41
كالمثل الذي أسلفناه لاستدلال المستدل بأن ليلتنا هذه ستنفرج عن يوم، هذا ما يقوله ابن حيان. ولا بد هنا من تنبيه القارئ بقوة إلى نقطتين وردتا في كلامه هذا، يقر بأنه من رجال المنهج العلمي في العصور الحديثة؛ أولاهما إشارته إلى ميل النفس البشرية التي توقع تكرار الحادثة التي حدثت، فكأنما الاستدلال الاستقرائي مبني على استعداد فطري في طبيعة الإنسان؛ وإنك لترى هذا المبدأ نفسه عند جون ستيوارت مل؛ والنقطة الثانية هي كون درجة احتمال التوقع تزداد كلما زاد تكرار الحدوث، وهي نظرية لها اليوم تفصيلات كثيرة ولا يتسع المقام هنا للإطناب في الشرح والتعليق.
ويضرب لنا جابر مثلا على استخدام الطريقة الاستقرائية السالف ذكرها - وهي الطريقة التي يوصل فيها إلى التعميم عن طريق اختبار عدد من الأمثلة الفردية المنتمية إلى النوع الذي نعمم الحكم على جميع أفراده - أقول إن جابرا يضرب لنا مثلا على استخدام هذه الطريقة في البحوث العلمية التي وقعت فعلا في تاريخ العلم، والمثل الذي يضربه هو جالينوس
42
فيقول عنه: إن جالينوس مع تمكنه من العلم، وتدربه في النظر، قد أخذ المقدمات التي بنى عليها علمه، من الأمثلة الفردية التي وقعت له في خبرته، ثم جعل هاتيك المقدمات بمثابة المبادئ الأولية العقلية التي يلزم قبولها؛ حتى إنه قال في كتابه البرهان: إن من المقدمات الأولية في العقل أنه إذا كان الصيف يتبعه الخريف لا محالة، فإنه لم يكن إلا بعد خروج الربيع، ويريد جالينوس بهذا أن يقول: إن تسلسل الأحداث كما يقع في المشاهدة حينا بعد حين، يصبح قانونا مطردا يمكن الحكم على أساسه، حكما لا يتقيد بزمان؛ وها هنا يستطرد جابر في الحديث موجها النقد إلى جالينوس على نحو يشهد لجابر بدقة علمية منهجية ليس بعدها دقة؛ إذ يقول: «وأنا أحسب أن هذه المقدمة (مقدمة أن الخريف إذا كان يعقب الصيف حتما، فما ذلك إلا لأن الصيف قد سبقه ربيع) ليست بصحيحة دون أن يصح أن الأزمان لم تزل ولا تزال على مثل ما هي عليه؛ فإذا لم يصح ذلك فإنه لا يؤمن أن يكون صيف لا يعقبه خريف ولم يتقدمه ربيع.»
43
ومراد جابر بهذا القول هو أن تعاقب الفصول في المشاهدة وحدها لا يضمن لنا سلامة الحكم العام بتعاقبها دائما، إلا إذا كان في رءوسنا فرض سابق مضمر، وهو أن الزمن أزلي لم تكن له بداية ولن تكون له نهاية، وهذا الفرض بطبيعة الحال ليس مستمدا من المشاهدة، وإنما هو أولي في العقل؛ وبغير هذا الفرض السابق، لا يجوز الحكم الحتمي اليقيني الضروري بأن هذا الصيف سيسبقه خريف؛ إذ قد يكون هذا الصيف هو آخر الزمان، كما أنه لا يجوز الحكم بأن صيفا ما في الماضي قد جاء حتما بعد ربيع؛ إذ ربما كان ذلك الصيف أول الزمان ولم يسبقه شيء.
وما يصدق على هذا المثل يصدق على أمثلة أخرى كثيرة، فهل يجوز منهجيا - مثلا - أن أحكم على عالم الأفلاك بأنه هكذا كان دائما، ما دمت أنا وآبائي وجميع القدماء لم يزالوا يرونه مطردا على هذه الصورة التي نراها، «فقد رصد المنجمون قبل ألوف السنين، فوجدوه على مثال واحد في أعظامه (= أبعاده وأحجامه) وحركاته.»
44
كلا، لا يجوز لنا ذلك إلا على سبيل الاحتمال المرجح لا على سبيل الضرورة واليقين؛ إذ من أدرانا ألا يكون هذا الكون مسبوقا بحالة تختلف عن الحالة المشاهدة، بل من أدرانا ألا يكون الكون مسبوقا بشيء على الإطلاق؟ وخذ مثلا آخر: هل يجوز لنا من الوجهة المنهجية أن نقول إنه ما دام الآدميون هم على الصورة التي نراها، فمحال على إنسان أن يجيء على غير هذه الصورة؟ كلا، فليس هذا الحكم في وسعنا ما دامت خبرتنا مقصورة على بعض العالم دون بعضه، وعلى فترة محدودة من الزمن دون بقية الزمن «فإنه قد يمكن أن يكون موجودات «مخالف» حكمها في أشياء حكم ما شهدنا وعلمنا؛ إذ كان التقصير عن إدراك جميع الموجودات لازما لكل واحد منا».
Halaman tidak diketahui