني.
نمط أسطورة البطل لكامبل، نقلا عن «البطل ذو الألف وجه»
الممثلة في: «الانفصال-الابتداء-العودة»، والتي يمكن أن نطلق عليها اسم الوحدة النووية للأسطورة الأحادية.
يغامر البطل في انتقاله من عالم الحياة اليومية العادية إلى منطقة العجائب الخارقة: فيقابل قوى مدهشة ويحقق نصرا مؤزرا، ثم يعود من هذه المغامرة الغامضة مزودا بالقوة اللازمة لإسباغ البركات على إخوانه.
يبدأ طرح رانك بميلاد البطل، ولكن يبدأ طرح كامبل بمغامرات البطل. فحيثما ينتهي طرح رانك، يبدأ طرح كامبل؛ عند استقرار البطل البالغ في موطنه. ويجب أن يكون بطل رانك صغيرا في السن بما يكفي بحيث يظل أبوه وفي بعض الحالات جده يمارس صلاحيات الحكم. وبينما لا يحدد كامبل عمر بطله، فإنه يجب ألا يكون أصغر من بطل رانك عند انتهاء الأسطورة؛ أي سن الرجولة المبكرة. ويجب أن يعيش البطل في النصف الثاني من الحياة. غير أن كامبل يعترف بالبطولة في النصف الأول من الحياة بل ويستشهد بكتاب رانك «أسطورة ميلاد البطل»، بيد أنه ينزل بهذه البطولة الشابة إلى مجرد الاستعداد لتحقيق البطولة في عمر النضوج. وفي طرح معارض ليونج، يعتبر كامبل الميلاد نفسه فعلا غير بطولي نظرا لحدوثه بصورة غير واعية!
يجب أن يكون بطل رانك ابنا لوالدين من العائلة المالكة أو على الأقل ينتميان إلى عائلة عالية الشأن، لكن يمكن أن ينتمي بطل كامبل إلى أية طبقة اجتماعية. ويورد كامبل ذكر البطلات قدر ذكره للأبطال، على الرغم من أن المرحلة الثانية من النمط الذي يطرحه - نمط الابتداء - تحتم أن يكون الأبطال ذكورا! وبالمثل، يكون بعض أبطاله صغارا في السن، على الرغم من أن النمط الذي يطرحه يتطلب أبطالا بالغين! وأخيرا، يقتصر نمط كامبل على الأبطال البشريين، على الرغم من أن بعض أبطاله من الآلهة! في المقابل، يسمح نمط رانك بوجود أبطال من الآلهة والبشر على حد سواء.
وبينما يعود بطل رانك إلى مسقط رأسه، يمضي بطل كامبل إلى عالم غريب وجديد، لم يزره من قبل قط ولم يدر بوجوده أبدا:
لقد استدعى القدر البطل ونقل المركز الروحي لجاذبيته من داخل إطار مجتمعه الباهت إلى عالم مجهول. ويمكن تمثيل هذا العالم المصيري الذي ينطوي على ثروات ومخاطر على حد سواء بأكثر من طريقة: كأرض قصية، كغابة، كمملكة سفلية، تحت الأمواج، أو في السماء، كجزيرة سرية، كقمة جبل شامخة، أو كحالة حلم عميق. (كامبل ، «البطل ذو الألف وجه»، ص58)
يمثل هذا العالم الاستثنائي عالم الآلهة، ويجب أن يأتي البطل من عالم البشر بحيث يكون في تضاد مع ذلك العالم.
في هذا العالم العجيب الخارق، يلتقي البطل بإلهة وإله عظيمين، وتكون الإلهة الأم محبة وراعية له:
فهي النموذج الأمثل للجمال، وأقصى إشباع لجميع الرغبات، والغاية النهائية المبهجة لأي بطل أرضي أو غير ذلك. (كامبل، «البطل ذو الألف وجه»، ص110-111)
على النقيض من هذه الإلهة، يكون الإله طاغية وعديم الرحمة، أو «غولا». يضاجع البطل الإلهة ثم يتزوجها، ويحارب الإله، سواء قبل أو بعد مقابلته الإلهة. رغم ذلك، يتوحد البطل مع الإله والإلهة على حد سواء - وليس مع الإلهة فقط - توحدا روحيا، ومن ثم يصبح هو نفسه إلها.
بينما «يعود» بطل رانك إلى دياره لمقابلة أبيه وأمه، «يغادر» بطل كامبل الديار لمقابلة الإله والإلهة، اللذين يعتبران بمنزلة أبيه وأمه وإن لم يكونا والديه. في المقابل، تتشابه مقابلة كل منهما بعضها مع بعض على نحو مميز؛ فمثلما يقتل بطل رانك أباه، ثم يتزوج أمه وهو ما يحدث خفيا، يتزوج بطل كامبل أيضا الإلهة، وإن كان في ترتيب عكسي للأحداث، ثم يقاتل الإله، وإن لم يقتله.
ولكن لا تزال الفروق بين البطلين أكثر أهمية من ذلك. فنظرا لأن الإلهة ليست أما للبطل، لا تعتبر مضاجعته إياها زنا محارم. إضافة إلى ذلك، لا يقتصر الأمر على زواجهما بل إنهما يصيران كيانا واحدا روحيا. وعلى الرغم مما توحي به المظاهر، لا تعتبر علاقة البطل بالإله في رأي كامبل أقل إيجابية؛ إذ يسعى البطل إلى حب الإله مثل الحب الذي فاز به أو على وشك الفوز به من الإلهة. فهو يسعى إلى تحقيق المصالحة، أو «التكفير عن خطيئته».
عندما يكتب كامبل أن الأساطير المصاحبة لطقوس الابتداء «تفصح عن الجانب المعطاء الحميد في «النمط الأصلي» للأب»، فإنه يستخدم هذا المصطلح بمعناه وفقا لرؤية يونج. وفي رأي أتباع فرويد، ترمز الآلهة إلى الآباء، بينما في رأي أتباع يونج يرمز الآباء إلى الآلهة، الذين بدورهم يرمزون إلى الأنماط الأصلية للأب والأم، والتي تمثل العناصر المكونة لشخصية البطل. ولا ترمز علاقة البطل بهذه الآلهة إلى علاقة ابن بأشخاص آخرين - أبويه - مثلما يذهب فرويد ورانك بل إلى جانب واحد من شخصية الذكر - أناه - أي إلى جانب آخر؛ لاوعيه. ولا يعتبر الأب والأم سوى نمطيين أصليين يتألف منهما اللاوعي اليونجي، أو «الجمعي». وتوجد الأنماط الأصلية في اللاوعي ليس نظرا لكبتها بل لأنها لم توجد أبدا في الوعي. وفي رأي يونج وكامبل، لا تنشأ الأسطورة وتؤدي وظائفها لإرضاء دوافع الاضطراب الانفعالي التي لا يمكن التعبير عنها صراحة، مثلما يذهب فرويد ورانك، وإنما للتعبير عن الجوانب الطبيعية في الشخصية والتي لم تسنح لها الفرصة بعد للتحقق.
وبالتوحد مع بطل الأسطورة، يتخيل صانع الأسطورة أو القارئ من الذكور على نحو غير مباشر - في رأي رانك - القيام بمغامرة، إذا تحققت بصورة مباشرة، سيجري تمثيلها على أبويه أنفسهما. على النقيض، يتخيل صانع الأسطورة أو القارئ سواء من الذكور أو الإناث - في رأي كامبل - مغامرة ستظل تدور في عقله إذا تحققت بصورة مباشرة؛ إذ لا يتعامل البطل إلا مع أجزاء من العقل. وباستخدام لغة المواد المخدرة، تعتبر المغامرة البطولية في رأي كامبل بمنزلة «الانتشاء».
وبنجاحه في الإفلات من العالم الآمن اليومي والانطلاق إلى عالم خطر جديد، يجب على بطل كامبل، حتى يستكمل الرحلة، الإفلات من العالم الجديد الذي استقر فيه، ثم العودة إلى عالم الحياة اليومية. ويتميز العالم الجديد بالجاذبية الشديدة بحيث تصبح عملية الإفلات منه أكثر صعوبة من مغادرة الديار؛ بناء عليه، كانت سيرسي وكاليبسو والسيرانات وآكلو اللوتس يغرون أوديب بحياة خالدة لا نصب فيها ولا تعب.
يعارض يونج شأنه شأن فرويد وجود حالة صرفة من اللاوعي، على الرغم من عدم فهم هذه الحالة فهما سليما. فكلاهما يسعى إلى تحويل اللاوعي إلى وعي؛ لذا يظل الوعي هو النموذج المثالي من منظورهما. ويعارض يونج رفض الوعي العادي، أو وعي الأنا، لصالح اللاوعي بنفس قوة معارضته لرفض اللاوعي لصالح وعي الأنا. ويسعى يونج إلى تحقيق التوازن بين حالتي وعي الأنا واللاوعي، بين الوعي بالعالم الخارجي والوعي باللاوعي. وفي رأيه، يشير فشل البطل في العودة إلى عالم الحياة اليومية إلى الفشل في مقاومة إغراء اللاوعي.
على النقيض من يونج، يسعى كامبل إلى تحقيق حالة من اللاوعي الصرف. فلا يعود بطل كامبل إلى عالم الحياة اليومية أبدا، مستسلما إلى حالة اللاوعي. إلا أن كامبل نفسه يشترط عودة بطله إلى عالم الحياة اليومية. كيف، إذن، يرفضه بطله؟ تتمثل الإجابة في أن العالم الذي يعود إليه بطل كامبل هو العالم الجديد الغريب، الذي يتضح أنه يتخلل كل شيء في عالم الحياة اليومية. فلا يوجد عالم منفصل للحياة اليومية؛ ويعد هو والعالم الجديد عالما واحدا:
يمكن تصوير العالمين، عالم الآلهة [الجديد] وعالم البشر [اليومي] على أنهما عالمان متمايزان بعضهما عن بعض، عالمان مختلفان كاختلاف الحياة والموت، كاختلاف النهار والليل ... في المقابل، تعتبر المملكتان في حقيقة الأمر مملكة واحدة. (كامبل، «البطل ذو الألف وجه»، ص217)
ومثل دوروثي في فيلم «ساحر أوز»، لم يكن يتوجب على البطل مغادرة الديار على الإطلاق. وبينما يسعى يونج إلى تحقيق التوازن بين وعي الأنا واللاوعي، يسعى كامبل إلى دمجهما. وبالمزج بين تفسير فلسفي لأساطير الأبطال وتفسير نفسي، يعتبر كامبل أن جميع أساطير الأبطال تنادي بتحقيق التوحد الروحي.
أدونيس
بينما يذكر يونج أدونيس ذكرا عابرا، فإنه يذكره كمثال على النمط الأصلي للطفل الأبدي، أو «الصبي الدائم». ويناقش يونج هذا النمط الأصلي أيضا نقاشا عابرا، على الرغم من استفاضته عبر صفحات كثيرة في الحديث عن نمط أصلي وثيق الصلة به، هو نموذج الأم العظيمة. وكتبت ماري لويز فون فرانز، وهي أحد أقرب تلامذة يونج إليه، كتابا عن نمط الصبي، وإن كانت قد تناولت حالات أخرى باستفاضة، بخلاف حالة أدونيس.
ومن وجهة نظر يونجية، لا تعمل أسطورة أدونيس على مجرد تقديم النمط الأصلي للصبي بل تقيمه أيضا. وتؤدي الأسطورة أيضا وظيفة تحذيرية إلى أولئك الذين يتوحدون مع النمط الأصلي. ويعني عيش المرء «صبيا»، مثلما يعيش أدونيس، أن يظل المرء طفلا من الناحية النفسية وفي النهاية كجنين. وتنتهي حياة الصبي في الأسطورة دائما بالموت المبكر، وهو ما يعني من الناحية النفسية موت الأنا والعودة إلى حالة تشبه حالة اللاوعي في الرحم، وليس العودة إلى الرحم الحقيقي، مثلما يذهب رانك بعد تحرره من رؤية فرويد.
وكنمط أصلي، يشكل الصبي جانبا من شخصية المرء التي، كجانب من الشخصية، لا بد من تقبلها. وتنتمي شخصية الصبي لإنسان يتجاوز كثيرا من الحدود؛ فيجعل جانب الصبي يسيطر على سائر جوانب شخصيته. ويستسلم صاحب هذه الشخصية إلى هذا الجانب - جانب الصبي - غير قادر على مقاومة سحرها، ومن ثم يتخلى عن أناه وينكص إلى حالة من اللاوعي الصرفة.
يتمثل السبب في عدم قدرة الشخصية الصبيانية على مقاومة النمط الأصلي للصبي في بقائه واقعا في أسر النمط الأصلي للأم العظيمة، التي تتوحد في البداية مع حالة اللاوعي ككل. وبعدم قدرته على تحرير نفسه من الأم العظيمة، لا يصيغ صاحب هذه الشخصية أنا قوية مستقلة، ودونها لا يستطيع مقاومة أية امرأة يصادفها تغمره بالاهتمام الخانق. ويشير استسلام صاحب الشخصية الصبيانية إلى النمط الأصلي للصبي إلى استسلامه إلى الأم العظيمة، التي يتوق إلى العودة إليها. فالصبي «يمضي في حياته معتمدا على الأم وبمساعدتها فحسب، ولا يستطيع أن يرسخ لشخصيته، ومن ثم يجد نفسه في حالة دائمة من زنا المحارم». حتى إن يونج يطلق على صاحب هذه الشخصية مجرد «حلم للأم» التي في نهاية المطاف تجذبه إليها.
بيولوجيا، يتراوح عمر الصبي من المراهقة، وهي الفترة الأكثر إثارة، إلى فترة منتصف العمر أو حتى العمر المتقدم. ونفسيا، يكون الصبي رضيعا. وفيما يعتبر الشخص الواقع في قبضة عقدة أوديب في رأي فرويد شخصا عالقا من الناحية النفسية في عمر الثلاث إلى الخمس سنوات، يعتبر الصبي في رأي يونج عالقا في فترة ولادته. وبينما تفترض عقدة أوديب افتراضا مسبقا وجود أنا مستقلة تسعى «أنويا» إلى الاستحواذ على الأم لنفسها، يشتمل نموذج الصبي على أنا واهية تسعى إلى الاستسلام إلى الأم. ولا يسعى الصبي إلى الهيمنة بل إلى المكوث في أحشائها، ومن ثم النكوص إلى مرحلة تسبق حتى مرحلة الولادة نفسها.
في رأي فرويد ورانك، أثناء تأثره بفرويد أو بعد تحرره من اتباع رؤيته على حد سواء، يشير الارتباط بالأم عند أية مرحلة إلى الارتباط بأم المرء الحقيقية أو أية أم بديلة. وفي رأي يونج ، يشير الارتباط بالأم إلى الارتباط بالنمط الأصلي للأم، الذي تعتبر الأم الحقيقية أو البديلة فيه أحد تجلياتها فقط. وبينما يجب على الصبي في رأي فرويد تحرير نفسه من هذا التوق - الطفولي أو الأوديبي - لأمه، فإنه يجب عليه في رأي يونج تحرير نفسه من ميله إلى التوحد مع النمط الأصلي للأم. وفي رأي فرويد، يشير الفشل في التحرر إلى الارتباط الأبدي بالأم. وفي رأي يونج، يشير ذلك إلى قصر شخصية المرء على النمط الأصلي للأم داخل النفس. وبينما يدور الصراع في رأي فرويد من أجل الحرية بين شخص وآخر - الابن والأم - يدور الصراع في رأي يونج بين جانب من شخصية المرء وجانب آخر - الأنا واللاوعي - وهو أول ما يرمز إليه النمط الأصلي للأم.
