وكان الليل والنهار يتعاقبان كالعادة لكنها لم تكن تعرف أنهما يتعاقبان، كان جفناها دائما مفتوحين أو لعلهما دائما منغلقان، فالنور والظلام سيان، وهي لا تدرك شيئا سوى أنها تسير، تتسند على الحيطان والجدران وقد تسقط أحيانا فوق ركبتيها وتنثني فوق الأرض وتنبش التراب بيديها.
كأنما كانت تبحث، لكنه لم يكن بحثا عاديا يعرف فيه المرء الشيء المفقود ويعرف أنه قد يجده وقد لا يجده، كان بحثا غريبا؛ فهي لا تعرف إذا كانت ستجده أم لا تجده، ولعلها كانت تحس أنها لن تجده أبدا، بل إنها كثيرا ما تلتفت حولها كالتائهة ولا تعرف تماما ما هذا الذي فقدته.
أحيانا كان يبدو لها أنها تبحث عن أمها، ويلوح لها وجه أمها بعينيها الواسعتين الغائرتين وهما تنظران إليها حين كانت دموعها تنساب في صمت فوق خديها الصغيرين، وتبدأ نظرات أمها تلين وتطبع على وجهها تلك القبلة أو اللمسة السريعة، وأحيانا كان يلوح لها وجه «نون» بعينيها الخضراوين اللامعتين وشفتيها النديتين المتباعدتين دائما أبدا في ابتسامة لها هي بالذات، بل إنه في بعض الأحيان أيضا كانت تلوح لها تلك القدم المرتخية المرتعشة وهي تحاول مرة بعد مرة أن تدخلها في الحذاء ثم تنجح في إدخالها بعد عدة محاولات.
وكانت عضلات وجهها في تلك الأحيان تتقلص عن ابتسامة صغيرة أو تنفرج شفتاها عن تنهيدة لضياع تلك اللحظات السعيدة لكنه سرعان ما يقع بصرها على وليد يرضع ثدي أمه، أو طفلة تتشبث بذيل أمها، أو طفل يمسك بيد أبيه، أو طفل يأكل أو طفل يلعب أو طفل يبكي، الأطفال منتشرون في كل مكان وسرعان ما يقع بصرها على طفل فتصيب جفنيها تلك الرعشة المزمنة ويظهر الجسم الأملس الصغير بين الصخور فمه مفتوح وعيناه مليئتان بالدموع ويداه الدقيقتان وقدماه ممدودة في الهواء تنادي عليها.
حينئذ ينفتح فمها لتصرخ، وقد يندفع جسدها من تلقاء نفسه فيجري بين الخيام، وقد تسقط على ركبتيها فوق الصخور تحفر بأصابعها الأرض وتنخل بين يديها التراب.
لكنها لم تكن تعثر على الشيء، فتظل راكعة على ركبتيها أو يهبط جسدها وحده فوق أليتيها، وحينما تسري رطوبة الأرض في فخذيها ينتابها إحساس جارف بالراحة، فتنفرج شفتاها الجافتان عن أنفاس لاهثة متقطعة تشبه الضحكة، بل لعلها كانت تضحك فعلا أو لعلها كانت تقهقه كطفل صغير نزل القناة بقدميه الصغيرتين وراح يبلل بالماء الرطب ساقيه وذراعيه ورأسه وشعره. •••
لو كانت بطلة في رواية ربما كانت تظل على هذا النحو إلى الأبد أو تنتهي وتموت ويأكلها الدود، لكنها كانت امرأة حقيقية، لم تكن حقيقتها كتلك الحقائق التي إذا اقترب المرء منها لم تعد حقائق، وإنما كانت حقيقة حقيقية، قد لا تبدو من على البعد حقيقية ولكن إذا ما اقترب منها المرء أصبحت حقيقية يراها بعينيه ويلمسها بيديه ويشمها بأنفه، جسم موجود وباق وليس هو أيضا أي جسم، إنه جسمها «عين الحياة» بذاتها وإرادتها العجيبة التي قهرت كل الإرادات، جاءت إلى الحياة رغم إرادة الحياة وعاشت رغم إرادة الموت وظلت تعيش رغم إرادة الجميع، رفضت منذ البداية حتى النهاية، ومن ذا الذي يمكن أن يدعي أنه أرادها، لا أحد أرادها وإنما هي التي أرادت نفسها، أرادتها هي وحدها، ولولا إرادتها ما جاءت ولا عاشت ولا استمرت تعيش، أي إرادة هذه؟ لم تكن تعرف، لكن جسدها كانت له قدرة عجيبة على الحياة، حين يمتد إصبعها خطأ ويلمس النار تتقلص عضلات ذراعها وتنكمش يدها فلا تحترق، وحينما تتلوى معدتها من الجوع تنقبض عضلاتها وتفرز شيئا كالطعام، وحينما تلمح نصلا لامعا في الظلام أو فهدا أو ذئبا ينكمش جسدها ويتكور كالكرة الصغيرة ويمكن لها أن تختفي في حفرة أو تحت صخرة، حتى الدود الميت الذي كانت تأكله مع طين البرك استطاعت خلاياها أن تحوله إلى نسيج ساخن حي.
كانت تريد أن تعيش فعاشت، ربما لو أرادت الموت لماتت قبل أن تولد أو بعد أن ولدت أو في أي لحظة من حياتها، لكنها أرادت الحياة، ربما أرادتها بغير إرادتها لكنها أرادتها، كانت شمس الصباح تسقط فوق جسدها المرتخي الممدود بحذاء النهر فيجف ويصلب وتتسند فوق الصخور وتنهض، وحينما تسير يتبعها النهر من خلفها كشريط الدم فتملأ الجرح المفتوح بحفنة تراب لتوقف النزف، وحينما تلمح شيئا يتحرك في الماء أو فوق الرمال أو بين الصخور، وربما لا يكون إلا سمكة أو ثعبانا أو فأرا صغيرا، لكنه يبدو لها من بعيد وكأنما له يدان وقدمان ممدودة في الهواء، إذا تنطلق تجري نحوه، لكنها لا تلبث ألا تجده فتقف لاهثة وتتلفت حولها حائرة.
ربما دميت قدماها من السير، ربما بليت عيناها من النظر، ربما تآكلت أصابعها من النبش، ربما جاعت ربما تعرت، ربما هطل عليها المطر وجمد أطرافها الصقيع، ربما ألقيت فوقها القاذورات والعفن، ربما أي شيء، لكنها لم تكن تتوقف، كانت قد أرادت الحياة ورفضت الموت، ليس رفضا عاديا حيث يرفض المرء شيئا قد يقبله وقد يرفضه، لكنها لم تكن تختار، كانت في الأصل مرفوضة ولم يكن أمامها إلا أن ترفض الرفض. •••
لو كان الأمر خيالا ربما انتهت القصة عند هذا الحد، لكنها لم تكن خيالا، كانت امرأة من لحم ودم فقدت ابنا من لحم ودم، ولم يكن هناك من حل، فإما أن تنساه وإما أن تعثر عليه، ولعلها استطاعت مرة أن تنساه، لكنه لم يكن نسيانا بمعنى النسيان، فالمرء قبل أن ينسى لا بد له من شيء يذكره، لكنها لم تكن تذكر شيئا، وما دامت لا تذكر شيئا فهي لا تنسى شيئا، كانت ذاكرتها قد طحنت وسحقت فأصبحت ناعمة ملساء كجلدة رأس صلعاء لا شيء يعلق بها ولا هي تستبقي شيئا.
Halaman tidak diketahui