ولما جاءت النصرانية بعثت فيها روحا جديدة، وقام الرسل بالتبشير، فكانوا كلهم خطباء؛ إذ قيل لهم سيروا في الأرض وعلموا الأمم. وقامت الكنائس على آثارهم وكان هذا الدين الجديد في حاجة إلى إرشاد مستديم، فنبغ خطباء بين آباء الكنيسة أعادوا للخطابة بعض عزها، ولكن لم يطل ذلك بما تطرق إلى اللغة اللاتينية من فساد لغات غريبة، هي لغات الأمم المختلفة التي دخلت تباعا في المسيحية، وأخذ العي يملك ألسنة الوعاظ، فصاروا يكتفون بنسخ الخطب القديمة وإلقائها، حتى إذا طلع القرن السادس استيقظت الخطابة من ضجعتها، وارتفعت أصوات جديدة كان لها أثر عظيم في الجماعة، وكان من نتائجها الحرب الصليبية، وبلغ من تكاثر عدد الخطباء لذلك العهد والمنافسة فيهم أن الخطابة تحولت إلى واسطة للكسب وجمع المال والهدايا؛ فنزلت عن مقامها السامي وأخذت معالمها تتلاشى إلى العصر السابع عشر عصر بوردالو وفنلون وبوسيه ودعاة الإصلاح والندوة العلمية التي أنشأها الكردينال رشليو.
وأجمل أيام الخطابة بعد هذا هي أيام الثورة الفرنسية، فقد اطلعت في عشر سنوات من الخطباء عددا لم يسبق به عهد، وكان للبلاغة فيها من التأثير ما لم يعرف له نظير، والسبب في ذلك ضخامة المشروع الذي أخذت الثورة على نفسها القيام به، ثم السلطان الفجائي الذي ألقى إليها الدهر مقاليده، والسرعة الهائلة التي كانت تتعاقب بها الحوادث، ثم شدة العراك يختلط به غريزة البقاء وأعمار الخطباء وأكثرهم في شرخ الشباب، ولم تكن مشاغل النفوس وأهوالها لتمنع أولئك الخطباء من العناية بالشكل والديباجة وإلباس أفكارهم حللا براقة من الألفاظ والتعابير بما اتصل بهم من تأثير العصر السابق، فكانوا يكتبون خطبهم قبل إلقائها، على أن ذلك لم يكن مانعا لهم من الارتجال عند الضرورة، فتجيء أقوالهم ملتهبة كنفوسهم، وفيها على بساطتها من إخلاص الشعور وتأثيرات النفس ما يبعث القوة والحرارة.
ثم خفتت الأصوات بمن طاحت بهم الثورة من أمراء الكلام وأقوت المنابر، وجاء نابليون، وكان لا يحب الخطباء، فلم يعد يسمع إلا ضجيج المواقع الحربية، ومن فوقها صوت واحد يملأ الكون هو صوت ذلك القائد العظيم.
أما اليوم فقد عادت الخطابة إلى الظهور بنور أسطع ومجد أكمل، وامتدت أعراقها إلى كل فؤاد، ونشرت ألويتها في كل ناد من قصور الأغنياء إلى أكواخ الفقراء، ومن معاهد العلم إلى ملاعب التمثيل إلى مجالس الأدب والطرب إلى الأسواق.
2
كان للعرب في الخطابة نصيب وافر أتاحه جوهم وأحوال معاشهم وأخلاقهم وآدابهم، فإن الحرية التي وجدوا فيها واستنشقوا هواءها، والحماسة التي طبعوا عليها والإحساس الشديد الذي اشتملت عليه نفوسهم جعل للبلاغة أثرا عظيما فيهم، فكانت الجملة البليغة تقيمهم وتقعدهم بما تثيره في خواطرهم من النخوة لحماية جار أو أخذ ثأر أو غير ذلك.
وكانوا متفرقين قبائل ونحل متعودين على الغارات والحروب، فوجدوا في الخطابة عونا لهم على الحض أو التحذير والترغيب أو التنفير والمفاخرة أو المناظرة، بل صارت عندهم مظهرا من مظاهر الفروسة، يتباهى بها شجعانهم، ويدرب عليها فتيانهم كما في الرومان.
قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجماهير يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم، ويفخم شأنهم ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعراء واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا في أعراض الناس؛ صار الخطيب عندهم فوق الشاعر.
ولم تكن الخطابة عندهم كما أشرنا إليه في الكلام عن الارتجال عن طول فكرة واجتهاد رأي ودراسة كتب، بل بديهة وارتجالا، وكان لهم بها غاية الاعتناء حتى قال صاحب الريحان والريعان: «إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر من جيد المنثور ومزدوج الكلام؛ أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره، لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهة الملوك أو الحالات أو الإصلاح بين العشائر أو خطبة النكاح، فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه ونسيه من نسيه بخلاف الشعر، فإنه لا يضيع منه بيت واحد.» قال: «ولولا أن خطبة قس بن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام، وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم
Halaman tidak diketahui