واختفت اليهودية الحسناء من حياته فجأة، فما هو إلا أن خطبها شاب من بني جنسها حتى هجرت لعبتها لتستقبل حياة الجد، غير عابئة بالجرح الدامي الذي أحدثته في قلب غض، بيد أن القلوب الغضة سريعا ما تندمل جروحها، وفي الفترة النهائية من المرحلة الثانوية دانت أسباب الجوار أيضا بينه وبين صبية حسناء هي صغرى بنات أرملة من صديقات والدته، فألفت بينهما المودة وتشجيع الأمين اللتين ما برحتا تدعوانهما بالعروسين، ولم يكن ذاك الحب الثاني كالأول الذي كان أول يقظة لقلب مفطور على الإحساس، ولكن حوت الصبية مزايا نادرة من رجاحة العقل ومتانة الخلق مما جعل ضياعها من بين يديه خسارة كبيرة أسف عليها أكبر الأسف. وكثيرا ما كان يحدث نفسه قائلا: إنه لو تزوج من فتاته كما أرادت أمه وأمها لتمتع بحياة زوجية سعيدة قليلة الأشباه، ولكن عقب حصوله على البكالوريا حلت الكارثة بأسرته، فأحيل أبوه إلى المعاش ودفع به هو إلى مواجهة الشدة، فانتزع من نعيم الآمال ورمي به إلى جحيم اليأس، وأصبح حتما على الفتاة إذا أرادت أن تبقي عليه أن تنتظر عشرة أعوام ريثما ينتهي من تربية أخيه. والظاهر أن أمها لم تشجع التضحية المطلوبة لما فيها من انتظار طويل، وغلبت حكمة الفتاة - نفسها - على عاطفتها فانقطعت الأسباب وتبددت الأحلام، وكفر أحمد بالحب وبالمرأة كما كفر بالدنيا جميعا، فالحب الذي ثمل به قلبه بين يدي اليهودية وهم ضال، أو مرض ملازم للمراهقة كتوعك التسنين للطفل، وقد قضت مرارة الحقيقة بالعقاب الصارم على من يركن لعهد امرأة .. سواء أكانت كخطيبته عقلا وفضلا أو كاليهودية التي علقته ما شاء لها الهوى ثم هجرته كما يهجر الإنسان حجرته في فندق بميدان المحطة!
وانقضت بعد ذلك عشرون عاما من حياته وقلبه من الحياة خواء بكايد مرارة عيشة فقيرة مترعة بالهموم مثقلة بالتبعات ضيقة بالأمل، ولو سكنت ثائرته لأمكنه أن يجد في حياته من لذات التضحية والقيام بالواجب ما يعزيه عن خيبة آماله جميعا، ولكن غضبه لم يسكت، وحدته لم تلن، فلم يزل ساخطا متبرما حاقدا، لأن إنسانا ألف أن يكون المعبود الذي يقدم على مذبحه القربان لا يحتمل أن يصير كبش التضحية، وشغل بأحزانه وتبعاته وعزلته عن الحياة فكأنما رمى بقلبه - الذي لبث طوال أربعة أعوام كقيثارة دائمة الترنيم - إلى بئر آسنة فاختنق وعاش بلا أمل، بلا حبيب، وبلا قلب، لا يأنس بالحياة ولا يدرك معنى أفراحها، فدفعه القنوط من النجاح إلى العزلة ودفعه القنوط من الحب إلى البغاء، وكأنه لم يكفه ما اعتنق من سوء ظن بالمرأة فألقى به سوء حظه بين يدي الأنوثة التعسة المشوهة ليزداد إيمانا بعقيدته المريضة، فأقنع نفسه - بسوء نية - بأن المرأة الحقيقية هي البغي! .. فهي المرأة الحقيقية وقد جلت عن وجهها قناع الرياء، فلم تعد تشعر بضرورة ادعاء الحب والوفاء والطهر. على أن البغي قد نالت من نفسه أكثر من ذلك فقد أودت بالبقية الباقية من ثقته بجدارته كرجل؛ إذ إنه اعتقد أن البغي إذا أحبت رجلا فإنما تحبه لما يجذبها فيه من فحولته وجاذبيته الطبيعية بصرف النظر عن اعتبار القيم الاجتماعية وظروف التربي والجوار، فعسى أن تكون اليهودية أحبته لأنها لم تظفر بسواه، أو أن خطيبته أحبته لدواعي الجوار وإيحاء الأمهات. أما البغي فلا تختار حبيبا من بين عشرات الرجال الذين يترددون عليها لداع من هذه الدواعي؛ فإذا كان لم يستطع أن يجذب إليه بغيا طوال هذا الدهر فما ذلك إلا لأنه عاطل من جاذبية الجنس .. وهكذا عانى، وهم نقيصة الجنس كما عانى نقيصة الدمامة من قبل.
