Khurafat: Pengenalan Ringkas Sangat
الخرافة: مقدمة قصيرة جدا
Genre-genre
من أفضل ما قيل عن الكتاب
مقدمة: نظريات الأساطير
1 - الأسطورة والعلم
2 - الأسطورة والفلسفة
3 - الأسطورة والدين
4 - الأسطورة والطقوس
5 - الأسطورة والأدب
6 - الأسطورة وعلم النفس
7 - الأسطورة والبنية
8 - الأسطورة والمجتمع
Halaman tidak diketahui
الخاتمة: مستقبل دراسة الأسطورة
المراجع
من أفضل ما قيل عن الكتاب
مقدمة: نظريات الأساطير
1 - الأسطورة والعلم
2 - الأسطورة والفلسفة
3 - الأسطورة والدين
4 - الأسطورة والطقوس
5 - الأسطورة والأدب
6 - الأسطورة وعلم النفس
Halaman tidak diketahui
7 - الأسطورة والبنية
8 - الأسطورة والمجتمع
الخاتمة: مستقبل دراسة الأسطورة
المراجع
الأسطورة
الأسطورة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
روبرت إيه سيجال
ترجمة
Halaman tidak diketahui
محمد سعد طنطاوي
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
في ذكرى سكيب، قطتي المحبوبة
من أفضل ما قيل عن الكتاب
في هذا الكتاب - الذي يعد من أول المراجع العالمية التي وضعت عن تاريخ دراسة الأساطير - استطاع روبرت إيه سيجال أن يستعرض بدقة ورقي وسعة اطلاع أهم النظريات التي سادت القرنين التاسع عشر والعشرين حول هذا الموضوع، مستخدما قصة أدونيس كمقياس فعال لتقييم مختلف المناهج والأساليب.
آلان دندس، أستاذ الأنثروبولوجيا والفلكلور جامعة كاليفورنيا، بيركلي
يتناول هذا الكتاب النظريات التي وضعت حول الأساطير تناولا واضحا ومرتبا وشاملا ومميزا ... لم يتفوق أي من الكتاب الآخرين على روبرت سيجال فيما كتب عن نظريات الأساطير من حيث اطلاعه ووضوح فكرته.
إيفان سترينسكي، أستاذ بقسم الدراسات الدينية جامعة كاليفورنيا، ريفرسايد
إن هذا الكتاب يعد أفضل المناهج التي صادفتها على الإطلاق في مجال دراسات الأساطير وأكثرها فائدة.
Halaman tidak diketahui
جون بيب، المدير التنفيذي والرئيس السابق لمعهد سي جي يونج بسان فرانسيسكو
هدف سيجال من مؤلفاته أن يفهمها القراء ويسترشدوا بها ... سوف يتعلم المرء من هذا الكتاب كثيرا من الأشياء التي تشجعه وتيسر عليه قراءة المزيد.
ويليام إم كولدر الثالث، أستاذ الكلاسيكيات بجامعة إلينوي، إربانا-شامبين
هذا الكتاب الذي يتسم بالوضوح الشديد هو أوسع العروض التقديمية نطاقا بين كل ما كتب عن المناهج المعاصرة - على اختلافها - في التعامل مع الأساطير.
أنطوان فيفر، أستاذ فخري في الكلية التطبيقية للدراسات العليا قسم الدراسات الدينية، جامعة السوربون
إن جل ما ضمه الكتاب بين دفتيه إنما هو رحلة استكشافية عميقة لموضوع يمس التجربة الإنسانية مع الدين والفلسفة والدراما والأدب وعلم النفس، والآمال والتوقعات المنتظرة منهم.
جون روجرسون، أستاذ فخري في الدراسات الإنجيلية، جامعة شيفيلد
مقدمة: نظريات الأساطير
دعوني أكون واضحا من البداية؛ ليس هذا الكتاب مقدمة إلى الأساطير بل إلى طرق تناول الأساطير، أو نظريات الأساطير، وهو لا يتخطى في تناوله النظريات الحديثة. ربما تعود نظريات الأساطير إلى وقت نشأة الأساطير نفسها، ومن المؤكد أنها ترجع إلى فلسفة ما قبل سقراط على الأقل. غير أن هذه النظريات نحت فيما يبدو نحوا علميا في العصر الحديث فقط، خاصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ فحينها فقط ظهرت إلى الوجود مجالات مهنية سعت إلى تقديم نظريات علمية حقيقية عن الأساطير مثل العلوم الاجتماعية، التي ساهم علم الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وبدرجة أقل علم الاجتماع، الإسهام الأكبر فيها. وبينما كان هناك على الأرجح ما يناظر النظريات العلمية الاجتماعية للأسطورة قبل ظهورها، فإن التنظير الحديث للأسطورة لا يزال مختلفا عن مثيله السابق عليه. وبينما كان التنظير المبكر يعتمد على التخمين والتجريد اعتمادا كبيرا، يعتمد التنظير الحديث إلى حد بعيد على تراكم المعلومات. وتنطبق الاختلافات بين التنظير الحديث والقديم على العلوم الاجتماعية الأخرى أيضا فيما يلخصه عالم الأنثروبولوجيا جون بيتي على النحو التالي:
بناء عليه، قدمت تقارير التبشيريين والرحالة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أفريقيا، وأمريكا الشمالية، ومنطقة المحيط الهادئ، وفي مناطق أخرى؛ المادة الخام التي قامت عليها مؤلفات الأنثروبولوجيا الأولى التي كتبت في النصف الثاني من القرن الماضي. وبطبيعة الحال، كانت هناك محاولات تخمين كثيرة حول المؤسسات الإنسانية وأصولها قبل ذلك ... لكن على الرغم من عبقرية تخمينات المفكرين، لم يكن هؤلاء علماء تجريبيين؛ إذ لم تعتمد النتائج التي خلصوا إليها على أي نوع من القرائن التي يمكن قياس مدى صحتها، بل لم تكن تلك التخمينات سوى استنباطات جرى التوصل إليها عبر المبادئ التي كانت - في جانب كبير - منها جزءا من ثقافاتهم. وكان هؤلاء المفكرون في حقيقة الأمر فلاسفة ومؤرخين أوروبيين، لا علماء أنثروبولوجيا. (بيتي، «الثقافات الأخرى»، ص5-6)
Halaman tidak diketahui
وفيما ترجع بعض نظريات الأساطير الحديثة إلى مجالات الفلسفة والأدب العتيقة، فهي تعكس أيضا تأثير العلوم الاجتماعية. حتى ميرسيا إلياد - الذي تناطح نظريته المستلهمة من الدراسات الروحية نظريات العلوم الاجتماعية - يدرج بيانات مشتقة من العلوم الاجتماعية لدعم نظريته!
يتضمن كل مجال من المجالات المذكورة نظريات متعددة عن الأساطير. وعلى نحو دقيق، تنتمي نظريات الأساطير إلى مجال أرحب كثيرا لا تشغل الأسطورة فيه إلا مجرد فرع. على سبيل المثال، تعتبر النظريات الأنثروبولوجية للأساطير نظريات ثقافية «مطبقة» على حالة الأساطير، كما تعتبر النظريات النفسية للأساطير نظريات عقلية، ونظريات علم الاجتماع للأساطير نظريات مجتمعية. فلا توجد نظريات للأساطير قائمة بذاتها، إذ لا يوجد مجال معرفي منفصل للأساطير. وليست الأسطورة كالأدب الذي - مثلما كانت المزاعم التقليدية حوله دوما وما زالت قائمة - يجب دراسته «كأدب» لا كتاريخ، أو علم اجتماع، أو شيء آخر غير أدبي. فلا توجد دراسة للأسطورة في حد ذاتها.
إن ما يربط بين دراسة الأساطير في المجالات المختلفة التي توجد فيها هي الأسئلة المطروحة؛ وتتمثل الثلاثة أسئلة الرئيسة المطروحة حول الأسطورة في الأصل، والوظيفة، والموضوع. فيشير «الأصل» إلى السبب والطريقة التي نشأت بها الأسطورة، وتشير «الوظيفة» إلى السبب والطريقة التي تستمر بها الأسطورة في الوجود. وتتمثل إجابة السبب في أصل ووظيفة الأسطورة عادة في حاجة ما تستثيرها الأسطورة لتلبيتها، وتستمر من خلال مواصلتها في تلبية الحاجة. وتختلف الحاجة من نظرية إلى أخرى. بينما يشير «الموضوع» إلى المدلول في نظرية الأساطير. بعض النظريات تفسر الأسطورة تفسيرا حرفيا بحيث يتمثل المدلول في المعنى المباشر الصريح، مثل الآلهة، وفي المقابل، تفسر نظريات أخرى الأسطورة تفسيرا رمزيا قد يكون المدلول المجسد فيها أي شيء.
لا تختلف النظريات فيما بينها في الإجابات التي تقدمها بل في الأسئلة التي تطرحها أيضا. فبينما تركز بعض النظريات، وربما بعض المجالات المعرفية، على أصل الأسطورة، تركز نظريات أخرى على الوظيفة، فيما تركز نظريات أخرى على الموضوع. إضافة إلى ذلك، فيما لا تتناول الأسئلة الثلاثة سوى نظريات قليلة، لا تركز بعض النظريات التي تتناول أصل أو وظيفة الأسطورة إلا على «سبب» أو «طريقة» النشوء فقط، لا على كليهما.
من السائد قول إن نظريات القرن التاسع عشر ركزت على سؤال الأصل، وإن نظريات القرن العشرين ركزت على سؤالي الوظيفة والموضوع. ويؤدي هذا التمييز إلى الخلط بين الأصل التاريخي والأصل المتكرر. ولا تزعم النظريات التي تدعي تقديمها لأصل الأساطير معرفتها بمكان وزمان ظهور الأسطورة للمرة الأولى، بل بسبب وطريقة ظهور الأسطورة متى وأينما ظهرت. وكان موضوع الأصل المتكرر للأسطورة موضوعا شائعا في نظريات القرن العشرين مثلما كان كذلك في نظريات القرن التاسع عشر، وكان الاهتمام بالوظيفة والموضوع مسألة شائعة في نظريات القرن التاسع عشر مثلما كان الحال في نظريات القرن العشرين.
ثمة اختلاف حقيقي واحد بين نظريات القرن التاسع عشر ونظريات القرن العشرين؛ فكانت نظريات القرن التاسع عشر تنحو إلى النظر إلى موضوع الأسطورة باعتباره العالم المادي، وإلى الوظيفة باعتبارها التفسير الحرفي أو التعبير الرمزي عن ذلك العالم. وكانت الأسطورة تعتبر على نحو نموذجي النظير «البدائي» للعلم الذي كان يفترض حديثا في مجمله. ولم يجعل العلم الأسطورة مجرد شيء لا لزوم له، بل جعلها غير متوافقة معه على الإطلاق؛ ولذا توجب على الحداثيين - الذي كانوا علميين بطبيعتهم - لفظها. في المقابل، لم تمل نظريات القرن العشرين إلى النظر إلى الأسطورة باعتبارها نظيرا للعلم عفا عليه الزمن، سواء فيما يتعلق بالموضوع أو الوظيفة؛ بناء عليه، لا يتوجب على الحداثيين الاستغناء عن الأساطير من أجل العلم.
وإضافة إلى الأسئلة المتعلقة بالأصل، والوظيفة، والموضوع، تشمل الأسئلة المتعلقة بالأساطير الآتي: هل الأسطورة عامة؟ وهل هي حقيقية؟ تنبثق إجابات هذين السؤالين من الإجابات عن الأسئلة الثلاثة الأولى. فالنظرية التي ترى أن الأساطير تنشأ وتعمل على تفسير العمليات المادية سوف تقصر الأسطورة - على الأرجح - على المجتمعات التي يفترض افتقارها إلى العلم. وفي المقابل، النظرية التي ترى أن الأساطير تنشأ وتعمل على توحيد المجتمع قد تجعل من الأسطورة أمرا مقبولا، بل وربما لا غنى عنه في جميع المجتمعات.
تتمسك النظرية التي ترى أن الأساطير تعمل على تفسير العمليات المادية باعتقادها في زيف الأساطير، في حال إثبات أن التفسير المقدم لا يتماشى مع التفسير العلمي. من ناحية أخرى، قد تتلافى النظرية التي ترى أن الأسطورة تعمل على توحيد المجتمع؛ مسألة حقيقتها من خلال التأكيد على أن المجتمع يتوحد عندما «يؤمن» أعضاؤه بأن القوانين التي من المتوقع التزامهم بها وضعها أسلاف مبجلون قبل وقت طويل مضى، سواء وضعت هذه القوانين قبل هذا الوقت الطويل أم لا. ويتجنب مثل هذا النوع من النظريات مسألة حقيقة الأساطير؛ نظرا لأن الإجابات التي تقدمها لأسئلة الأصل والوظيفة تفي بالغرض نفسه.
تعريف الأسطورة
حضرت مؤتمرات عديدة طرح المتحدثون فيها آراءهم بحماس شديد حول «طبيعة الأسطورة» في الرواية «س» أو المسرحية «ص» أو الفيلم «ع». في المقابل، تعتمد معظم هذه الآراء على تعريف الأسطورة، فدعوني أطرح تعريفي للأسطورة.
