لم يستطع أحمد أن يركز انتباهه في القراءة لما أحدثه تغير المكان في نفسه من اليقظة والقلق، فمضى في مطالعة فاترة متقطعة ومضى من الليل ساعة فسكنت ضوضاء النهار، ولكن لتحل محلها ضوضاء أشد وأفظع سرعان ما جعلت الحي جميعه كمسرح من مسارح روض الفرج الشعبية، أما مصدرها فالقهاوي العديدة المنتشرة في جوانب الحي، فالراديو يذيع أناشيده وأحاديثه بقوة وعنف فكأنه يذيع في كل شقة، والندل لا يكفون عن النداء والطلب في أصوات ممطوطة ملحنة «واحد سادة ... شاي أحضر ... تعميرة على الجوزة ... وشيشة حمي ...» ودق قطع النرد والدمينو وأصوات اللاعبين! فخال نفسه في طريق مزدحم بالمارة لا في شقة، وعجب كيف يحتمل أهل الحي ضوضاءه أو كيف يغمض لهم جفن؟!
ولم يزل ملازما الشلتة حتى بلغت الساعة التاسعة فقام لينام، وأطفأ المصباح ورقد على الفراش بعد أن أحكم غلق النافذتين، ولكن الضوضاء لم تزل تملأ حجرته وتدوي في أذنه، فذكر سكون السكاكيني في مثل هذه الساعة من اليوم وتأسف من الأعماق، ثم لعن الغارات التي أجبرتهم على هجر مسكنهم القديم الهادئ، فاستثار ذكرى تلك الليلة الجهنمية التي زلزلت القاهرة زلزالا مخيفا، وملأت الذكرى شعوره وضاعف من تأثيرها جثوم الليل حتى لم يعد يحس من ضوضاء الطريق ركزا ولا همسا.
كانت الدنيا نائمة - تلك الليلة المفزعة - يستقبل ليلها هزيعه الأخير وكما تعودت القاهرة في مثل تلك الساعة من الليل أطلقت صفارات الإنذار نعيرها المتقطع الذميم، فاستيقظت الأسرة ونهض أحمد لإطفاء المصباح الساهر في الصالة الخارجية ثم عاد إلى رقاده ليغط في النوم مرة أخرى شأنه كل ليلة، إذ لم تعرف القاهرة قبل تلك الليلة إلا الغارات الاستكشافية ولم تسمع سوى طلقات المدافع المضادة للطائرات. ولكنه لم يسكن إلى النوم وراح يرهف أذنيه رافعا رأسه عن الوسادة في دهشة وانزعاج، فقد سمع بوضوح أزيز طيارات ما في ذلك من شك، اتصل وقعه لا يغيب ولا يهن، بل جعل يزيد وضوحا ويعلو شدة، فضاق به صدرا وامتلأ منه رعبا، ولكن خاطرا طمأنه بعض الاطمئنان، فلم يفصل بين سكوت الصفارة وسماع الأزيز إلا دقيقة أو بعض دقيقة، وهي مدة غير كافية بطبيعة الحال لوصول الطيارات المعادية، حيث يسبق الإنذار وصول الطيارات بربع ساعة على الأقل، فبات مرجحا أن تكون الطيارات إنجليزية حلقت للمطاردة، وانتظر أن ينقطع الأزيز ولكنه اتصل اتصالا مرهقا للأعصاب وكأن الطيارات اختارت بيتهم مركزا تدور من حوله، ونهض ثانية وغادر الحجرة يتلمس طريقه في الظلام إلى حجرة والديه وقال عند الباب بصوت مسموع: «هل أنتما مستيقظان؟» فجاءه صوت أمه قائلا: «لم ننم بعد، أما تسمع شيئا؟» فأجاب أحمد: «بلى أزيز طيارات .. وقد سمعته عقب