ونظرا لأن النمط الأصلي يتجلى من خلال الرموز فحسب، وإن كان بطريقة غير مباشرة على الإطلاق، لا تظهر جوانب النمط الأصلي للأم التي يعرفها الصبي إلا من خلال أمه الحقيقية أو البديلة. فالأم التي ترفض ترك ابنها تقصر رؤيته على جانب الاهتمام السلبي الخانق للنمط الأصلي للأم. في المقابل، فإن الأم التي تترك ابنها تفتح الآفاق أمامه على الجانب التعزيزي الإيجابي للنمط الأصلي للأم، وإن كان بتردد. وفي البداية، يتردد أي طفل في ترك الأم، وتغريه الأم - التي تغمره بالاهتمام الخانق - بالبقاء، من خلال الكشف فقط عن جانب الاهتمام الخانق في النمط الأصلي للأم. وتحث الأم المعززة الابن على مقاومة هذا الإغراء، من خلال الكشف عن الجانب التعزيزي أيضا في النمط الأصلي للأم. وفي جميع جوانب النمط الأصلي للأم، يكون هذا النمط موروثا. وتحدد خبرة المرء بشخصيات الأم أية جوانب من النمط الأصلي تظهر. ولن يطور الصبي - الذي لم يتعامل قط مع شخصية أم تعزيزية - هذا البعد من النمط الأصلي الكامن داخله.
قد يكون الصبي واعيا أو غير واع بشخصيته. ومما لا شك فيه، بينما يصادف الصبي الواعي إناثا جذابات في صورة تجليات لنمط الأم العظيمة، فإنه على الأقل يدرك أن الذكور الآخرين ينظرون إلى النساء نظرة مختلفة ، كشركاء حياة محتملين. ويسلم هذا الصبي الواعي بأن الاتحاد الروحي مع أي من تلك النساء هو الحل الأمثل له. ويدرك أيضا باختلافه عن الآخرين مفتخرا بذلك. ولعل أبرز الأمثلة المعروفة عن حالة الصبي الواعي هو كازانوفا.
في المقابل، يفترض الصبي غير الواعي أن الآخرين مثله. ويفترض هذا الصبي أن جميع الذكور الآخرين يسعون إلى الاتحاد مع النساء؛ إذ لا توجد علاقات أخرى ممكنة. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك هو إلفيس بريسلي، الذي يمثل نموذجا للطفل المرتبط بأمه الذي عاش العشرين عاما الأخيرة من حياته كراهب في عالم طفولي يشبه الرحم، عالم بينما كانت جميع رغباته تلبى فيه، كان يعتبر نفسه شخصية طبيعية تماما، شخصية «أمريكية صرفة».
بناء عليه، يمكن أن يكون الصبي شخصية حقيقية أو رمزية. ويتحول بعض الصبية المشهورين تاريخيا إلى رموز. وبينما يعتبر الصبي المشهور تاريخيا بالغا من الناحية البيولوجية، فربما لا ينضج الصبي الرمزي أبدا، ومن ثم يعد مثالا على الحياة الشابة الأبدية التي تسعى الشخصيات الصبيانية إلى تقليدها. ولعل أبرز الأمثلة على الإطلاق على الصبي الرمزي تتمثل في شخصية بيتر بان وشخصية الأمير الصغير.
وكما أن الصبي قد يكون واعيا أو غير واع، فإنه ربما يتكيف مع العالم المحيط به أو العكس ظاهريا. وظاهريا أيضا، ربما يستقر الصبي حال الزواج والحصول على فرصة عمل، لكنه لا يجد إشباعا في أيهما. وربما لا يشعر بالاستقرار ولو ظاهريا، كما هي الحال مع دون جوان والطالب الأبدي.
يتمثل النقيض للنمط الأصلي للصبي في النمط الأصلي للبطل؛ إذ ينجح البطل فيما يفشل فيه الصبي. ففي النصف الأول من الحياة، تكون الأنا بطولية حال نجاحها في تحرير نفسها من اللاوعي وفي ترسيخ نفسها في المجتمع. وينجح البطل في الحصول على فرصة عمل مرضية وشريكة حياة. ويفشل الصبي في تحقيق أي من ذلك. وفي النصف الثاني من الحياة، تكون الأنا، التي صارت وقتئذ مستقلة، بطولية حال نجاحها في الانفصال عن المجتمع والعودة إلى حالة اللاوعي دون السقوط فيها. فبينما يرسخ البطل نفسه في النصف الأول من الحياة وفق أعراف المجتمع، يتحدى البطل هذه الأعراف في النصف الثاني من الحياة. وفيما يعتبر البطل شخصية متحدية بصورة واعية، يعتبر الصبي شخصية متحدية بصورة لاواعية. وبينما يخاطر البطل بكل شيء مقابل ما يؤمن به، لا يؤمن الصبي بشيء ومن ثم لا يخاطر بشيء. وبينما يشبه البطل الحقيقي شخصية ديدالوس، يشبه الصبي شخصية ابنه إيكاروس. ونظرا لأن الصبي يعتبر بطلا فاشلا في النصف الأول من الحياة، فإنه يعتبر بطلا فاشلا بالضرورة في النصف الثاني من الحياة أيضا. في الواقع، هو لا يرى أن هناك نصفا ثانيا للحياة.
ويعتبر أدونيس صبيا نموذجيا نظرا لأنه لم يتزوج أبدا، ولم يعمل أبدا، ويموت صغيرا. ولا ينضج أدونيس قط. وهو يخرج من شجرة أولا ليولد. وفي رواية أوفيد، تتباطأ أمه، التي تحولت إلى شجرة، في تركه. ومثل أي أم أخرى، ربما تكون أم أدونيس قد شعرت بالحبور لحملها إياه، لكنها بخلاف أي أم عادية ترغب في إخفائه، وكان يتوجب على أدونيس البحث عن مخرج بنفسه.
بمجرد خروج أدونيس من الشجرة، في رواية أبولودورس، تهرع أفروديت إلى إلقائه في صندوق، وبالتأكيد لم ترجعه إلى الشجرة؛ بناء عليه، تلغي مولده الذي كان بالغ الصعوبة. وعندما فتحت برسيفوني الصندوق، الذي ائتمنتها أفروديت عليه دون الكشف عن محتوياته، وقعت هي الأخرى في حب أدونيس ورفضت إعادته. فكل إلهة، مثل أمه، أرادت الاستحواذ عليه لنفسها. وعلى الرغم من أن قرار زيوس يجعله حرا مدة ثلث السنة، يتخلى أدونيس عن ثلثه إلى أفروديت. وبذلك لا يخرج أدونيس أبدا عن رعاية هذه النماذج للنمط الأصلي للأم.
لا يستطيع أدونيس مقاومة الإلهتين؛ ليس لأنهما يثرناه جنسيا؛ فهو لا يرى فيهما إناثا جميلات إلى حد لا يقاوم، بل ينظر إليهما باعتبارهما مثل أمه، ولا يسعى إلى مضاجعتهما بل إلى المكوث في أحشائهما. وتوجد بينه وبين الإلهتين حالة بدائية من التوحد الروحي التي يطلق عليها لوسيان ليفي-بريل، والذي يستشهد به يونج كثيرا، «غموض المشاركة» (انظر الفصل
الأول ). ونفسيا ، يقع أدونيس في مرحلة الإنسانية التي يعتبرها ليفي-بريل، ومن بعده، يونج بدائية. ولأنه غير واع بالاختلاف بين حياته وحياة أي شخص آخر، يعتبر أدونيس صبيا بصورة متطرفة أو بأخرى، فهو غير واع وكذلك سطحي. وبينما قد يثني كامبل على توحد أدونيس مع العالم روحيا، يدين يونج هذا العالم باعتباره عالما طفوليا.
هوامش
الفصل السابع
الأسطورة والبنية
كلود ليفي-ستروس
لم يقتصر إسهام كلود ليفي-ستروس في دراسة الأسطورة - وهو ما جرت الإشارة إليه في الفصل
الأول - على إحياء وجهة نظر تايلور في الأسطورة كمجال معرفي علمي في الأصل، بل تضمن أيضا صياغة الأسلوب «البنيوي» في التعامل مع الأسطورة. تذكر أن الأسطورة في رأي ليفي-ستروس تعتبر مثالا على التفكير في حد ذاته، حديثا كان أو بدائيا؛ نظرا لأنها تصنف الظواهر. ويرى ليفي-ستروس أن البشر يفكرون في صورة تصنيفات، خاصة في صورة أزواج من المتعارضات، ثم يطبقون ذلك على العالم. ولا تقتصر عملية التصنيف على الأسطورة والعلم، التي يتعامل معها ليفي-ستروس باعتبارها مجالات تنقسم إلى تصنيفات، بل تدلل مجالات الطهي، الموسيقى، الفن، الأدب، الزي، قواعد السلوك وآدابه، الزواج، والاقتصاد أيضا على الميل البشري إلى تصنيف الأشياء في صورة أزواج.
في رأي ليفي-ستروس، يتمثل اختلاف الأسطورة عن هذه الظواهر في ثلاثة أشياء؛ أولا: تعتبر الأسطورة أقل هذه الظواهر تنظيما فيما يبدو: «فيبدو أنه الممكن حدوث أي شيء في سياق الأسطورة. ولا يوجد [فيما يبدو] فيها أي منطق، أو أي تسلسل في الأحداث.» وتشير إمكانية تنظيم الأساطير إلى مجموعات من المتعارضات إلى إثبات - بما لا يقبل الدحض - أن النظام شيء كامن في جميع الظواهر الثقافية، وأن العقل يجب من ثم أن يتضمنه. ونقلا عن ليفي-ستروس في بداية «مقدمة إلى علم الميثولوجيا»، كتابه المؤلف من أربعة مجلدات حول ميثولوجيا الأمريكيين الأصليين:
ستصبح التجربة التي أجريها حاليا في مجال الميثولوجيا أكثر حسما. إذا كان ممكنا التدليل في هذا المثال، أيضا، على أن الاعتباطية الظاهرة للعقل، والسريان التلقائي المفترض لخواطر الإلهام ، وابتكاريته الجامحة ظاهريا تنطوي على قوانين تعمل على مستوى أعمق، سنستخلص حتما أنه عند ترك العقل للانفراد بنفسه دون التفاعل مع الأشياء الأخرى، سيختزل العقل إلى عملية تقليد لنفسه كشيء ... وإذا بدا العقل البشري عاقد العزم وحاسما لأمره في مجال الميثولوجيا، «فإنه من باب أولى» سيحسم أمره في جميع مجالات النشاط الأخرى. (ليفي-ستروس، «النيئ والمطبوخ»، ص10)
ومثل تايلور، يلجأ ليفي-ستروس إلى طبيعة العقل التنظيمية للتدليل على أنها تنبثق أكثر من العمليات شبه العلمية للملاحظة والافتراض أكثر مما تنبثق من الخيال الجامح.
ثانيا: تعتبر الأسطورة، إضافة إلى الطوطمية، الظاهرة الوحيدة البدائية بين الظواهر التي يعرض لها ليفي-ستروس. ويشير التدليل على نظام الأسطورة إلى أن صانعها منظم، ومن ثم منطقي ومفكر أيضا.
ثالثا: والأهم، لا تعبر الأسطورة وحدها عن المتعارضات فقط، وهي التي تكافئ المتناقضات، بل توفق بينها أيضا: «فالهدف من الأسطورة هو توفير نموذج منطقي قادر على تجاوز أي تعارض.» وتوفق الأسطورة، أو بتعبير أكثر دقة، تخفف من حدة التعارض «جدليا» من خلال تقديم حد أوسط أو متعارضين متشابهين يسهل التوفيق بينهما.
شكل 7-1: كلود ليفي-ستروس.
1
ومثل المتعارضات المعبر عنها في الظواهر الأخرى، فإن أنواع المتعارضات المعبر عنها في الأسطورة لا حصر لها. ويمكن اختزال جميع هذه المتعارضات بوضوح إلى أمثلة على التعارض الأساسي بين «الطبيعة» و«الثقافة»، وهو تعارض ينبثق من الصراع الذي يمر به البشر بين أنفسهم كحيوانات، ومن ثم كجزء من الطبيعة، وبين أنفسهم كبشر، ومن ثم كجزء من الثقافة. ويعتبر هذا الصراع إسقاطا للطبيعة المتعارضة للعقل البشري على العالم. فالبشر لا يكتفون بالتفكير «بصورة متعارضة» بل يعيشون في العالم «بصورة متعارضة» أيضا. بينما يبدو الأمر، إذن، كما لو أن ليفي-ستروس، مثل فرويد ويونج، يجعل موضوع الأسطورة العقل بدلا من العالم، فإن الأمر ليس كذلك. فلا يسعى ليفي-ستروس مثلهم، إلى تحديد الإسقاطات للتخلص منها، إنما يسعى إلى تتبع مصدرها. (يرى ليفي-ستروس في الوقت نفسه أن العالم نفسه منظم «بصورة متعارضة» بحيث تتطابق الإسقاطات البشرية، فيما تحتفظ بطبيعتها، مع طبيعة العالم. ويقرر يونج الشيء نفسه في مذهب التزامن.) وبمجرد تتبع ليفي-ستروس لمصدر الإسقاطات، يمضي إلى التعامل معها باعتبارها خبرات بالعالم، بحيث يصبح موضوع الأسطورة بالنسبة إليه - مثلما هو مع بولتمان ويوناس وكامو - هو الاصطدام بالعالم؛ الاصطدام بالعالم ككيان متعارض، لا ككيان مغاير.
يتمثل أبرز الأمثلة على الصراع بين الطبيعة والثقافة في المتعارضات المتكررة التي يجدها ليفي-ستروس بين الطعام النيئ والطعام المطبوخ، والحيوانات البرية والمستأنسة، وزنا المحارم والزواج من خارج الجماعة. ولا يبدو واضحا كيف ترمز المتعارضات الأخرى التي يجدها - مثل تلك بين الشمس والقمر، الأرض والسماء، الساخن والبارد، المرتفع والمنخفض، اليسار واليمين، الذكر والأنثى، والحياة والموت - إلى الانقسام بين الطبيعة والثقافة بدلا من أن ترمز إلى الانقسام داخل الطبيعة. وبالمثل، لا يبدو واضحا على الإطلاق كيف ترمز متعارضات مثل تلك بين الأخت في مقابل الزوجة، والقرابة من جهة الأم في مقابل القرابة من جهة الأب، إلى شيء آخر بخلاف الانقسام في إطار المجتمع، ومن ثم في إطار الثقافة.
بحسب ليفي-ستروس، تخفف أسطورة أوديب من حالة الصدام بين الطبيعة والثقافة من خلال الإشارة إلى أن البشر يسمحون بوجود حالة موازية من الصدام:
على الرغم من عدم إمكانية حل [توفيق] المشكلة [التعارض] بوضوح، تقدم أسطورة أوديب أداة منطقية تحل محل المشكلة الأساسية، إذا جاز التعبير عن ذلك بصورة مباشرة تماما ... فمن خلال إقامة علاقة ترابطية من هذا النوع [بين التعارض الأصلي والتعارض الشبيه]، تكافئ العلاقة بين تعظيم شأن علاقات القرابة بالتقليل من شأنها [وهو التعارض الأكثر قبولا] العلاقة بين محاولة الهروب من الموطنية باستحالة النجاح في الهروب منها [وهو التعارض المطلوب التوفيق بين طرفيه المتعارضين]. (ليفي-ستروس، «الدراسة البنيوية للأسطورة»، ص82)
لم يرتب ليفي-ستروس عناصر الأسطورة وفق الترتيب الزمني للحبكة، بل وفق الترتيب المتكرر لمجموعتي الأزواج المتعارضة، وبذلك يذهب إلى أن الأسطورة تخفف من حدة الصراع في إطار زوج واحد من المتعارضات، من خلال وضعها جنبا إلى جنب مع زوج آخر مقبول لبيان الاختلاف بينهما. ويتمثل الزوج المتعارض المقارن في «التعظيم» و«التقليل» من شأن «علاقات القرابة». ويشير التعظيم إلى ارتكاب زنا المحارم؛ (أن يتزوج أوديب أمه)، أو مخالفة أحد المحرمات باسم العائلة؛ (أن تدفن أنتيجون أخاها بولينيسس). ويشير «التقليل» إلى قتل الأخ أخاه؛ (أن يقتل إتيوكليس أخاه بولينيسس)، أو قتل الأب؛ (أن يقتل أوديب أباه). ويمثل التعظيم الطبيعة نظرا لأنه غريزي، بينما يمثل التقليل الثقافة نظرا لأنها مصطنعة. وبينما يحلل ليفي-ستروس أسطورة أوديب، ويركز على القتل والجنس في العائلة الواحدة، يبدو متبعا لفرويد، غير أنه يستبعد تحليل فرويد باعتباره صورة أخرى من الأسطورة نفسها، بدلا من اعتباره تحليلا أقل قيمة لها.