Halaman tidak diketahui
بادئ ذي بدء، أقترح تعريفا للأسطورة كقصة. واعتبار الأسطورة قصة - أيا كان ما تمثله من أشياء أخرى - مسألة قد تبدو بديهية. وعلى أي حال، عندما نسأل عن ذكر بعض أمثلة الأساطير، يجول بخاطر معظمنا «قصص» عن الآلهة والأبطال اليونانيين والرومان. في المقابل، يمكن النظر إلى الأسطورة بصورة أعم باعتبارها معتقدا أو مذهبا، مثل «أسطورة من الأسمال إلى الثروة» أو «أسطورة الحدود» الأمريكيتين. وبينما كتب هوراشيو ألجر العديد من الروايات الشهيرة التي تشرح أسطورة تحول أشخاص من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، فإن المذهب في حد ذاته لا يعتمد على قصة. وينطبق الأمر نفسه على أسطورة الحدود.
إن جميع النظريات المدروسة في هذا الكتاب تعتبر الأسطورة قصة. وبينما يحول إي بي تايلور القصة إلى تعميم ضمني، لا يزال التعميم يصل إلى القارئ عن طريق قصة. وبالمثل، بينما يتجاوز كلود ليفي-ستروس حدود القصة وصولا إلى «بنية» الأسطورة، لا تزال البنية تعتمد على القصة في توصيلها. إضافة إلى ذلك، لا تزال النظريات التي تفسر الأساطير على المستوى الرمزي بدلا من التفسير الحرفي تنظر إلى موضوع الأسطورة، أو المعنى، باعتباره سردا لقصة.
إذن ، إذا ما جرى هنا اعتبار الأسطورة قصة، فما الذي ستدور القصة حوله؟ بالنسبة إلى دارسي المأثورات الشعبية بصفة خاصة، تدور الأسطورة حول خلق العالم؛ ففي الكتاب المقدس، لا ترتقي سوى قصتي الخلق (سفر التكوين 1-2) وقصة جنة عدن (سفر التكوين 3)، وقصة نوح (سفر التكوين 6-9) لمستوى الأساطير، بينما لا تمثل باقي القصص الأخرى سوى خرافات أو حكايات شعبية. وبعيدا عن الكتاب المقدس، تعتبر «أسطورة» أوديب - على سبيل المثال - خرافة في حقيقة الأمر. إنني لا أرغب أن أكون متشددا للغاية وسأكتفي بتعريف الأسطورة بأنها قصة تدور حول شيء مهم؛ فقد تدور أحداث هذه القصة في الماضي، مثلما كان الحال مع المؤرخ إلياد والعالم برونيسلاف مالينوفسكي، أو في الحاضر أو المستقبل.
وفيما يتعلق بالنظريات المستقاة من الدراسات الدينية بصفة خاصة، يجب أن تكون الشخصيات الرئيسة في الأسطورة آلهة أو أشباه آلهة. ولا أرغب هنا أيضا في أن أكون متشددا في تعريفي؛ إذ لو كنت كذلك، لاستبعدت معظم أجزاء العهد القديم الذي بينما قد «تشتمل» أحداث جميع قصصه على الإله - باستثناء الإصحاحين الأولين من سفر التكوين - فإنها تدور حول بشر مثلما تدور حول الإله. ولن أشدد هنا إلا على ضرورة أن تكون الشخصيات الرئيسة في الأساطير شخصيات إلهية أو بشرية أو حيوانية، ولن أستثني إلا القوى اللاشخصية، مثل «الخير» عند أفلاطون. ويعتبر تايلور من أكثر المنظرين انشغالا بالجانب الشخصاني في الأساطير، وكذلك جميع المنظرين الآخرين ممن سنتناولهم لاحقا، باستثناء ليفي-ستروس. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تكون الشخصيات فاعلة أو مفعولا بها في أحداث الأساطير.
باستثناء رودولف بولتمان وهانز يوناس، تناول جميع المنظرين محل النظر وظيفة الأسطورة، كما يركز عليها مالينوفسكي بصورة شبه حصرية. ويختلف المنظرون فيما بينهم حول وظيفة الأسطورة. وإنني لا أريد أن أملي هنا وظيفة الأسطورة لكنني في المقابل أشير فقط إلى أهمية الوظيفة بالنسبة إلى جميع المنظرين في مقابل الأهمية الأقل المولاة إلى الوظيفة في مجال الأساطير والحكايات الشعبية؛ بناء عليه، بينما أريد أن أشير إلى أن الأسطورة تحقق شيئا مهما بالنسبة للمؤمنين بها، فإنني لا أحدد على وجه الدقة ماهية هذا الشيء.
بلغة اليوم، تعتبر الأسطورة شيئا مغلوطا؛ فهي «مجرد» خرافة. على سبيل المثال، في عام 1997 نشر المؤرخ ويليام روبنستاين كتاب «أسطورة الإغاثة: لماذا لم تكن الدول الديمقراطية قادرة على إنقاذ المزيد من اليهود من النازيين». يسفر العنوان عن المعنى المراد، ويتحدى الكتاب القناعة السائدة بأنه كان يمكن إنقاذ كثير من ضحايا اليهود من براثن النازيين، حال التزام الحلفاء بإنقاذهم. ويناهض روبنستاين الافتراضات القائلة بأن الحلفاء لم يكترثوا بمصير اليهود الأوروبيين نظرا لأنها كانت معادية للسامية. ومن وجهة نظره، يشير مصطلح «الأسطورة» إلى تذبذب القناعة حيال الفشل في إنقاذ المزيد من اليهود، على نحو أكثر اكتمالا من استخدام عبارات ألطف مثل «اعتقاد مغلوط» و«سوء فهم عام». وبذلك تعتبر «الأسطورة» قناعة مغلوطة لكنها راسخة.
في المقابل، تستخدم عبارة «من الأسمال إلى الثروة» مصطلح الأسطورة بصورة إيجابية في الوقت الذي تشير فيه إلى رسوخ القناعة. وربما تبدو القناعة المغلوطة الفجة أكثر رسوخا من القناعة الصائبة؛ إذ إن القناعة تظل راسخة على الرغم من مغالطتها الواضحة. ولكن يمكن أن يتشبث بقناعة صائبة ثمينة بنفس قدر التشبث بقناعة مغلوطة، خاصة إذا كانت تدعمها قرينة مقنعة. وللمفارقة، ربما يتوقف بعض الأمريكيين، ممن لا يزالون يعتنقون عقيدة من الأسمال إلى الثروة، عن الإشارة إليها ك «أسطورة»؛ نظرا لأن مصطلح الأسطورة «صار» يعبر عن المغالطة؛ لذا أقترح ضرورة أن يتشبث المؤمنون بالأسطورة تشبثا شديدا بها حتى يمكن وصفها بالأسطورة؛ أي بالقصة التي تعبر لا شك عن قناعة. وفي المقابل، لا أشترط صحة القصة من عدمها.
أسطورة أدونيس
لتوضيح الفروق بين نظريات الأساطير المختلفة، أقترح عرض إحدى الأساطير المألوفة - أسطورة أدونيس - وبيان كيف تبدو في ضوء النظريات التي تناولناها. اخترت هذه الأسطورة في البداية لأنها لا تزال موجودة في نسخ متعددة؛ ومن ثم تبين مدى طواعية مفهوم الأسطورة. وترجع المصادر الرئيسة لأسطورة أدونيس إلى كتاب المؤرخ والكاتب اليوناني أبولودورس «المكتبة» (الكتاب الثالث، الفصل الرابع عشر، الفقرات 3-4) وملحمة الشاعر الروماني أوفيد «التحول» (الكتاب العاشر، السطور 298-739).
وفقا لرواية أبولودورس، الذي يقتبس نسخة القصة من الشاعر الملحمي بانياسيس، كانت سميرنا - والدة أدونيس - منجذبة إلى والدها بصورة لا تقاوم ثم صارت حبلى في طفل له. وعندما اكتشف والد سميرنا أن المرأة التي ضاجعها ليلا كانت ابنته، استل سيفه على الفور لقتلها، فهربت سميرنا، ولاحقها. وعندما كان على وشك الإمساك بها، ابتهلت سميرنا إلى الآلهة لتخفيها عن الأنظار، فاستجابت الآلهة مشفقة عليها فحولتها إلى شجرة مر، ولم يمض عشرة أشهر حتى انشقت الشجرة فخرج من باطنها أدونيس.
Halaman tidak diketahui
حتى عندما كان أدونيس طفلا، كان على قدر استثنائي من الجمال والوسامة. فتيمت به أفروديت، التي كانت تتولى حراسته فيما يبدو، أيما تيم، مثلما كانت سميرنا متيمة بأبيها. وحتى تستأثر به وحدها، خبأته في صندوق. وعندما فتحت برسيفوني، ملكة العالم السفلي (حادس)، الصندوق الذي ائتمنتها أفروديت عليه دون أن تفصح عما يحتويه؛ وقعت هي الأخرى في حب أدونيس، ورفضت إعادته إلى أفروديت. ولما كانت كل إلهة منهما تريد أدونيس لنفسها وحدها، لجأتا إلى ملك الآلهة، زيوس، الذي حكم بأن يقضي أدونيس ثلث العام مع برسيفوني، وثلثه مع أفروديت، والثلث المتبقي وحده. فتخلى أدونيس عن الثلث الخاص به لصالح أفروديت؛ ومن ثم لم يخرج أبدا عن كنف أي إلهة. وفي أحد الأيام، عندما كان يصطاد، جرحه خنزير بري فلقى حتفه إثر الجرح. ووفق أحد الروايات الأخرى للقصة في نسخة مجهولة الاسم لأبولودورس، كان الجرح من عمل آريز، إله الحرب، الذي كان غاضبا جراء تفوق أدونيس عليه كحبيب لأفروديت.
بالمثل، يرجع أوفيد قصة أدونيس إلى علاقة زنا المحارم بين والدته، ميرا، وأبيها المدعو في هذه القصة سينيراس. كانت ميرا على وشك شنق نفسها للتخلص من وطأة معاناتها التي كانت تمر بها، لولا وصيفتها العجوز التي كشفت عن مصدر معاناة ميرا، ومثلما سارت الأحداث في رواية أبولودورس، رتبت مضاجعة ميرا مع أبيها دون علمه. بالرغم من ذلك، في الليلة الثالثة، عندما طلب والد ميرا إضاءة المصابيح لمعرفة من أحبته إلى هذه الدرجة، وجدها ابنته. ومثلما ورد في رواية أبولودورس، استل سيفه لقتلها فهربت ميرا. ظلت ميرا التي حملت سفاحا تجوب في كل مكان لمدة تسعة أشهر. ووفقا لتسلسل الأحداث في رواية أبولودورس أيضا، صلت ميرا منهكة القوى للآلهة التي أشفقت عليها فحولتها إلى شجرة، وكان ذلك في نهاية حملها، لا في بدايته كما في رواية أبولودورس. رغم ذلك، ظلت ميرا تحتفظ بجانب إنساني وهي شجرة جعلها تنتحب، ومن دموعها استخلص عطر المر. كان على الطفل الذي دبت فيه الحياة في أحشائها أن يشق طريقه خارج الشجرة ليخرج إلى النور.
في رواية أوفيد، في مقابل رواية أبولودورس، ما إن التقت فينوس (الاسم الروماني المقابل لأفروديت) بأدونيس شابا حتى شغفها حبا في الحال، كتسلسل أحداث رواية أبولودورس. ولم تكن هناك أية صراعات عليه مع أية إلهة أخرى؛ لذا استأثرت فينوس بأدونيس لنفسها دون منازع. فكانا يذهبان إلى الصيد معا، وعلى الرغم من تحذير فينوس المتكرر لأدونيس بألا يصطاد سوى الحيوانات الأليفة، لم يعبأ أدونيس وسعى إلى اصطياد الحيوانات المتوحشة. ومثلما حدث في رواية أبولودورس، قتله خنزير بري، ولكن هذه المرة دون أن ترسله أية إلهة تتنافس مع فينوس على حبه.
فبينما تنتهي قصة أبولودورس بمقتل أدونيس، يواصل أوفيد قصته بذكر تفاصيل حداد فينوس عليه. وتكريما لذكراه، رشت فينوس رحيقا فوق دمائه، فتفتقت زهرة شقائق النعمان، وهي زهرة قصيرة العمر مثل أدونيس.
وعلى الرغم من أن الدورة السنوية للموت والميلاد من جديد «تسبق» الموت «النهائي» لأدونيس في رواية أبولودورس، «تتبع» الدورة السنوية في رواية أوفيد، ممثلة في الزهرة، وفاة أدونيس. وتسبق زراعة الزهرة الطقوس المصاحبة لأسطورة أدونيس، وهي صلة لم يرد ذكرها في رواية أبولودورس.
ومع أن الغضب هو الدافع الرئيس للأحداث في رواية أبولودورس، فالحب هو الدافع في رواية أوفيد. وبينما يعتبر أدونيس في رواية أبولودورس هو الضحية البريئة لصراع الآباء والآلهة المتنافسة، فإن أفروديت التعيسة في رواية أوفيد تعتبر ضحية بالمثل.
