تحولت الأنظار إلى الحقل الذي يغوص تحت مستوى الطريق بمتر، فرأينا زميلا يتوارى وراء عربة مقلوبة وهو يحتضن كائنا لم نره، ولكنا رأينا جانبا من فستانه هفا به الهواء فتحرك كالعلم. - أي جرأة! - سيجلب لنا متاعب جديدة.
وتطوع زميل للذهاب إليه لتحذيره، وسرت شهامة التطوع إلى آخرين فمضوا في أثره، وتطلعت الرءوس إلى العربة المقلوبة باهتمام وإشفاق وتوتر، وبحثت أعين عن القائد حتى عثرت عليه نائما على سريره السفري وراء عربة التموين، ورأينا الزملاء وهم يتحاورون عند العربة المقلوبة، ولكننا لم نسمع كلمة مما يدور فقال أحدنا: إنهم يقنعونه بالعودة.
فقال آخر ضاحكا: أو بالاشتراك معه!
وجرت الفتاة إلى مبنى من البوص غير بعيد؛ فاختفت داخله دقيقة، ثم ظهرت مرة أخرى في مدخله، وهي تتوسط عددا من الفتيات! وهرع الزملاء إلى مبنى البوص؛ فدب نشاط محموم فينا جميعا، وثبنا قائمين، وزحفنا نحو المبنى كجيش من المجانين، وكانت الشمس تصب على المبنى دفقات حامية من أشعتها فيكاد أن يشتعل ولم يبال أحد بالحر ولا بالجو الخانق، وفاح المكان برائحة عرق آدمي حريف، واضطربت أركانه بالصحة والعافية، وأنفاس الشباب الملتهبة، وشحنت بالعربدة المكتومة، والزفرات الضاحكة والأطوار المستهترة. وفي حمأة الطرب المشبوب تردد صوت ماجن بغناء، رقص مستهتر متهتك، واشتبك اثنان في معركة مازحة. وعدنا واحدا في أثر واحد، وارتمينا فوق الحصر مستسلمين لراحة عميقة، وما لبثت أن دوت الصفارة، وتتابعت دقات الطبول، قمنا ننفض عن أنفسنا الكسل، انتظمنا في الطابور، ولمحنا القائد متجهم الوجه فلم ندر إن كان تجهمه بسبب ذنبنا الأول أو أنه فطن أيضا لذنبنا الثاني، ولكنا كنا أبعد ما يكون عن الندم. وهمس صوت: نجونا بمعجزة.
فقال آخر: أو علينا أن نتوقع عقوبة مضاعفة.
وأخذنا في السير، بعزائم قوية مضينا، أسعفتنا روح التحدي والصبر، وقلنا لأنفسنا إنه مهما كان، ومهما يكن ومهما سيكون فليس أخلد من البهجة والمسرة والمرح، ولبثنا على تلك الحال ساعة ونصفا أو ساعتين، ورغما عن إرادتنا سلمنا بأن الشمس عنيفة، بل أعنف مما تصورنا، بل هي في الواقع لا تحتمل، وتصبب العرق حتى بلل ملابسنا، وضاعف من تذمرنا إحساسنا بعدم طهارته. الحق أن التعب بدأ يزحف على عضلاتنا وأعصابنا مبكرا بالقياس إلى الرحلات السابقة. وكلما تقدمنا اشتدت وطأته وعنفت ضرباته أما الحر فأصبح خانقا قاتلا، كلا لم نذق هذا الجحيم من قبل، ولم تخر قوانا كما خارت اليوم، وتراخت أوتار أصواتنا وهي تنشد الأناشيد، ولأول مرة نشعر بوزن الوقت، وهو يتمطى فوق مناكبنا، تغير كل شيء، حال لونه وفسد طعمه، ففتر حماسنا ثم خمد، حتى الأناشيد تبدت لنا رتيبة مكررة فاقدة المعنى والروح فخجلنا من ترديدها. وخيل لنا أننا موضع سخرية المارة والمنتظرين تحت مظلات الباص، ولم تقف مشاعرنا المدمرة عند حد فأوشكت أن تلتهم الرحلة نفسها التي بدت طويلة بلا نهاية، معذبة بلا رحمة، خالية من أي معنى أو عزاء، غير