في أسطورة أوديب، التعارض المطلوب قبوله هو التعارض بين «إنكار» و«تأكيد» «الأصل الموطني». ويشير الإنكار إلى قتل الوحوش التي تنشأ من الأرض وتمنع ميلاد البشر؛ (قتل قدموس للتنين الذي نبت البشر من أسنانه التي زرعها قدموس في الأرض)، أو تهديد بقاء البشر؛ (قتل أوديب للهولة الذي يتسبب في جوع أهل طيبة). ويشير التأكيد إلى الارتباط الميثولوجي المشترك بين البشر المستنبتين من الأرض ووجود صعوبات في السير (يشير اسم أوديب إلى «صاحب القدم المتورمة».) ويشير قتل الوحوش التي تولد من الأرض إلى إنكار صلة البشر بالأرض، ويشير تسمية البشر بناء على وجود صعوبة في السير إلى تأكيد صلة البشر بالأرض. ويمثل الإنكار الطبيعة؛ نظرا لأن البشر يولدون لآباء من البشر وليس من الأرض، فيما يشير التأكيد إلى الثقافة؛ نظرا لأن الميثولوجيا ترى أن البشر يولدون من الأرض. ولا يكشف ليفي-ستروس أبدا عن كيفية تقبل اليونانيين القدماء لمجموعة واحدة من المتعارضات بصورة أكثر يسرا من المجموعة الأخرى.
في المقابل، تفشل الأساطير الأخرى في تجاوز المتعارضات إلى هذا القدر. وتبين هذه الأساطير أن أي ترتيب بديل سيكون أسوأ. على سبيل المثال، تعمل أسطورة أسديوال الخاصة بقبيلة تسيميهيان الأمريكية الأصلية على:
تبرير أوجه القصور [المتعارضات أي المتناقضات] التي ينطوي عليها الواقع، بما أن المواقف المتطرفة [البديلة] يجري تصورها فقط لبيان صعوبة الدفاع عنها. (ليفي-ستروس، «دراسة أسطورة أسديوال»، ص30)
وبدلا من حل التعارض بين الموت والحياة، تجعل الأسطورة الموت أعلى مرتبة من الخلود، أو الحياة الأبدية:
يفسر هنود أمريكا الشمالية ذلك من خلال القول بأن الموت إن كان غير موجود، فإن الأرض ستعتمر بسكان كثيرين للغاية، ولن يوجد مكان لأحد. (ليفي-ستروس، نقلا عن أندريه أكون وآخرين، «مقابلة مع كلود ليفي-ستروس»، ص74)
نظرا لأن الأسطورة تتعلق بالخبرة الإنسانية بالعالم، فضلا عن التعبير عن أعمق المخاوف التي يشعر بها الإنسان في العالم، فإنها تمتلك فيما يبدو معنى وجوديا، كما هي الحال في بولتمان، ويوناس، وكامو. في المقابل، يتعامل ليفي-ستروس مع الأسطورة، مثل تايلور، باعتبارها ظاهرة فكرية باردة؛ إذ تشكل المتعارضات المعبر عنها في الأسطورة ألغازا منطقية أكثر منها مأزقا وجوديا. وتتضمن الأسطورة التفكير، وليس المشاعر. في الوقت نفسه، تنطوي الأسطورة على عملية التفكير أكثر من محتواها. وبذلك يستبق ليفي-ستروس هنا مجال بحث علماء النفس الإدراكيين المعاصرين.
في تسمية أسلوبه في تناول الأسطورة «بنيوي»، يهدف ليفي-ستروس إلى تمييزها عن التفسيرات «السردية»، أو تلك التي تلتزم بحبكة الأسطورة، وهو ما تلتزم به جميع النظريات الأخرى التي طرحناها هنا. وأيا كان معنى هذه النظريات سواء حرفي أو رمزي، فإنها تعتبر الأسطورة قصة، تتطور من بداية إلى نهاية. ومما لا شك فيه، لا تهتم جميع هذه النظريات بحبكة الأسطورة بالمثل. على سبيل المثال، بينما يهتم ليفي-بريل برؤية العالم الكامنة في الأسطورة، لا يزال يعزي حبكة ما إليها. في رأي تايلور، في المقابل، تعتبر الحبكة مركزية: إذ تقدم الأسطورة العملية التي جرى من خلالها خلق العالم أو الطريقة التي تسير بها الأمور فيه.
لا يوجد سوى ليفي-ستروس الذي يتخلى عن حبكة الأسطورة، أو «بعد التطور الزمني» لها ويحدد معنى الأسطورة في البنية، أو «البعد التزامني». وبينما تتمثل حبكة الأسطورة في أن الحدث (أ) يؤدي إلى الحدث (ب)، الذي يؤدي إلى الحدث (ج)، الذي يؤدي إلى الحدث (د)؛ تتمثل البنية، التي تعتبر متماثلة مع التعبير عن المتعارضات والتوفيق بينها، في أن الحدثين (أ) و(ب) يشكلان معا تعارضا يتوسطه الحدث (ج)، أو أن الحدثين (أ) و(ب)، اللذين يشكلان معا التعارض نفسه، يمثلان بعضهما لبعض ما يمثله الحدثان (ج) و(د) بعضهما لبعض؛ أي تعارض مشابه.
تشتمل كل أسطورة على سلسلة من المجموعات المتعارضة، تتألف كل مجموعة من زوج من المتعارضات التي يجري التوفيق بينها بصورة أو بأخرى. وتتوافق العلاقة فيما بين المجموعات مع العلاقة فيما بين العناصر في داخل كل مجموعة. وبدلا من أن تفضي المجموعة الأولى إلى المجموعة الثانية، التي تفضي إلى المجموعة الثالثة، التي تؤدي بدورها إلى المجموعة الرابعة؛ تتوسط المجموعة الثالثة التعارض بين المجموعة الأولى والمجموعة الثانية، أو تمثل المجموعة الأولى للمجموعة الثانية ما تمثله المجموعة الثالثة للمجموعة الرابعة.
المعنى البنيوي للأسطورة غير تراكمي ومتشابك؛ غير تراكمي نظرا لأن الأسطورة تشتمل على سلسلة من التوفيقات بين المتعارضات التي تعبر عنها أكثر من اشتمالها على توفيق واحد يتم بصورة تدريجية. وبينما تقدم كل ثلاث أو أربع مجموعات توفيقا للتعارض، فإنه وفق أي من الطريقتين المذكورتين، لا تقدم الأسطورة ككل توفيقا للتعارض؛ بناء عليه، يعتبر معنى الأسطورة دوريا أكثر منه خطيا، متكررا أكثر منه تصاعديا. ولا تمثل كل دورة من ثلاث أو أربع مجموعات - مثل كل دورة لثلاثة أو أربعة عناصر داخل كل مجموعة - النتيجة المترتبة بل «التحول»، أو تعبيرا مغايرا لسابقتها.
ويعتبر المعنى البنيوي للأسطورة متشابكا؛ نظرا لأن معنى أي عنصر داخل أية مجموعة لا يكمن فيه نفسه، بل في علاقته «الجدلية» مع العناصر الأخرى في المجموعة. بالمثل، لا يكمن معنى أية مجموعة فيها نفسها، بل في علاقتها «الجدلية» مع المجموعات الأخرى. ولا يمتلك أي عنصر أو مجموعة معنى في ذاته، حرفيا كان أو رمزيا.
تمتلك الأسطورة نفس العلاقة التشابكية وغير التراكمية مع الأساطير الأخرى مثلما تمتلك أجزاؤها العلاقات نفسها مع بعضها. ولا يكمن معنى الأسطورة فيها نفسها بل في علاقتها «الجدلية» مع الأساطير الأخرى، وتمثل المجموعة التي تتكون من هذه الأساطير «التحول» أكثر من كونها تمثل النتيجة المترتبة على الأسطورة السابقة عليها. أخيرا، تمتلك الأساطير في مجملها العلاقة نفسها مع الظواهر الإنسانية الأخرى، بما في ذلك الطقوس، مثلما تمتلك الأساطير الفردية العلاقة نفسها مع بعضها. في نسخة ليفي-ستروس الفريدة من النظرية الطقوسية للأسطورة، تعمل الأساطير والطقوس معا، كمتعارضات بنيوية أكثر منها متناظرات، مثلما يذهب علماء النظرية الطقوسية للأسطورة.
فلاديمير بروب وجورج دوميزيل ومدرسة جرنيه
لا يعتبر ليفي-ستروس هو المنظر الوحيد للأسطورة أو حتى الأقدم الذي يصف المنهج الذي يستخدمه بأنه بنيوي. فمن الجدير بالملاحظة أنه كان لكل من عالم التراث الشعبي الروسي فلاديمير بروب (1895-1970) وعالم الثقافة الهندية-الأوروبية الفرنسي جورج دوميزيل (1898-1986)؛ كتابات حول هذا الموضوع قبل ليفي-ستروس وبصورة مستقلة عنه. تتمثل الحبكة المشتركة، التي سبق تلخيصها في الفصل الذي تحدثنا فيه حول الأسطورة والأدب، والتي يفك بروب شفرتها في الحكايات الشعبية الروسية، في البنية التي يطرحها. وعلى عكس بنية ليفي-ستروس، الذي يزدري جهود بروب للسبب التالي، تظل بنية بروب في مستوى السرد ومن ثم لا تختلف عن نوع «البنية» الموجودة في أطروحات كل من أوتو رانك، وجوزيف كامبل، واللورد رجلان. في المقابل، بينما تكمن البنية التي يكشف عنها دوميزيل في مستوى يقع تحت المستوى السطحي كما هي الحال في بنية ليفي-ستروس، فإنها تعكس نظام المجتمع وليس نظام العقل، كما هي الحال في بنية ليفي-ستروس، كما تتألف من ثلاثة أجزاء وليس جزءين.
ولقد أثبتت مجموعة من دارسي الحضارة اليونانية والرومانية القديمة الفرنسيين الذين كان مصدر إلهامهم لوي جرنيه ويترأسهم جون-بيير فرنان (1914-2007)؛ ولاءهم الكامل لبنيوية ليفي-ستروس، حتى إنهم تبنوها منهجا. كان يلقى باللائمة على ليفي-ستروس بصورة منتظمة بسبب عزل الأسطورة عن سياقاتها المتعددة، الاجتماعية، الثقافية، السياسية، الاقتصادية، بل الجنسية. وفي مقاله حول أسطورة أسديوال، يقدم ليفي-ستروس تحليلا إثنوجرافيا مفصلا للأسطورة، فاحصا ودامجا العوامل الجغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية، والكونية، إلا أنه لا يفعل ذلك في أي موضع آخر. واتخذ فرنان وزملاؤه من دارسي الحضارة اليونانية والرومانية - خاصة مارسيل ديتيان، وبيير فيدال-ناكي، ونيكول لورو - من تحليل أسطورة أسديوال نموذجا لهم. وبوصفهم ورثة لما تركه ليفي-ستروس، سعى هؤلاء العلماء إلى فك شفرة الأنماط المؤسسة للأساطير والكامنة فيها في كثير من الأحيان، لكنهم سعوا فيما بعد إلى ربط هذه الأنماط بالأنماط الموجودة في الثقافة بصورة عامة.
مارسيل ديتيان حول أدونيس
كرس دارس الحضارة اليونانية والرومانية الفرنسي مارسيل ديتيان (ولد عام 1936)، كتابا كاملا لأسطورة أدونيس بعنوان «حدائق أدونيس»، وكان في ذلك الوقت تابعا مخلصا لليفي-ستروس. بينما يعتبر أدونيس في رأي فريزر قوة غير شخصية أكثر منه إلها، اعتبر أدونيس في رأي ديتيان بشرا أكثر منه إلها. بينما يرمز أدونيس في رأي فريزر للنبات، يرمز - بل يوازي - أحد أشكال النبات في رأي ديتيان إلى أدونيس. بينما يموت أدونيس ثم يبعث في رأي فريزر سنويا، مثل النباتات، ينمو أدونيس بسرعة، مثل النباتات المرتبطة به، ثم يموت بسرعة، مرة واحدة إلى الأبد. والأدهى من ذلك، بينما يكمن معنى الأسطورة في رأي فريزر في الحبكة - الميلاد، المراهقة، الموت، والبعث - يكمن المعنى للأسطورة في رأي ديتيان في العلاقة الجدلية بين عناصر الحبكة: الشخصيات، الأماكن، الأزمنة، والأحداث.
في رأي ديتيان، سائرا على نهج ليفي-ستروس، توجد هذه العلاقة الجدلية في عدة مستويات، نباتية، فلكية، موسمية، دينية، واجتماعية. وفي كل مستوى من المستويات توجد منطقة وسط بين النقائض المتطرفة. وتتناظر المستويات فيما بينها، ولا ترمز إلى بعضها. فتشبه العلاقة بين العناصر في مستوى الغذاء العلاقة بين العناصر في المستوى النباتي. في المقابل، يرتبط المستوى الغذائي - حيث تقع الحبوب واللحم المطهي بين التوابل في أحد الأطراف والخس واللحم النيئ على الطرف الآخر - ارتباطا وثيقا بالمستويات الأخرى.
يربط ديتيان أولا بين التوابل والآلهة، وبين الحبوب واللحم المطهي والبشر، وبين الخس واللحم النيئ والحيوانات. يجري حرق التوابل خلال طقوس تقديم القرابين إلى الآلهة، فتصعد رائحة الحريق إلى الآلهة، التي تستنشقها كمكافئ للغذاء. ونظرا لأن اللحم مطهو وغير محروق، يأخذه البشر، الذين يزرعون الحبوب أيضا. ومثلما يذهب اللحم المحروق إلى الآلهة في صورة أدخنة، يذهب اللحم النيئ إلى الحيوانات، التي يربط ديتيان بينها وبين الخس. بالإضافة إلى ذلك، يجري الربط بين التوابل والآلهة بسبب علاقتها بالشمس ومن ثم بقمة جبل الأوليمب، الذي يمثل المكان الذي يعلو الأرض في الخيال اليوناني. ولا يجري حرق التوابل عن طريق الشمس فحسب، بل إن بذورها تنمو حيث ومتى كانت أقرب إلى الشمس، في أكثر الأماكن حرارة وفي أكثر أيام الصيف حرارة. في المقابل، يعتبر الخس باردا ومن ثم يرتبط بأكثر الأماكن والأوقات برودة؛ العالم الموجود أسفل الأرض - البحار والعالم السفلي - والشتاء. ولا يؤكل اللحم النيئ إلا «باردا».