شكل 1: لوحة «فينوس وأدونيس» بريشة روبنز.
1
وفيما يطرح أبولودورس القصة باعتبارها حقيقية، يقدمها أوفيد في ثوب القصة الخيالية. وبينما يسرد أبولودورس أحداث القصة بصورة مباشرة، يحرفها أوفيد بحيث تسع لذكر موضوعات أكبر، خاصة موضوع التحول، مثل تحول ميرا إلى شجرة وأدونيس إلى زهرة. وفيما يهدف أبولودورس إلى تفسير قصته حرفيا، يستهدف أوفيد تفسير القصة مجازيا. وبينما يتبنى أبولودورس أسلوبا جادا في سرد القصة، يوظف أوفيد نبرة مرحة.
إنني أقترح استخدام أسطورة أدونيس؛ ليس فقط لأنها لا تزال موجودة في نسخ شديدة التباين، ولكن لشعبيتها الطاغية لدى منظري الأساطير في العصر الحديث. إضافة إلى ذلك، خضعت هذه الأسطورة لتحليل منظرين من أمثال جيه جي فريزر، ومارسيل ديتيان الذي اتبع لاحقا مدرسة ليفي-ستروس، وسي جي يونج وأتباعه.
Halaman tidak diketahui
تطبيق النظريات على الأساطير
يتمثل تحليل إحدى الأساطير في إجراء التحليل في ضوء إحدى النظريات؛ فلا مفر من التنظير. على سبيل المثال، كتيبات الميثولوجيا الكلاسيكية، التي تربط ربطا مباشرا بين رحلة أدونيس السنوية إلى برسيفوني ثم عودته إلى أفروديت، وبين مراحل إنبات الزهرة؛ تفترض مسبقا اعتبار الأسطورة نظيرا بدائيا للعلم. وبينما يعتبر التشكك في شمولية أية نظرية أمرا محل نظر، فإنه لا يمكن التخلي عن التنظير بصورة كاملة.
تحتاج النظريات إلى الأساطير بقدر حاجة الأساطير إلى النظريات. إذا فسرت النظريات الأساطير، فإن الأساطير بدورها تؤكد صحة النظريات. رغم ذلك، لا يؤكد التوافق التام بين النظرية والأسطورة صحة النظرية، ولا بد من ترسيخ المبادئ الأساسية للنظرية بصورة مستقلة. على سبيل المثال، إن توضيح أن نظرية يونج، عند تطبيقها، تفسر أسطورة أدونيس، لا يثبت في حد ذاته وجود لاوعي جمعي يفترض مسبقا في المقابل. وأحد الطرق - غير المباشرة - التي تساعد في تأكيد إحدى النظريات تتمثل في إظهار براعة تطبيقها «عند» التسليم بصحة مبادئها الأساسية، وهو ما يستند إلى صحة أو محدودية النظرية حال إثبات عدم نجاحها.
هوامش
الفصل الأول
الأسطورة والعلم
يرجع رفض الأسطورة في الغرب إلى أفلاطون الذي رفض أساطير هوميروس لأسباب أخلاقية بالأساس. واقتصر الأمر في الدفاع عن الأسطورة من هذا الاتهام على الرواقيين الذين أعادوا تفسير الأساطير مجازيا. ولم يأت رفض الأساطير الأساسي في العصر الحديث من علم الأخلاق بل من العلم. ويفترض هنا أن تفسر الأسطورة طريقة سيطرة الآلهة على العالم المادي بدلا من طريقة تعامل الآلهة مع بعضها البعض، مثلما كان يرى أفلاطون. وبينما كان أفلاطون يسخر من الأساطير لتقديم الآلهة كشخصيات تمارس الأفعال اللاأخلاقية، فإن نقاد العصر الحديث يرفضون الأساطير بسبب تفسيرها للعالم تفسيرا غير علمي.
الأسطورة كعلم حقيقي
كان من أشكال الرفض الحديثة للأساطير رفض مصداقيتها العلمية. فهل حدثت عملية الخلق في ستة أيام فقط، مثلما تشير القصة الأولى من قصتي الخلق في سفر التكوين (1: 1-2: 4أ)؟ هل كان هناك حقا طوفان غمر العالم بأكمله؟ هل يرجع تاريخ الأرض إلى ستة أو سبعة آلاف سنة فقط؟ هل أصاب المصريين عشرة ضربات بالفعل؟ كان أحد أكثر الدفاعات استماتة عن الأسطورة في هذا السياق هو الزعم بصحة الرواية المذكورة في الكتاب المقدس لهذه الأحداث، بسبب تنزيل الله للأسفار على موسى. ويتخذ هذا الرأي، المعروف باسم «نظرية الخلق»، صورا متعددة، تتراوح بين حساب عدد أيام الخلق باعتبارها ستة أيام بالضبط، وبين اعتبارها مسألة استغرقت «عصورا». وظهرت نظرية الخلق كرد فعل لكتاب «أصل الأنواع» لداروين (1859)، الذي يطرح تطور الأنواع تدريجيا بعضها من بعض، وليس خلقها بصورة منفصلة آنية. ومما يدعو للدهشة أن نظرية الخلق صارت أكثر، وليس أقل، تشبثا بالحرفية في تفسيرها لرواية الكتاب المقدس لقصة الخلق.
في الوقت نفسه، يتباهى مؤيدو نظرية الخلق من كافة المشارب بشأن رؤاهم باعتبارها علمية «وكذلك» دينية، وليست دينية «أكثر» من كونها علمية. و«نظرية الخلق» هي اختصار ل «علم الخلق»، الذي يقتنص أي دليل علمي من أي نوع لدعم مزاعمه، ودحض مزاعم النظريات اللادينية المنافسة مثل التطور. ولا شك في أن «علماء الخلق» قد يعترضون على استخدام مصطلح «أسطورة» للتعبير عن الرؤى التي يدافعون عنها؛ وذلك فقط نظرا للمعتقدات الزائفة المرتبطة بالمصطلح. وإذا جرى استخدام المصطلح بصورة محايدة للإشارة إلى معتنق راسخ، فإن نظرية الخلق ستعبر حينها عن أسطورة تزعم أنها علمية. ومن وجهة نظر علماء الخلق، لا يستند التطور إلى أي أساس علمي على الإطلاق. وفي حال وجود أي صدام بين الكتاب المقدس والعلم الحديث، يجب على العلم الحديث أن يفسح المجال لعلم الكتاب المقدس، وليس العكس.
Halaman tidak diketahui
الأسطورة كعلم حديث
يتمثل أحد الدفاعات الأكثر اعتدالا عن الأسطورة في وجه رفض العلم الحديث لها في التوفيق بينها وبين العلم. وفي هذا السياق، يتم التخلص من العناصر التي تصطدم بالعلم الحديث أو، بصورة أكثر براعة، إعادة تفسيرها بحيث تصير حديثة وعلمية. وتعتبر الأسطورة ذات مصداقية علمية؛ نظرا «لأنها» علم - علم حديث. ربما لم يكن بمقدور إنسان اسمه نوح (النبي) وحده جمع كل هذه الأنواع من الكائنات والحفاظ على حياتها في قارب خشبي قوي بما يكفي لتحمل أمواج أعتى البحار الموجودة آنذاك، لكن كان هناك طوفان. من ثم، يعتبر ما ظل قائما من الأسطورة صحيحا لأنه علمي. ويعد هذا الأسلوب في التناول متعارضا مع الأسلوب الذي يطلق عليه «التجرد من العناصر الخرافية»، الذي يفصل الجانب الخرافي عن العلمي. وسنتناول أسلوب التجرد من العناصر الخرافية في الفصل التالي.
وفي تعليق على الضربة الأولى؛ ألا وهي تحول مياه النيل إلى دم (سفر الخروج 7 : 14-24)، يجسد محررو «إنجيل أكسفورد المشروح» هذا الأسلوب المنطقي بقولهم: «كانت ضربة الدم تعكس بوضوح ظاهرة طبيعية في مصر؛ ألا وهي لون نهر النيل الضارب إلى الحمرة في أوج فيضانه في الصيف، والذي كان يرجع إلى جسيمات حمراء في الأرض أو ربما إلى كائنات حية دقيقة.» أما بالنسبة للضربة الثانية؛ ألا وهي ضربة الضفادع (سفر الخروج 8 : 1-15)، كتب المحررون قائلين في وضوح: «كان طمي النيل، بعد موسم الفيضان، هو البيئة الطبيعية لتكاثر الضفادع، ولم تتعرض مصر لهذه الضربة لأكثر من مرة من قبل؛ نظرا لوجود الطائر الآكل للضفادع؛ أبو منجل.» فيا لها من مصادفة، تلك التي وقعت حينما كان طائر أبو منجل ليس على الساحة عندما بسط هارون يده للتسبب في وقوع الضربة، وحتما عاد الطائر في الوقت الذي كان موسى يرغب فيه في رفع البلاء! فبدلا من وضع الأسطورة «في مواجهة» العلم، يسنح هذا الأسلوب بتحويل الأسطورة «إلى» علم، وليس كما هو رائج حاليا، تحويل العلم إلى أسطورة.
الأسطورة كعلم بدائي
حتى الآن، تمثلت أكثر ردود الفعل شيوعا حيال رفض العلم للأسطورة في التخلي عن الأساطير لصالح العلم. في هذا السياق، تعبر الأسطورة، التي لا تزال تقدم تفسيرا للعالم، عن تفسير فريد من نوعه، وليس تفسيرا علميا تحت غطاء خرافي. إذن، لا يتمثل جوهر المسألة في المصداقية العلمية للأسطورة، بل في مدى توافق الأسطورة مع العلم. وتعتبر الأسطورة علما «بدائيا» أو، بصورة أدق، نظيرا سبق ظهور العلم الذي يفترض كونه حديثا بصورة استثنائية. وتعتبر الأسطورة في هذا السياق جزءا من الدين، وبينما يوفر الدين - المنفصل عن الأسطورة - الاعتقاد في الآلهة، تملأ الأسطورة الفراغ بتفاصيل طريقة تنفيذ الآلهة للأحداث. ونظرا لأن الأسطورة جزء من الدين، أدى صعود العلم كتفسير حديث ومهيمن للأحداث المادية إلى سقوط الدين والأسطورة معا. ولأن الحداثيين يقبلون العلم بطبيعتهم، فإنهم يعجزون عن تقبل وجود الأسطورة أيضا، وهكذا تعد عبارة «الأسطورة الحديثة» متعارضة مع نفسها. وبذلك، تعد الأسطورة ضحية عملية العلمنة التي تؤلف الحداثة.
في الواقع، لم تكن العلاقة بين الدين والعلم متناغمة قط، وتعبر المؤلفات ذات العناوين المنحازة مثل «تاريخ حرب العلم مع اللاهوت في العالم المسيحي» عن وجهة نظر أحادية. وبالرغم من ذلك، كان الدين والعلم، وبناء عليه الأسطورة والعلم، يعارضان على نحو أكثر انتظاما في القرن التاسع عشر عنه في القرن العشرين، الذي جرى فيه التوفيق بينهما في كثير من الأحيان.
إي بي تايلور
شكل 1-1: إي بي تايلور، بريشة الفنان جي بونافيا.
1
يظل عالم الأنثروبولوجيا الرائد الإنجليزي الجنسية إي بي تايلور (1832-1917)؛ المؤيد الكلاسيكي لوجهة النظر القائلة بتعارض الأسطورة مع العلم. يصنف تايلور الأسطورة تحت الدين، ومن ثم يصنف كلا من الدين والعلم تحت الفلسفة. ويقسم تايلور الفلسفة إلى «بدائية» و«حديثة». فتتطابق الفلسفة البدائية مع الدين البدائي، غير أنه لا يوجد علم بدائي. على النقيض من ذلك، تتضمن الفلسفة الحديثة قسمين فرعيين: الدين والعلم. ومن بين الاثنين، يعتبر العلم هو الأكثر أهمية، كما يعتبر النظير الحديث للدين البدائي. ويتألف الدين الحديث من عنصرين - ما وراء الطبيعة وعلم الأخلاق - وكلاهما لا يوجد في الدين البدائي. فتتعامل ما وراء الطبيعة مع الكيانات غير المادية التي لا يدركها «البدائيون». وبينما لا يغيب علم الأخلاق في الثقافة البدائية، فإنه يقع خارج نطاق الدين البدائي: «يبدو أن ارتباط علم الأخلاق بالفلسفة الروحانية، لم يبدأ في الثقافة الدنيا، إلا نادرا، على الرغم من ارتباطهما وبقوة في الثقافة العليا.» ويستخدم تايلور مصطلح «المذهب الروحاني» للإشارة إلى الدين في حد ذاته، سواء الحديث أم البدائي؛ نظرا لأنه يستمد الاعتقاد في الآلهة من الاعتقاد في الأرواح. وفي الدين البدائي، تسكن الأرواح جميع الكيانات المادية بدءا من أجساد البشر. ويعتبر الآلهة هم الأرواح الساكنة في جميع الكيانات المادية «باستثناء» البشر الذين هم ليسوا آلهة.
