ولم يتوقف، ظل يحاول ويناضل، والعرق الغزير يجري في قنوات وجهه ليصب في فمه، فيلعقه بلسانه وهو يختلس النظر إلى المرأتين الجالستين إلى جواره، وكانت كل امرأة منهما منقضة بجسدها على الساق التي من نصيبها، مشيحة بوجهها ناحية الحائط؛ تأدبا من أن تتفرج على مثل هذا المشهد، أو زهدا في شيء تراه كثيرا، أو استنكارا من أن تصنع من نفسها رقيبا على رجولة رجل لحظة زفافه، أو خجلا أو إشفاقا ... أو أي شيء، المهم أنهما لم تكونا تريانه.
وحرك عينيه ناحية الباب في حذر ليكشف جانبا من الجمهور الواقف المترقب، لمح بطرف عينه الرجل العجوز والد العروس واقفا بالباب عيناه تروحان وتجيئان من باب القاعة إلى وجه الناس في قلق وخوف.
وفرك أصابعه في اطمئنان، الحقيقة لا يعرفها أحد، فالمرأتان لا تريان إلا الحائط وصاحب الشأن مستغرق في القلق على شرفه.
لا أحد يعرف الحقيقة، إلا هي، هي؟ من؟ إنه لا يعرفها، لم يرها أبدا، لم ير وجهها ولا عينيها ولا شعرة واحدة من شعر رأسها، أول مرة يراها الآن، وهو لا يرى عروسا، لا يرى أسنانا، مجرد شال أحمر كبير في نهايته فخذان رفيعتان منفرجتان كفخذي البقرة الكسيحة، ولكنها موجودة أمامه تفضح عجزه، وتنصب قائمتها كالفخ لتصيد ضعفه وفشله، وهو يكرهها كما يكره أمه، ويود لو مزقها بأسنانه إربا، أو صب عليها ماء نار فتنهشها.
ومنحته الكراهية ذكاء وكبرياء، فبصق على الأرض في تأفف ومصمص شفتيه في ازدراء، وشد ملامحه مستجمعا قواه، ونهض من مكانه متمهلا، واستدار إلى الباب رافعا رأسه إلى أعلى، مدليا البشكير إلى أسفل، وخطا خطوة بطيئة ثابتة نحو الرجل العجوز، ورمقه بنظرة استعلاء ثم قذف البشكير في وجهه، نظيفا كما كان، مغسولا كما كان، لم تطأه بقعة دم حمراء.
وتهدلت عينا والد العروس في خزي، وانكمشت رقبته حتى التصق رأسه بصدره، وحف به الرجال من كل جانب متآزرين متكاتفين، ثم استداروا جميعا إلى باب القاعة متحفزين ، وظهرت العروس على عتبة الباب ورأسها الصغير من تحت الشال الأحمر منكس في انكسار، ونظرات نارية منذرة ترشقها من كل جانب.
نظر ويحفظ
إنه جالس على المقعد وأمامه الدوسيه الكبير المفتوح، عيناه مفتوحتان لا ترمشان، والقاعة الكبيرة جدرانها بيضاء، وسقفها عال تتدلى منه نجفة بلورية، والمائدة مغطاة بمفرش من الجوخ الأخضر، وفناجين القهوة تصنع فوقها نصف دائرة، يتوسطها فنجان أكبر تغطيه طبقة كثيفة من البن أكثر كثافة من الفناجين الأخرى، وأكواب الماء مثلجة تكثفت عليها قطرات صغيرة من الماء، وجهاز التكييف يزن في أذنيه كنحلة دءوب، وأصوات عالية خشنة، ورءوس تهتز، وتهتز معها دوائر على الجدران هي انعكاسات الضوء على الصلعات، وأمام الفنجان الأكبر ذي الطبقة الكثيفة من البن جسد كبير له رأس أبيض، يتحرك إلى اليمين فتتحرك الرءوس إلى اليمين وتتحرك معها الدوائر، ودخان السجائر يتصاعد في الجو ويلتف حول النجفة في حلقات صغيرة تبتلعها حلقات أكبر.
وهو جالس على المقعد، يرتطم بأذنه اسم «مدحت عبد الحميد» كحجر مدبب، وتتحرك الشفاه المبللة بالقهوة، وتظهر أطراف الأسنان المصفرة بالدخان: «مدحت عبد الحميد كفاءة نادرة.» ويهتز الرأس الأبيض وتهتز الصلعات اللامعة.
ويحاول أن يفتح شفتيه ويحرك لسانه، ولكن شفتيه لا تنفتحان، ولسانه جاف لا يتحرك، ومرارة غريبة ملتصقة بحلقه كالصمغ، إنه يعرف قصة مدحت عبد الحميد وهي مكتوبة أمامه في الدوسيه، ولكن هل يتكلم؟
Halaman tidak diketahui