دفعني حب الاستطلاع لرؤية هذه الدكتورة التي تتحدث عن الأنوثة «فحديث كهذا كان يعني أيامنا، من سبع سنين يعني جريمة.» وجدتها تعمل طبيبة امتياز في القصر العيني. قابلتها فوجدت فتاة لطيفة مؤدبة لا تمت بصلة إلى الصورة التي تخيلتها عنها. ودار الحديث بينما هي منهمكة في تركيب أجهزة نقل الدم لحالة حروق ممتدة كانت قد دخلت العنبر توا. - سألتها أن توضح لي كطبيبة، المفهوم العلمي لكلمة الأنوثة، فقالت إنها لا تستطيع؛ لأن الأنوثة موهبة طبيعية من مواهب المرأة تولد معها ولا تكتسب. أما الأنوثة المكتسبة التي نراها في الشارع والسينمات فهي بالتعبير العلمي قلة أنوثة، وبالتعبير البلدي قلة حيا لا مؤاخذة. - طيب يا دكتورة، وما رأيك في الحب؟
استمعت لرأيها ربع ساعة، وحين انتهت قلت لها: زميلتي العزيزة، مع احترامي لكل آرائك العلمية فأنت لا تعرفين شيئا عن الحب. - لمن تقرئين؟ - ليوسف السباعي وإحسان عبد القدوس. - ألم تسمعي عن أطباء يكتبون؟ - أبدا. - غريبة؟ - أيوه افتكرت. الدكتور سعيد عبده؛ ده حتى امتحني في الصحة. - طيب، غيره، ألم تسمعي عن مصطفى محمود؟ - يعجبني شكله. - شفتيه شخصيا؟ - رأيته في الصور. - حظك نار، هل تحبين أغنية نار؟ - آه، البنات بيغنوها في البيت. - بنات مين وبيت إيه؟ - زميلاتي الدكتورات في بيت الامتياز. - كتير؟ - 22. - هل تعرفين مؤلف أغنية نار؟ - آه، اللي اسمه حسين ده. - حسين مين؟ حسين الفار؟ - أظن كده. - كيف تقضين وقتك؟ - أهو. أقرأ، أنام، أتفسح. - ما رأيك في أفلامنا؟ - زفت. - والأجنبية؟ - بعضها كويس. - وفاتن حمامة؟ - ما فيهاش مرح المصريات. - ورشدي أباظة؟ - بيكتب مقالات كويسة في المصور. - ده فكري. - أنا عارفه، أهو كله أباظة. - هل تقرئين الصحف؟ - أيوه. - كلها؟ - بعضها. - كل يوم؟ - مش كتير كده. - إيه رأيك فيها؟ - مش بطالة. - مين بيعجبك من الصحفيين؟ - كلهم. - زي مين؟ - حبيب جاماتي وسلامة موسى. - إنما سلامة موسى مات الله يرحمه. - مات صحيح يا خسارة! - ما رأيك في الزواج؟ - لازم يبقى فيه توافق وحب. - وافرضي فيه حب بس، ما ينفعشي؟ - ينفع. - وافرضي فيه توافق بس؟ - لا ما ينفعشي. - اشمعنى؟ - بيقولوا كلهم كده. - وانتي مالكيش رأي خالص؟ - أيوه. - إيه؟ - إن لازم يكون فيه حب وتوافق. - ما هي مشروعاتك للمستقبل وأحلامك؟ - حاجات كتير. - زي إيه؟ تكتشفي دواء للسرطان مثلا؟ - يوه ما افتكرش. - تاخدي دكتوراه؟ - وإيه فايدة إني آخدها؟ كفاية البكالوريوس. - امال عايزة إيه؟ - في الحقيقة كل أمنيتي أني ألاقي وظيفة في وزارة الصحة بعد الامتياز حتى ولو بخمستاشر جنيه، ويا ريت في حتة قريبة من بلدنا.
وفوجئت بها تتنهد في ارتياح وتقول، الحمد لله، بقى ثمانين.
وأفقت من مهمة سؤالها التي كانت تشغلني وتمنعني حتى عن الوعي بما تقوم هي به، فوجدتها كانت مشغولة طول الوقت بضغط المريضة التي نقلوها محروقة مصدومة منهمكة في قياسه ونقل أكبر كمية من الدماء والبلازما إلى جهازها الدموي لكي يرتفع الضغط وتنجو. الضغط أصبح 80، نجت المريضة إذن.
نظرت للدكتورة عفاف عبد الواحد برهة، وغفرت لها أنها لا تعرف مؤلف أغنية «نار يا حبيبي نار».
عشيق الليدي تشاترلي وقضية الجزائر
ذكرتني المقالات والتحقيقات والتعليقات التي كتبت في جرائدنا ومجلاتنا عن رواية عشيق الليدي تشاترلي بمشكلة. المشكلة هي موقفنا من الفكر والثقافة الأوروبية. إننا نلاحظ باستمرار أن معظم القضايا والمشاكل التي تثار في أوروبا وأمريكا نتلفت بعد قليل لنجد أنها أثيرت عندنا لا باعتبار أنها أخبار، ولكن باعتبارها قضايا يجب أن نحياها وننفعل بها وكأنها قضايانا ومشاكلنا، وهو اتجاه ليس موجودا فقط في مجال الثقافة، ولكنه واضح أيضا في الصناعة والهندسة والعمارة، وحتى في أدق العادات الاجتماعية والمودات. أكثر من هذا، صحافتنا نفسها - بأبوابها وتعليقاتها وكثير مما ينشر فيها - نجده مأخوذا نصا أو روحا عن جرائد الغرب ومجلاته، حتى بيوتنا نفسها وأثاثها وملابسنا. كل شيء ننقله نقل مسطرة عن أوروبا.