Halaman tidak diketahui
يعتبر الدين البدائي هو النظير البدائي للعلم؛ نظرا لأن كليهما يقدمان تفسيرات للعالم المادي؛ بناء عليه، يصف تايلور الدين البدائي بأنه «بيولوجيا بدائية»، مؤكدا على «إحلال علم الفلك الميكانيكي محل علم الفلك الروحاني عند الأعراق الدنيا تدريجيا»، وأنه حاليا «يحل علم الأمراض البيولوجية محل علم الأمراض الروحانية تدريجيا.» إضافة إلى ذلك، يعتبر التفسير الديني شخصانيا؛ إذ تفسر قرارات الآلهة الأحداث، بينما يعد التفسير العلمي غير شخصي؛ إذ تفسر القوانين الميكانيكية الأحداث. وبذلك حلت العلوم في مجملها محل الدين كتفسير للعالم المادي، بحيث صار «علم الفلك الروحاني» و«علم الأمراض الروحاني» يشيران فقط إلى المذهب الروحاني البدائي، لا الحديث. وأسلم الدين الحديث راية تفسير العالم المادي إلى العلم، وانزوى إلى العالم غير المادي، خاصة إلى عالم الحياة بعد الموت، بعبارة أخرى إلى حياة الروح بعد موت الجسد. وفيما تعتبر الأرواح مادية في الدين البدائي، تعتبر غير مادية في الدين الحديث كما تقتصر على البشر:
في وقتنا هذا ودولتنا هذه، نلاحظ تلاشي فكرة أرواح المخلوقات. ويبدو المذهب الروحاني كأنه ينسحب من قواعده المترامية، ويمركز نفسه في وضعه الأول والرئيس، وهو مذهب الروح البشرية ... تخلت الروح عن مادتها الأثيرية، وصارت كيانا غير مادي، «ظلا لظل». ويتزايد انفصال نظرية الروح عن نطاق الأبحاث في علم الأحياء والعلوم العقلية، التي تناقش حاليا ظاهرة الحياة والفكر، الحواس والعقل، المشاعر والإرادة، استنادا إلى أساس من التجربة الخالصة. فظهر إلى الوجود منتج فكري يعتبر وجوده - في حد ذاته - في غاية الأهمية؛ ألا وهو «علم النفس» الذي لم يعد له علاقة ب «الروح». وتقع الروح في الفكر الحديث في مجال ما وراء الطبيعة الدينية، وتتمثل مهمتها الخاصة هناك في تقديم جانب فكري إلى المذهب الديني للمستقبل. (تايلور، «الثقافة البدائية»، المجلد الثاني، ص85)
بالمثل، فيما تعتبر الآلهة مادية في الدين البدائي، فإنها غير مادية في الدين الحديث؛ بناء عليه، لم تعد الآلهة فاعلة في العالم المادي - ويفترض تايلور هنا أن الآثار المادية لا بد أن تكون لها أسباب مادية - كما لم يعد الدين تفسيرا للعالم المادي. فنقلت الآلهة من العالم المادي إلى العالم الاجتماعي، وأصبحت نماذج للبشر، مثلما يجب أن يكونوا وفقا لأفلاطون. يرجع المرء إذن الآن إلى الكتاب المقدس لتعلم الأخلاق، وليس الفيزياء. ويقرأ المرء الكتاب المقدس، لا ليعرف قصة الخلق بل لمعرفة الوصايا العشر، مثلما تمكن أعمال هوميروس، بعد تنقيحها، المرء من فعل ذلك، حسب رؤية أفلاطون. وهكذا، يحاكى المسيح باعتباره إنسانا مثاليا وليس باعتباره صانع معجزات. ولقد عبر عن نموذج لهذه الرؤية الناقد الثقافي ماثيو أرنولد في العصر الفيكتوري.
يشبه هذا الموقف التوافقي موقف عالم الأحياء التطورية الراحل ستيفن جاي جولد، الذي يعتبر العلم - خاصة علم التطور - متوافقا مع الدين؛ نظرا لأن كليهما لا يتقاطعان أبدا. وفيما يفسر العلم العالم المادي، يقدم الدين وصفة أخلاقية ويعطي معنى للحياة:
يحاول العلم توثيق الطبيعة الحقيقية للعالم الطبيعي، وتطوير نظريات تنسق هذه الحقائق وتفسرها. على الجانب الآخر، يوجد الدين في مجال الأغراض والمعاني والقيم الإنسانية. (جولد، «صخور العصور»، ص4)
رغم ذلك، بينما أدى الدين «دوما» عند جولد وظيفة مختلفة عن وظيفة العلم ، أجبر الدين من وجهة نظر تايلور على التقهقر؛ نظرا لتهميش العلم له قسرا، وصارت وظيفته الحالية أضعف. ويعتبر تايلور أقرب إلى عالم الأحياء ريتشارد دوكينز، على الرغم من أن دوكينز، على عكس تايلور، غير مستعد حتى لأن يمنح الدين وظيفة أقل بعد ظهور العلم.
ويرى تايلور أن تضاؤل دور الدين، كتفسير للعالم المادي، كان يعني تضاؤل دور الأساطير بالكامل التي تقتصر من وجهة نظره على الدين البدائي. وعلى الرغم من أن الأساطير هي إسهاب للاعتقاد في الآلهة، فإن هذا الاعتقاد في حد ذاته قادر على الصمود أمام صعود العلم حيثما تعجز الأسطورة عن ذلك إلى حد ما. ومن الواضح أن الأساطير وثيقة الصلة بالآلهة كأياد فاعلة في العالم بصورة لا تسمح بإجراء أية عملية تحول مقارنة من الفيزياء إلى ما وراء الطبيعة. إذن، بينما يوجد «دين حديث»، على الرغم من كونه دينا لا يمارس الدور الرئيس في التفسير، فإنه لا توجد أساطير حديثة.
في وضع الأسطورة في مواجهة العلم، كما هي الحال في وضع الدين كتفسير في مقابل العلم، يجسد تايلور النظرة حيال الأساطير في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين، سار الاتجاه العام نحو التوفيق بين الأساطير والعلم من جهة وبين الدين والعلم من جهة أخرى، بحيث لا يستغني الناس في العلم الحديث عن الأسطورة أو الدين. مع ذلك، تظل وجهة نظر تايلور شائعة بلا شك، ويتبناها أولئك ممن يثير لديهم مصطلح «الأسطورة» قصصا تدور حول الآلهة اليونانية والرومانية.
ويرى تايلور أن العلم لا يجعل الأسطورة شيئا غير ضروري فحسب، بل يجعلها أيضا غير مقبولة. لماذا؟ لأن التفسيرات التي يطرحها كل من الأسطورة والعلم غير متوافقة. ولا يقتصر الأمر ببساطة على أن تفسيرات الأساطير شخصانية وأن التفسيرات العلمية غير شخصية، بل يتجاوز ذلك إلى أن كليهما يطرح تفسيرات «مباشرة» للأحداث «نفسها»، فلا تؤثر الآلهة في الأشياء من خلف أو من خلال قوى غير شخصية، بل تحل محلها؛ ففي الأسطورة، يجمع إله الأمطار، على سبيل المثال ، الأمطار في دلاء ثم يقرر تفريغها في منطقة ما أسفل منه، أما في العلم، تسبب الأحوال الجوية الأمطار. وبذلك، لا يستطيع المرء وضع التفسير الخرافي فوق التفسير العلمي؛ لأن إله المطر، بدلا من استخدام الأحوال الجوية، يسقط الأمطار ويتسبب فيها بدلا منها.
بصورة أدق، لا تعتبر السببية في الأساطير مسألة شخصانية بالكامل قط. ويفترض قرار إله المطر إنزال الأمطار فوق منطقة ما وجود قوانين فيزيائية يرجع إليها سبب تراكم الأمطار في السماء، وسعة الدلاء للاحتفاظ بالأمطار، وتوجيه الأمطار الهاطلة. ولكن، حتى يحافظ تايلور على الفجوة الصارمة بين الأسطورة والعلم، لا شك أنه سيجيب بأن الأساطير نفسها تتجاهل العمليات الفيزيائية وتركز على القرارات الإلهية فقط.
Halaman tidak diketahui
مع ذلك، حتى في حال عدم التوافق بين الأسطورة والعلم، لماذا لا تتسم الأسطورة بأنها علمية من وجهة نظر تايلور؟ لا بد أن الإجابة هي أن المسببات الشخصية غير علمية. ولم ذلك؟ لم يجب تايلور قط. وربما تتمثل الإجابة في أحد الأسباب التالية: أن المسببات الشخصية عقلية - أي إنها قرارات أياد فاعلة إلهية - بينما تعتبر المسببات غير الشخصية مادية. أن المسببات الشخصية لا يمكن التنبؤ بها أو اختبارها، بينما يمكن توقع وقياس المسببات غير الشخصية. أن المسببات الشخصية خاصة، بينما المسببات غير الشخصية معممة. وأن المسببات الشخصية نهائية أو غائية (لها غاية)، بينما المسببات غير الشخصية فاعلة ومؤثرة. ولكن، لا تفرق أي من هذه الأسباب في حقيقة الأمر بين المسببات الشخصية وغير الشخصية، مما يصعب معرفة كيف استطاع تايلور الدفاع عن قناعته بأن الأسطورة غير علمية.
نظرا لأن تايلور لا يشكك في هذا الافتراض أبدا، فإنه لا يسلم جدلا فقط بأن الأشخاص البدائيين لا يملكون إلا أساطير، بل والأدهى من ذلك أن الحداثيين لا يملكون إلا العلم. وليس من قبيل المصادفة، إذن، أن يشير تايلور إلى «مرحلة صناعة الأسطورة» في الثقافة. وبدلا من كون الأسطورة ظاهرة خالدة، مثلما يزعم كل من ميرسيا إلياد وسي جي يونج وجوزيف كامبل بتعالي، لا تعتبر الأسطورة من منظور تايلور أكثر من مجرد ظاهرة زائلة ، وإن كانت تزول ببطء. فلقد أدت الأساطير دورها باقتدار غير أن زمانها انتهى. وفشل الحداثيون الذين لا يزالون يتشبثون بالأساطير في إدراك أو التسليم بعدم توافقها مع العلم. وبينما لا يشير تايلور إلى تاريخ بداية المرحلة العلمية، فإن هذا التاريخ يتطابق مع تاريخ بداية الحداثة، ومن ثم لا يرجع إلى أكثر من قرون قليلة خلت. وعند وفاته في عام 1917، لم يتخيل على الإطلاق وجود مرحلة تتعدى الحداثة. وأحد الأمثلة الحديثة على موقف تايلور، عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي دافيد بدني.
أحد أسباب وضع تايلور للأسطورة في مواجهة مع العلم هو تصنيفه للأسطورة تحت مظلة الدين. ومن وجهة نظره، لا توجد أسطورة خارج مجال الدين، على الرغم من عدم وجود أسطورة في الدين الحديث. ولأن الدين البدائي يعتبر نظير العلم، كذلك يجب أن تكون الأسطورة، ولأن الدين يجب فهمه حرفيا، كذلك يجب فهم الأسطورة على النحو نفسه.
من الأسباب الأخرى لوضع تايلور الأسطورة في مواجهة مع الدين أنه يفسر الأسطورة تفسيرا حرفيا. ويعارض تايلور من يفسرون الأسطورة بصورة رمزية، أو شعرية، أو مجازية، وهي جميعا بالنسبة إليه مصطلحات متماثلة. ويعارض أيضا «الرمزيين الأخلاقيين» الذين يعتبرون أسطورة قيادة هيليوس اليومية لعربته عبر السماء وسيلة لغرس الانضباط الذاتي. بالمثل، يعارض تايلور «المؤلهين» الذين يرون الأسطورة مجرد أسلوب حيوي لوصف إنجازات بطل محلي أو قومي. (كان يوهيمروس - الذي اشتقت من اسمه لفظة «مؤله» باللغة الإنجليزية - جامع أساطير يونانيا قديما أرسى تقليد البحث عن أساس تاريخي حقيقي للأحداث الأسطورية.) ويرى تايلور أن أسطورة هيليوس تفسر شروق الشمس وغروبها؛ وهذه الوظيفة التفسيرية «تتطلب» تفسيرا حرفيا. ولا تعتبر الأسطورة من منظور الرمزيين الأخلاقيين والمؤلهين نظيرا بدائيا للعلم؛ نظرا لأن الأسطورة تدور حول البشر أكثر مما تدور حول الآلهة أو العالم، وذلك في حال تفسيرها بصورة رمزية. ويرى الرمزيون الأسطورة غير علمية، نظرا لأنها تقدم وصفة إلى البشر حول كيفية التصرف أكثر مما تشرح طرق التصرف، وذلك حال تفسيرها تفسيرا رمزيا.
