Khawatir Khayal
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Genre-genre
ولما يجد سيدنا أن الحركة الميكانيكية تحسنت وانتظمت ليتغذى بدوره ويشرب الحساء في طبق يضعه أمامه على الأرض، ولقد شاهدت خيوط الملوخية يكثر عددها شيئا فشيئا وهي معلقة بين لحيته وطبقه، ثم يأخذ القلة ويجرع منها بهذا الشكل.
كنا نرصد حركاته واثقين من أنه سينام بعد الطعام، وحينما نرزح تحت وطأة الحر ينتهي الأمر بأن ننام أيضا، وكان العرق يتصبب من جباهنا ويسيل فوق ألواحنا فيلوث وجوهنا، وكان الزير دوما محاصرا بسرب من الصبيان ينتظر كل منهم الكوب بدوره، خفتت الأصوات شيئا فشيئا فاستيقظ سيدنا صائحا: إياكم والقراءة بأصوات خافتة! هاج الكتاب وماج كآلة بخارية ضخمة، ونام سيدنا ثانية إلى قبيل تسميع درس بعد الظهر، وكنا في الساعة التي يقيل فيها كل أهل المدينة نستمر دون انقطاع في القراءة بصوت عال.
وأخيرا حوالي الساعة الرابعة يرن صوت المؤذن لصلاة العصر، وكان هذا الأذان علامة الانصراف التي لاحظتها من زمن، فنستعد للرواح ويرفع سيدنا مقرعته مؤذنا بالسكوت، ثم ننشد بصوت عال:
اللهم يا سميع، يا من لا ييأس من عونك السائلون، انصر مولانا السلطان على الكافرين، ربنا تقبل دعاءنا يا من هو قادر على كل شيء.
ثم ألثم يد الشيخ وأرجع إلى البيت مع دليلي وأنا مهموم في الرواح كهمي في الغدو، وما فتئ لغط الكتاب يدوي في أذني فيغطي صوت نفسي، كنت أعلم أنه ينبغي علي أن أقضي عامة النهار من طلوع الشمس إلى غروبها وأنا سجين هذا الفقيه البارد المتعنت، وكانت الساعات والأيام حتى التلامذة في نظره كالبسلة في سلة، وقد سئمت نفسي من وطأة حياة كريهة على وتيرة واحدة، وكنت أشعر أنني كضغث من العشب الأخضر وقع من حمل بعير فتلوث بالأوحال وداسته الأقدام.
وفي صبيحة يوم أردت أن يبري العريف قلمي فلكمني بقبضة يده، وكان سيدنا مستاء من سلوك هذا التلميذ فأشار إلى عريفين بأن يقبضا عليه، ثم نزع بنفسه الفلقة المعلقة بالحائط وأمسك العريفان كل منهما برجل ليتمكن الشيخ من وضعهما في الفلقة، ثم ألهب سيدنا رجلي هذا المسكين بجريدة رفيعة، فصاح هذا التعس: عفوا! عفوا! بحياة النبي! بربك!
كنت أرتعد وأقشعر عند كل ضربة، وكان صياحه يخترق جسمي، ولقد ظهر لي سيدنا كالوحش الضاري وطفقت أتنفس بألم وأمقت الكتاب والدنيا والحياة.
ثم رحل أهل منصور إلى الإسكندرية وأدخلوا منصورا في كتاب الشيخ خضر، وكان أرقى كتاب في الثغر، ولكن هذا الشيخ كان مثالا للقسوة البربرية والوحشية، وكانت خاتمته سيئة؛ إذ اتهم بتزوير عقد، ولما عرف أنه سيقبض عليه فضل الانتحار وألقى بنفسه في ترعة المحمودية فغرق.
سئم منصور من الكتاتيب، فأشار على والده أحد أصدقائه من الموظفين بأن يأخذه إلى باشكاتب إحدى محاكم الإسكندرية الموظف بها وأوصاه به خيرا، فقبله ليقضي زمن التمرين إلى أن تتاح له الفرص ويعينه كاتبا، ومن ألطف الفكاهات أنهم ألزموا منصورا بأن يحضر معه كرسيا من بيته ليجلس عليه، فركب منصور حمارا وحمل له الحمار الكرسي وسار وراءه بعدما رفض في أول الأمر حمله، وقال له: ضعه أمامك على الحمار، ثم وعده بزيادة درهم على أجره فقبل في نهاية الأمر ... شاهد منصور صورة جهنمية في قلم المحضرين، إذ رأى نساء مولولات من المساكين يستغثن بالمحضرين الذين حجزوا على ما بقي لهن من حطام الدنيا وبجانبهن العقبان والرخم، وهم كتبة العرائض يسدون على المتقاضين المسالك ليمتصوا ما بقي من دمائهم ويسلبوا درهمهم الأخير، وبجانبهم باعة الأطعمة الحقيرة كالطعمية والخبز والسلطة والباذنجان يبيعون بضاعتهم للمتاقضين والموظفين، والكل في هرج ومرج أشبه بأسواق الريف.
قضى منصور بضعة أيام والقلق يساوره والكرب يغالبه، فتوسل إلى والده لينتشله من هذه البؤرة الممقوتة، وفضل أن يلتحق في سلك طلبة المعاهد الدينية ليصبح أديبا شاعرا.
Halaman tidak diketahui