تقع الحبوب واللحم المطهي بين التوابل من جانب، والخس واللحم النيئ من جانب آخر. ومثلما يجب طهي اللحم، في رأي البشر، بدلا من حرقه أو أكله نيئا، تحتاج الحبوب، حتى تنمو، إلى بعض حرارة الشمس وليس التعرض إليها كثيرا: «في منطقة وسط على النطاق الجغرافي، تقع على مسافة كبيرة من حرارة الشمس النباتات الصالحة للأكل، والحبوب والفواكه.» ومن ثم لا تزرع الحبوب فوق الأرض أو تحت الأرض، ولكنها تزرع داخل الأرض. وبينما يجري جمع بذور التوابل إذن خلال فصل الصيف والخس خلال فصل الشتاء إلى حد ما، يجري حصاد المحاصيل في فصل الخريف بين هذا وذاك.
ترتبط التوابل بالآلهة لأسباب أخرى. تجمع بذورها أكثر مما تزرع، ولا تتطلب مجهودا ومن ثم تناسب حياة الآلهة. في المقابل، بينما لا تعمل الحيوانات، التي تأكل ما تجده، للحصول على عشائها، تأكل الآلهة ما ترغب فيه. تأكل الحيوانات ما تجده فقط. إذن، لا تضطر الآلهة إلى أن تعمل لتتناول غذاء أفضل من غذاء البشر . وتارة أخرى، يقع البشر في منطقة وسيطة. بينما يجب أن يعمل البشر للحصول على الغذاء، وعندما يعملون يجدون ما يكفي، بالكاد أحيانا، من الغذاء. وفي قصيدة الشاعر اليوناني هسيود «العصر الذهبي»، كان البشر مثل الآلهة تماما؛ نظرا لأن لديهم الكثير لتناوله دون الحاجة إلى العمل. ومستقبلا، سيصير البشر مثل الحيوانات، يرفضون العمل، ومن ثم يصبحون جوعى.
لا ترتبط التوابل بالآلهة فقط بل أيضا بالفوضى الجنسية. وبدلا من جعل الفوضى الجنسية امتيازا إلهيا، يجعل ديتيان من زيوس وهيرا الزوجين المثاليين حتى في ظل مغامرات زيوس: «يؤكد الزوج زيوس-هيرا على التقديس الطقوسي الذي يصدق على وحدة الزوج والزوجة.» ولا ترتبط الآلهة بل التوابل، من خلال شذاها العطري، ومن ثم إغوائها، بالفوضى الجنسية: «في صورة دهانات، وروائح، ومنتجات تجميلية أخرى تؤدي [التوابل] أيضا وظيفة جنسية.» لا يعتبر من قبيل المصادفة، إذن، أن تتخلل التوابل كل شيء في مهرجان أدونيا، الذي كان يجري الاحتفال به خلال أكثر الأيام حرارة، فضلا عن سمعته السيئة بتوفر الفوضى الجنسية خلال فعاليته. في المقابل، يربط ديتيان الخس واللحم النيئ - وليس الحيوانات - بالعقم والتبتل. يرجع ذلك إلى أن الرائحة الكريهة للحم الفاسد، إن لم يكن النيئ - إذ يساوي ديتيان بين الاثنين إلى حد ما - تبعد بدلا من أن تجذب ومن ثم تمنع ممارسة الجنس. ليس من قبيل المصادفة إذن أن يزدرى رجال جزيرة لمنوس النساء فيها لرائحتهن النتنة.
وبين الفوضى الجنسية من جانب والعقم أو التبتل من جانب آخر يقع الزواج الذي يرتبط بمهرجان الثسموفوريا، مثلما يشير ديتيان. على الرغم من منع الرجال من المشاركة فيه، كان المهرجان، الذي كان يحتفل به سنويا في أثينا لمدة ثلاثة أيام، يحتفي بالزواج. كانت الإناث المشاركات جميعهن متزوجات. وبين شذا أدونيا والرائحة النتنة لإناث لمنوس، كانت الرائحة السيئة في المهرجان تهدف إلى إبعاد الرجال خلال فترة المهرجان فقط.
يربط ديتيان بين هذه المستويات الثلاثة جميعا بحياة أدونيس وبالحدائق الطقوسية المخصصة له. في كل مستوى من المستويات، كما يذهب ديتيان، يوجد أدونيس في أحد طرفي النقيض وليس في المنطقة الوسطى. يقفز أدونيس من طرف نقيض إلى طرف آخر، متخطيا منطقة الوسط. ويمثل مصير أدونيس مصير أي إنسان يجرؤ على التصرف كإله؛ إذ يجري سخطه إلى حيوان. وفي اجترائه على الفوضى الجنسية، يكشف الإنسان عن عجزه الجنسي.
في رأي ديتيان، باعتباره عالما ينتهج النهج البنيوي، «تتناظر» الأطراف المتناقضة في كل مستوى، دون أن «ترمز» إلى حياة أدونيس. ففي كل مستوى من المستويات تمثل الأطراف المتناقضة بالنسبة إلى المنطقة الوسطى ما يمثله أدونيس بالنسبة إلى البشر العاديين. بينما تستخدم الأسطورة في رأي فريزر البشر لترمز إلى القوى غير الشخصية للطبيعة، تستخدم الأسطورة القوى غير الشخصية للطبيعة كشيء مشابه للسلوك الإنساني.
تنطوي حدائق أدونيس، التي يجري زراعتها خلال مهرجان أدونيا، على القليل من العمل؛ إذ تنمو النباتات على الفور، وتناظر عملية العناية بها الحياة المرفهة للآلهة. وفي حقيقة الأمر، تشبه الحدائق توابل الآلهة، حيث يجري جمع النباتات فقط، دون زراعتها، وتنمو في أكثر الأماكن والأوقات حرارة. ويجري نقل النباتات إلى أسطح المنازل في أوج فصل الصيف. وبينما تستغرق المحاصيل العادية ثمانية أشهر لتنمو، لا يستغرق نمو النباتات سوى ثمانية أيام. بينما تتطلب المحاصيل العادية قوة الرجال، ترعى النساء الحدائق. على عكس التوابل، تفنى الحدائق بمجرد نمو النباتات فيها، وعلى عكس المحاصيل العادية تموت دون أن تنتج غذاء. ولأنها بدأت فوق الأرض، ينتهي المطاف بها تحت الأرض، ويزج بها في البحر. باختصار، تعتبر الحدائق وسيلة «إثراء سريع» عقيمة للحصول على الطعام دون أي عمل. فبينما لا تحتاج الآلهة للعمل، يجب أن يعمل البشر. وعندما يسعى البشر للحصول على «الطعام السريع» بدلا من الطعام العادي، لا يحصلون على أي طعام.
يرتبط أدونيس نفسه بالتوابل من خلال أمه، ميرا، التي تصبح شجرة مر. تجري عملية حمل أدونيس في الشجرة، ويتطلب ميلاده خروجه منها. وفي رواية أوفيد، تحمم حوريات الغابة الرضيع في سائل المر الذي تكون من دموع أمه. والأدهى من ذلك، يرتبط أدونيس بالتوابل من خلال الفوضى الجنسية ؛ فلعدم قدرتها على التحكم في رغبتها، ترتكب أم أدونيس زنا المحارم مع أبيها. وبسبب عدم قدرتهما على التحكم في رغبتيهما، تتصارع أفروديت وبرسيفوني - وفق رواية أبولودورس - على حضانة الرضيع أدونيس. ويعتبر أدونيس نفسه - في رأي ديتيان - مغويا للإلهتين أكثر منه ضحية بريئة للإغواء الإلهي.
يعتبر أدونيس مغويا سابقا لأوانه؛ ومثل الحدائق، ينمو بسرعة. في المقابل، مثل الحدائق أيضا، يموت بسرعة. ومثلما تموت الحدائق قبل أوانها قبل أن تنتج غذاء، يموت أدونيس أيضا قبل أوانه قبل أن يتزوج وينجب أطفالا. وبعد أن بدأ حياته بفوضى جنسية، ينتهي عقيما. في المقابل، فإن أمه، التي بدأت عقيمة أو على الأقل غير راغبة في الجنس كثيرا - إذ رفضت جميع الذكور - أصبحت تعيش في فوضى جنسية على أقل تقدير. وبالقفز من طرف نقيض إلى طرف نقيض آخر، ترفض الأم والابن بل تهددان المنطقة الوسطى للزواج.
لا يتخذ عقم أدونيس شكل الطفولية فحسب بل التخنث؛ إذ يكشف موته عن طريق الخنزير البري عن عدم قدرته على ممارسة الصيد الذكوري. فبدلا من أن يكون صيادا، يصير الفريسة. ومثله مثل «بطل نقيض مثالي لنموذج البطل المحارب مثل هركليز»، لا يعتبر أدونيس «أكثر من ضحية ضعيفة وشخص مثير للشفقة.» وبينما تشير خنوثة أدونيس إلى وجود فجوة غير كافية بين الذكورة والأنوثة، يشير رفض أمه لجميع الذكور في البداية إلى العكس. وتارة أخرى، يقع النموذج المثالي في منطقة وسط؛ فيجب أن يرتبط الذكور والإناث ويجب أن يظلا متمايزين.
ومثلما يربط ديتيان بين الفوضى الجنسية لأدونيس والتوابل، يربط أيضا بين عقم أدونيس وموته ونبات الخس الذي، في تنوعيات كثيرة للأسطورة، يحاول أدونيس إخفاءه عبثا بعيدا عن متناول الخنزير البري. وكما أن نبات المر «يمتلك القدرة على إثارة شهوات رجل مسن»، «يمتلك» الخس «القدرة على إطفاء لهيب المحبين الشباب»؛ إذ «يجلب» الخس «العجز الجنسي الذي يساوي الموت.»
إيجازا، لا يعلم أدونيس مكانه. لا يعلم أدونيس أنه ليس إلها أو حيوانا بل بشر، وأن ما يميزه كبشر هو الزواج. وبموته قبل زواجه، يفشل أدونيس في تحقيق طبيعته البشرية.
إذا كان «معنى» الأسطورة في رأي ديتيان يتمثل في عرض سلسلة لانهائية من المستويات، تؤدي الأسطورة «وظيفة» اجتماعية. فتدعو إلى الزواج كمنطقة وسطى بين الفوضى الجنسية من جانب والعقم أو التبتل من جانب آخر. وفي الفصل التالي، سأطرح وجهة نظر تتمثل في أن الأسطورة تدعو إلى الزواج كحامي للدولة المدينة.
هوامش
الفصل الثامن
الأسطورة والمجتمع
برونيسلاف مالينوفسكي
بينما تتعامل الأسطورة في رأي تايلور وفريزر بصورة حصرية، أو شبه حصرية، مع الظواهر المادية - الفيضان، المرض، الموت - فإنها تتعامل في رأي برونيسلاف مالينوفسكي مع ظواهر اجتماعية كالزواج والضرائب والطقس، كما ناقشنا في الفصل
الرابع . فالأسطورة هنا لا تزال تعمل على مصالحة البشر مع منغصات الحياة، ولكنها المنغصات التي «يمكن» التخلص منها، غير أنها بعيدة كل البعد عن المنغصات غير القابلة للتغيير. وهنا، أيضا، تحث الأساطير على القبول المذعن لمنغصات الحياة من خلال اقتفاء أثر هذه المنغصات - أو على الأقل هذه الأشياء المفروضة - وصولا إلى ماض عتيق، ومن ثم منحها سلطة التقاليد:
تبدأ الأسطورة في الظهور عندما يتطلب الطقس أو الاحتفاء أو القاعدة الاجتماعية أو الأخلاقية؛ تبريرا وضمانا على عراقتها وحقيقتها وقداستها. (مالينوفسكي، «الأسطورة في علم النفس البدائي»، ص107)
وتقنع الأسطورة المواطنين بالانصياع إلى المراتب الاجتماعية من خلال الإعلان عن عراقة هذه المراتب ومن ثم استحقاقها. فتجعل الأسطورة التي تتمحور حول الملكية البريطانية المؤسسة قديمة قدر الإمكان، بحيث يصير أي تقليل من شأنها أو الحط منها حطا من قدر التقاليد نفسها. وفي إنجلترا المعاصرة يجري الدفاع عن صيد الثعالب باعتباره جزءا من الحياة الريفية لفترة طويلة. فيأتي في الأساطير الاجتماعية أشياء من قبيل، «افعل هذا لأن هذا ما كان يجري عمله دوما.» في حالة الظواهر المادية، المستفيد من الأسطورة هو الفرد. وفي حالة الظواهر الاجتماعية، الطرف المستفيد هو المجتمع نفسه.
شكل 8-1: برونيسلاف مالينوفسكي، نحو عام 1935.
1
إن القول بأن الأسطورة تتبع أصل الظاهرة يعني القول بأن الظاهرة تفسر هذه الظواهر. عندما يشير مالينوفسكي، إذن، في معرض هجومه على تايلور ، إلى أن البدائيين «لا يريدون «تفسير» أي شيء يحدث في أساطيرهم، وجعله «مفهوما»» يؤكد مالينوفسكي بالفعل على أن الأساطير لا تعتبر تفسيرات في حد ذاتها، مثلما يعتبرها تايلور. في المقابل، يجب أن تظل الأساطير تفسيرات؛ إذ إن من خلال تفسير الظواهر فقط تؤدي الأساطير وظيفتها التوفيقية.
لا يبين مالينوفسكي أبدا ما إذا كان الحداثيون، فضلا عن البدائيين، يمتلكون أساطير أم لا؛ ففي ظل توفير العلم الحديث مزيدا من التحكم في العالم المادي أكثر من العالم البدائي، هناك بالطبع أساطير حديثة أقل تدور حول الظواهر المادية. وفي حال عدم وجودها، لا تزال هناك أساطير حديثة تدور حول الظواهر الاجتماعية. وإذا لم تكن هذه الأساطير موجودة هي الأخرى، ستحل الأيديولوجية محلها.
جورج سوريل
يمكن العثور على وجهة النظر القائلة بأن الأسطورة نفسها تعتبر أيديولوجية في الكتاب الكلاسيكي «خواطر حول العنف» للنقابي الفرنسي جورج سوريل (1847-1922). في رأي سوريل، تعتبر الأسطورة أبدية، وليست فقط بدائية، وفي طرح مضاد لطرح مالينوفسكي، لا تعمل الأسطورة على دعم المجتمع بل تؤدي إلى قلب موازينه. ويؤكد سوريل على أن الطريقة الوحيدة لإقامة النموذج الاشتراكي المثالي هي الثورة، التي تتطلب العنف والأسطورة معا. لا يقصد سوريل «بالعنف» إراقة الدماء فقط بل القوة. ويتمثل الفعل «العنيف» الرئيس في إضراب ينفذه جميع العمال. ويقصد سوريل «بالأسطورة» أيديولوجية مرشدة، أيديولوجية تبشر بنهاية وشيكة للمجتمع الحالي، وتدعو إلى الصراع حتى الموت مع الطبقة الحاكمة، وتجعل من المتمردين أبطالا، وتؤكد على اليقين بالنصر، وتتبنى معيارا أخلاقيا للمجتمع المستقبلي:
في سياق هذه الدراسة، كان هناك شيء واحد حاضر في عقلي، أن الأشخاص الذين يشاركون في حركة اجتماعية عظيمة يصورون فعلهم المستقبلي باعتباره معركة لا مجال للشك في انتصار قضيتهم فيها. وهذه التصورات الذهنية ... أقترح أن يطلق عليها أساطير؛ ف «الإضراب العام» النقابي وثورة ماركس الكارثية أمثلة على مثل هذه الأساطير ... لم يقنط الكاثوليكيون أبدا حتى في أصعب الأوقات، لأنهم كانوا دائما ينظرون إلى تاريخ الكنيسة باعتباره سلسلة من المعارك بين الشيطان والطبقية الكنسية التي يوجد المسيح على قمتها، ولا تعتبر أية صعوبة جديدة تقع سوى حلقة في حرب يجب أن تضع أوزارها بانتصار الكاثوليكية. (سوريل، «خواطر حول العنف»، ص41-42)
يعتبر عزم أوليفر كرومويل الذي لا يلين على خلع الملك تشارلز الأول عن عرش إنجلترا مثالا على الأسطورة عند سوريل.