كتفسيرات للأسسطورة، يرجع كل من الترميز الأخلاقي وتأليه الأشخاص إلى العصور القديمة، إلا أن تايلور يرى أن المؤيدين لكليهما المعاصرين له تدفعهما رغبة في الحفاظ على الأسطورة، على الرغم من رفض العلم الحديث لها على هذا النحو المميز. وفيما يرفض تايلور أولئك الذين يفسرون الآلهة على أنهم مجرد استعارات تشير إلى البشر باعتبارهم «مؤلهين»، فإن المؤلهين القدامى أنفسهم سلموا على نحو تقليدي بأن الآلهة - ما أن افترض وجودهم جدلا - يفسرون كآلهة، وذهبوا إلى أن الآلهة «ظهرت للوجود» بتفخيم البشر وإجلالهم، مثلما يرى تايلور نفسه. وكان المؤلهون القدامى يرون أن الآلهة الأولين كانوا ملوكا عظماء بحق، جرى تأليههم بعد مماتهم. ورأى يوهيمروس نفسه أن الآلهة الأولين كانوا ملوكا جرى تأليههم وهم على قيد الحياة.
يأتي على طرف النقيض من تايلور معاصره في الحقبة الفيكتورية، فريدريك ماكس مولر (1823-1900) - ألماني المولد عالم اللغة السنسكريتية - الذي قضى حياته العملية في أكسفورد. وبينما أساء الحداثيون - من منظور تايلور - تفسير الأسطورة لنحوهم نحوا رمزيا، وصل الأمر بالقدماء أنفسهم - في وجهة نظر مولر - إلى إساءة تفسير أساطيرهم، أو البيانات الخرافية لانتهاجهم على نحو تدريجي نهجا حرفيا. وفي الأصل، كان الوصف الرمزي للظواهر الطبيعية يفسر كوصف حرفي لصفات الآلهة. على سبيل المثال، البحر الموصوف شعريا بأنه «هائج» كان يعتبر بمرور الوقت صفة للإله المشخصن المسئول عن البحر، ثم لاحقا ابتكرت أسطورة للتعبير عن هذه الصفة. وتنبثق الميثولوجيا في رأي مولر من غياب أو شبه غياب الأسماء المجردة وعلامات التذكير والتأنيث في اللغات القديمة؛ بناء عليه، دائما ما كان يحول أي اسم أعطي للشمس، لنقل على سبيل المثال «مصدر الدفء»، كيانا مجردا غير شخصي إلى شخصية حقيقية، ثم ابتكرت الأجيال اللاحقة الأساطير لملء تفاصيل حياة هذا الإله المذكر أو المؤنث.
في حالة تطبيق منهج تايلور على أسطورة أدونيس، سنجد أن الأسطورة تعبر عن تفسير - قائم بذاته - لشيء مدهش جرت ملاحظته. ويرى تايلور أن روايتي أبولودورس وأوفيد تقدمان تفسيرا لأصل شجرة المر. غير أن رواية أوفيد تقدم تفسيرا لأصل زهرة شقائق النعمان، وتفسر أيضا سبب قصر حياة الزهرة، وهو ما يرمز إلى قصر حياة أدونيس. فإذا كان للمرء أن يعمم ما يحدث لزهرة شقائق النعمان وغيرها من النباتات، فقد تفسر الأسطورة لماذا لا تموت هذه الكيانات بل إنها تولد من جديد. على الجانب الآخر، يرى تايلور أن أدونيس يجب أن يكون إلها، وليس بشرا، كما يجب أن تربط الأسطورة بين مراحل إنبات الزهور والنباتات على مدار العام بصورة عامة، وبين رحلة أدونيس السنوية إلى حادس والرجوع منه. غير أن موت أدونيس سيتم تجاهله؛ فالتركيز في الأسطورة يقع على قدرة أدونيس على السيطرة على الكيانات الطبيعية التي كان مسئولا عنها. أما عن الدرس المستفاد من الأسطورة، فهو فكري من جميع جوانبه: ويتمثل في معرفة المرء سبب سلوك المحاصيل على هذا النحو الفريد - إذ تموت ثم تعود إلى الحياة، ولا يحدث ذلك مرة واحدة بل إلى الأبد.
مع ذلك، فإن الأسطورة نفسها لا تربط بين رحلة أدونيس السنوية وبين مراحل الإنبات، على الرغم من وجود هذا الارتباط في طقوس نثر البذور في «حدائق أدونيس» سريعة النمو، سريعة الموت. وحتى في حال عدم ربط رحلة أدونيس بمراحل الإنبات، لن يتأتى أي أثر على النبات من أي قرار يتخذه أدونيس، مثلما قد يشترط تايلور، بل كنتيجة تلقائية لأفعاله.
إضافة إلى ذلك، سيجري التخلي عن جانب كبير من الأسطورة. فلا تغطي نظرية تايلور موضوعات زنا المحارم، والحب، والغيرة، والجنس. وبصورة أدق، لا تستطيع نظرية تايلور تغطية هذه الموضوعات إلا من باب تناول دوافع أدونيس. في المقابل، تظل هذه الدوافع دوافع الأشخاص من حول أدونيس، لا دوافعه هو. ويعتبر أدونيس شخصية سلبية أكثر من كونها فاعلة. وعلى الرغم من الأحداث الإعجازية في حياة أدونيس، لا يزال أدونيس بشرا، وليس إلها. إجمالا، تركز الأسطورة فيما يبدو على علاقاته بالآخرين أكثر من تأثيره أو تأثير الآخرين على العالم المادي.
تبدو نظرية تايلور مفصلة خصيصى لنموذج أسطورة تعبر بصورة جلية عن قصة الخلق، بل تعبر عن آليات عمل الظواهر المادية الجاري. خذ سفر التكوين الإصحاح الأول على سبيل المثال، الذي يعتبره تايلور أسطورة وفق هذا المعيار. ولنستشهد ببعض المقتطفات:
Halaman tidak diketahui
وقال الله: «لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة.» وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضا، ومجتمع المياه دعاه بحارا. ورأى الله ذلك أنه حسن. (سفر التكوين 1 : 9-10 [النسخة القياسية المراجعة])
وقال الله: «لتفض المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء.» فخلق الله التنانين العظام، وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه. ورأى الله ذلك أنه حسن. (سفر التكوين 1 : 20-21)
وقال الله: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض.» فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: «أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض، وأخضعوها» ... ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا. (سفر التكوين 1 : 26-31)
تتناسب نظرية تايلور مع عناصر العالم تلك التي لم تخلق وفق نظام محدد مرة واحدة إلى الأبد، مثل اليابسة والبحار، فضلا عن الظواهر المتكررة مثل الأمطار، وتحولات الفصول، و(في قصة نوح) قوس قزح. يتناول سفر التكوين، الإصحاح الأول، العديد من الظواهر المتكررة مثل الليل والنهار، والشمس والقمر، وجميع الكائنات الحية. في مقابل ذلك، تتطلب نظرية تايلور وقوع الظواهر المتكررة استنادا إلى القرارات المتكررة للآلهة. ووفقا لتايلور، يمثل الآلهة للعالم المادي ما يمثله البشر للعالم الاجتماعي؛ إذ يتخذون قرارا جديدا في كل مرة يفعلون الشيء نفسه. ومن وجهة نظره، لا يخلق الآلهة الأشياء التي تظل للأبد، على النقيض مما يراه منظرون من أمثال برونيسلاف مالينوفسكي وإلياد.
ماذا عن الظواهر التي لم يشهدها أحد على الإطلاق، مثل وحوش البحر؟ كيف تصلح الأسطورة للتعبير عنها؟ تتمثل إجابة تايلور السهلة في أن واضعي سفر التكوين افترضوا مشاهدة أحد لها. ولن تختلف وحوش البحر في هذه الحالة عن الأطباق الطائرة المجهولة.
حتى في حال توافق نظرية تايلور مع عملية الخلق توافقا محكما في سفر التكوين، الإصحاح الأول، سيقع جانب كبير من الأسطورة خارج نطاق النظرية. فلا تقتصر النظرية على تفسير عملية الخلق فحسب، بل إنها تجري عملية تقييم لها، واصفة إياها بالحسنة بصورة دائمة. ونظرا لأن تايلور يصر على إجراء مقارنة بين الأسطورة والعلم، لا يدع أي مجال في الأسطورة للأخلاق، والدليل على ذلك معارضته للرمزيين الأخلاقيين. ويرى تايلور أن سفر التكوين، الإصحاح الأول، يجب أن يفسر قصة الخلق، لا أن يقيمها. وبالمثل، لا تقتصر قصة الخلق على تفسير قصة خلق البشر، بل ترتقي بهم إلى مصاف تعلو مراتب كافة الخلق، مانحة إياهم الحق والمسئولية في آن واحد في الإشراف على العالم المادي. إضافة إلى ذلك، إذا كانت «صورة» الله التي على مثالها خلق البشر أكثر من مجرد صورة تشريحية، فسنجد قصورا هنا أيضا في نظرية تايلور.
أخيرا، في حال نجاح نظرية تايلور، ماذا ستكشف عنه؟ إن التوافق بين نظرية ما وأسطورة بعينها أمر يختلف عن أن تفسر النظرية أية أسطورة تتوافق معها. فعلام تدلنا نظرية تايلور التي لولاها ما عرفنا ما سنعرفه منها؟ إحقاقا للحق، لم يستطع أحد سؤال تايلور عن «معنى» الأسطورة؛ إذ إن تايلور يتشبث بموقفه بتفسير الأسطورة تفسيرا حرفيا. بعبارة أخرى، تعني الأسطورة بالنسبة له ما تنص عليه. ويتمثل إسهام تايلور فيما يتعلق بالأسطورة في أصل ووظيفة الأسطورة. ومثلما يؤكد تايلور، لم ينشأ سفر التكوين، الإصحاح الأول، من تخمينات جامحة إزاء العالم، بل من ملاحظات منتظمة لعمليات طبيعية متكررة، وإن كانت مدهشة، تستدعي التفسير. وفيما بين مؤيدي نظرية الخلق، هناك جمهور يطري على نظرية تايلور - ليس لأنه يعتبر سفر التكوين، الإصحاح الأول، هو الرواية الصحيحة عن أصل العالم، بل لأنه يعتبره «رواية»؛ رواية دينية مميزة. ويطرح تايلور تصحيحا لعلماء اللاهوت في القرن العشرين الذين، بإصرارهم على جعل الكتاب المقدس كتابا مستساغا للحداثيين، يرون أن سفر التكوين، الإصحاح الأول، لا يعبر بأي صورة من الصور عن قصة الخلق، وهي رؤية تشبه وجهة نظر رودولف بولتمان حول العهد الجديد، كما سنرى في الفصل التالي.
جيه جي فريزر
لا تمثل رؤية تايلور سوى رؤية واحدة للعلاقة بين الأسطورة والعلم، أو بين الدين والعلم. وأقرب الرؤى إليها هي رؤية معاصره الرائد الأنثربولوجي جيه جي فريزر (1854-1941)، اسكتلندي المولد، ودارس الحضارة اليونانية والرومانية القديمة المنتسب إلى جامعة كامبريدج. يرى فريزر، وكذلك تايلور، أن الأسطورة جزء من الدين البدائي، كما يعتبر الدين البدائي جزءا من الفلسفة، التي تعد شاملة، والدين البدائي أيضا هو نظير للعلم الطبيعي الذي يعد حديثا في مجمله. ويرى كلاهما أيضا أنه لا يوجد توافق بين الدين البدائي والعلم؛ فيخطئ الدين البدائي والعلم يصيب. ولكن، بينما يمثل الدين البدائي عند تايلور، متضمنا الأسطورة، النظير المقابل ل «النظرية» العلمية، يمثل الدين البدائي عند فريزر النظير المقابل للعلم «التطبيقي»، أو التكنولوجيا. وبينما «يفسر» الدين البدائي في رأي تايلور الأحداث في العالم المادي، «يسبب» الدين البدائي الأحداث في منظور فريزر، خاصة نمو المحاصيل. وفيما يتعامل تايلور مع الأسطورة كنص مستقل، يربط فريزر الأسطورة بالطقوس التي تسببها.
يعتبر فريزر أسطورة أدونيس أحد الأمثلة الرئيسة على الأسطورة الأم من بين جميع الأساطير، وهي أسطورة كبير الآلهة، إله النبات. ويرى فريزر أنه كان من الممكن تمثيل أسطورة أدونيس، وذلك التمثيل الطقوسي كان يعتقد أنه سيحقق نجاحا باهرا في إحداث ما كان مرجوا منه. فكان من الممكن أن يؤدي تمثيل عودة أدونيس إلى عودته بالفعل، ومن ثم إعادة إنبات المحاصيل. كما أن الأسطورة لم يكن الهدف منها هو شرح سبب موت المحاصيل - فقد ماتت لأن أدونيس، عند نزوله إلى أرض الموتى، قد مات - بل استهدفت إحياء المحاصيل. ويعتقد فريزر أن الدرس المستفاد من هذه الأسطورة، وهو تجنب المجاعة، شديد العملية. أما عن تفسيره لأسطورة أدونيس، فسوف نوليه الدراسة بمزيد من التفاصيل في الفصل
Halaman tidak diketahui
الرابع
من هذا الكتاب.
