فدهشت وتساءلت: حتى عن الصحة يتحرون؟ - طبعا، كثيرون لا تزكيهم في الختام إلا صحتهم القوية! - إني بحمد الله أتمتع بصحة جيدة. - ولكن توجد رصاصة مستقرة من قديم في صدرك تحت الترقوة!
فضحكت منتشيا بالذكريات وقلت: ذلك تاريخ قديم. - ولكن كيف نفذت إلى صدرك؟
فقلت بعد تردد: في مظاهرة وطنية. - تلك حجة كل مصاب برصاصة قديمة. - أيمكن أن يشكوا في ذلك؟ - العجوز أصبح يشك في الثورة نفسها مع أنه كان من معاصريها، هو اليوم يقول إنه لم تندلع ثورة، ولم يطلق رصاص، ولم يستشهد أحد. - هذا جنون رسمي!
فابتسم الصديق قائلا: على أي حال فمن حسن الحظ أنه قيل له - عابد ميري - إنك أصبت بها في ملهى للغناء والرقص! - أتعد ذلك من حسن الحظ؟ - نسبيا، يمكن الدفاع عن عبث الشباب وطيشه، أما التورط في شئون السياسة فيعرض الإنسان لأخطار مجهولة؛ وبالتالي تتعرض لها أسرته، على أنني دافعت عنك في هذا الشأن. - ماذا قلت؟ - قلت إنك لم تنتم لحزب، ولا تنتمي لرأي، وأنك مخلص للدولة، لم تكن من الليبراليين، ولا الشيوعيين، ولا الإخوان، وذلك بلا شك يزكيك كزوج مأمون المستقبل!
فقلت بانقباض: ولكن من الظلم أن يقال إنني تعرضت للقتل في ملهى للرقص! - ما علينا، وما حكاية خوفك من الصراصير؟
فضحكت عاليا وقلت: حتى هذا؟ - قيل إنك تهدر وقتا ثمينا في رش المطبخ والحمام والحجرات، وإن منظر صرصور خليق بأن يفزعك لدرجة الصراخ، حتى ولو كان من النوع الألماني الصغير الرشيق! - أهكذا تصفه؟ - الأمر تافه، يبدو تافها، ولكن ماذا يعنيه؟ هذه هي المسألة، ويقال أكثر من ذلك إنك تتوهم أن البلد ستتحسن أحواله كثيرا إذا نجحت في إبادة الصراصير.
غضبت ولا شك وأنا أتابعه ثم سألته بازدراء: أيهتمون حقا في بيت عابد ميري بتلك السخافات؟ - يا عزيزي، إنهم يحترمون بعض الذكريات المتعلقة بالصراصير. - كلا! - هو الحق، كانت لهم جدة تؤمن بأن الصراصير تحمل بعض أسرار الوجود.
فقلت ساخرا: إذن نحاول احترام الصراصير حبا في آل ميري.
ورحت أفكر - عقب انفرادي بنفسي - في طريق الزواج المعقد وهوس التحريات التي تسبقه، كأن الناس يطمحون إلى الظفر بالتوافق المنشود بين الزوجين كاملا غير منقوص، جاهزا بلا عناء التجربة، قبل خوض الحياة الزوجية، متناسين قدرة الإنسان الخارقة على التكيف من تحديات الواقع؛ فالإنسان الذي عاشر عصور الصيد والرعي، والزراعة والقحط والجليد، فتغلب على عناء المواجهة وحل التناقضات القاسية، وحقق ذاته على الوجه المقبول الذي قرر له البقاء في الحياة، ذلك الإنسان قادر - بلا شك - على التكيف مع عروسه الجديدة مهما يكن من تنافر ماضيه وماضيها. وفكرت أيضا فيما كان يؤخذ علي في الماضي من عدم الانتماء لحزب من الأحزاب، وما رميت به بسبب ذلك من تهم البلادة وقلة التربية الوطنية، وغلبة العبث، والتفاهة والأنانية، وكيف انقلب ذلك إلى نقطة قوة تزكيني في غمار التحريات التي تنهال علي منقبة عن المستور من خطاياي! •••
وجاءني صديقي الوسيط بعد ذلك بأسبوعين؛ فتفحصته بقلق وقلت: طبعا ما زالت التحريات جارية؟
Halaman tidak diketahui