الإنذار مباشرة!» فقال والده: «الأغلب أن تكون إنجليزية.» فقال أحمد: «لعلها!» وطمأنه اتفاق الظن بينه وبين أبيه فعاد إلى حجرته، وقبل أن يمس جنبه الفراش أضاءت الحجرة المظلمة بنور عجيب آت من الفضاء أعقبه صفير مبحوح انتهى بانفجار شديد دوى في سماء القاهرة دويا شديدا مزعجا، فانتفض رعبا وتولاه فزع جنوني وقفز نحو الباب لا يلوي على شيء، وضاعف من رعبه أن الحجرة لم تزل مضاءة بذاك النور الوهاج الذي اخترق نوافذها من الخارج داعيا القذائف إلى أهدافها وتتابعت الانفجارات الشديدة واختلط تفجرها بذاك الصفير المبحوح الممقوت، فارتجت الأرض ارتجاجا وزلزل البيت زلزالا، ولم ينقطع الضرب لحظة واحدة وبدا كأن السماء ستظل تقذف الأرض بهاتيك الرجوم الشيطانية في ذاك العناد الشيطاني الجبار، ووجد والديه في الصالة، الأب معتمدا ذراع الأم يوشك أن يسقط صريع الفزع والإرهاق، فهرع إليهما وتأبط ذراع والده وصاح بهما «هلما إلى مخبأ العمارة» ومضوا مسرعين تتقدمهم الخادم، وتساءل بصوت متهدج مضطرب «ما هذا النور؟ هل شب حريق في الخارج؟» فقال أحمد وهو يعالج أنفاسه المضطربة ويتبين مواقع قدميه من السلم: «هي مصابيح المغنسيوم التي قرأنا عنها في الجرائد.» فقال الرجل: «ربنا يلطف بنا.» وكان السلم مكتظا بالهابطين الداعين الله من قلوبهم الواجفة، وكلما حدث انفجار ارتجت الجدران وتعالى صراخ يصم الآذان وصوت النسوة وأعول الأطفال، وانطفأ نور المغنسيوم فجأة والضرب في عنفوانه والموت في حومانه فساد الظلام، وحدث هرج ومرج، فزلت أقدام وعثر أناس وزاد الفزع والارتباك، ثم بلغوا مخبأ العمارة - البدروم - بعد جهد جهيد. وكان مضاء بمصباح خافت، مغطاة نوافذه بستائر كثيفة سوداء، واعتمد سقفه على عمد أفقية قامت على عمد حديدية رأسية، ووضعت حول جدرانه أكياس من الرمل. وعلى ضوء المصباح الخافت لاحت وجوه تعلوها صفرة الموت، جاحظة عيونها مرتجفة أوصالها، هاذية ألسنتها، ووقفوا ثلاثتهم متقاربين يذوبون لهفة أن يكف الضرب لحظة واحدة فيأخذوا أنفسهم ويبلوا ريقهم، ولكن الضرب اشتد وبدا من اشتدد الانفجارات أنه أخذ يقترب منهم! وهنا حرك ساقيه في الفراش فزعا من هول الذكرى وهو يغمغم: «تبا لها من ليلة!» وتنهد من أعماق صدره وفتح جفنيه، فعادت ضوضاء الحي إلى وعيه، وذكر أنه رقد لينام لا ليستذكر آلام أفظع ليلة في حياته، ولكن هيهات ... لقد هجمت عليه الذكرى بقوة لا تقاوم ... أجل، أخذ الضرب يقترب، بل انفجرت قذيفة خال القوم الفزعون أنها انفجرت في صدورهم ورءوسهم، فرفعوا أيديهم كأنما ليتقوا بها السقف إذا انهار واشتد الصراخ والدعاء وجرى اسم الله على كل لسان، وقوي شعور مفزع بأن القذيفة الثانية ستسقط على رءوسهم! وهوت القذيفة التالية! .. رباه هل يمكن أن ينسى ذاك الصفير المبحوح - صفير الموت - وهو يهبط عليهم لا مهرب منه ولا مفر؟ .. وكيف تقلقلت العمارة وطقطقت النوافذ قبل أن تبلغ القذيفة الأرض! .. ثم كيف دوى الانفجار فصك الأسماع وصم الآذان ورج الأمخاخ ومزق الأعصاب وخنق الأنفاس! .. لقد تقوست الظهور في انتظار المقدور .. وقبض اليأس القلوب .. وتعجلت النفوس النهاية مختارة الموت على انتظاره .. أجل لم يعد بينهم وبين الموت إلا قذيفة لعلها تغادر في تلك اللحظة مكمنها من الطيارة ... ولكن القذيفة - وهنا ابتسم ابتسامة حزينة - لم تسقط! .. أو سقطت بعيدا، فقد ابتعد الضرب سريعا كما جاء سريعا، لم يجئهم الموت كما أوهمهم .. أراهم وجهه ولكن لم يذقهم طعمه .. أو أجل ذلك لليلة أخرى، فباعد الضرب، ثم خف عن ذي قبل، وبات متقطعا ثم انقطع فلم يعد يسمع إلا طلقات المدافع، ثم ساد السكوت! .. واسترد التعساء أنفاسهم، وتبادلوا نظرات الشك والرجاء، وانفكت عقد ألسنتهم فهذوا كالمجانين، ومضت ربع ساعة رهيبة ثم انطلقت صفارات الأمان! .. يا رحمة الله! .. هل ذهب الموت حقا؟ .. هل يدركهم نور الصباح؟ ودبت الحركة وأضيئت الأنوار وانطلق أناس إلى الخارج وجاء آخرون من الجهات القريبة، وانتقلت روايات، قالوا العباسية خراب .. أما مصر الجديدة فقل عليها السلام، وقصر النيل أمست أثرا بعد عين، ومخازن الترام دمرت وجثث العمال أكوام!
وصعدوا إلى شقتهم يغمر صدورهم سرور عصبي، سرور من نجا من الموت وعقابيل الخوف لم تزل ناشبة في صدره؛ ومضوا بقية الليل أيقاظا يتكلمون، وفي نهار اليوم الثاني بدأ الحي وكأنه قد أزمع الهجرة، وتتابعت عربات النقل تحمل المتاع الضروري إلى الأحياء التي حسب الناس أنها آمنة أو إلى القرى المتاخمة للعاصمة حتى خلت عمارات من ساكنيها، وضاعفت مناظر الهجرة من خوف الأسرة، خصوصا الأب الذي تضعضع قلبه الضعيف من عنف الغارة، فنشأت في رأسه فكرة الهجرة مع المهاجرين، وإذا كان من المتأثرين بدعاية المحور الإسلامية فقد اعتقد اعتقاد راسخا في أن حيا دينيا كحي الحسين لا يمكن أن يقصده المغيرون بسوء، فجد في البحث عن مسكن فيه، فاهتدى إلى هذه الشقة، وكان النقل .. وإن ينس لا ينس اليوم الذي أعقب ليلة الغارة، فلم يكن للقاهرة حديث إلا حديث الليلة الماضية واستفاض الناس في الكلام بأعصاب متوترة ونفوس قلقة، وضحكوا جميعا ضحكا فيه سرور النجاة وتوتر الخوف، وشعر أحمد بدنو الموت دنوا جعله يحس تردد أنفاسه على وجهه، بل هنالك ما هو أفظع من الموت نفسه، كأن يلقى به إلى قارعة الطريق مقطع الأوصال أو مشطور الرأس، وربما ألحق بعد ذلك بذوي العاهات المستديمة، أو كأن ينجو من