Khawatir Khayal
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Genre-genre
أما المسيو بونجان فكان أحد الأساتذة الفرنسيين بوزارة المعارف، وكان درس آداب اللغة والإنشاء بمدرسة المعلمين العليا، وقد أخذ مكافأته وسافر في العام الماضي، ويعد أعظم كاتب فرنسي بين أساتذة الوزارة، وله مؤلف آخر كتبه وحده بعنوان: «أخبار الساعة الثانية عشرة»، وقد كتب مقدمته الكاتب الذائع الصيت رومان رولان وهو الآن رئيس تحرير مجلة «لانوفيل ليتيرير»، وهي من المجلات الأدبية الشهيرة.
يضطرنا البحث لمعرفة نصيب كل من الكاتبين في هذا العمل لنسند إلى كليهما ما يستحقه من الملاحظات والنقد، ومن البديهي أن المسيو بونجان لا يدري أسرار الطبائع والعادات المصرية بالتفصيل، ولا يعرف تلك الحوادث، فتكون إذن مهمته في هذا العمل تنقيح الإنشاء والترتيب الفني لسرد الحديث، ويكون الدكتور ضيف هو صاحب الفكرة ومؤلف الكتاب.
الكتاب يشمل تاريخ حياة «منصور»، وهو ابن طالب بمعاهد الإسكندرية الدينية، وشيخ طريقة يعرف بالشيخ الصغير، وجده شيخ طريقة أيضا ويعرف بالشيخ الكبير، وهذا الأخير كان أعظم نفوذا واعتبارا واحتراما.
أمضى أهل منصور شطرا من حياتهم بالقاهرة حدثنا في خلالها منصور عن حضرات الذكر وشعوذة المشعوذين من أرباب الطرق وحفلات المحمل والموالد والزار، وصور لنا طبائع وعادات كثير من أقاربه ومريدي والده وجده، وسرد لنا كثيرا من الخرافات السائدة بين العوام والتي كان يسمعها من أفواه أهله ومعارفهم، ومن ألطف ما صوره لنا صورة الكتاب بمصر وفقيهه، وهي من ألذ الفكاهات الواقعية التي تمثل بؤس هؤلاء الصبية وما يقاسونه من شظف العيش وسوء الحال، وإني أترجمها للقراء بنصها وفصها:
كان والدي يعرف الشيخ الذي يدير كتاب حينا، وأوصاه علي، فكان يأتي كل يوم لمنزلنا بعد طلوع الشمس بقليل زميل أكبر مني سنا ليصطحبني إلى الكتاب، وكنت أسمعه يناديني في السلم: يا منصور! يا منصور.
كانت رنة هذا النداء تزعجني، وكثر ما هونت علي أمي وطأة الهم بإعطائي مليما، وفي بعض الأحيان قطعة جبن أو كعك فأضعها في مخلاتي التي تشمل عادة رغيفا ملفوفا بمنديل وبعض أوراق من المصحف واللوح.
ولقد أوقظت في الصباح على غير ما يرام فكنت كئيبا ولم أهتم بشيء في طريقي، وحينما قاربنا المسجد سمعت دوي الأصوات فزاد انقباضي، ثم صعدت الدرجات الثلاث وبلمحة عين ألفيت ما كنت أمقته، إذ شاهدت سرب الزملاء متربعين يحفظون دروسهم بأصوات عالية في ألواحهم وقد أمسكوا بها باليدين، وكان اهتزازهم المستمر يطبع على ظهورهم حركة الوزن الموسيقي، وفي هذه الجلبة التي تصم الآذان ووسط هذا الاضطراب تربع سيدنا على جلد شاة وهو ثابت في مكانه دون حراك، فتوجهت إليه وقبلت يده. - اجلس هناك، وأشار إلى قطعة من حصير بال.
أمعنت النظر في هذا الكتاب فإذا هو بهو كبير مرتفع السقف مزخرفه، له ثلاثة جدران عاطلة، وبمكان الرابع مدخل واسع تمر منه الشمس فتملأ المكان رغم الستار المسدل، وفي أحد الأركان زير قذر وكوب علاه الصدأ، وقد ركب على أحد الجدران رفان أو ثلاثة ليضع عليها التلاميذ مخاليهم وخبزهم.
ورغما من كون سيدنا من أصدقاء والدي وقد تعطف علي وجعلني أجلس على كثب منه ما كنت لأميل إليه، وكل ما كان يصدر منه يظهر لي قاسيا وظالما، وكنت أشعر في حضرته بتضاؤلي وقد ضل فكري حتى أصبحت لا أكيف وجودي وعملي وكأنني ضللت بين الجموع، وكنت أجد هناك شيئا جديدا لا أحتمله.
كنت أشعر وأنا في الطريق أو بجانب والدي أو عمي مصطفى أنني أمتاز عن باقي الصبيان، وكأنني قبلة أنظار إخواننا في الطريقة، إذ تتجه إلي أبصار تشف عن الحنان والعطف.
Halaman tidak diketahui