ولما أتم أخوه رشدي دراسته وحصل على بكالوريوس كلية التجارة وتوظف ببنك مصر منذ عامين - وكان أخوه الآخر توفي منذ أمد بعيد - شعر بحق بأن مهمته قد انتهت بل وكللت بالنجاح، وساوره أمل - وهل ينعدم من الحياة الأمل؟ - أن يراود السعادة، فقد يظفر بالسعادة وإن يئس يأسا نهائيا من الجاه والسلطان، ويسعى إلى أن يخطب كريمة أحد التجار المقيمين في غمرة، ولكن والدها رده ردا جميلا، وعلم الكهل أن أمها قالت عنه : «إن مرتبه صغير وعمره كبير!» وترنح من هول الضربة التي هوت على كبريائه، وثار ثورة عنيفة، وكبر عليه - وهو العبقري الذي حشد الكون ما به من سوء حظ لمكافحة عبقريته - كبر عليه أن ترفضه أنثى من بنات حواء، بل أن ترفضه خاصة لأنه حقير! .. أيقال عنه حقير؟! فمن العظيم إذن؟! .. وكور قبضته متوعدا الدنيا بالويل والثبور والشرر يتطاير من عينيه، بالأمس هجرته حبيبته لأنه صغير لا ترجى منه فائدة، واليوم ترفضه فتاة لأنه كبير لا ترجى منه فائدة، فمتى كان ذا فائدة ترجى؟! أذهب العمر هباء؟! أضاع المجد وعزت السعادة وانتهى كل شيء؟! .. وصار دأبه بعد ذلك ذم النساء ورميهن بكل نقيصة، فهن حيوانات ماكرة ومكرهن سيئ قوامه الطمع والكذب والتفاهة، إنهن أجساد بلا روح، إنهن مصدر آلام الإنسان وويلات البشرية، وما أخذهن بظاهر العلم والفن إلا خدعة يختفين وراءها ريثما يوقعن في شباكهن الضحايا، ولولا شهوة خبيثة ألقيت في غرائزنا ما ظفرن برجاء ولا مودة .. وهن .. وهن .. وكثيرا ما يقول لزملائه: «شرعت لنفسي - والحمد الله - ألا أتزوج على كثرة ما واتتني الفرص، لأني آبى أن ينتهبني حيوان قذر لا روح له ولا عقل!» لقد جعل منه عجزه عن النجاح عدوا للدنيا، فجعل منه عجزه عن المرأة عدوا للمرأة! .. ولكن أعماقه اضطربت بالرغبة والعاطفة المنهومة المحرومة.
إن انفعاله لامرأة عابرة - كما حدث اليوم - حقيق بإهاجة أعماقه وسرعان ما يذكر تاريخه القديم الحديث مع المرأة فيثور، ويساوره ذاك الشعور العميق الطافح بالحب والخوف والمقت!
5
وعاد ظهرا إلى الحي الجديد، وغمغم مبتسما وهو يدنو منه: «ثاني عطفه على اليمين ثم ثالث باب على اليسار!» وذكر وهو يرتقي السلم الحلزوني فتاة الصباح ذات الوجه الأسمر والعينين العسليتين النجلاوين، ترى هل يراها مرة أخرى؟ وفي أية شقة وفي أي طابق من هذه العمارة تقيم؟! ولبث في البيت - وقد أكملت أمه فرشه وتنظيفه - حتى العصر، ثم بدا له أن يجول في طرقات الحي الجديد مستطلعا ومستكشفا، فارتدى ملابسه وانطلق إلى الخارج، وتريث قليلا أمام باب العمارة، وجعل ينظر فيما حوله كأنما ليختار ناحية يبدأ منها استكشافه، ولكنه قبل أن يجمع على رأي شعر بشخص يدنو منه فالتفت إليه فرأى الرجل الذي حسب صباح اليوم أنه المعلم نونو، وقد أقبل بخطوات ثقيلة مبتسما ابتسامة ترحاب وسرور، ومد له راحة غليظة كخف الجمل وقال: أهلا وسهلا بالجار الجديد! .. ويا ألف نهار أبيض!
وسلم الجار الجديد، ولم يكن يتوقع تلك المفاجأة من صاحب «ملعون أبو الدنيا!» وقال وقد ابتسمت أساريره: أهلا وسهلا بك يا معلم!
فأشار المعلم إلى كرسي موضوع أمام دكانه وقال والابتسامة لا تفارق شفتيه الغليظتين: شرفنا بالجلوس دقيقة .. دا يوم سعيد!
وتردد أحمد - لا لأن قبول دعوة المعلم يناقض الغرض الذي خرج من أجله - ولكن لأن طبعه النافر لا يستسيغ مثل هذه الدعوة الكريمة بغير تردد، وقرأ الآخر تردده في وجهه، فقال بصوته الجهوري الخشن: حلفت بالحسين - إن لم تكن قاصدا غاية تستوجب العجلة - إلا ما شرفتنا .. يا ولد يا جابر هات شايا .. وهات نارجيلة!
وقبل أحمد - بسرور يعادل تردده - الدعوة شاكرا ومضى إلى الكرسي بينا غاب المعلم لحظة ثم عاد بكرسي آخر وجلسا متقابلين. كانت دكان الخطاط مثل بقية الدكاكين حجما وأناقة، وقد غصت باللافتات الجميلة، وتوسطتها طاولة رصت عليها قنينات الألوان والأقلام والمساطر، وأسندت إلى إحدى قوائمها لافتة كبيرة كتب في أعلاها بالألوان الزاهية «محل بقالة خان جعفر» وتحت ذاك العنوان لاح اسم صاحب البقالة مرسوما بالرصاص لم يلون بعد، وكان الرجل يرتدي جلبابا ومعطفا أبيض وطاقية، في الخمسين أو نحو ذلك، ربع القامة، متين البنيان، كبير الوجه والرأس واضح القسمات، يمتاز وجهه بصدغين وفم واسع، وشفتين ممتلئتين، ولون قمحي مشرب بحمرة. وقد جلس وهو يقول: محسوبك نونو الخطاط.
Halaman tidak diketahui