الموت ويدك البيت بما فيه فيجد نفسه وأسرته بلا مأوى وبلا أثاث وبلا لباس! وجعل يدعو ربه ويستشفع بنبيه، فالحياة محبوبة ولو كانت خائبة بائسة، وأعجب من هذا أنه مال إلى الترفيه عن نفسه وتهيئة السرور لها ما أمكن، فغلب حرصه الطبيعي وابتاع لدى عودته إلى البيت صندوق بسكوت بالشوكولاتة وهو طالما اشتهته نفسه وحرمها إياه حرصا على القليل من النقود التي تعود أن يودعها صندوق التوفير كل شهر، ولكن عندما أتى المساء غشي القلوب هم وكآبة، وبات الكل في ذعر عظيم، ولم يغمض لإنسان جفن، وتيقظت ذكريات الليلة المفترسة، واختلت الحواس، فصار كل نفير صفارة إنذار، وكل صفقة باب انفجار قنبلة، وكل خشخشة أزيز طيارة! .. وها هم أولاء قد انتقلوا فهل تطمئن قلوبهم حقا؟! العمارات حديثة البناء متينة، ولها مخبأ يضرب بقوته المثل وهذا جوار الحسين .. ولكن ألم تدك حصون وتخرب جوامع؟! آه لكم يعذبنا حب الحياة، ولكم يقتلنا الخوف، ومع ذلك فالموت لا يرحم، وبالتفكير فيه يبدو أي جليل تافها. كم حمل نفسه ما لا طاقة لها به من الحزن والغضب .. ففيم كان ذاك؟ وسمع عند ذاك الراديو يذيع السلام الملكي ، فأدرك أن ساعتين مضتا في أرق وقلق، فجزع وراح ينشد النوم بمطاردة الأفكار، ولكنه لم يظفر بأفكاره، وبالعكس ظفرت هي به، فغمره سيل الذكريات الزاخر، فذكر كيف اقترح على والديه أن يسافرا إلى أخيه الأصغر في أسيوط - مقر عمله - فيبتعدا عن الخطر حقا، وكيف قالت له أمه: «بل نبقى إلى جوارك فإما أن نعيش معا وإما ...» ثم استضحكت مستعيذة بالله! .. ماذا كان يفعل لو وافقها على السفر؟ .. كان أسهل الحلول أن ينزل في بنسيون، والحق أنه رحب بالفكرة في أعماقه لأنه يروم التغيير وهو لا يدري، وكيف يروم التغيير أعزب قضى أربعين عاما في بيت واحد يكابد حياة رتيبة لا فرق بين يوم منها وبين عام ترهقها عزلة وحشية؟! .. فمهما ألف هذه الحياة وتعودها لا بد أن تنزع به النفس ولو في خفاء إلى التغيير .. والتغيير الكامل! .. إلا أنه لم يستسلم هذه المرة طويلا إلى أفكاره، فقد طرقت أنفه رائحة غريبة أوقفت تيار أحلامه! .. ذابت في خيشومه فجأة كأنما حملتها إليه هبة نسيم كان من قبل راكدا، ونبهه إليها أنه كان يشمها لأول مرة في حياته، وتحير كيف يصفها، فما كانت رديئة ولا كانت زكية ولكن تطيب بها النفس، وفيها هدوء، وعمق، وإلا فما نفاذها إلى قرارة الإحساس؟! وما كانت تنقطع إلا لتعود .. فهل بخور يحترق في هذه الساعة من الليل؟! أم يكون لهذا الحي الغريب أنفاس تتردد في أعماق السكون؟!
وغاب به التفكير في الرائحة الغريبة عن أفكاره فتهيأ للنوم وهو لا يدري ... وما لبث أن استرق الكرى خطاه إلى جفنيه فأخذ بمعاقدهما.
