45
وبعد هذه الأمثلة التي يسوقها جابر، ينتهي بنا إلى المبدأ العام، وهو أنه: «ليس لأحد أن يدعي بحق أنه ليس في الغائب إلا مثل ما شاهد، أو في الماضي والمستقبل إلا مثل ما في الآن؛ إذ كان مقصرا جزئيا، متناهي المدة والإحساس؛ وكذلك لا ينبغي أن يستدل الإنسان على أن العالم لم يزل (= أزلي) من أنه لم يدرك أحد من الناس ابتداء كونه؛ ولا على أنه لم يكن رجل إلا عن امرأة ورجل؛ لأنه لم يدرك الأمر إلا كذلك، من قبل أنه يمكن أن يكون وجود الناس متأخرا عن ابتداء كون العالم، وأن يكون كون الإنسان الأول مخالفا لما عليه الأمر في تكوين سائر الناس ...»
46
وأحسب أن جابرا قد صور بهذه الفقرة السالفة حدود المنهج التجريبي أدق تصوير، فمن المشاهد لا يجوز الحكم على ما لم يشاهد إلا على سبيل الاحتمال، لا على سبيل اليقين؛ لكنه إذا لم يكن من الجائز القطع بوجود الغائب على أساس الحاضر المشاهد، فكذلك ليس من الجائز إنكار وجود الغائب ما دام هذا الغائب لم يقع في نطاق الخبرة والمشاهدة؛ وإلا لانحصر الإنسان في حدود حسه هو، أو في حدود ما تناهى إليه خبره؛ ولزمه أن ينكر وجود أشياء كثيرة وهي موجودة؛ ففي العالم بلدان وأمم لم يحس أهلها بالتمساح قط، إذا أخبرهم مخبر بأن ثمة حيوانا يحرك لحيته العليا عند المضغ، وجب عليهم أن ينكروا الخبر ما داموا لم يشهدوا حيوانا كهذا، كلا «فليس لأحد أن يدفع ويمنع وجود ما لم يشاهد مثله، بل إنما ينبغي له أن يتوقف عن ذلك حتى يشهد البرهان بوجوده أو عدمه.»
47
وأما أن يحكم الإنسان بعدم وجود شيء ما دام لم يرد عليه أو يخبر به، وأن يحكم ببطلان ما يخبر به ما دام لم يقع له في مشاهداته المباشرة، «فجهل بطريق الاستدلال - على ما قدرنا - واضح.»
48
إن الدهريين ليستندون في إنكارهم لخلق العالم إلى أن أحدا من الناس لم يشاهد قط عالما بدئ بتكوينه، حتى يجوز لنا القول بأن عالمنا هذا قد كان له بداية؛ لكننا - على أساس المنهج الاستدلالي الذي شرحناه - نسألهم بدورنا؛ أولا: لماذا لا يكون الإنسان قد خلق بعد خلق الكون بدهر طويل، بحيث لم يتح له أن يشهد البدء؟ وإذا سلمنا بذلك فهل يحق للإنسان أن يحكم بقدم وجود بدء للخلق ما دام مثل هذا البدء لم يقع في خبرته المباشرة؟ وثانيا: افرض أن هنالك مدينة أو قصرا لا يذكر أحد متى بنيت تلك المدينة أو متى بني ذلك القصر، أفنقول - إذن - إن المدينة أو القصر ليس لها أو له أول على غرار ما يقول الدهريون عن قدم العالم؟ فإذا قال الدهري إنه في حالة المدينة أو القصر لا يقول بالقدم، لأنه قد شاهد المدن والقصور تبنى ابتداء، فليس عليه من حرج أن يقيس على ما يرى، فردنا عليه هو: على أي أساس تحكم بأن ما يشبه ما قد رأيته يكون عندك صوابا مع أنك لم تشهده، وما ليس يشبه ما قد رأيته يكون عندك خطأ؟ إنك في كلتا الحالتين لم تشاهد هذا الذي حكمت عليه بحكم ما، ووجود شبيهه في خبرتك أو عدم وجوده - إن دل على احتمال - فهو لا يدل على صدق ضروري لازم واجب يقيني محتوم.
إن من حق جابر علينا أن نسجل له هنا بهذا الذي أوردناه عنه في موضوع الاستقراء، من أنه يؤدي إلى الحكم الاحتمالي فقط دون اليقين، سبقا لرجال المنهج العلمي في العصور الحديثة، الذين أوشكوا اليوم - منذ «ديفد هيوم» - أن يكونوا على إجماع في هذا؛ حتى لقد أصبح من أبرز الخصائص التي تميز العلم اليوم أنه احتمالي النتائج ما دام قائما على أسس استقرائية ؛ وإن رجال المنطق اليوم ليصطلحون على تسمية هذه المشكلة كلها ب «مشكلة الاستقراء»، ومؤداها: كيف نوفق بين أن يكون منهج العلم استقرائيا، وأن تكون قضاياه مقبولة الصدق؟ (7) المنهج الرياضي في البحث العلمي
إنه إذا كانت المشاهدة الاستقرائية وحدها غير مؤدية إلى يقين؛ وجب علينا أن نلتمس مصدرا آخر لليقين إذا أردناه؛ ومصدره - عند جابر - هو المبادئ العقلية التي تدرك بالعيان العقلي المباشر، ثم ترتب عليها النتائج المستنبطة منها؛ فأما المبادئ العقلية فلا برهان على صدقها لأنها مدركة إدراكا مباشرا، وأما النتائج فصدقها مضمون ما دام استنباطها من تلك المبادئ سليما.
Halaman tidak diketahui