وأنا هنا لا أحاول أن أناقش مشكلة ضخمة كهذه في السطور القليلة. لن أحاول أن أقول كيف يمكن أن نحيي هندستنا المعمارية ونضع أثاثا يتلاءم مع جونا وبيئتنا ونحاول أن نجد لنا أرضا عربية نقف عليها في علومنا وفنوننا وصناعتنا، إني أحاول فقط أن أشير إلى المشكلة؛ إذ هي في الحقيقة مشكلة لا يمكن أن تحل إلا بوجود حركة فكرية ضخمة تدعو إلى أن نكون أنفسنا أولا ثم نتزود بالثقافة والحضارة من كل مكان، أما أن ننقل كل شيء عن الآخرين فهو طريق ممكن أن يجعلنا متحضرين، ولكنه سيسلبنا روحنا وأنفسنا وقدرتنا على أن نساهم نحن أيضا في الابتكار والاختراع وتحضير العالم.
ولا يقول قائل إننا يجب أن ننقل أولا ونقلد ثم بعد هذا نبحث عن أنفسنا؛ فالنقد والتقليد ما لم نقم بهما ونحن نعرف بالضبط ماذا نفعل وماذا نحتاج ومن نحن، ممكن أن يجعلنا نفقد القدرة على العثور على أنفسنا وتظل باستمرار مجرد حضارة مصطنعة تدور في فلك أوروبا وتتبعها. يجب أن نستعد لهذا الاستقلال «الروحي »، لا أقول نعادي الحضارة الأوربية أو نقاطعها وإنما فقط أطلب أن «نستقل» عنها نكف قليلا عن النقل والترداد ونبدأ نحاول انتزاع أفكارنا وقضايانا من مجتمعنا وواقعنا، وكمثال على هذه الأيام القليلة الماضية نفس الأيام التي كان الحديث فيه دائرا عن عشيق الليدي تشاترلي كانت توافق ذكرى حرب التحرير الجزائرية. ومع أن حرب التحرير الجزائرية مشكلة مشاكلنا إلا أننا للأسف نعرف عن ثورة كالحرب الأهلية الإسبانية أضعاف ما نعرفه عن حرب الجزائر؛ ذلك لأن كتاب أوروبا ومفكريها تحدثوا كثيرا في كتبهم وتاريخهم عن الحرب الإسبانية، ونحن نردد خلفهم هذا الحديث، مع أنه في نفس الوقت الذي حدثت فيه الحرب الأهلية في إسبانيا - تقريبا - كانت حرب إبادة غاشمة نذلة تحدث في مكان آخر من العالم، في أفريقيا، ويرتكبها الدوتشي وجيشه ضد الشعب الحبشي ويستعمل فيها أقذر الأسلحة والغازات السامة لأول مرة ولآخر مرة في تاريخ الحروب والإنسان، ولكن أحدا من مثقفي أوروبا لم يتطوع للقتال بجوار الشعب الحبشي، كلهم تطوعوا لنصرة الشعب الإسباني باعتباره شعبا أوروبيا ومشكلته مشكلة أوروبية، أما الشعب الحبشي فقد أحيلت قضيته إلى أضابير عصبة الأمم.
وقضية المجر كبرها الفكر الأوروبي وضخمها وجعل منها جريمة روسيا الكبرى، باعتبار أن روسيا الشيوعية اعتدت على الشعب المجري الأوروبي، أما حين تعتدي فرنسا الأوروبية على الشعب العربي الجزائري الأفريقي فالمسألة لا تعدو أن تكون سوء سياسة من ديجول، أو نزعة لاستعادة مجد فرنسا الغارب. إن الفكر الأوربي ضحك علينا وعلمنا ألا نكون متعصبين في نظرتنا بينما هو نفسه بطبيعته متعصب صارخ التعصب لأوروبا البيضاء. إن تعاون دول حلف الأطلنطي في حرب صليبية لمساعدة فرنسا في الجزائر لا يثير فكر أوروبا ولا ضميرها، بينما حصار برلين مثلا يقيم قيامة أفكارهم وضمائرهم. إن مشكلة قضية الجزائر أنها ليست مشكلة أوربية و«د. ه. لورنس» لم يؤلف رواية عنها ولا تطوع هيمنجواي ليحارب في صفوف ثوارها. كل ما حدث أن بعض كتاب فرنسا ومثقفيها اشمأزت ضمائرهم وراحوا يهاجمون حكومة ديجول باعتبار أنها ترتكب في حق فرنسا، وليس في حق الجزائر، جرائم كبرى حين تتصرف مع الشعب الجزائري بطريقة غير متحضرة؛ أي غير أوروبية. وقد يأبى البعض أن يصدق، ولكني أحس أننا نحن الآخرين نتناول قضية الجزائر من خلال نظارات سارتر وساجان، فلا نفعل أكثر من أن نكتب نؤيد الكتاب الفرنسيين في موقفهم من تأييد قضية الجزائر. تصوروا، نؤيد التأييد ناسين أن قضية الجزائر قضيتنا، حربنا الإسبانية والحبشية ومعركة حريتنا نحن، وإذا كانت حكوماتنا قد وقفت موقف التأييد فمفروض أن يكون موقفنا نحن كشعوب هو موقف الجنود، هو موقف الحلف الشعبي العربي من حلف الأطلنطي الصليبي. مفروض قبل أن يأتي المتطوعون الصينيون والروس ليقاتلوا بجوار الجنود العرب أن يأتي المتطوعون العرب ليقفوا بجوار إخوانهم العرب؛ فهي قضية العرب وأعداؤها أعداء العرب، والنصر فيها لا يمكن أن يأتي من هيئة أمم ولا من شرق أو غرب طالما نحن لا ننصر أنفسنا.
Halaman tidak diketahui