4
وعند الساعة السابعة من صباح اليوم الثاني كان جالسا إلى السفرة يتناول فطوره الذي يتكون عادة من فنجان قهوة وسيجارة ولقمات من الجبن أو قليل من الزيتون، وغادر الشقة فصار في الردهة الخارجية التي تفصل بين الشقق، وقبل أن يبلغ السلم سمع وقع قدمين خفيفتين وراءه فنظر خلفه فرأى فتاة في أولى سني الشباب مرتدية مريلة مدرسية زرقاء ومتأبطة حقيبة الكتب، وقد التقت عيناهما لحظة خاطفة ثم أعاد رأسه وقد تولاه ارتباك، والارتباك طبيعته إذا التقت عيناه بعيني أنثى! ولم يدر هل الأليق أن يسبقها إلى الطريق أو أن يتنحى لها جانبا فزاد ارتباكه وتورد وجهه الشاحب وبدا فيلسوف إدارة المحفوظات بوزارة الأشغال كالطفل الغرير يتعثر حياء وخجلا! .. وتوقفت الفتاة كالداهشة، وانتقلت إليها عدوى ارتباكه، فلم يجد بدا من أن يتنحى جانبا وهو يهمس بصوت لا يكاد يسمع: «تفضلي!» فمضت الفتاة إلى حال سبيلها وتبعها متثاقلا متسائلا أأصاب يا ترى أم أخطأ؟ .. وبم حدثت نفسها عن تردده وارتباكه؟! .. وعند باب العمارة أيقظه صوت جهوري من أفكاره يصيح: «ملعون أبو الدنيا!» فالتفت إلى يسراه فرأى نونو - كما ظن - يفتح دكانه، فسري عنه وابتسمت أساريره وغمغم: «يا فتاح يا عليم!» ثم سار في طريقه والفتاة على بعد منه غير بعيد حتى بلغت السكة الجديدة، فانعطفت إلى يسارها ومضت نحو الدراسة، وواصل هو مسيره إلى محطة الترام. ولم يكن رأى من وجهها سوى عينيها، استقرت عليهما عيناه لحظة حين التفاتته إليها. عينان نجلاوان، ذواتا مقلتين صافيتين وحدقتين عسليتين، بدتا لغزارة أهدابهما مكحلتين، تقطران خفة وجاذبية، فحركتا مشاعره، وكانت الفتاة تتخطى عتبة الشباب اليافع، فلا يمكن أن يجاوز عمرها السادسة عشرة، بينما هو في الأربعين، فأكثر من عشرين عاما تفصل بينهما! ولو أنه تزوج في الرابعة والعشرين - وهي سن زواج معقول - لكان من المحتمل أن يكون أبا لفتاة في مثل عمرها ونضارتها! وأخذ مجلسه من الترام وهو ما زال يتصور تلك الأبوة التي لم تتحقق.
وسرعان ما خمدت نشوة التأثير بالعينين، وفتر حماس الحنين إلى الأبوة، واجتاح صدره انفعال عنيف قاتم شأنه إذا اقترب من أنثى أو اقتربت أنثى منه، ذلك أنه يحب النساء حب كهل محروم، ويخافهن خوف غرير خجول، ويمقتهن مقت عاجز يائس. فأية أنثى جميلة تترك في وجدانه انفعالا شديدا، يضرب في أعماقه الحب والخوف والمقت. وقد كان لنشأته الأولى أكبر الأثر في تكييف طبيعته الشاذة، فخضعت طفولته لصرامة أبيه وتدليل أمه، صرامة ترى القهر عنوان الحنان ، وتدليل محبة ومغرم لو ترك الأمر له ما علمه المشي خوفا عليه، فنشأ على الخوف والدلال، يخاف أباه والناس والدنيا، ويأوي من خوفه إلى ظل أمه الحنون، فتنهض بما كان ينبغي أن ينهض به وحده، فبلغ الأربعين ولم يزل طفلا، يخاف الدنيا وييأس لأقل إخفاق، وينكص لدى أول صدمة، وما له من سلاح سوي سلاحه القديم البكاء أو تعذيب النفس، ولكن لم يعد يجدي هذا السلاح؛ لأن الدنيا ليست أمه الحنون فلن ترق له إذا امتنع عن الطعام، ولن ترحمه إذا بكى، بل أعرضت عنه بغير مبالاة، وتركته يمعن في العزلة ويجتر العذاب، فهل يصدق الوالدان أن ذلك الكهل الأصلع الخائب قد ذهب ضحيتهما؟!
ومع ذلك كله سجل قلبه تاريخا في حياة القلوب.