جديرة بالطقوس التي تحكمها، والنظام الذي يضبطها، والآمال المعقودة عليها، وقائدنا نفسه لاح قائدا بلا قيادة ولا جيش، مضحكا في غضبه، هزيلا في عنفه. ألحت علينا تلك الأفكار، وكلما اشتد إرهاقنا اشتدت إلحاحا وعنفا، ونفد صبر البعض فتوقف عن الإنشاد أو جعل يحرك شفتيه بلا صوت، وجن البعض الآخر فجازف بالخروج من الطابور مع علمه بما يعنيه ذلك من فصله من الفريق مجللا بالعار، منبوذا من الروح الرياضية، وهي فضيحة لم تغب عنا عواقبها، وآثارها البعيدة في نفس القائد والمشرفين هناك في المدرسة، ولكنها في الوقت نفسه ميزتنا بشيمة الصبر، وأملتنا في تخفيف العقوبة، وإن لم تغير شيئا من فتورنا وإرهاقنا وحال الخذلان التي ركبتنا، وتتابع السير والغناء. ولم يعد شيء يحتفظ بعنفوانه إلا دقات الطبول وصلابة قائدنا غير المبالية، وأقران يعدون على أصابع اليد مضوا بهامات مرفوعة وعضلات مشدودة يرددون الأناشيد بحماس وإيمان، حتى أثاروا الحنق والازدراء. وعندما لاحت لأعيننا الأهرام الشامخة كانت الشمس قد مالت نحو الغرب، فوهنت حدتها، ودبت في الجو نسمة جعلت تلاطفنا في استحياء، وأخذ الطريق في الارتفاع؛ فتضاعف إرهاقنا واشتدت آلامنا وتداعت أصواتنا. وبلغنا سطح الهضبة، وقد اختفت الشمس وتدثر الكون بغلالة داكنة هادئة رددت أنفاسا ضعيفة، كأنها أنفاس شيخوخة فانية، ودوى صوت الصفارة فتساقطنا من الإعياء، ونحن نتأوه بأصوات غير مبالية. خمنا أننا سنمكث تحت الهرم ساعة أو أكثر قبل أن نستأنف السير إلى معسكرنا الموغل في الصحراء، ولكن قائدنا المنتقم قال بصوت سمعه الجميع: لديكم ربع ساعة كاملة!
ذهلنا! تبادلنا النظر في صمت، ونحن نعلم أن الأوامر لا تناقش، ولم نضيع الوقت في التحسر العظيم، ولم يكن بد من التضحية بالراحة؛ فقمنا لابتياع ما يلزمنا في مقامنا الأخير، في حدود ما تسمح به اللوائح، ومدة الإقامة مجهولة لا يعلم بها إلا القائد، ولكنا آثرنا الأخذ بالأحوط، اشترينا ما نحتاجه من سجائر وصابون، وفاكهة وقوارير المياه الغازية. ضاع وقت الراحة في الشراء والمساومة وتنظيم السلع. وما فرغنا من ذلك حتى عادت الصفارة تدوي ودقات الطبول تدق بلا نهاية؛ فانتظمنا في الطابور الرهيب، يحمل كل منا سلة موز على يد وبطيخة على اليد الأخرى حاشيا جيوبه بالعلب والقوارير فضلا عن أدواته الأصلية، كالعصا والزمزمية والحقيبة. وواصلنا الرحلة من غير أن ننال قسطا من الراحة، بعضلات منهكة وأعصاب متوترة وأنفس غاضبة، وضاعف من متاعبنا مقاومة الرمال الغزيرة لأقدامنا، واختفاء معالم الدنيا في جوف الظلام الهابط، استحالت أصواتنا عواء محشرجا، وتقلصت عضلاتنا من حدة الآلام، فنسينا نسيانا تاما مسرات الرحلة كأنها لم تكن وتمنينا الموت، وداعبنا أمل أن يعدل القائد عن خطته، وأن يقنع بما أنزل بنا من عقاب صارم، فتسترد الرحلة بهجتها المأمولة، وأحلامها الضائعة، ولكنه واصل سيره بلا مبالاة، ولم يكتف بذلك فصاح بصوت كالرعد: حركة سريعة، ابتدئ!
