وكان فمه الصغير مفتوحا يلهث فدست فيه ثديها، وحينما أحست ضغط فكيه الناعمين الضعيفين على لحمها حوطته بجسدها أكثر وأكثر فكأنما هي تدخله مرة أخرى إلى بطنها.
وربما كانت تريد أن تدخله فعلا، فقد اشتد الهواء البارد من كل ناحية وأصبح جسده الصغير الأملس يرتعد، وكست بشرته الرقيقة الوردية زرقة داكنة، لو أنها استطاعت أن تبقيه داخلها إلى الأبد! وتلتفت حولها فإذا بها تنهض مذعورة، كانت المطاردة لا تزال خلفها، وقد اشتدت وزاد عددها فأصبح الناس من كثرتهم يقفون وقد التصق الواحد بالآخر في صفوف رفيعة طويلة تندفع نحوها، كانوا رجالا كلهم، ربما لم يكونوا تماما لكن رءوسهم كانت حليقة وذقونهم وشواربهم طويلة وصدورهم وسيقانهم يغطيها شعر كثيف كثافة الغابة.
أهي الصفوف نفسها التي كانت تسد الممرات الضيقة تتطلع نحو بابها؟ أهم الرجال أنفسهم الذين كانوا يقفون واحدا وراء الآخر في انتظارها؟ لم تكن تعرف، لكنهم هذه المرة لا يتطلعون ولا ينتظرون، إنهم يندفعون بقوة وبسرعة كالمسعورين.
لم تكن تعرف إلى أين تجري لكنها كانت تجري، وخلعت حذاءها حتى يسمع صوت قدميها، ووضعت كفها على فم طفلها حتى لا تسمع صرخاته، وسدت جرحها النازف بحفنة تراب حتى لا يرسم شريط الدم أثرها، وكانت تلتفت وراءها من حين إلى حين، وكلما خيل إليها أنها اختفت عن العيون عادت فوجدت نفسها في مكان عار مكشوف، ثم وجدت نفسها أخيرا أمام النهر.
هنا توقفت، لم تستطع أن تتقدم أكثر؛ فالنهر بتياره العنيف أمامها، ولم تستطع أن تعود إلى الوراء؛ فالمطاردة المسعورة خلفها، وكان الجرح المفتوح النازف قد سحب الدم من رأسها، أصبح وجهها أبيض بلون البفتة وعقلها أبيض وخلايا مخها بيضاء ولم تعرف ماذا تفعل، كان جسدها يرتعد من الخوف، ليس خوفا عاديا مألوفا وإنما ذلك الخوف المفزع المروع حين يحس الإنسان لأول مرة في حياته ولآخر مرة أيضا أنه سيموت، فيخرج من جسده ذلك العملاق الهائل الجبار الذي لا يعرف شيئا ولا يعرف أحدا إلا نفسه، ونفسه فحسب.
في تلك اللحظة الخرافية الخاطفة ارتفعت صرخة حادة من فم الطفل، ذعرت وخبأته بجسمها، لكنه كان قد بدأ يصرخ ويرفس، حوطته أكثر وأكثر لتخفيه في طيات جسدها، لتدخله مرة أخرى في بطنها، لكنه لم يدخل، لو كان يدخل فلا يراه أحد ولا يسمعه أحد! لو كان على الأقل يظل ساكنا بغير حركة وبغير صوت! ربما استطاعت أن تلفه في جلبابها كصرة ملابس، ربما قالت إنه بضعة كيزان ذرة، لكن الطفل الوليد العاري كان قد ارتعد من البرد وارتفعت صرخاته الحادة في الجو كصفارة إنذار لا تنقطع، ولم تدر ماذا تفعل، وكان العملاق الجبار قد خرج منها، وضغطت يده القوية الهائلة فوق الفم الصغير الناعم لتكتم صرخاته إلى الأبد، لكن يدها الأخرى أسرعت بكل سرعتها وكل قوتها أيضا فشدت اليد من فوق فم الطفل، وانفتح الفم إلى آخره هذه المرة وراح يطلق في الجو صراخا حادا أكثر من أي مرة سابقة، وكانت المطاردة المسعورة قد اقتربت وكان موقعها قد انكشف، فاندفعت بكل اندفاعة الخوف من الموت، بكل غريزة البقاء العمياء تاركة أو ناسية الطفل حيث كان.
كانت تجري بأقصى سرعتها لكنها استطاعت أن تلوي رأسها ناحيته لتراه مرة أخيرة، كان يرقد بين الصخور بجسمه الأملس، فمه مفتوح يلهث، وعيناه الصغيرتان مليئتان بدموع تعكس لون عينها، ويداه الدقيقتان وقدماه كيديها وقدميها ممدودة في الهواء كأنما تنادي عليها.
ولم تعرف ماذا حدث لها بعد ذلك، ربما استمر جسدها بفعل الاندفاع الذاتي في الجري، ربما تعثرت أو سقطت بعد فترة من شدة النزيف والجهد، ربما امتدت إلى جسدها آياد محمية لتكويها، ربما مزقت إربا، ربما حدث لها أي شيء ورأت أي شيء، لكن صورة واحدة ظلت ماثلة أمام عينيها، جسم أملس صغير بين الصخور، فمه مفتوح يلهث، وعيناه الصغيرتان مليئتان بدموع تعكس لون عينيها، ويداه الدقيقتان وقدماه كيديها وقدميها ممدودة في الهواء كأنما تنادي عليها.
وأغمضت عينيها وفتحتهما، لكن الجسم الأملس الصغير ظل بين الصخور لا يذهب، والدموع ظلت في العينين الصغيرتين لا تجف ولا تسقط، واليدان الدقيقتان والقدمان ظلت ممدودة في الهواء لا تكف عن النداء ولا تهدأ.
وأغمضت عينيها مرة أخرى وفتحتهما، ثم أغمضتهما وفتحتهما ... مئات المرات بل آلاف المرات حتى إن جفنيها كانا ينفتحان وينغلقان وينفتحان وينغلقان بسرعة كبيرة فكأنهما لا ينغلقان ولا ينفتحان وإنما يهتزان بسرعة وقد أصابتهما رعشة ثابتة ومستمرة، على أنه في تلك اللحظة الخاطفة التي ينفرج فيها الجفنان المرتعشان كانت تظهر الصخور ومن بينها الجسم الأملس الصغير والفم المفتوح والعينان الصغيرتان الدامعتان واليدان الممدودتان والقدمان، فكأنما التصقت الصورة بشبكتيها أو انحفرت في قاع عينيها. •••
Halaman tidak diketahui