تتمثل الصعوبة الكبرى في رؤية تايلور وفريزر للأسطورة كنظير بدائي للعلم في عجزها الواضح عن تبرير وجود الأسطورة بعد ظهور العلم. فإذا كانت الأسطورة لا تؤدي أكثر من الدور الذي يؤديه العلم ، فلماذا لا تزال موجودة؟ بطبيعة الحال، ربما يجيب تايلور وفريزر عن هذا السؤال على الفور قائلين إن أيا ما ظل قائما من الأسطورة لبعد ظهور العلم، فهو ليس أسطورة، وذلك يرجع إلى أنه لا يؤدي أي وظيفة علمية. في المقابل، يرى الفيلسوف الألماني المعاصر هانز بلومنبرج (1920-1996) أن استمرار الأسطورة إلى جانب العلم يقدم دليلا على أن الأسطورة لم تؤد «أبدا» نفس وظيفة العلم. رغم ذلك لم يقدم بلومنبرج أو تايلور أو فريزر تفسيرا حول سبب استدعاء الأسطورة، أو الدين ككل، «إلى جانب» العلم عند تفسير الأحداث المادية.
على سبيل المثال، عندما ينجو عدد محدود من الركاب من حادث اصطدام طائرة، يجري تفسير الاصطدام تفسيرا علميا، بينما يعزى سبب نجاة المسافرين على متنها إلى العناية الإلهية وليس - مثلا - إلى موضع المقاعد في الطائرة. وقطعا يمكن أن يرد تايلور وفريزر على ذلك قائلين إن الناجين لم يتقبلوا حقيقة عدم توافق تفسيرهم الديني مع التفسير العلمي، غير أنه يطغى على هذه المطالبة بالتوافق بينهما حاجة أكثر إلحاحا لا يمكن تلبيتها إلا بالتفسير الديني.
لوسيان ليفي-بريل
لوسيان ليفي-بريل (1857-1939) هو فيلسوف فرنسي وعالم نظري في مجال الأنثروبولوجيا، عارض آراء تايلور وفريزر ومنظرين آخرين ممن أطلق عليهم «المدرسة الإنجليزية للأنثروبولوجيا»، وإن لم يتحر الدقة عند اختيار هذا الاسم. وفي معارضته لآرائهم، أكد على وجود فجوة كبيرة جدا بين الأسطورة والعلم. وفيما يفكر البدائيون، من منظور تايلور وفريزر، مثل الحداثيين - ولكن على نحو أقل دقة - يفكر البدائيون في رأي ليفي-بريل تفكيرا مختلفا عن الحداثيين. وبينما يعد تايلور وفريزر التفكير البدائي منطقيا، وإن كان يشوبه الأخطاء، يعتبر ليفي-بريل هذا التفكير البدائي غير منطقي، أو باستخدام اصطلاحه المفضل، «قبل منطقي».
ووفقا لليفي-بريل وكذلك تايلور، لا يؤمن البدائيون بأن كل الظواهر الطبيعية لها أرواح فردية كالأرواح البشرية، أو آلهة، بل يؤمنون بأن جميع الظواهر، بما في ذلك البشر ومتعلقاتهم، تمثل جزءا من عالم غير شخصي ومقدس، أو «غامض»، يتخلل العالم الطبيعي . إضافة إلى ذلك، يؤمن البدائيون بأن «مشاركة» جميع الأشياء في هذا الواقع الغامض لا تجعل الظواهر تؤثر بعضها على بعض تأثيرا سحريا فحسب، بل تمكنها من أن تصبح إحداها الأخرى، وأن تحتفظ في الوقت نفسه بماهيتها: «يمكن أن تصبح الأشياء والكائنات والظواهر، نفسها وشيئا آخر غير نفسها - وإن كان بطريقة لا نفهمها نحن [الحداثيين].» فأفراد قبائل البورورو البرازيلية يعدون أنفسهم طيور مكاو حمراء، أو ببغاوات براكيت، إضافة إلى كونهم بشرا. ويصف ليفي-بريل هذا الاعتقاد بأنه قبل منطقي؛ نظرا لمخالفته قانون عدم التعارض، الذي ينص على أن الشيء يمكن أن يصبح ذاته وأن يصبح شيئا آخر في آن واحد.
وبينما تتضمن الأسطورة وفق وجهتي نظر تايلور وفريزر نفس عمليات الملاحظة والاستدلال والتعميم بصفتها علما، أو على الأقل علما حسب تفكيرهم؛ يرى ليفي-بريل أن التفكير الخرافي هو النقيض للتفكير العلمي. وفيما «يدرك» البدائيون العالم نفسه، في رأي تايلور وفريزر، كإدراك الحداثيين - وإن كانوا «يتصورونه» على نحو مختلف - فإن ليفي-بريل يظن أن البدائيين يرون العالم، ومن ثم يتصورونه، بصورة مختلفة عن الحداثيين؛ أي يرونه متوحدا معهم.
ويرى ليفي-بريل، وكذلك تايلور وفريزر، أن الأسطورة جزء من الدين، وأن الدين بدائي، وأن الحداثيين يرجحون كفة العلم على الدين. في المقابل، بينما يدرج تايلور وفريزر كلا من الدين والعلم تحت الفلسفة، يربط ليفي-بريل الفلسفة بالتفكير المتحرر من التوحد الروحي مع العالم. ويعتبر التفكير البدائي غير فلسفي؛ نظرا لعدم انفصاله عن العالم، وبذلك يمتلك البدائيون عقلية خاصة بهم، عقلية تشهد عليها أساطيرهم.
بل إن توظيف الأسطورة في وجهة نظر ليفي-بريل يتعلق بالاندماج الشعوري، وليس بالانفصال الفكري كما يراه تايلور وفريزر. ولا يستخدم البدائيون الدين، خاصة الأسطورة، لتفسير العالم أو التحكم فيه، بل يستخدمونه في التواصل مع العالم، والسبب الأدق لاستخدامهم الدين هو استعادة التواصل «الغامض» الذي بدأ في التلاشي تدريجيا:
Halaman tidak diketahui
ما دامت مشاركة الفرد في المجموعة الاجتماعية لا تزال محسوسة على نحو مباشر، وطالما كانت مشاركة المجموعة مع المجموعات المحيطة بها واقعية - بعبارة أخرى، ما دامت فترة التعايش الغامض لا تزال مستمرة - فإن الأساطير تكون قليلة العدد ومنخفضة القيمة ... فهل يمكن أن تصبح الأساطير بالمثل نتاج العقلية البدائية والتي تخرج إلى النور عندما تسعى هذه العقلية إلى تحقيق مشاركة لم تعد قائمة بالفعل؛ أي عندما لا تجد سوى اللجوء إلى العوامل الوسيطة والوسائل التي تهدف إلى ضمان وجود تواصل لم يعد موجودا على أرض الواقع؟ (ليفي-بريل، «كيف يفكر السكان الأصليون»، ص330)
في حالة أسطورة أدونيس كان من المؤكد أن يركز ليفي-بريل على علاقة أدونيس الغامضة بالعالم. فأدونيس في رواية أوفيد لا ينتبه إلى أي من التحذيرات من مخاطر العالم؛ لأنه يتخيل أنه يشعر بالأمان في العالم، وهكذا يشعر؛ لأنه والعالم كيان واحد مترابط. ويعجز أدونيس عن مقاومة الإلهتين؛ لأنهما بالنسبة له بمنزلة الأم التي لا يسعى إلى مضاجعتها، بل إلى المكوث في أحشائها. فهناك حالة بدائية من التوحد بينه وبين الإلهتين، يطلق عليها ليفي-بريل «غموض المشاركة».
برونيسلاف مالينوفسكي
كانت إحدى الاستجابات لرؤية ليفي-بريل هي إعادة التأكيد على الطبيعة الفلسفية للأسطورة، وهي استجابة نتناولها تفصيلا في الفصل التالي. ويعد بول رادين وإرنست كاسيرر هما المنظران الرئيسان اللذان صدرت منهما هذه الاستجابة. وكان من الاستجابات الأخرى قبول فصل ليفي-بريل للأسطورة عن الفلسفة، مع رفض وصف الأسطورة بأنها قبل فلسفية أو قبل علمية. وأهم المناصرين لوجهة النظر هذه هو عالم الأنثروبولوجيا بولندي المولد برونيسلاف مالينوفسكي (1884-1942)، الذي نزح مبكرا إلى إنجلترا. فبينما يؤكد ليفي-بريل أن البدائيين يسعون إلى التواصل مع الطبيعة بدلا من تفسيرها، يؤكد مالينوفسكي أن البدائيين يسعون إلى التحكم في الطبيعة بدلا من تفسيرها؛ فكلاهما يجمع بين أسلوب فلسفي وآخر تفسيري أو فكري، كما يجمعان بين هذه الرؤية والرؤية البريطانية - أقصد ما فعله مالينوفسكي في الجمع بين رؤيته ورؤية تايلور، وليس فريزر. وكلاهما يرجع هذه الفكرة المختلقة عن الأسطورة، وبصورة عامة، عن الدين، إلى فكرة مختلقة عن البدائيين.
استشهد مالينوفسكي بفريزر، الذي يعتبر الأسطورة والدين النظيرين البدائيين للعلم التطبيقي، في رؤيته أن البدائيين مشغولون للغاية بسعيهم الدءوب لكسب قوت يومهم إلى حد لا تتوفر لديهم عنده رفاهية التفكير في العالم من حولهم. وبينما يستخدم البدائيون - في رأي فريزر - الأسطورة «محل» العلم، الذي نؤكد تارة أخرى أنه حديث بصورة استثنائية، فإن مالينوفسكي يظن أن البدائيين يستخدمون الأسطورة ك «بديل طارئ» للعلم. ولا يملك البدائيون النظير المقابل للعلم فقط، بل يملكون العلم نفسه:
إذا كان يفهم من العلم أنه يتألف من مجموعة من القواعد والمفاهيم، التي تستند إلى الخبرة ويجري التوصل إليها من خلال الاستدلال المنطقي، والتي تتجسد في مجموعة من الإنجازات المادية وفيما يتفق مع شكل ثابت من أشكال التقاليد، ويجري تنفيذها عن طريق إحدى المنظمات الاجتماعية؛ فلا شك إذن في أن أقل المجتمعات البدائية تحضرا تمتلك بدايات علم، مهما كان بدائيا. (مالينوفسكي، «السحر والعلم والدين»، ص34)
يستخدم البدائيون العلم للتحكم في العالم المادي. وعندما لا يجدي العلم، يتحولون إلى استخدام السحر.
وعندما لا يجدي استخدام السحر، يتجه البدائيون إلى الأسطورة، ولكن ليس لإحكام السيطرة على العالم، مثلما يفترض فريزر، بل العكس، للتوفيق بين أنفسهم وبين سمات في العالم لا يمكن التحكم فيها، مثل الكوارث الطبيعية، والأمراض، وكبر السن، والموت؛ إذ ترجع الأساطير، التي لا تقتصر على الدين، أسباب هذه المصائب إلى الأفعال البدائية التي لا راد لها، سواء التي تصدر من الآلهة أو البشر. فوفقا لإحدى الأساطير النموذجية، يطعن البشر في السن لأن اثنين من الأسلاف قاموا بشيء أخرق جعل العمر المتقدم جزءا من العالم على نحو لا سبيل إلى تغييره:
فقدت القدرة المأمولة على الشباب الدائم واستعادة الشباب التي تمنح حصانة ضد الضعف والعمر القصير من خلال حادثة بسيطة كان في مقدرة طفل وامرأة منعها. (مالينوفسكي، «الأسطورة في علم النفس البدائي»، ص137)
على سبيل المثال، تفسر الأسطورة طريقة حدوث الفيضان - بقول إنه قد سببه إله أو إنسان - بينما يحاول العلم البدائي والسحر القيام بشيء حياله. وفي المقابل، تؤكد الأسطورة على عدم القدرة على فعل شيء حيال الفيضان. وتدور الأساطير التي تجعل البدائيين يستسلمون إلى القوى التي لا قبل لهم بالتحكم فيها حول الظواهر المادية. أما الأساطير التي تدور حول ظواهر «اجتماعية»، مثل العادات والقوانين، فإنها تهدف إلى إقناع البدائيين بتقبل ما «يمكن» مقاومته، مثلما سنبين لاحقا في الفصل
Halaman tidak diketahui
الثامن .
ماذا عسى مالينوفسكي أن يقول عن أسطورة أدونيس؟ سيركز على الأرجح على الأسطورة كتعبير عن حتمية الموت لجميع البشر، وسينظر إلى أدونيس باعتباره بشرا لا إلها، كما سيعتبر عدم مبالاة أدونيس بأنه فان درسا يتعلم منه الآخرون. في المقابل، لن تنجح نظرية مالينوفسكي إلا إذا كانت الأسطورة «تفسر» الموت أكثر مما تفترض وجوده المسبق. إذ تتعلق الأسطورة في رأي مالينوفسكي - وكذلك إلياد مثلما سنرى - بالأصول. وسيعتبر مالينوفسكي أن رواية أوفيد لأسطورة أدونيس ما هي إلا رواية مطولة تدور حول زهرة شقائق النعمان، وسيسعى إلى إثبات أهمية الزهرة في حياة اليونانيين أو الرومان القدماء. كما سيفسر الأسطورة حرفيا مثل تايلور.