لم نصدق بادئ الأمر آذاننا، ثم بهتنا من شدة المباغتة، الحركة السريعة ندعى إليها عادة في مطلع الرحلة وفي ضوء النهار، أما أن تفرض علينا قبيل النهاية فشيء خارق وغير إنساني يراد به القضاء علينا. وإلى ذلك فهي نوع من الوثبات المتلاحقة في صورة جري متقارب الخطو، يقتضي استخراج البطاريات من جيوبنا الخلفية؛ لتنير لنا الطريق خشية أن نتعثر في نقرة أو نرتطم بحجر، فكيف يتاح لنا ذلك مع حملنا الثقيل، وتعبنا الأليم؟! ولا فرصة للتمرد فليس أمام الهارب من الطابور في ذلك المكان إلا الضياع في الصحراء والظلام، فلا مفر من الانصياع والإذعان. ومضى القائد يثب، فاندفعت دقات الطبول في تلاحق سريع، وشرعنا في الحركة السريعة، جربنا أن نمارسها مع الاحتفاظ بأحمالنا، ومع استغناء عن البطاريات، ولكن بدا ذلك ضربا من المحال، لا مفر من التخلص من أحمالنا العزيزة، لا مفر، حتى لو تعرضنا للكآبة والقرف والحرمان، لا مفر. وتخلصنا من البطيخ والسلال، تركناها لقى في الصحراء للحشرات والهوام، وأخذنا نثب بسيقان متهافتة، وعزائم خائرة، وقلوب باكية. مضينا يلفنا الظلام على ضوء البطاريات المتحركة في أيدينا كأننا نجوم متداعية، تبعث بإشعاعها الأخير قبل اندثارها النهائي، وتذكرنا بحسرة ساخرة فرحة الاستيقاظ، وبهجة الأناشيد، ودعابة الطريق ونشوة الحقل ومتعة الشراء، تذكرنا ذلك كله بذهول، ونحن نتقدم شبه عرايا منهوكي القوى إلى معسكرنا الرابض في أعماق الخلاء. وتقدمنا كما قدر علينا؛ وحتى الأسف لم يعد يجدي، ولم نهتم كذلك ما إذا كان ينتظرنا عقاب جديد أم سيكتفي بما حل بنا. وتاقت أنفسنا للنوم باعتباره الشفاء الأخير لجميع الآلام ، وأخذت دقات الطبول تبطئ رويدا رويدا إيذانا بتغيير الحركة وتقارب المعسكر، وعدنا تدريجيا إلى سيرنا العادي، ومن شدة الجهد لم نجد حاجة لتبادل همسة واحدة؛ فغاص كل في وحدته، وما ندري إلا ونحن ندخل في الممر الطويل الضيق؛ فتفعم أنوفنا روائح الكلس وعطن البول ... وفي الفناء امتدت تكويناتنا الرباعية لتصنع طابورا واحدا، فوقفنا متصبرين لنتقي التقوض والانهيار، وصمت قائدنا مليا، ربما ليتم تعذيبه لنا، ثم قال بصوت هادئ مليء بالنذر: انتهت رحلتنا، وغدا يجمعنا الحساب، أما الآن فتناولوا عشاءكم ثم أخلدوا للنوم.
ولم يهمنا إلا النوم.
أجل، ليكن الآن نوم، وليكن في الغد حساب.
Halaman tidak diketahui