سطر أولى كلماته وهو في السنة الأولى من المدرسة الثانوية، وما يعنينا من سرده إلا دلالته على طبعه، كان غلاما ناضرا متأنقا. ولعله ورث الأناقة من والدته، فجذب إليه يهودية صغيرة حسناء من بنات الجيران! فأحمد عاكف - كما ترى - كان يوما ما جذابا! كانت تلعب في طريقه وترقب مرجعه من المدرسة في نافذتها، ولا تضن على عينيه بملاحتها ودلال أنوثتها فأصلت وجدانه نيرانا، ولكنها لم تستطع أن تبعث في قلبه الجسارة أو الشجاعة، ألهبت قلبه وجدا ولكن قصارى ما كانت تدفعه إليه شجاعته أن يرمقها بلحاظ مغرم وجل سرعان ما يرتد أمام نظرتها وهو كليل، ولكنه على رغم خجله طارحها الغرام صراحة بفضل جسارتها هي. كانت جسورا لعوبا لا يردعها عن هواها رادع، فاستطاعت أن تعالج حياءه بجسارتها، وتبعته ذات أصيل حتى أدركته، ثم نادته فالتفت إليها بوجه كالجمان، فابتسمت إليه ابتسامة لطيفة فأجابها بابتسامة مقتضبة في حياء وخفر فقالت له: «هلم نتمشى في شارع عباس!» فأطاع دون أن ينبس بكلمة وسارا جنبا إلى جنب والشمس تتقدمهما نحو المغيب، وتعمدت أن تدنو منه وأن تلامسه في رفق، فجعل يبتعد كأنما يخاف أن تحسب أنه المتعمد وهو يذوب شوقا إلى اللمس الذي بجانبه، ثم تأبطت يمناه وهي تضحك ضحكة لم تخل من الارتباك، فطرفت عيناه ونظر فيما حوله بخوف فسألته في دعابة: «أتخاف؟!» فقال بصوت رقيق: «أخاف أن يرانا أحد من بيتك!» فهزت كتفها استهانة وقالت: «لا تبال هذا!» فلاحت في عينيه نظرة عجب فاستدركت متسائلة: «أما تزال خائفا؟!» فقال بعد تردد: «أخاف أن يرانا أحد من بيتنا!» فأغرقت في الضحك وعاجت به إلى بستان وهي تغمغم: «نحن الآن في أمن من الرقباء!» وتمشيا في سكون كالشمس تذوب في الشفق، وظلال المغيب تمتد في الأفق فتجعل منه سرادقا قائما لاستقبال الليل الزاحف، ثم قالت الفتاة الجريئة لتحتال على حيائه: «حلمت حلما يا له من حلم!» فقال وقد أخذ يأنس بها: «خيرا إن شاء الله.» فقالت: «حلمت أنك قابلتني وقلت لي أريد ... ثم ذكرت كلمة لن أعطيها لك حتى تقولها بنفسك، فحزر ما هي؟!» فاشتد عليه الارتباك وقال بلسان ملعثم: «لا أدري!» فقالت بصوت عذب: «بل تدري وتداري .. قل!» فحلف لها بسذاجة أنه لا يدري، فقالت: «لا فائدة من الكذب علي .. أولى بك أن تتذكر .. كلمة أول حروفها ق!» فصمت وقد خفق قلبه واضطربت أنفاسه فقالت: «والحرف الثاني ب!» فلزم صمته وغض بصره فاستطردت تقول: «والثالث ل ... قل ما الحرف الأخير!» فابتسم مرتبكا ولكنه لم يدر كيف يتكلم، فقرصته في ذراعه وهمست في أذنه: «إذا لم تخرج عن صمتك فلن أكلمك أبدا!» وفعل التهديد فعله فرسمه بأصبعه في الهواء تاء مربوطة! فضحكت بسرور وقالت: «الآن اعترفت بما تريد ولن أضن به عليك!» ثم أدنت منه وجهها وقد أيأسها خجله الشديد من الانتظار، فأخذ قبلة مضت عقود من العمر كاملة وهو يحترق توقا إلى مثلهاز وهكذا كان دائما: إحساسا عنيفا وخجلا موئسا، وكان يحلو لتلك اليهودية الحسناء أن تداعبه بالسخرية من قسمات وجهه، فآمن بسخريتها، واستقبح وجهه أكثر مما ينبغي، ووجد سببا جديدا يقوي به خجله الطبيعي فتضاعف، ولو أمكن رجلا أن يسدل على وجهه نقابا لكان ذاك الرجل، وكان ذلك من بواعث المبالغة في تأنقه حينا التي انقلبت فصارت إهمالا زريا حين أدركه اليأس.
Halaman tidak diketahui