يؤكد سوريل أن كلا من العنف والأسطورة لا غناء عنهما لتحقيق الثورة ، ومن ثم فإنهما مبرران. ويرفض سوريل أي تحليل علمي محايد للأسطورة، بما في ذلك التحليل الماركسي. يحول سوريل الماركسية نفسها إلى أسطورة؛ إذ إن الالتزام بمبادئها يحرض أتباعها على الثورة. ويشبه سوريل مالينوفسكي في عدم اكتراثه بحقيقة الأسطورة. وفي رأي كليهما، يتمثل مناط الأمر في أن الأسطورة تحدث أثرا متى كانت صحتها موثوقا فيها. وفي رأي سوريل، لا يمكن معرفة الحقيقة النهائية للأسطورة - نجاح الثورة - مقدما على أية حال.
في رأي مالينوفسكي، تشبه الأسطورة الأيديولوجية في تبريرها الخضوع للمجتمع. وفي رأي سوريل، تعتبر الأسطورة «هي» الأيديولوجية في تبريرها لفظ المجتمع. ولا يمكن تطبيق نظرية سوريل بالكامل على حالة أدونيس، الذي يتصرف وحده، ويعتبر ضحية سلبية أكثر منه فاعلا مؤثرا، فضلا عن عدم تأثره بأية أيديولوجية. وتناسب نظرية سوريل الإرهابيين اليوم، الذين تبرر خرافتهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر كمرحلة أولى في هزيمة القوة الدولية المهيمنة، أمريكا المشيطنة. ومع هذا، لا يمكن بسهولة معرفة إلى أي مدى توضح نظرية سوريل بالفعل أية أسطورة بخلاف تسميتها كذلك.
رينيه جيرار
لا يقتصر طرح رينيه جيرار، الذي جرى تناول وجهة نظره حول النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر في الفصل
الخامس ، على تغيير العلاقة بين الأسطورة والطقس فقط، بل إنه يغير أيضا العلاقة بين أصل ووظيفة كليهما. لا تنشأ الأسطورة والطقس لتوفير الطعام بل لتحقيق السلام. فيضحى بكبش الفداء، ملكا كان أو شخصا من عامة الشعب، لإنهاء العنف، وليس لإنهاء فصل الشتاء. فالعنف هو الذي يعتبر «المشكلة»، وليس «الحل»، مثلما يذهب سوريل. وتعتبر الأسطورة والطقس وسائل للتكيف مع الطبيعة البشرية وليس مع الطبيعة؛ أي مع العدوان الإنساني.
في كتاب «العنف والمقدس»، يشير جيرار، مثل رجلان ورانك، إلى أوديب باعتباره أفضل مثال على نظريته. فقد كان أوديب بعيدا كل البعد عن التسبب في الفجيعة التي حلت ببلاد طيبة خلال فترة حكمه كملك، ولذا فهو يعتبر، في رأي جيرار، ضحية بريئة. وربما لم يكن هناك فجيعة من الأساس أو أن الفجيعة لم تكن السبب في وقوع الثورة. أو ربما كانت الفجيعة مجازا عن العنف الذي انتشر في المجتمع كالوباء. ويتجلى العنف بين مواطني طيبة في الصراع بين الشخوص الرئيسة في مسرحية سوفوكليس: أوديب وكريون وترسياس. وتتمثل الطريقة الوحيدة لإنهاء العنف ومن ثم الحفاظ على المجتمع في جعل عضو مستضعف في المجتمع كبش فداء. وعلى الرغم من كونه ملكا، يتعرض أوديب للظلم بتشويه سمعته أيما تشويه، ومن ثم استضعافه لأقصى درجة. فهو لا ينتمي إلى الجماعة المحلية، ولا يعرف بانتمائه إلى أهل طيبة، كما لم يعتل العرش بالوراثة بل من خلال قتل الهولة. إضافة إلى ذلك، يعتبر أوديب معاقا نتيجة وخز كاحليه عند الميلاد. وبذلك تعمل الأسطورة، التي جرى ابتداعها بعد سقوط أوديب، على إعفاء المجتمع من اللوم عن طريق لوم أوديب نفسه: قتل أوديب أباه وتزوج أمه. وبسبب جريرة قتل الأب وخطيئة زنا المحارم تمر طيبة بفاجعة. ويطرح ترسياس المسألة على هذا النحو في مسرحية سوفوكليس:
إذا فسرنا رد ترسياس حرفيا، فإن الاتهامات المروعة بقتل الأب وزنا المحارم التي وجهها إلى أوديب لم تنبع من أي مصدر معلومات خارق [ومن ثم لا تمثل «الحقيقة»]. ويعتبر الاتهام فعلا انتقاميا ينبثق عن حوار عدواني لمسألة مأساوية. يبدأ أوديب غير عامد هذا الحوار من خلال إجبار ترسياس على التحدث. فيتهم أوديب ترسياس بالاشتراك في قتل لايوس [والد أوديب]، ويحثه إذن على الانتقام، بإلقاء التهمة عليه مجددا ... يعتبر اتهام [كل منهما] للآخر بقتل لايوس بمثابة إلقاء كل طرف على الآخر مسئولية التسبب في أزمة كبش الفداء. في المقابل، مثلما رأينا، يشترك الجميع في تحمل المسئولية؛ نظرا لأن الجميع شارك في تدمير نظام ثقافي. (جيرار، «العنف والمقدس »، ص71)
في واقع الأمر، بحسب جيرار، يقرر أهل طيبة قبول رأي ترسياس وكريون بدلا من رأي أوديب حول من المتسبب في انهيار المجتمع. فتحول الأسطورة المترتبة على ذلك آراء المنتصرين إلى حقيقة:
سعى أهل طيبة - المتدينون - إلى علاج لعلتهم من خلال القبول الشكلي للأسطورة، من خلال جعل الأسطورة الرواية غير المتنازع عليها للأحداث التي هزت المدينة، ومن خلال جعل الأسطورة ميثاقا لنظام ثقافي جديد، وذلك عبر إقناع أنفسهم، باختصار، بأن جميع مآسيهم كانت ترجع فقط إلى الفاجعة التي حلت بهم. ويتطلب هذا الموقف الإيمان التام بذنب الضحية البديلة. (جيرار، «العنف والمقدس»، ص83)
أن يكون هذا العنف الجماعي، وليس أوديب وحده، هو السبب الحقيقي في المشكلة؛ هو ما تؤكده الأحداث اللاحقة. فبينما تنتهي الفاجعة، يتبعها صراع على العرش بين كريون، وبولينيسس بن أوديب، وابن أوديب الآخر إتيوكليس. في رأي جيرار، يرفض سوفوكليس الأسطورة، وإن لم يكن ذلك بصورة مباشرة أبدا، بحيث جرى النظر إلى المسرحية بصورة مستمرة، من قبل هاريسون وموراي، باعتبارها «النسخة» الدرامية للأسطورة بدلا من اعتبارها «رفضا» لها، مثلما يذهب جيرار الأكثر حدة في الملاحظة فيما يبدو.
تفعل الأسطورة، التي تمتد في «أوديب في كولونس»، أكثر من لوم أوديب على ما حل بطيبة من ويلات. فتتطور لتجعل من أوديب بطلا. حتى عندما كان ملكا، يتميز أوديب بالبطولية في اعتبار إنهاء الفاجعة التي حلت برعاياه من واجبه، وفي التعهد باكتشاف المذنب، وفي الإصرار على أن ينفى عند اكتشافه بأنه المذنب. في المقابل، في رأي جيرار، لا يعتبر البطل الحقيقي هو أوديب الذي سقط وضحى بنفسه، كما يذهب رجلان، بل أوديب رفيع الشأن. حتى في حال كان هو المذنب، يمتلك أوديب القدرة على إنقاذ طيبة: مثلما كان ظهوره سببا في وقوع البلاء، سيؤدي اختفاؤه إلى إنهائه. يعتبر أوديب بطلا حتى وإن كان مجرما؛ فهو يمتلك قدرة تشبه قدرة الإله على إحداث البلاء ورفعه.
في المقابل، بحلول وقت عرض مسرحية «أوديب في كولونس»، كانت مكانة أوديب قد ارتفعت. بوصوله إلى كولونس، التي تقع بالقرب من أثينا، بعد سنوات من التجوال، يؤمر بالعودة إلى طيبة. ومثلما اعتمدت سلامة مجتمع طيبة على نفي أوديب، تعتمد سلامته الآن أيضا على عودته. يرفض أوديب العودة؛ إذ نعلم أن أوديب كان يريد البقاء في طيبة بعد الأحداث في «أوديب ملكا»، غير أنه أجبر على الرحيل من جانب كريون وآخرين في النهاية. ولكن كريون مستعد الآن للقبض على أوديب وإعادته إلى طيبة، فيعرض الملك ثيسيوس على أوديب حق اللجوء. في المقابل، يعلن أوديب أن موضع دفنه في أثينا سيحمي أثينا من أي هجوم من طيبة. باختصار، ينتهي المطاف بأوديب، الذي بدأ ملكا لطيبة شبيها بالإله في «أوديب ملكا»، بأن يصبح صاحب أياد بيضاء على أثينا وشبيها بالإله في «أوديب في كولونس».
أدونيس
ربط اليونانيون القدماء عدم النضج النفسي بعدم النضج السياسي: كان فشل أدونيس في أن يصبح شخصا بالغا سيعني فشله في أن يصبح مواطنا. كان أدونيس سيتناسب تماما مع ذلك الشكل من الحكم الذي لا ينطوي على أي نوع من المسئولية ويتبنى الطفولة السياسية منهجا؛ أي الطغيان. ويتناسب خضوع أدونيس إلى الإلهتين اللتين تشبهان الأمهات مع مجتمع تسيطر فيه الأم على الأحداث. وفي ظل تعامله فقط مع إناث تغمرنه بالاهتمام الخانق، يسقط أدونيس تلك الصفات على جميع الإناث، ومن ثم يخضع لهن دون أدنى تردد.
تشكل العائلة الصلة بين الشخصية و«دولة المدينة» التي يديرها مواطنون من الذكور. وينطبق على الحياة العائلية أيضا التضاد الذي يعقده هيرودوت بين دولة المدينة في اليونان، التي يخضع فيها الجميع حتى الحاكم إلى القانون، والطغيان في الشرق، الذي يعتبر الحاكم فيه فوق القانون.
ولبيان طغيان الحكام الشرقيين، يعدد هيرودوت تجاوزاتهم لقواعد الأخلاق العائلية. على سبيل المثال، يأمر كاندوليس ملك سارديس جايجيس، حارسه الشخصي، باختلاس النظر إلى الملكة أثناء خلعها لملابسها. وتجبر الملكة جايجيس على قتل زوجها (هيرودوت، الكتاب الأول، الفصول 8-13). ويخبر سولون كرويسوس، ملك ليديا، أن أسعد الرجال الذين كان يعرفهم لم يكن سوى مواطن أثيني غير معروف كان لديه أبناء رائعون، وظل على قيد الحياة ليرى أبناءه يربون أبناءهم أيضا. وكان لدى كرويسوس نفسه ولدان: أحدهما أصم وأبكم، فيما قتل الآخر - مثل أدونيس، بينما كان يصيد خنزيرا بريا - بيد صديق قتل أخاه خطأ ونفاه أبوه بسبب ذلك (هيرودوت، الكتاب الأول، الفصول 29-33). وأمر استياجس ملك ميديا بقتل كورش، حفيده، عند ميلاده؛ لكيلا يستولي على العرش فيما بعد. وردا على فشل هارباجوس في القيام بالمهمة، يقتل استياجس ابن هارباجوس؛ بناء على ذلك، يسقط كورش جده وإن لم يقتله (هيرودوت، الكتاب الأول، الفصول 117-119). ويتزوج كامبيسس ملك بلاد فارس، ابن كورش وخليفته، اثنتين من إخوته، ويقتل واحدة منهن، ثم يقتل أخاه أيضا. ويجن كامبيسس ويموت بلا أطفال (هيرودوت، الكتاب الثالث، الفصلان 31-32)، وهكذا يحدث لشايارشاخ ملك بلاد فارس، أسوأ الملوك على الإطلاق.
أما عن الحياة العائلية للطغاة اليونانيين، الذين يقر هيرودوت بزيغهم وضلالهم، فمن أحداثها أن يقتل برياندر حاكم كورنث زوجته، ويعزل حماه عن العرش، ويتخلص من ابنه الموهوب الوحيد (هيرودوت، الكتاب الثالث، الفصل 50، الجزء 3؛ الفصل 52، الجزء 6). ويرفض بيسستراتوس حاكم أثينا ممارسة جنس «معتاد» مع زوجته الثانية؛ لأنه يخاف من وقوع لعنة على عائلتها (هيرودوت الكتاب الأول، الفصل 61، الجزء 1).
لا يستطيع أدونيس نيل المواطنية؛ نظرا لأنه، مثل الطغاة، لا يستطيع ممارسة الحياة العائلية. من جانب، لا يؤسس أدونيس أية عائلة؛ فهو لا يتزوج، ولا ينجب أطفالا، ويموت صغيرا. من جانب آخر، لا يولد أدونيس لعائلة؛ فهو ابن زنا محارم، لا زواج، ويحاول أبوه قتل أمه. وبذلك، يمنع أدونيس مرتين من نيل المواطنية: فهو لا يفتقر إلى النضج فحسب بل إلى الأصل العائلي، الذي هو نتيجة لعدم نضج الأم. فإذا كان هيرودوت يؤكد على الضرورة السياسية لتأسيس عائلة، يؤكد «دستور الأثينيين» لأرسطو على الضرورة السياسية للانحدار من أسرة ما: «الحق في المواطنية حق مكفول لأولئك الذين كان آباؤهم مواطنين.»
وإلى أن غير كليسثنس الأساس الذي كانت تقوم عليه المواطنية في أثينا في عام 507ق.م من القرابة إلى محل الإقامة، كانت العضوية في العشائر شرطا ضروريا سابقا للحصول على المواطنة. حتى بعد أن حلت وحدات الديم كتقسيم إداري، وقد كانت تتعلق بمحل الإقامة، محل العشائر باعتبارها الوحدة السياسية الأساسية، ظلت العشائر على قدر من الأهمية. على سبيل المثال، على الرغم من احتمالية أن يكون أحد الأثينيين في القرن الرابع مواطنا دون أن يكون منتميا لأي من العشائر، كان وضع ذلك المواطن «باعثا على القلق ومحل سؤال». إضافة إلى ذلك، كانت العضوية في وحدات الديم وراثية؛ بناء عليه، ظلت المواطنية مسألة تتعلق بالميلاد، مثلما يبين «دستور الأثينيين» الذي يشير إلى عصر ما بعد كليسثنس.
لم يكتف اليونانيون بربط عدم النضج بالسياسة بل ربطوه أيضا بالصيد. كان سوء طالع أدونيس في الصيد يرمز إلى سوء طالعه في مرحلة البلوغ. فيصير أدونيس الطريدة وليس الصياد. فهو لا يملك أية فكرة عن الصيد ومخاطره. وكان ينظر إلى العالم باعتباره عالما أموميا أو كان يظن نفسه في مأمن بحماية الإلهتين اللتين كانتا له بمنزلة الأم؛ فلا يلقي بالا بتحذيرات فينوس من أن الحيوانات الخطرة لا تعبأ بالشباب أو بالجمال.