كلود ليفي-ستروس
في معارضته لرؤية مالينوفسكي للبدائيين بأنهم عمليون وليسوا مفكرين، ولرؤية ليفي-بريل لهم بأنهم عاطفيون وليسوا مفكرين؛ سعى عالم الأنثروبولوجيا البنيوية الفرنسي كلود ليفي-ستروس (1908-2009) إلى إحياء النظرة الفكرية إلى البدائيين وإلى الأسطورة بجرأة. من النظرة الأولى، تشبه آراء ليفي-ستروس آراء تايلور فيما يبدو؛ إذ تعتبر الأسطورة في رأيه، وكذلك تايلور، بدائية بصورة استثنائية، على الرغم من أنها تتسم بالفكر العميق. وبإعلان أن البدائيين «كانوا مدفوعين بحاجة أو رغبة لفهم العالم من حولهم، ويتقدمون عبر وسائل فكرية، تماما مثلما يمكن أن يحدث وسوف يحدث مع الفيلسوف، أو إلى حد ما مع العالم»، لا يبدو ليفي-ستروس مختلفا عن تايلور.
رغم ذلك، يعتبر ليفي-ستروس ناقدا عنيفا لتايلور الذي يرى أن البدائيين يختلقون الأساطير بدلا من ابتكار العلم؛ نظرا لأنهم يفكرون بصورة أقل نقدية من الحداثيين. ويرى ليفي-ستروس أن البدائيين يختلقون الأساطير لأنهم يفكرون بصورة مختلفة عن الحداثيين، وهم - على خلاف ما يراه ليفي-بريل - لا يزالون يفكرون، وأن تفكيرهم دقيق. ويعتقد كل من تايلور وليفي-ستروس أن الأسطورة هي النموذج المصغر للتفكير البدائي.
وبينما يعتقد تايلور أن التفكير البدائي شخصاني والتفكير الحديث غير شخصي، يرى ليفي-ستروس أن التفكير البدائي ملموس والتفكير الحديث مجرد. ويتعامل التفكير البدائي مع الظواهر بطريقة كيفية، في مقابل التفكير الحديث الذي يتعامل مع الظواهر بصورة كمية. ويركز التفكير البدائي على ما هو قابل للملاحظة، وعلى الجوانب الحسية للظواهر، في مقابل ما هو غير قابل للملاحظة وغير حسي في التفكير الحديث:
بالنسبة إلى هؤلاء الناس [أي البدائيين] ... يتألف العالم من معادن، ونباتات، وحيوانات، وأصوات، وألوان، ومنسوجات، ونكهات، وروائح ... والفرق شديد الوضوح بين التفكير البدائي والتفكير العلمي [الحديث]؛ ولا يتمثل في الحاجة الماسة إلى المنطق، قلت أم زادت. وتتلاعب الأساطير بخواص الإدراك هذه، التي طردها الفكر الحديث من العلم، بمولد العلم الحديث. (ليفي-ستروس، نقلا عن أندريه أكون وآخرين، «حوار مع كلود ليفي-ستروس»، ص39)
في المقابل، وفي تعارض واضح مع تايلور، لا يعتبر ليفي-ستروس الأسطورة أقل علما من العلم الحديث. فهي جزء من «العلم المادي» أكثر منها جزءا من «العلم المجرد»:
هناك نمطان متمايزان للفكر العلمي؛ ولا شك في أنهما لا يقومان بأي وظيفة في المراحل المختلفة للعقل البشري، بل إن لهما وظيفة في مستويين استراتيجيين يستطيع البحث العلمي عندهما اختراق الطبيعة: أحدهما يتغير ليتلاءم مع الإدراك والخيال، بينما يبتعد الآخر عنهما. (ليفي-ستروس، «العقل البدائي»، ص15)
فيما يرى تايلور أن الأسطورة هي النظير البدائي للعلم في حد ذاته، يرى ليفي-ستروس أنها هي النظير البدائي للعلم «الحديث». وبينما تعتبر الأسطورة علما بدائيا، فإن ذلك لا يجعلها علما ذا قيمة أقل.
Halaman tidak diketahui
وإذا كانت الأسطورة مثالا على التفكير البدائي لأنها تتعامل مع ظواهر مادية ملموسة، فإنها مثالا على التفكير نفسه نظرا لأنها تصنف الظواهر. ويرى ليفي-ستروس أن جميع البشر يفكرون في إطار تصنيفات، خاصة في إطار أزواج من المتعارضات، ثم يطبقون هذه التصنيفات على العالم. وتعبر العديد من الظواهر الثقافية عن هذه التعارضات. وتعتبر الأسطورة متميزة من ناحية حل أو - على نحو أدق - التخفيف من حدة هذه المتعارضات التي تعبر عنها. وفيما يعتقد تايلور أن الأسطورة مثل العلم نظرا لأنها تتجاوز حدود الملاحظة إلى التفسير، يعتبر ليفي-ستروس الأسطورة علمية بصورة مباشرة نظرا لأنها تتجاوز حدود تسجيل الظواهر المتعارضة التي جرى ملاحظتها إلى تخفيف حدتها. ولا يمكن العثور على هذه التعارضات في الحبكة أو الأسطورة بل فيما يشتهر إطلاق ليفي-ستروس عليه «البنية». وسيخصص فصل بالكامل، هو الفصل
السابع ، لمناقشة أسلوب تناول الأسطورة الذي يطلق عليه بناء على تسمية ستروس «البنيوية»؛ وسيجرى تحليل أسطورة أدونيس فيه باستفاضة.
روبين هورتون
رفض عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي روبين هورتون (ولد 1932)، الذي قضى حياته المهنية في نيجيريا، استغراق تايلور في التفسيرات الخرافية والدينية باعتبارها تفسيرات شخصانية، وفي التفسيرات العلمية باعتبارها غير شخصية. ويسير هورتون على خطى تايلور في جوانب كثيرة، حتى إنه سمي «تايلور الجديد»، وهو لقب منح إياه للتقليل من شأنه، لكنه تقبله بفخر. وعلى غرار تايلور، يعتبر هورتون الدين والعلم مجالين يقدمان تفسيرات حول العالم المادي. وشأنه شأن تايلور أيضا، يعتبر هورتون التفسير الديني بدائيا، ويفضل الإشارة إليه باستخدام التعبير الأكثر قبولا؛ «تقليدي»، كما يعتبر التفسير العلمي حديثا. ومثله كذلك، يعتبر التفسيرين البدائي والعلمي متنافيين بعضهما مع البعض. وبينما لا يركز هورتون على الأسطورة بصورة خاصة، تعتبر الأسطورة بالنسبة إليه، وكذلك تايلور، جزءا من الدين.
لا يفند هورتون معادلة تايلور بين الدين والتفسيرات الشخصانية، وبين العلم والتفسيرات غير الشخصية. في المقابل، يختلف هورتون عن تايلور في رد الأمر إلى مجرد «اختلاف في مصطلح الاجتهاد التفسيري» - وهو الأمر الذي شغل تايلور أيما انشغال. وبما يتعارض مع ما جاء به تايلور، لا يعتبر هورتون استخدام الأسباب الشخصية في تفسير الأحداث أقل تجريبية من استخدام الأسباب غير الشخصية، على الرغم من اعتبار إياها غير علمية، متفقا في ذلك مع تايلور ومختلفا مع ليفي-ستروس.
يرجع تايلور التفسيرات الشخصانية إلى تفكير البدائيين الأقل نقدا، فهم يتقبلون أول التفسيرات المتاحة لهم. وشأنهم شأن الأطفال، يجرون عملية قياس على التفسيرات المألوفة في السلوك الإنساني. ويفترض هورتون أيضا أن البدائيين يعتمدون على ما هو مألوف لديهم، غير أنه يرى أن الحداثيين يفعلون ذلك أيضا. ويرى أن الظواهر المألوفة هي تلك الظواهر التي تنضح بالنظام والتكرار. ونظرا لأنه في «المجتمعات الصناعية المعقدة سريعة التغير، يعتبر المشهد الإنساني في حالة حراك مستمرة»، فإن هذا النظام والتكرار يتجلى «في عالم الجماد»؛ بناء عليه، «يتجه العقل الذي يبحث عن حالات قياس تفسيرية إلى عالم الجماد بسهولة ويسر.» على النقيض من ذلك، في المجتمعات الأفريقية، يعتبر النظام والتكرار «أقل وضوحا بكثير» في عالم الجماد عن عالم البشر؛ حيث «لا يمكن تصور وجود قدر أقل منهما في المنزل مع الأقران، مقارنة بوجودهما في عالم الجماد»؛ بناء عليه، «يتجه العقل الذي يبحث عن حالات قياس تفسيرية تلقائيا إلى عالم الإنسان وشبكة علاقاته»؛ إذن يشكل إرجاع الدين في أفريقيا السبب في الأحداث المختلفة إلى قرارات تتخذها كيانات لها طابع إنساني منطقا نظريا سليما.
يختلف هورتون اختلافا كبيرا عن تايلور في التفرقة بين التفسيرات الدينية والعلمية على أساس «السياق» أكثر من «المحتوى». وباستخدام مصطلحات كارل بوبر، يرى هورتون أن التفسيرات الدينية تسري في المجتمع «المغلق»، فيما تسري التفسيرات العلمية في المجتمع «المفتوح». ففي أي مجتمع مغلق، أو مجتمع غير نقدي، «لا يوجد وعي متطور ببدائل تحل محل مجموعة المعتقدات النظرية الراسخة.» على الجانب الآخر، ينقد المجتمع المفتوح نفسه نقدا ذاتيا؛ حيث يكون فيه «هذا الوعي متطورا للغاية.» وفيما تكون للمعتقدات السائدة في المجتمع المغلق مكانة مقدسة - نظرا لعدم نقدها - ويعد أي نقد لها بمنزلة التجديف والتطاول، لا تملك المعتقدات القائمة في المجتمع المفتوح أي قداسة - نظرا لمعارضتها - ومن ثم يمكن تقييمها بصورة شرعية.
على غرار تايلور، لا يملك هورتون الكثير ليقوله حول أسطورة أدونيس، فيما يملك الكثير ليقوله حول سفر التكوين، الإصحاح الأول، الذي ينظر إليه - وكذلك تايلور - دون مواربة باعتباره تفسيرا قبل علمي لأصل العالم المادي؛ تفسيرا لا يستطيع الحداثيون الاعتقاد فيه جنبا إلى جنب مع التفسير العلمي. وبينما لا يستطيع الحداثيون الاعتقاد في مثل هذا التفسير إلا من خلال إعادة تحديد وظيفته أو معناه، لا يقبل هورتون - شأنه شأن تايلور - أيا من الخيارين.
على النقيض من هورتون، يحيي عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ستيوارت جثري جهود تايلور واستغراقه في التفسيرات الشخصانية، أو المؤنسنة، في الدين. فيرى جثري، وكذلك تايلور، أن الأنسنة تشكل جوهر التفسير الديني، بما فيه من تفسير خرافي. في المقابل، يختلف جثري عن هورتون، وعن تايلور أيضا، في الإشارة إلى وجود الأنسنة في العلم والدين. وفيما تعد الأنسنة عند كل من هورتون وتايلور طريقة بدائية استثنائيا لتفسير العالم، يراها جثري طريقة عامة وشبه شاملة لتفسير العالم.
كارل بوبر
Halaman tidak diketahui
يختلف كارل بوبر (1902-1994) - فيلسوف العلوم المولود في فيينا، والذي استقر في نهاية المطاف في إنجلترا - عن تايلور اختلافا أكثر راديكالية من اختلاف هورتون عنه؛ أولا: لا يقدم تايلور أي تفسير على الإطلاق حول طريقة ظهور العلم، فيما يقدم الدين، بما فيه من أسطورة، تفسيرا شاملا، وغير قابل للدحض فيما يبدو، لجميع الأحداث في العالم المادي. ثانيا: لا يعتمد العلم في رأي تايلور على الأسطورة لكنه يحل محلها. أما بوبر، فيرى أن العلم ينبثق «من» الأسطورة؛ ليس من خلال «قبول» الأسطورة بل من خلال «نقدها»: «بناء عليه، يجب أن ينطلق العلم من الأساطير، ومن خلال نقد الأساطير.» ولا يقصد بوبر ب «النقد» هنا الرفض، بل التقييم الذي يصير علميا عندما يخضع لمحاولات دحض صحتها المزعومة.
يصل بوبر بطرحه إلى بعد أعمق، قائلا إن هناك أساطير علمية وأساطير دينية، وهو ما يتعارض مع قول تايلور الذي لم يقتبس منه بوبر إطلاقا. والفرق بين الأساطير العلمية والدينية لا يكمن في محتواها، بل في الموقف حيالها. فبينما تلاقي الأساطير الدينية قبولا حاسما، تتعرض الأساطير العلمية للتشكيك:
يتمثل طرحي في أن ما نطلق عليه «علما» يختلف عن الأساطير السابقة عليه، ليس لكونه مميزا عن الأسطورة، بل لارتباطه بتقليد ثانوي؛ ألا وهو تناول الأسطورة تناولا نقديا. قبل ذلك، كان هناك تقليد أساسي فقط ؛ إذ كان يجري تناقل قصة محددة لا تتغير. أما في ضوء نقد الأسطورة، يتم الإبقاء على تناقل القصة بالطبع، لكن مع مصاحبتها بشيء مثل نص صامت يصدر من شخصية ثانوية: «أنقل القصة إليك، لكن دلني، ما رأيك فيها. دقق النظر، فربما تستطيع تقديم قصة مختلفة» ... يجب أن نفهم أن العلم - من منظور ما - يعبر عن عملية صناعة الأساطير، شأنه شأن الدين. (بوبر، «تخمينات وتفنيدات»، ص127)
يرى بوبر أيضا أن النظريات العلمية «تحتفظ» بالطابع الخرافي؛ إذ إن النظريات، كالأساطير، لا يمكن إثباتها، بل يجري دحضها فحسب، ومن ثم «تظل غير مؤكدة أو افتراضية بصورة أساسية.»
