180

" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ".

ويلمح من كلام القطب رحمه الله في هيميانه أنه يجنح إلى هذا القول، وذلك من تصديره إياه، وإتباعه كثيرا من البحوث المتفرعة عنه، واعتمده من المعاصرين العلامة ابن عاشور، واستدل له بما يوجبه تكرار الموصول من التغاير، غير أنه نبه على دخول أهل الكتاب - إن آمنوا - في عموم الفريق الأول، لأنهم يصدق عليهم أنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون.

وكلامه يقتضي أن عطف الموصول الثاني على الأول من باب عطف الخصوص على العموم.

وقيل: الآيتان في أهل الكتاب وحدهم، ذكر هذا القول ابن جرير ولم يعزه إلى أحد، ووصفه صاحب المنار بالشذوذ.

وقيل: كلتاهما في كل المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، المتبعين لهديه سواء منهم العرب الذين كانوا على الجاهلية الجهلاء، أو من كان من قبل على ملة كتابية، وعزا ابن جرير هذا القول إلى مجاهد والربيع بن أنس ورجحه ابن كثير في تفسيره - مع استشهاده للقول الأول بما تقدم ذكره - والشوكاني في فتح القدير.

وتردد جار الله الزمخشري والعلامة الألوسي بين هذا القول والقول الأول.

وفرق الامام محمد عبده بين الموصوفين في الآيتين تفريقا دقيقا، سلك فيه مسلكا غريبا وافقه عليه تلميذه السيد رشيد رضا، لأنه - حسب رأيه - أقرب إلى مدلول النظم وإن كان أبعد عن الروايات. وخلاصة قوله أن الناس قسمان: مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي يؤمن بما لا يدركه الحس متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم. والايمان بالله وملائكته وباليوم الآخر، إيمان بالغيب، ومن لم يكن مؤمنا بالله لا يمكن أن يهتدي بالقرآن، ومن يتصدى لدعوته، عليه أولا أن يقيم الحجة العقلية على أن لهذا العالم إلها متصفا بصفات الكمال التي يتوقف عليها وصف الألوهية، ثم يقنعه بأن هذا القرآن هداية من عنده سبحانه. لذلك كان الايمان بالغيب أول ما وصف الله به المتقين الذين يهتدون بالقرآن، وهو في حقيقته الايمان بما وراء المحسوس، ومن اتصف بهذا الايمان فهو واقف على رأس طريق الرشاد، لا يحتاج إلى من يأخذ بيده فيسلك به فيه، فإن من يعتقد بأن وراء المحسوسات موجودات يصدق بها العقل وإن كانت لا تقع تحت إدراك الحس إذا أقمت له الدلائل، ونصبت له الشواهد على وجود موجد الوجود، الذي ليس كمثله شيء، لم يشق عليه تصديقك ولم يتردد في النظر في جلي المقدمات وخفيها، وإذا جاءه الرسول بوصف اليوم الآخر أو وصف عالم من عوالم الغيب التي استأثر الله بعلمها، كعالم الملائكة، لم يشق على نفسه تصديق ما جاء به الخبر، بعد ثبوت النبوة، وذلك بخلاف شأن أولئك الذين انحبسوا في مضائق المادة فصاروا ينفرون من كل خبر عما وراءها.

ويرى الأستاذ أن المتقين هنا هم طائفة من العرب في الجاهلية، كان عندهم إيمان جزئي بالغيب أداهم إلى مقت عبادة الأصنام لما عرفوه بالفطرة من أن فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأنه يحب الخير ويبغض الشر، وقد أدى ذلك ببعضهم إلى اعتزال الناس، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال، وتعظيم جانب الربوبية - وذلك ما كان يسمى صلاة في عرفهم - وبعض الخبرات التي يهتدي إليها العقل في معاملات الخلق.

وطائفة من أهل الكتاب، وهم الموصوفون بقوله سبحانه:

من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون آيات الله آنآء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين

Halaman tidak diketahui