تصبح العلاقة بين الإنسان والصياد مجازا للعلاقة بين الإنسان والمواطن. يرى بيير فيدال-ناكي (ولد عام 1930) أن الصيد كان يمثل جانبا رئيسا من تدريب عسكري يمتد لعامين كان على الشباب الأثيني الاضطلاع به قبل أن ينالوا المواطنية، وذلك وفق «دستور الأثينيين». يرى فيدال-ناكي أن هاتين السنتين كانتا بمنزلة مرحلة مهمة ينفصل فيها المرء عن الحياة التي عرفها الشباب، أو الشباب الإغريقي، وما سيعرفونها لاحقا؛ بناء عليه، كان الشباب الإغريقي يقضي هاتين السنتين على حدود البلاد لا في المدينة، كما كانوا يقضونهما معا وليس وسط عائلاتهم.
الأدهى من ذلك، كما يذهب فيدال-ناكي، كان الشباب الإغريقي المراهق يمارس نوعا من الصيد يقابل ذلك النوع من الصيد الذي سيمارسونه لاحقا عندما يصبحون محاربين هبليت بالغين. وكشباب، كانوا يمارسون الصيد أفرادا، في الجبال، في الليل، ولا يحملون أية أسلحة سوى الشبك، ومن ثم كانوا يعتمدون على الخداع للإيقاع بالفريسة. أما كمحاربين هبليت، فقد كانوا يصطادون في جماعة، في السهول، خلال النهار، وكانوا مسلحين بالحراب، ومن ثم يعتمدون على الشجاعة والمهارة لقتل الفريسة. وبذلك أسهم التضاد بين صيد الشباب وصيد محاربين الهبليت في ترسيخ قيم الهبليت في عقول الشباب.
تتمثل قرينة فيدال-ناكي على الصلة بين التدريب العسكري للشباب والصيد في جانبين؛ أولا: يحتكم فيدال-ناكي إلى الأسطورة المصاحبة لمهرجان أباتوريا، وهو المهرجان الذي كان الآباء الأثينيون يسجلون أبناءهم في سن الستة عشر عاما كمواطنين، وكأعضاء في العشيرة، وكشباب لمدة عامين. ويؤكد فيدال-ناكي على أن موضوع الأسطورة، أسطورة ميلانثيوس الأثيني، أو «الأسود»، يتمثل في نموذج سلبي للشباب؛ وهو شاب لا يصير محارب هبليت أبدا. حتى وهو بالغ، يلجأ هذا الشاب إلى الخداع وليس الشجاعة أو المهارة لهزيمة خصمه، زانثوس ملك بيوتيا («الأشقر»).
ثانيا: يلجأ فيدال-ناكي إلى شخصية ميلانيون، الصياد الأسود، مثلما يصفه أريستوفانس:
أود أن أتلو عليكم قصة سمعتها ذات مرة
عندما كنت لا أزال صبيا:
ذات مرة كان هناك شاب، اسمه ميلانيون،
تجنب الزواج، ومضى بعيدا ليعيش في الجبال.
قضى ميلانيون وقته يصيد الأرانب البرية،
التي كان ينصب لها شراكا،
وكان يملك كلبا،
وكان يكره النساء كثيرا حتى إنه لم يعد إلى الديار مجددا.
كان ميلانيون يكره النساء، وبالمثل، وليس أقل منه،
نكره النساء أيضا، نحن الحكماء. (أريستوفانس، مسرحية «ليسستراتا»، السطور 781-796)
تتمثل العلاقة بين ميلانيون والتدريب العسكري للشباب في أن ميلانيون - كشخص أسود - يملك جميع الصفات المرتبطة بميلانثيوس الأسود، وأن ميلانيون يعتبر صيادا شبيها بالشباب لا يتزوج أبدا.
إذا طبق المرء ما حدث لميلانثيوس كمحارب على ميلانيون كصياد، فإنه سيجد أن ميلانثيوس وميلانيون سينجحان في صيد الفرائس التي يصطادها المراهقون فقط. في المقابل، يعتبر نموذج أدونيس أسوأ: إذ يفشل أدونيس في ممارسة الصيد من أي نوع؛ بناء عليه، لا يعد أدونيس - كميلانيون وميلانثيوس - مجرد مراهق لا يشب أبدا إلى مرحلة البلوغ، بل إنه رضيع لا يشب أبدا إلى مرحلة الطفولة. وتشير حدة فشله كصياد إلى حدة فشله كمواطن. فتدعو الأسطورة إلى تحقيق المواطنية، من خلال ضرب مثال شديد السلبية.
هوامش
الخاتمة: مستقبل دراسة الأسطورة
كانت نظريات الأسطورة في القرن التاسع عشر، إذا جاز التعميم من خلال نظريات تايلور وفريزر، ترى أن الأسطورة تدور بالكامل حول العالم المادي. وكان يفترض في الأسطورة أنها جزء من الدين، الذي كان من المفترض النظير البدائي للعلم، الذي كان بدوره يفترض كونه حديثا بالكامل. لكن في القرن العشرين، جرى استبعاد نظريات تايلور وفريزر لوضعهما الأسطورة في مقارنة مع العلم ومن ثم استبعاد الأساطير التقليدية، ولإدراجهما الأسطورة تحت الدين ومن ثم استبعاد الأساطير العلمانية، ولاعتبارهما أن موضوع الأسطورة هو العالم المادي، ولاعتبارهما أن وظيفة الأسطورة تفسيرية، ولاعتبارهما أن الأسطورة زائفة.
تمثل الرد الأبرز في القرن العشرين على تايلور وفريزر في إنكار أن الأسطورة لا بد أن تختفي عندما يحل العلم. فسعت نظريات القرن العشرين بتحد إلى الحفاظ على الأسطورة بالرغم من وجود العلم. في المقابل، لم يجر ذلك من خلال رفض العلم باعتباره التفسير المهيمن للعالم المادي. ولم تتخذ نظريات القرن العشرين هذه الطرق السهلة مثل «نسبنة العلم»، أو «جعله اجتماعيا»، أو «إضفاء الطابع الخرافي» عليه. بدلا من كل ذلك، أعادت تلك النظريات توصيف «الأسطورة». فهي لا تعتبر تفسيرا، بينما لا تزال تدور حول العالم، وفي هذه الحالة تختلف وظيفتها عن وظيفة العلم (مالينوفسكي، إلياد)، أو أن الأسطورة، بتفسيرها رمزيا، لا تدور حول العالم المادي (بولتمان، يوناس، كامو)، أو كلا الأمرين (فرويد، رانك، يونج، كامبل). وفي القرن العشرين، جرى التوفيق بين الأسطورة والعلم من خلال إعادة صياغة الأسطورة، وليس من خلال إعادة صياغة العلم. ومع نهاية القرن العشرين فقط، مع صعود ما بعد الحداثة، تم التشكيك في التسليم بالعلم.
بقدر ما لم تتحد نظريات القرن العشرين سيادة العلم، لماذا يعبأ المرء بالتوفيق بين الأسطورة والعلم؟ لماذا لا يقبل المرء ببساطة رؤية القرن التاسع عشر ويتخلص من الأسطورة لصالح العلم؟ تمثلت إجابة القرن العشرين في أن اختزال الأسطورة في التفسير الحرفي (تايلور) أو الوصف الرمزي (فريزر) للأحداث المادية، يؤدي إلى الفشل في تفسير عدد من «الوظائف» و«المعاني» الأخرى التي تنطوي عليها الأسطورة. ويتمثل الدليل الدامغ على وجود هذه الوظائف والمعاني الأخرى في أن الأسطورة لا تزال موجودة. فإذا كان تايلور وفريزر على صواب، لتلاشت الأسطورة منذ زمن طويل.
دي دبليو وينيكوت
في القرن الحادي والعشرين، يتمثل السؤال الرئيس فيما إذا كان يمكن إعادة الأسطورة إلى العالم الخارجي مجددا، دون استبعاد سلطة العلم ببساطة. أقترح لتحقيق ذلك إخضاع الأسطورة لتحليل اللعب الذي قام به المعالج والمحلل النفسي للأطفال إنجليزي الجنسية دي دبليو وينيكوت (1896-1971).
يرى وينيكوت أن اللعب «معترف» به على أنه شيء مغاير للواقع: إذ يسلم الأطفال بأنهم يلعبون وحسب. ويمنح اللعب نفسه الحق في اعتبار الملعقة قطارا، ولا يسمح لأحد الأبوين بالسؤال عما إذا كانت الملعقة تعتبر قطارا بالفعل أم لا. في المقابل، يتعدى اللعب حدود الخيال والهروب. فهو بناء لواقع له معنى شخصي. يأخذ اللعب شيئا من العالم اليومي - ملعقة - ويحوله إلى ما هو أكثر، قطار.
وبتوسيع نطاق اللعب من جانب البالغين، يشير وينيكوت، كما هو معهود عند الإنجليز، إلى البستنة والطهي؛ المجالين اللذين يخلق فيهما المرء عالما له معنى شخصي من عناصر موجودة في العالم الخارجي. ويشير وينيكوت أيضا إلى الفن والدين اللذين يبني المرء فيهما عالما له معنى أعمق:
من المفترض هنا ألا تكتمل مهمة قبول الواقع أبدا، وألا يتحرر البشر من قيود الصلة المعقودة بين الواقع الداخلي والخارجي، وأن يحدث التحرر من هذه الصلة عن طريق منطقة وسيطة من التعايش مع الواقع دون رفضه (الفنون، الدين، إلخ). هذه المنطقة الوسيطة إنما هي في اتصال مباشر مع منطقة اللعب للطفل الصغير الذي «ينسى» نفسه أثناء اللعب. (وينيكوت، «الأشياء والظواهر الانتقالية»، ص13)
باستخدام مصطلحات وينيكوت، يعتبر اللعب نشاطا «انتقاليا»، إذ يوفر انتقالا من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضوج، من العالم الداخلي للخيال إلى الواقع الخارجي، ومن العالم الخارجي المعروف إلى العالم الخارجي المجهول. ومثلما يتعلق الطفل بشيء مادي - دمية - لخلق عالم آمن يمكنه لاحقا من استكشاف العالم الخارجي بثقة، يتعلق الشخص الناضج بشيء داخلي - هواية، مجال اهتمام، قيمة، أو أسطورة - يمكنه لاحقا من التعامل مع عالم أكثر اتساعا. مثلما يعرف الطفل أن الدمية ليست أمه لكنه لا يزال يتعلق بها كما لو كانت كذلك، يدرك الشخص البالغ أن الأسطورة لا تعتبر واقعا لكنه لا يزال يتمسك بها كما لو كانت كذلك. وبذلك تعتبر الأسطورة «تخيلا».
مما لا شك فيه أن الأساطير لا يجري التعامل معها جميعا على أنها تخيلات؛ إذ يمكن اعتبار بعض الأساطير حقائق لا مراء فيها، مثل الأساطير التي تدور حول النهاية الوشيكة للعالم. ويمكن بالتأكيد النظر إلى الأساطير بالطريقتين معا، مثل الإيمان بالتقدم، والأيديولوجيات، ورؤى العالم مثل الماركسية. وباعتبارها تخيلا، تعمل هذه الأساطير بمنزلة «المرشد» في العالم أكثر من «تقديم الوصف له».
تنتمي أسطورة «من الأسمال إلى الثروة» إلى هذا النوع من الأساطير - إذا جاز وضع مجرد معتقد في مصاف الأساطير. ومما لا شك فيه، يمكن اعتبار المعتقد رأيا متحجرا - ومن قبيل المفارقة أنه يعد كذلك في جميع أنحاء العالم كما في أمريكا نفسها - وبذلك يمكن أن يؤدي المعتقد إلى الإحباط والاتهام المضاد إن لم يثمر عن نتائج طيبة. في المقابل، يمكن الاعتقاد في الأسطورة باعتبارها «تخيلا»؛ لا كتوصيف زائف للحياة الأمريكية بل كتوصيف مأمول لها. وينظر إلى أمريكا هنا «كأنها» ملاذ للفرص. ويتمثل المثال المعاصر على هذه الأسطورة في أنتوني روبنز، وهو نموذج لأنجح رجل مبيعات. تتمثل خرافته في قصة؛ قصة صعوده من الفشل إلى النجاح. فما الذي يمنع الآخرين من النجاح، في رأي روبنز؟ عدم المحاولة.
لا مراء، لا تزال أسطورة روبنز تدور حول العالم الاجتماعي وليس العالم المادي. الأفضل، إذن، هي السير الذاتية لأولئك الذين يتمتعون بقدرات تشبه قدرات الآلهة؛ أي المشاهير. فهم من يقود الحملات للقضاء على الفقر والعنصرية والآفات الاجتماعية الأخرى، وليس ذلك فقط؛ بل للقضاء على التلوث، والحد من ظاهرة الاحترار العالمي، وإنقاذ الأنواع البيولوجية. فيستطيع المشاهير القيام بأشياء فشلت أمم بأسرها، بل فشلت الأمم المتحدة، في تحقيقها.
يعتبر نجوم هوليوود هم أعلى المشاهير مقاما. وعلى غرار المفهوم الشائع للإله الموجود في هوميروس والكتاب المقدس العبري، لا يرى أحد نجوم هوليوود شخصيا، وعندما ينظر إليهم عبر الشاشة، فإن حجمهم يكون كبيرا للغاية، ويستطيعون فعل أي شيء، والتخفي، كما يجري تخليدهم في أفلامهم. ويمتلك نجوم هوليوود صفات مثيرة جدا تصل لحد اعتبارها خارقة: فهم لا يتميزون بالشجاعة فحسب بل لا يخافون، ولا يتميزون بالعطف فحسب بل يصلون لمرتبة القداسة، ولا يتميزون بالقوة فحسب بل بالمقدرة، ولا يتميزون بالحكمة فقط بل بالعلم بكل شيء.
وربما يعترض أحد المتشككين بقول إن الآلهة تعتبر آلهة في السر والعلن، وبأن نجوم الأفلام ليسوا سوى نجوم على الشاشة فقط وليسوا سوى بشر خارجها. في المقابل، لا يميز معظم المعجبين بين أي من ذلك؛ إذ يتوقع المعجبون توفر الصفات في الشاشة وخارجها. في حقيقة الأمر، يفترض أن يمثل نجوم الأفلام أنفسهم على الشاشة، «يمثلون» ما سيفعلونه في المواقف التي هم فيها. ولكن يشعر المعجبون بالإحباط عندما يعلمون بأن «الحياة الحقيقية» لممثليهم المفضلين تبعد كثيرا عن أدوارهم، وهو ما ينطبق حرفيا على ميل جيبسون الذي لا يتميز في الواقع بالطول الفارع. وذات مرة اضطر روبرت ميتشوم أن يحذر معجبيه بألا يتوقعون منه وضع أي استراتيجية عسكرية. واضطرت جريتا جاربو إلى الانعزال بعيدا بعد الكبر للاحتفاظ بصورتها الشابة في أذهان المعجبين. ولا يستطيع الممثلون المثليون في هوليوود الإعلان عن هويتهم الجنسية، خوفا من ألا يجري الاستعانة بهم في أدوار غير مثلية؛ كما أن توم كروز ملزم من الناحية المهنية بمقاضاة كل من يصفه بأنه مثلي.
ربما يقال إنه حيثما تولد الآلهة، تصنع نجوم الأفلام. غير أنه من المعروف كيف يصبح الأمر خاضعا لتقلبات المزاج ليصبح المرء نجم أفلام. في المقابل، يعتقد معظم المعجبين مما لا يدع مجالا للشك أن نجوم الأفلام يولدون، لا يصنعون. فعندما رؤيت لانا تيرنر تشرب لبنا مخفوقا في صيدلية شواب في شارع هوليوود بوليفارد، اكتشفت، ولم تخترع.
