هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها؛ ما تميزت عن سواها.»
قال القلقشندي: «وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتنائهم به بل لسهولة حفظ الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة، فإنه لم يتعاطاها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع؛ فلذلك عز حفظها وقل عنهم نقلها، وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤساؤهم ممن فاز بقدح الفضل وسبق إلى ذرى المجد، ويخصون ذلك بالمواقف الكرام والمشاهد العظام والمجالس الكريمة والمجامع الحفيلة، فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه، ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر أو فخر أو صلاح أو نظام أو غير ذلك مما يقتضيه المقام.»
قال الحافظ: «ونحن - أبقاك الله - إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز ومن المنثور والأسجاع ومن المزدوج وما لا يزدوج فمنعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة والرونق العجيب والسبك والنمط الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول في مثل ذاك إلا في اليسير والنزر القليل، ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة إذا كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عبيد الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل ويضعوا مثل تلك السير، وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي فأدخلته في بلاد الأعراب الخلص ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شاعر مفلق أو خطيب مصقع، علم أن الذي قلت هو الحق وأبصرت الشاهد عيانا، فهذا فرق ما بيننا وبينهم، فتفهم عني - فهمك الله - ما أنا قائل.» انتهى.
وكان يسمى خطيب القوم الزعيم أو المدره، وأشهر خطباء الجاهلية: قس بن ساعدة، وعمرو بن كلثوم، وأكثم بن صيفي التميمي، والحارث بن عباد، وقس بن زهير، وغيرهم.
ولما جاء الإسلام ساعد على انتشار الخطابة تأييدا للدعوة الكبرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان لها من آي القرآن معين لا ينضب، وأخذ الخطباء يرصعون خطبهم بالآيات تمثلا أو إشارة أو تهديدا، حتى لقد يجعلون الخطبة برمتها مجموع آيات كما فعل مصعب بن الزبير لما قدم العراق وأراد أن يحرض أهله على الطاعة لأخيه عبد الله (انظر القسم الثالث في خطب العرب).
واتخذت الخطابة حينئذ صبغة غير التي كانت عليها في الجاهلية، فكانت لغتها أرقى وأعلى وأصفى، وعلا شأنها إلى درجة لم يسبق بها عهد لانصراف العرب عن الشعر إليها، واعتمادهم في الدين والسياسة عليها.
وأعظم خطباء هذا العصر هم بعد النبي دعاته وقواده وخلفاؤه.
ولما ثارت الفتن بعد مقتل عثمان وافترق المسلمون أحزابا، اشتدت الحاجة إليها عند كل فريق للدفاع عن مبادئه والطعن في خصومه، فكان في الجانب الواحد العراقيون وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، وفي الجانب الثاني الشاميون وفي طليعتهم معاوية.
ثم أخذت تضعف ملكة الخطابة بعد الفروغ من الفتوح والاستسلام إلى الترف والرضاء، حتى صدر الدولة العباسية، فإذا بالخلفاء ودعاتهم ينعشونها بعد الذبول، وينهضون بها بعد الخمول، كالمنصور والمهدي والرشيد والمأمون وداود بن علي، وخالد بن صفوان، وشبيب بن شيبة.
ولما استوثق الأمر لبني العباس وقام الأجناب والموالي بسياسة الدولة وقيادة الجيش وقل النضال باللسان والسنان ذهبت البلاغة من الألسنة وحل محلها الرسائل والنشرات، وقصرت الخطابة على الجمع والعيدين والأملاك، على أن الخلفاء أنفسهم ما برحوا يخطبون الناس ويؤمونهم إلى عهد الخليفة الراضي، فلما غل الديلم أيديهم وحصروهم في دورهم عهد بالخطابة والإمامة إلى الأكفاء من العلماء، فنبغ في آخر هذا العصر طائفة من الأدباء شهروا بهذا النوع من الخطابة كالبغدادي والتبريزي، ولما استعجم المسلمون وملك العي ألسنة الوعاظ فلم يستطيعوا إنشاء الخطب في الموضوعات المختلفة، عمدوا إلى استظهار خطب أسلافهم كابن نباتة المصري، وأخذوا يرددونها فوق المنابر من غير فهم لمعناها ولا علم بمغزاها، ودرجوا على هذه الحال المخزية تلك القرون الطويلة حتى اليوم (راجع تاريخ الآداب العربية لزيدان، والأدب العربي للزيات، والوسيط للشيخ أحمد الإسكندري والشيخ مصطفى العناني).
Halaman tidak diketahui