ليس من الجلي ما عسى بوبر أن يقوله عن أسطورة أدونيس. فالأساطير التي تستحوذ على اهتمامه تنحصر في أساطير الخلق؛ لأنها تطرح تخمينات جريئة عن أصل العالم، ومن ثم تستهل عملية التنظير العلمي. جدير بالذكر أن بوبر نفسه ألف كتابا عنوانه «أسطورة إطار العمل»، وكان يعني بلفظة «أسطورة» في الكتاب ما يقصده ويليام روبنستاين في كتاب «أسطورة الإغاثة» باستخدام نفس اللفظة: أي القناعة المغلوطة الراسخة، التي لا يجب التمادي في اختبارها، بل وجب التخلي عنها!
شأنه شأن بوبر، يقول الفيلسوف المتخصص في الحضارتين اليونانية والرومانية القديمة - إنجليزي الجنسية - إف إم كورنفورد (1874-1943)، بأن العلم في اليونان انبثق من الأسطورة والدين. مع ذلك، يقصر كورنفورد قوله على محتوى الأسطورة، ولا يتطرق مطلقا إلى الموقف من الأسطورة. فهو يرى أن العلم يخلد المعتقدات الدينية والخرافية، وإن كان في صورة علمانية لادينية، ومن ثم يؤكد أن علم اليونانيين القدماء قطع صلته بالدين وصار علما تجريبيا. ولاحقا، قال كورنفورد إن علم اليونانيين القدماء لم يقطع صلته مع الدين على الإطلاق، ولم يصبح قط علما تجريبيا.
بينما يقارن تايلور نفسه بين قابلية العلم للاختبار وعدم قابلية الأسطورة له، لا يحدد طبيعة الاختبار:
إننا نتدرب على حقائق العلم المادي، التي يمكن اختبارها مرارا وتكرارا، ونشعر بالتراجع عن بلوغ هذا المستوى العالي من البرهان عندما نتحول بعقولنا إلى بيانات عتيقة تستعصي على الاختبار، بل ويقر الجميع على أنها تحتوي على عبارات لا يعتمد عليها . (تايلور، «الثقافة البدائية»، المجلد الأول، ص280)
مع ذلك، يجب أن يسمح تايلور للبدائيين بممارسة النقد؛ إذ لولا ذلك، كيف كان سيفسر الإحلال النهائي للعلم محل الأسطورة؟ ومن سوى الجيل الأخير من البدائيين كان حاضرا لوضع اللبنات الأولى للعلم، وإحلاله محل الأسطورة، وتشكيل الحداثة؟
هوامش
Halaman tidak diketahui
الفصل الثاني
الأسطورة والفلسفة
تتداخل العلاقة بين الأسطورة والعلم مع العلاقة بين الأسطورة والفلسفة؛ لذا ربما كان بوسعنا هنا استعراض آراء الكثير من المنظرين الذين أشرنا إليهم في الفصل السابق، غير أن هناك نطاقا أوسع من الرؤى والمواقف حول العلاقة بين الأسطورة والفلسفة: من قبيل أن الأسطورة جزء من الفلسفة، وأن الأسطورة «هي» الفلسفة، وأن الفلسفة هي الأسطورة، وأن الأسطورة تنبثق من الفلسفة، وأن الفلسفة تنبثق من الأسطورة، وأن الأسطورة والفلسفة مستقلتان إحداهما عن الأخرى، لكنهما تؤديان الوظيفة نفسها، وأن الأسطورة والفلسفة مستقلتان إحداهما عن الأخرى، وتؤديان وظائف مختلفة.
بول رادين
تذكر أنه بينما أدرج تايلور وفريزر الأسطورة والعلم تحت الفلسفة، وضع ليفي-بريل الأسطورة، كرد فعل لهما، في مقابل العلم والفلسفة معا. ويرى ليفي-بريل أن التوحد البدائي مع العالم، مثلما تدلل الأسطورة على ذلك، هو النقيض للانفصال عن العالم الذي ينادي به كل من العلم والفلسفة.
من ثم، جاء رد فعل أكثر حدة على رؤية ليفي-بريل من عالم الأنثروبولوجيا بولندي المولد، بول رادين (1883-1959)، الذي جاء إلى أمريكا رضيعا. ويفسر عنوان كتابه الرئيس «الرجل البدائي فيلسوفا» نفسه. فعلى الرغم من عدم ذكر رادين لتايلور في كتابه قط، يحيي رادين رؤية تايلور فيما يحجمها ويوسع نطاقها في ذات الوقت. ويفترض رادين جدلا أن «معظم» البدائيين لا يمتون إلى الفلسفة بصلة، ويشير إلى أن معظم الأشخاص في أي ثقافة على هذه الحال أيضا. ويفرق رادين بين الشخص العادي، «رجل الأفعال»، والشخص الاستثنائي، «المفكر» بقوله:
يشعر الشخص العادي [رجل الأفعال] بالرضا لوجود العالم، ولتتابع الأحداث فيه. لكن لتفسيرات هذه الأحداث أهمية ثانوية. فهو مستعد لتقبل التفسير الأول الذي يأتيه عرضا، ولا يكترث البتة بأية تفسيرات عميقة، بل ينزع لتفسير في مقابل تفسير آخر. ويفضل هذا الشخص التفسير الذي يؤكد فيه تأكيدا خاصا على العلاقة المباشرة بين تسلسل الأحداث. ويتميز الإيقاع العقلي له - إذا جاز لي استخدام هذا التعبير - بالحاجة إلى التكرار اللانهائي لنفس الحدث أو - في أفضل الأحوال - بتكرار الأحداث التي تقع جميعها على المستوى العام نفسه ... في المقابل، يعتبر الإيقاع العقلي للمفكر مختلفا تماما؛ فهو يرى أن افتراض وجود علاقة مباشرة بين الأحداث لا يكفي؛ ولذا يصر على تقديم وصف للتقدم التدريجي والتطور من وضع إلى أوضاع متعددة، ومن البسيط إلى المعقد، أو يصر على افتراض وجود علاقة بين السبب والتأثير. (رادين، «الرجل البدائي فيلسوفا»، ص232-233)
يوجد «النمطان المزاجيان» في جميع الثقافات وبنفس النسبة. وإذا كان ليفي-بريل مخطئا إذن في إنكار أن أي بدائي يعد مفكرا، فسيعد تايلور بالمثل مخطئا في افتراض أن جميع البدائيين مفكرون. غير أن رادين يعتقد أن هؤلاء البدائيين المفكرين يمتلكون مهارات فلسفية فائقة أروع من المهارات التي يسلم تايلور بوجودها عند صانعي الأساطير أنفسهم، ويطلق عليهم «فلاسفة بدائيين». ويرى رادين أن التخمينات البدائية - الموجودة في صورتها الكاملة في الأساطير - تتجاوز مجرد تقديم تفسير للأحداث في العالم المادي، مثلما، للأسف، يقال عن أسطورة أدونيس. وتتعامل الأساطير مع جميع أنواع موضوعات ما وراء الطبيعة، مثل المكونات النهائية للحقيقة. وعلى النقيض من تايلور، يستطيع البدائيون ممارسة النقد بدقة:
من غير الإنصاف على الإطلاق القول بأن الأشخاص البدائيين يفتقرون إلى القدرة على التفكير المجرد أو إلى القدرة على ترتيب هذه الأفكار بصورة منهجية، أو، أخيرا، القدرة على جعلهم وبيئتهم بالكامل عرضة للنقد الموضوعي. (رادين، «الرجل البدائي فيلسوفا»، ص384)
إن القدرة على النقد هي الصفة الأساسية لعملية التفكير، وذلك على الأرجح في رأي رادين، وكذلك كارل بوبر وروبين هورتون بكل تأكيد.
Halaman tidak diketahui
إرنست كاسيرر
من ردود الأفعال الأقل استهانة بليفي-بريل ما بدر عن الفيلسوف ألماني المولد، إرنست كاسيرر (1874-1945)، الذي ينتهج نهج ليفي-بريل بالكامل في رؤية أن التفكير الخرافي، أو «الصانع للأسطورة»، هو تفكير بدائي، ومحمل بالمشاعر، وهو أيضا جزء من الدين، وإسقاط للتوحد الروحي على العالم. في المقابل، يزعم كاسيرر اختلافه الجذري مع ليفي-بريل في التأكيد على أن التفكير الخرافي يحظى بمنطق فريد من نوعه. وفي حقيقة الأمر، يطرح ليفي-بريل القول نفسه بل ويبتكر مصطلح «قبل منطقي» لتجنب وسم التفكير الخرافي بصفات مثل «غير منطقي» أو «لا منطقي». ويزعم كاسيرر أيضا اختلافه الجذري مع ليفي-بريل في التأكيد على استقلالية الأسطورة كأحد أشكال المعرفة، حيث تشكل اللغة، والفن، والعلم الأشكال الرئيسة الأخرى لها:
على الرغم من أن تبعية الأسطورة لنظام عام من الأشكال الرمزية يبدو أمرا حتميا، فإن ذلك يشكل خطرا محققا ... فقد يؤدي [هذا الأمر] إلى القضاء على الصورة الجوهرية [أي المتميزة] للأسطورة. ولم تكف المحاولات في حقيقة الأمر عن تفسير الأسطورة من خلال اختزالها إلى شكل آخر من الحياة الثقافية، سواء أكان ذلك معرفة [أي علما] أم فنا أم لغة. (كاسيرر، «فلسفة الأشكال الرمزية»، المجلد الثاني، ص21)
يرى كاسيرر في الوقت نفسه، على نحو لا يختلف عن ليفي-بريل، أن الأسطورة لا تتوافق مع العلم، وأن العلم يأتي خلفا لها: «يصل العلم إلى صورته الخاصة به، فقط من خلال رفض جميع المكونات الخرافية ومكونات ما وراء الطبيعة» (كاسيرر، «فلسفة الأشكال الرمزية»، المجلد الثاني، ص
xvii ). ويعتقد كل من كاسيرر وليفي-بريل أن الأسطورة بدائية بصورة استثنائية، وأن العلم حديث بصورة استثنائية أيضا. في المقابل، لا يزال توصيف كاسيرر للأسطورة كأحد أشكال «المعرفة» - كأحد أنشطة الإنسانية في صناعة الرموز ورسم معالم العالم - يضع الأسطورة في نفس مرتبة العلم، التي لم يكن ليفي-بريل ليضعها فيها.
بناء عليه، صار كاسيرر ينظر إلى الأسطورة على أنها بدائية وكذلك حديثة. وعندما فر إلى أمريكا هربا من هتلر في ألمانيا، صب جام اهتمامه على الأساطير السياسية الحديثة، خاصة أساطير النازية. وتكافئ الأسطورة في هذا السياق الأيديولوجية. فبعد أن كان مهتما بالموضوعات الأثيرية والمعرفية، تحول إلى الموضوعات الاجتماعية العلمية البسيطة، مثل: كيف تترسخ الأساطير السياسية وتستمر؟ وبعد أن كان يزدري اهتمام ليفي-بريل المزعوم بالجانب اللاعقلاني في الأسطورة، صار يؤيد وجوده:
في جميع اللحظات المهمة في حياة الإنسان الاجتماعية، لم تعد القوى العقلانية التي تقاوم صعود المفاهيم الخرافية القديمة واثقة من نفسها. وفي هذه اللحظات، حل زمن الأسطورة مرة أخرى. (كاسيرر، «أسطورة الدولة»، ص280)
ربط كاسيرر بين الأسطورة والسحر، والسحر والجهد المضني للتحكم في العالم، ليطبق تفسير الأساطير «البدائية» التي طرحها برونيسلاف مالينوفسكي على الأساطير «الحديثة»:
إن هذا التفسير [الذي طرحه مالينوفسكي] لدور السحر والميثولوجيا في المجتمع البدائي ينطبق بالتساوي على المراحل المتطورة في الحياة السياسية للإنسان. ففي المواقف الصعبة، يلجأ الإنسان دائما إلى الوسائل الصعبة. (كاسيرر، «أسطورة الدولة»، ص279)
يختلف كاسيرر عن مالينوفسكي في جعل العالم الذي لا يمكن السيطرة عليه هو العالم الاجتماعي وليس العالم المادي، وفي إضفاء قوة سحرية على الأسطورة نفسها، والأدهى من ذلك، في النظر إلى الأسطورة كمجال حديث. ولكن هناك مشكلة تخفى على البعض: وهي أن الأساطير الحديثة تمثل إحياء رجعيا للبدائية.
Halaman tidak diketahui