وربما يقال أيضا إن نجوم الأفلام لا يستطيعون فعل ما يريدون، على عكس الآلهة. في المقابل، يفترض معظم المعجبين أن النجوم محصنون ضد القوانين التي تنطبق على الجميع؛ بناء عليه، يشعر المعجبون بالصدمة عندما يتعرض نجومهم المفضلون للقبض عليهم لتناولهم المخدرات (روبرت داوني الابن)، أو السرقة من المتاجر (وينونا رايدر)، أو ممارسة الجنس مع الأطفال (مايكل جاكسون).
ومن دارج القول أن نجوم الأفلام المعاصرين ينتمون إلى طيف أوسع من أنواع الشخصيات هذه، وأنهم أضداد أبطال قدر كونهم أبطالا. ولا يزال نجوم الشباك - رجالا أم نساء على حد سواء - يظهرون على الشاشة على نحو مناسب للدور الذي يؤدونه؛ وبذلك فإن المظهر، لا القدرة على التمثيل، هو الذي يضع النجوم في مرتبة نجوم الشباك.
إن المصطلحات المستخدمة للتعبير عن إعجاب الناس بالنجوم تعبر عما نطرحه، مثل «تأليه» النجوم و«عبادتهم». ويطلق على أعظم الممثلين «آلهة». ولأنهم «نجوم»، يلمعون في سماء عالية بعيدة عنا، وبذلك «يتيم» المعجبون بهم.
في مقابل طرحي بأن نجوم الأفلام يعتبرون آلهة حديثة، ثمة طرح مناقض ذو معقولية يقضي بأنه لا يصدق أحد اليوم هذه المبالغة، ولا يعتقد أحد أن نجوم هوليوود يختلفون عني وعنك. وبينما قد يكون لهؤلاء النجوم دخل أعلى، فإنهم يواجهون العقبات والمصاعب نفسها مثلنا جميعا. فماذا يمكن أن يحقق أرباحا أكثر من نسخة «غير مصرح بها» لسيرة أحد النجوم، سيرة تنزل بالنجم من عليائه؟ إن أفضل ما يفعله الكشف عن التباين - حال تمييزه بلطف - بين روك هدسون على الشاشة، النموذج المثالي للرجل الجذاب السوي، وروك هدسون، الذي يذبل جراء مرض الإيدز؛ هو استيضاح الفرق بين الشخصية على الشاشة والواقع خارجها.
في المقابل، تعتبر هذه النظرة الواقعية العنيدة إلى معجبي هذه الأيام نظرة ساذجة. فلا يزال المعجبون «يؤلهون» و«يعبدون» النجوم، لا عن جهل بعيوب نجومهم بل تحديا لها. فيتم إنكار العيوب أو التقليل من شأنها. وليس الأمر أن المعجبين لا يعلمون بوجودها بل إنهم لا يريدون أن يعرفوها، أو لا يعبئون بها. في المقابل، إن إخلاصهم للنجوم لا يعوزه التفكير ؛ فهم يبرزونه عن وعي. يعني ذلك أن إخلاصهم يقع في نطاق التخيل - وفق وينيكوت - وليس في نطاق السذاجة. وهذا الإخلاص يتطلب منهم رفض السماح للأدلة المضادة بتغيير وجهة نظرهم عنهم.
يحث الذهاب إلى السينما على تأليه نجوم الأفلام؛ إذ تحجب السينما العالم الخارجي وتستبدل به عالما خاصا بها. وكلما كان الفيلم أعلى جودة، تناسى الجمهور أين هم وازداد تخيلهم لأنفسهم في الزمان والمكان المعروض على الشاشة. ففي الأفلام يتم السماح بأشياء لا تحدث أبدا في «العالم الواقعي» المعروف. وفي الأفلام، مثلما في السماء، كل شيء ممكن. وتعبر عبارة «فقط في الأفلام» عن هذه الفكرة. فيمثل الذهاب للسينما تعليقا لإنكار الأشياء، ويعتبر موافقة على «الاشتراك في التمثيل». وتتمثل الفائدة النهائية من الذهاب إلى السينما في مقابلة الممثلين أنفسهم، حتى وإن كان ذلك على الشاشة. فيشبه الذهاب إلى السينما الذهاب إلى الكنيسة: إلى مكان محدد قائم بذاته يجد المرء فيه الإله على الأرجح. ويمزج الذهاب إلى السينما بين الأسطورة والطقس ويعود بالآلهة - ومن ثم الأساطير - إلى العالم، وهو ما يحدث دون ازدراء العلم.
المراجع
References are presented in the order in which they appear in each chapter.
مقدمة
On the antiquity of theories of myth, see, for example, Richard Chase,
Quest for Myth (Baton Rouge: Louisiana State University Press, 1949), chapter 1; Jan de Vries,
Forschungsgeschichte der Mythologie (Freiburg: Alber, 1961), chapter 1.
On parallels between earlier theories and social scientific ones, see Burton Feldman and Robert D. Richardson,
The Rise of Modern Mythology, 1680-1860 (Bloomington: Indiana University Press, 1972), pp. xxii-xxiii.
John Beattie,
Other Cultures (New York: Free
For a standard folkloristic classification of stories, see William Bascom, 'The Forms of Folklore: Prose Narratives’,
Journal of American Folklore , 78 (1965): 3-20. On the blurriness of these distinctions, see Stith Thompson,
The Folktale (Berkeley: University of California Press, 1977 [1946]), p. 303.
William D. Rubinstein,
The Myth of Rescue: Why the Democracies Could Not Have Saved More Jews from the Nazis (London and New York: Routledge, 1987).
Apollodorus,
Gods and Heroes of the Greeks: The 'Library’ of Apollodorus , tr. Michael Simpson (Amherst: University of Massachusetts Press, 1976); Ovid,
Metamorphoses , tr. Rolfe Humphries (Bloomington: Indiana University
For scepticism over the universality of theories, see Stith Thompson, 'Myths and Folktales’,
Journal of American Folklore , 68 (1955): 482-8; G. S. Kirk,
Myth (Berkeley: University of California Press, 1970), p. 7.
الفصل الأول
On the history of creationism, see Ronald L. Numbers,
The Creationists (Berkeley: University of California Press, 1992).
On scientific reinterpretation of the Noah myth, see, for example, William Ryan and Walter Pitman,
Noah’s Flood (London: Simon and Schuster, 1999). For a superb collection of the array of ways that flood stories worldwide have been approached, see Alan Dundes (ed.),
The Flood Myth (Berkeley: University of California Press, 1988).
In the passage on the plagues of Egypt, the reference is to Herbert G. May and Bruce M. Metzger (eds.),
The New Oxford Annotated Bible with the Apocrypha , Revised Standard Version (New York: Oxford University Press, 1977 [1962]). Quotations are taken from p. 75. For a comparable attempt to 'naturalize’ myth from outside of the Bible, see Samuel Noah Kramer,
Sumerian Mythology , rev. edn. (New York: Harper & Row, 1961 [1st edn. 1944]).
The classic attempt not to replace but to reconcile a theological account of the plagues with a scientific account is that of the Jewish existentialist philosopher Martin Buber, for whom the believer, on the basis of faith, attributes to divine intervention what the believer acknowledges can be fully accounted for scientifically. See Buber,
Moses (New York: Harper Torchbooks, 1958 [1946]), especially pp. 60-8, 74-9. Buber is the Jewish counterpart to Rudolf Bultmann, considered in Chapter 2.
The classic work on finding science in myth is Giorgio de Santillana and Hertha von Dechend,
Hamlet’s Mill (Boston: Gambit, 1969).
The work cited is Andrew Dixon White,
A History of the Warfare of Science with Theology in Christendom (1896), abridged by Bruce Mazlish (New York: Free Press, 1965). For a balanced corrective, see John Hedley Brooke,
Science and Religion (Cambridge: Cambridge University Press, 1991).
The classic work by Edward Burnett Tylor is
Culture , 2 vols, 1st edn. (London: Murray, 1871). Citations are from the reprint of the 5th (1913) edition (New York: Harper Torchbooks, 1958). The work by Stephen Jay Gould quoted is
Rocks of Ages (London: Vintage, 2002 [1999]). On possible ways of distinguishing myth from science, see my
Theorizing about Myth (Amherst: University of Massachusetts Press, 1999), pp. 7-9.
For a refreshingly sensible postmodern approach to myth, see Laurence Coupe,
Myth (London and New York: Routledge, 1997).
For a modern Tylorian perspective, see David Bidney,
Theoretical Anthropology , 2nd edn. (New York: Schocken, 1967 [1st edn. 1953]), chapter 10; 'Myth, Symbolism, and Truth’,
Journal of American Folklore , 68 (1955): 379-92.
On the term 'euhemerist’, see Joseph Fontenrose,
The Ritual Theory of Myth (Berkeley: University of California Press, 1966), pp. 20-3.
Friedrich Max Müller, 'Comparative Mythology’ (1856), in his
Chips from a German Workshop (London: Longmans, Green, 1867), pp. 1-141.
A theologian who assumes that Genesis 1 is anything but an account of creation is Langdon Gilkey. See his
Maker of Heaven and Earth (Lanham, MD: University Press of America, 1985 [1959]), especially pp. 25-9, 148-55.
J. G. Frazer,
The Golden Bough , 1st edn., 2 vols (London: Macmillan, 1890); 2nd edn., 3 vols (London: Macmillan, 1900); 3rd edn., 12 vols (London: Macmillan, 1911-15); one-vol. abridgment (London: Macmillan, 1922).
Hans Blumenberg,
Work on Myth , tr. Robert M. Wallace (Cambridge, MA: MIT Press, 1985).
Lucien Lévy-Bruhl,
How Natives Think , tr. Lilian A. Clare (New York: Washington Square
Bronislaw Malinowski, 'Magic, Science and Religion’ (1925) and 'Myth in Primitive
Magic, Science and Religion and Other Essays , ed. Robert Redfield (Garden City, NY: Doubleday Anchor Books, 1954 [1948]), pp. 17-92 and 93-148.
Claude Lévi-Strauss,
The Savage Mind , tr. not given (Chicago: University of Chicago
Myth and Meaning (Toronto: University of Toronto Press, 1978); André Akoun et al., 'A Conversation with Claude Lévi-Strauss’,
Today , 5 (May 1972): 36-9, 74-82.
Robin Horton, 'African Traditional Thought and Western Science’,
Africa , 37 (1967): 50-71 (part I), 155-87 (part II).
Stewart Guthrie,
Faces in the Clouds (New York and Oxford: Oxford University Press, 1993).
Karl Popper,
Conjectures and Refutations , 5th edn. (London: Routledge & Kegan Paul, 1974 [1st edn. 1962]);
The World of Parmenides , ed. Arne F.
1998).
F. M. Cornford,
From Religion to
(London: Arnold, 1912);
Sapientiae , ed. W. K. C. Guthrie (Cambridge: Cambridge University Press, 1952), chapters 1-11.
الفصل الثاني
, 2nd edn. (New York: Dover, 1957 [1st edn. 1927]);
The World of
(New York: Dutton, 1971), chapter 3.
Ernst Cassirer,
The Philosophy of Symbolic Forms , tr. Ralph Manheim, II (New Haven, CT: Yale University Press, 1955);
The Myth of the State (New Haven, CT: Yale University Press, 1946). On political myths, see also Cassirer,
Symbol, Myth, and Culture , ed. Donald
Henri Frankfort and H. A. Frankfort, John A. Wilson, Thorkild Jacobsen, and William A. Irwin,
The Intellectual Adventure of Ancient Man: An Essay on Speculative Thought in the Ancient Near East (Chicago: University of Chicago Press, 1946 [reprinted Phoenix Books, 1997]); paperback retitled
Before Philosophy: The Intellectual Adventure of Ancient Man: An Essay on Speculative Thought in the Ancient Near East (Harmondsworth: Pelican Books, 1949).
Rudolf Bultmann, 'New Testament and Mythology’ (1941), in
Kerygma and Myth , ed. Hans-Werner Bartsch, tr. Reginald H. Fuller, I (London: SPCK, 1953), pp. 1-44;
Jesus Christ and Mythology (New York: Scribner’s, 1958); Hans Jonas,
Gnosis und spätantiker Geist , 2 vols, 1st edn. (Göttingen: Vandenhoeck und Ruprecht, 1934 [vol. I] and 1954 [vol. II, part 1]);
The Gnostic Religion , 2nd edn. (Boston: Beacon Press, 1963 [1958]), Epilogue.
For the myth of Sisyphus, see Albert Camus,
The Myth of Sisyphus and Other Essays , tr. Justin O’Brien (New York: Vintage Books, 1960 [1955]), pp. 88-91; Homer,
The Odyssey , tr. Richmond Lattimore (New York: Harper Torchbooks, 1968 [1965]), p. 183.
الفصل الثالث
Bultmann, 'New Testament and Mythology’ and
Jesus Christ and Mythology .
Jonas,
The Gnostic Religion .
Jonas is not the only philosopher to 'update’ Gnosticism. The political philosopher Eric Voegelin seeks to show how modern movements like positivism, Marxism, Communism, Fascism, and psychoanalysis evince what he calls 'the Gnostic attitude’. See his
Science, Politics and Gnosticism (Chicago: Regnery Gateway Editions, 1968) and
The New Science of
(Chicago: University of Chicago Press, 1952).
On Norman Schwarzkopf, see Jack Anderson and Dale Van Atta,
Stormin’ Norman: An American Hero (New York: Zebra Books, 1971).
Mircea Eliade,
Myth and Reality , tr. Willard R. Trask (New York: Harper Torchbooks, 1968 [1963]);
The Sacred and the
, tr. Willard R. Trask (New York: Harvest Books, 1968 [1959]).
On John F. Kennedy, Jr, see, for example, Wendy Leigh,
(New York: New American Library, 2000); Christopher Anderson,
The Day John Died (New York: William Morrow, 2000); Richard Blow,
American Son (New York: Henry Holt, 2002).
On George Washington, see Barry Schwartz,
George Washington (New York: Free Press; London: Collier Macmillan, 1987). From the bestselling hagiographical biography by Mason Weems comes the story that the scrupulously honest young George could not lie when asked who had cut down his father’s cherry tree. See Weems,
The Life of Washington , 9th edn., ed. Peter S. Onuf (Armonk, NY: Sharpe, 1996 [1st edn. 1800; 9th edn. 1809]), pp. 9-10.
الفصل الرابع
William Robertson Smith,
Lectures on the Religion of the Semites , First Series, 1st edn. (Edinburgh: Black, 1889), Lecture 1.
Tylor,
, 5th edn., II, chapter 18.
Frazer,
The Golden Bough , abridged edn., especially chapters 29-33 (first myth-ritualist scenario); 6-8, 24 (second myth-ritualist scenario).
Jane Ellen Harrison,
Themis , 1st edn. (Cambridge: Cambridge University Press, 1912);
Alpha and Omega (London: Sidgwick & Jackson, 1915), chapter 6;
Epilegomena to the Study of Greek Religion (Cambridge: Cambridge University Press, 1921); on myth and art,
Ancient Art and Ritual (New York: Holt; London: Williams and Norgate, 1913).
S. H. Hooke, 'The Myth and Ritual
Myth and Ritual , ed. Hooke (London: Oxford University Press, 1933), chapter 1; Introduction to
The Labyrinth , ed. Hooke (London: SPCK; New York: Macmillan, 1935), pp. v-x;
The Origins of Early Semitic Ritual (London: Oxford University Press, 1938); 'Myth and Ritual: Past and Present’, in
Myth, Ritual, and Kingship , ed. Hooke (Oxford: Clarendon Press, 1958), chapter 1.
Gregory Nagy, 'Can Myth Be Saved?’, in
Myth , ed. Gregory Schrempp and William Hansen (Bloomington: Indiana University Press, 2002), chapter 15. See also Edmund Leach,
Burma (Boston: Beacon, 1965 [1954]); 'Ritualization in Man’,
the Royal Society , Series B, no. 772, vol. 251 (1966): 403-8.
Gilbert Murray, 'Excursis on the Ritual Forms Preserved in Greek Tragedy’, in Harrison,
Themis , pp. 341-63;
Euripides and His Age , 1st edn. (New York: Holt; London: Williams and Norgate, 1913), pp. 60-8;
Aeschylus (Oxford: Clarendon Press, 1940); 'Dis Geniti’,
Journal of Hellenic Studies , 71 (1951): 120-8; on myth and literature, 'Hamlet and Orestes: A Study in Traditional Types’,
the British Academy , 6 (1913-14): 389-412.
F. M. Cornford, 'The Origin of the Olympic Games’, in Harrison,
Themis , chapter 7;
The Origin of Attic Comedy (London: Arnold, 1914); 'A Ritual Basis for Hesiod’s
Theogony ’ (1941), in his
The Unwritten
, ed. W. K. C. Guthrie (Cambridge: Cambridge University Press, 1950), pp. 95-116;
Sapientiae , ed. W. K. C. Guthrie (Cambridge: Cambridge University Press, 1952), pp. 191-256.
A. B. Cook,
Zeus , 3 vols in 5 (Cambridge: Cambridge University Press, 1914-40).
Ivan Engnell,
Studies in Divine Kingship in the Ancient Near East , 1st edn. (Uppsala: Almqvist & Wiksells, 1943);
A Rigid Scrutiny , ed. and tr. John T. Willis (Nashville: Vanderbilt University Press, 1969) (retitled
Critical Essays on the Old Testament [London: SPCK, 1970]).
Aubrey R. Johnson, 'The Role of the King in the Jerusalem Cults’, in
The Labyrinth , ed. Hooke, pp. 73-111; 'Hebrew Conceptions of Kingship’, in
Myth, Ritual, and Kingship , ed. Hooke, pp. 204-35; Sacral Kingship in Ancient Israel, 1st edn. (Cardiff: University of Wales Press, 1955).
Sigmund Mowinckel,
The Psalms in Israel’s Worship , tr. D. R. Ap-Thomas, 2 vols (New York: Abingdon, 1962);
He That Cometh , tr. G. W. Anderson (Nashville: Abingdon, 1954), chapter 3.
Malinowski, 'Myth in Primitive
especially pp. 83-4; 'The Role of Myth in Life’,
, 6 (1926): 29-39;
Malinowski and the Work of Myth , ed. Ivan Strenski (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1992).
Eliade,
The Sacred and the Profane , chapter 2;
Myth and Reality .
Applications of the theory of myth to literature: Jessie L. Weston,
From Ritual to Romance (Cambridge: Cambridge University Press, 1920); E. M. Butler,
The Myth of the Magus (Cambridge: Cambridge University Press; New York: Macmillan, 1948); C. L. Barber,
Shakespeare’s Festive Comedy (Princeton, NJ:
Weisinger,
Tragedy and the Paradox of the Fortunate Fall (London: Routledge & Kegan Paul; East Lansing: Michigan State College Press, 1953); Francis Fergusson,
The Idea of a Theater (Princeton, NJ:
'Myth and Ritual’,
Journal of American Folklore , 68 (1955): 454-61; Northrop Frye,
Anatomy of Criticism (Princeton, NJ:
Stanley Edgar Hyman, 'Myth, Ritual, and Nonsense’,
Kenyon Review , 11 (1949): 455-75.
René Girard,
Violence and the Sacred , tr.
Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1977); '
To Double Business Bound ’ (London: Athlone
The Scapegoat , tr. Yvonne Freccero (London: Athlone Press; Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1986);
Things Hidden since the Foundation of the World , tr. Stephen Bann and Michael Metteer (London: Athlone Press; Stanford: Stanford University Press, 1987);
Job, the Victim of his People , tr. Yvonne Freccero (London: Athlone Press; Stanford: Stanford University Press, 1987); 'Generative Scapegoating’, in
Violent Origins , ed. Robert G. Hamerton-Kelly (Stanford: Stanford University
Violence and the Sacred , pp. 28-30, 96, 121-3, 316-18;
The Scapegoat , p. 120.
Clyde Kluckhohn, 'Myths and Rituals: A General Theory’,
Harvard Theological Review , 35 (1942): 45-79.
Walter Burkert,
Structure and History in Greek Mythology and Ritual (Berkeley: University of California Press, 1979), especially pp. 56-8, 99-101;
Homo Necans , tr.
Ancient Mystery Cults (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1987), pp. 73-8; 'The Problem of Ritual Killing’, in
Violent Origins , ed. Hamerton-Kelly, pp. 149-76;
Creation of the Sacred (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1996), chapters 2-3.
الفصل الخامس
On the preservation of classical mythology, see, for example, Douglas Bush,
Mythology and the Renaissance Tradition in English
(Minneapolis: University of Minnesota Press, 1932);
Mythology and the Romantic Tradition in English Poetry (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1937); Gilbert Highet,
The Classical Tradition (New York: Oxford University Press, 1939): Jean Seznec,
The Survival of the
(New York: Pantheon Books, 1953 [1940]). For a useful sourcebook on three classical myths, see Geoffrey Miles (ed.),
Classical Mythology in English Literature (London: Routledge, 1999).
Jessie L. Weston,
From Ritual to Romance .
Francis Fergusson,
The Idea of a Theater ; '''Myth’’ and the Literary Scruple’,
Sewanee Review , 64 (1956): 171-85.
Northrop Frye, 'The Archetypes of Literature’ (1951) and 'Myth, Fiction, and Displacement’ (1961), in his
Fables of Identity (New York: Harcourt, Brace, 1963), pp. 7-20 and 21-38;
Anatomy of Criticism (Princeton, NJ:
'Literature and Myth’, in
Relations of Literary Study , ed. James Thorpe (New York: Modern Language Association, 1967), pp. 27-55; 'Symbolism of the Unconscious’ (1959) and 'Forming Fours’ (1954), in
Northrop Frye on Culture and Literature , ed. Robert D. Denham (Chicago: University of Chicago Press, 1978), pp. 84-94 and 117-29; 'Myth’,
Antaeus
43 (1981): 64-84.
See, as classical Jungians, Maud Bodkin,
Archetypal
(London: Oxford University Press, 1934); Bettina L. Knapp,
A Jungian Approach to Literature (Carbondale: Southern Illinois University Press, 1984).
See, as archetypal psychologists, James Hillman,
Re-Visioning Psychology (New York: Harper & Row, 1975); David L. Miller,
The New
(Dallas: Spring
Girard,
Violence and the Sacred .
On the distinction between story and narrative, see Shlomith Rimmon-Kenan,
Narrative Fiction , 2nd edn. (London and New York: Routledge, 2002 [1st edn. 1983]), p. 3. On the yet further distinction among story, narrative, and plot-all of which I innocently use interchangeably-see
Narrative (London and New York: Routledge, 2001), pp. 4-7.
Kenneth Burke,
The Rhetoric of Religion (Boston: Beacon Press, 1961);
A Grammar of Motives (New York: Prentice-Hall, 1945), pp. 430-40; 'Myth, Poetry and
Journal of American Folklore , 73 (1960): pp. 283-306.
Tylor,
, 5th edn., I, pp. 281-2. Hero myths are a surprising category for someone for whom all myths are seemingly about physical events.
On the application of cognitive psychology to religion, under which would fall myth, see Pascal Boyer,
The Naturalness of Religious Ideas (Berkeley: University of California Press, 1994).
Johann Georg von Hahn,
Sagwissenschaftliche Studien (Jena: Mauke, 1876), p. 340; tr. Henry Wilson in John C. Dunlop,
History of Prose Fiction , rev. Wilson (London: Bell, 1888), in an unnumbered attachment to the last page of vol. I.
Vladimir Propp,
Morphology of the Folktale , tr. Laurence Scott, 2nd edn., rev. and ed. Louis A. Wagner (Austin: University of Texas Press, 1968 [1958]).
Otto Rank,
The Myth of the Birth of the Hero , 1st edn., tr. F. Robbins and Smith Ely Jelliffe (New York: Journal of Nervous and Mental Disease Publishing, 1914).
Joseph Campbell,
The Hero with a Thousand Faces , 1st edn. (New York:
Lord Raglan,
The Hero (London: Methuen, 1936). Citations are from the reprint of Part 2, which is on myth, in Otto Rank et al.,
In Quest of the Hero (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1990), pp. 89-175.
الفصل السادس
Sigmund Freud,
The Interpretation of Dreams , vols IV-V,
Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud , ed. and tr. James Strachey et al. (London: Hogarth Press and Institute of
Karl Abraham,
Dreams and Myths , tr. William A. White (New York: Journal of Nervous and Mental Disease Publishing, 1913).
Rank,
The Myth of the Birth of the Hero , 1st edn. Citations are from the reprint in Rank et al.,
In Quest of the Hero
pp. 3-86. See also Rank’s even more Oedipal
The Incest Theme in Literature and Language , 1st edn., tr. Gregory Richter (Baltimore: Johns Hopkins University
The Significance of
Sciences , tr. Charles R. Payne (New York: Nervous and Mental Disease
The Trauma of Birth , tr. not given (London: Kegan Paul; New York: Harcourt Brace, 1929).
On male creation myths, see Alan Dundes, 'Earth-Driver: Creation of the Mythopoeic Male’,
American Anthropologist , 64 (1962): 1032-51.
Jacob A. Arlow, 'Ego Psychology and the Study of Mythology’,
Journal of the American Psychoanalytic Association , 9 (1961): 371-93.
Bruno Bettelheim,
The Uses of Enchantment (New York: Vintage Books, 1977 [1976]).
Géza Róheim, 'Psycho-Analysis and the Folk-Tale’,
International Journal of Psycho-Analysis , 3 (1922): 180-6; 'Myth and Folk-Tale’,
American Imago , 2 (1941): 266-79;
The Riddle of the Sphinx , tr. R. Money-Kyrle (New York: Harper Torchbooks, 1974 [1934]);
Fire in the Dragon and Other Psychoanalytic Essays on Folklore , ed. Alan Dundes (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1992).
Alan Dundes,
Analytic Essays in Folklore (The Hague: Mouton, 1975);
Interpreting Folklore (Bloomington: Indiana University Press, 1980);
Customs (Madison: University of Wisconsin Press, 1987);
Folklore Matters (Knoxville: University of Tennessee Press, 1989).
On creation myths, see Erich Neumann,
The Origins and History of Consciousness , tr. R. F. C. Hull (Princeton, NJ: Princeton University
Creation Myths , rev. edn. (Boston: Shambhala, 1995 [1st edn. (entitled
Mirrored in Creation Myths ) 1972]).
Campbell,
The Hero with a Thousand Faces . Citations are from the second edition (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1968).
On Adonis, see especially C. G. Jung,
Symbols of Transformation, Collected Works of C. G. Jung , ed. Sir Herbert Read et al., tr. R. F. C. Hull et al., V, 2nd edn. (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1967 [1956]), pp. 219, 223 n. 32, 258-9, 343 n. 79.
On the archetype of the
puer aeternus , see especially Jung,
Symbols of Transformation , pp. 257-9, 340; 'Psychological Aspects of the Mother Archetype’, in
The Archetypes and the Collective Unconscious, Collected Works , IX, Part 1, 2nd edn. (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1968 [1959]), p. 106; Marie-Louise von Franz,
aeternus , 2nd edn. (Santa Monica, CA: Sigo, 1981 [1970]).
On the archetype of the Great Mother, see especially Jung, 'Psychological Aspects of the Mother Archetype’, pp. 75-110;
Symbols of Transformation , pp. 207-444.
الفصل السابع
Claude Lévi-Strauss, 'The Structural Study of Myth’,
Journal of American Folklore , 68 (1955): 428-44, reprinted in
Myth: A Symposium , ed. Thomas A. Sebeok (Bloomington: Indiana University Press, 1958), paperback (1965); also reprinted, slightly revised, in Lévi-Strauss,
Structural Anthropology , tr. Claire Jacobson and Brooke Grundfest Schoepf (New York: Basic Books, 1963), chapter 11. Citations are from the Sebeok paperback.
Introduction to a Science of Mythology , tr. John and Doreen Weightman, 4 vols (New York: Harper & Row, 1969-81), paperback (New York: Harper Torchbooks, 1970-82). Citations are from the paperback. The volumes are individually named:
The Raw and the Cooked, From Honey to Ashes, The Origin of Table Manners , and
The Naked Man . 'The Study of Asdiwal’, tr. Nicholas Mann, in
The Structural Study of Myth and Totemism , ed. Edmund Leach (London: Tavistock, 1967), pp. 1-47. André Akoun et al., 'A Conversation with Claude Lévi-Strauss’.
On Lévi-Strauss’ myth-ritualism, see 'The Structural Study of Myth’; 'Structure and Dialectics’, in his
Structural Anthropology , chapter 12; 'Comparative Religions of Nonliterate Peoples’, in his
Structural Anthropology , II, tr. Monique Layton (New York: Basic Books, 1976), chapter 5.
Vladimir Propp,
Morphology of the Folktale ; Georges Dumézil,
Archaic Roman Religion , tr. Philip Krapp, 2 vols (Chicago: University of Chicago Press, 1970).
Jean-Pierre Vernant,
Myth and Thought among the Greeks . tr. not given (London and Boston: Routledge & Kegan Paul, 1983); Vernant and Pierre Vidal-Naquet,
Myth and Tragedy in Ancient Greece , tr. Janet Lloyd (Brighton: Harvester Press, 1981); Nicole Loraux,
The Invention of Athens , tr. Alan Sheridan (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1987).
Marcel Detienne,
The Gardens of Adonis , tr. Janet Lloyd (Hassock: Harvester Press; Atlantic Highlands, NJ: Humanities Press, 1977).
الفصل الثامن
Malinowski, 'Myth in Primitive
Georges A. Sorel,
Reflections on Violence , tr. T. E. Hulme and J. Roth (New York: Collier Books; London: Collier-Macmillan, 1961 [1950]).
On myth and ideology, see Ben Halpern, '''Myth’’ and ''Ideology’’ in Modern Usage’,
History and Theory , 1 (1961): 129-49; Christopher G. Flood,
(New York: Routledge, 2001 [1996]).
Girard,
Violence and the Sacred .
On matriarchy in Greece and elsewhere, see, classically, J. J. Bachofen,
Myth, Religion, and Mother Right , tr. Ralph Manheim (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1967).
Herodotus,
The Histories , tr. Aubrey de Sélincourt, rev. and ed. A. R. Burn (Harmondsworth: Penguin, 1972 [1954]).
Aristotle,
Constitution of Athens and Related Texts , tr. Kurt von Fritz and Ernst Kapp (New York: Hafner Press, 1974 [1950]).
Antony Andrewes,
The Greeks (New York: Knopf, 1967).
Hunter and the Origin of the Athenian Ephebeia’, in R. L. Gordon (ed.),
Myth, Religion and Society (Cambridge: Cambridge University Press, 1981), pp. 147-62.
Aristophanes,
Lysistrata , tr. Benjamin Bickley Rogers, Loeb Classical Library (London: Heinemann; New York: Harvard University Press, 1924).
الخاتمة
D. W. Winnicott, 'Transitional Objects and Transitional Phenomena’ (1951), in his
Through Paediatrics to
(London: Karnac Books, 1992 [1958]), chapter 18. Slightly revised version in his
(London and New York: Routledge, 1982 [1971]), chapter 1. The citation is from the revised version.
Halaman tidak diketahui