فإن أريد بالكرامات ما ذكره أبو إسحاق الإسفرايني فهو حق لا ريب فيها، ولا يخالف فيها إلا جاهل. أعني نفي الكرامة بهذا المعنى، فمن أنكرها بهذا المعنى قد فرط، كما أنَّ من ادعى إثبات الخوارق قد أفرط، والحق التوسط بين الطرفين، كما يقوله أبو إسحاق وغيره١.
وأما قولهم: "إنَّ كلَّ معجزة لنبي تصح أن تكون كرامةً لولي" فهذه دعوى لا دليل عليها، وقد نقل أقوامٌ عوامٌ كذباتٍ لقومٍ من الصالحين تجاوزوا حد الإعجاز٢ كما في حلية أبي نعيم أنَّه قال قائل لأبي يزيد البسطامي بلغني أنَّك تمر في الهواء. قال: وأي أعجوبة في هذا! الطير يأكل الميتة ويمر في الهواء، والمؤمن أشرف من طير"٣. انتهى.
ولا يقول هذا عارفٌ؛ فإنَّ الله تعالى جعل من آياته مرور الطير في جو السماء ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ٤ وقال: ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ﴾ ٥ ونحوها من الآيات، ولا يعاب الطير بأنَّه يأكل من الميتة، بل هي رزقه، ولم تحرم عليه كما أنَّها حرمت الزكاة على الغني وأحلت للفقير، والله سبحانه لما أسرى برسوله ﵌ لم يطر في السماء، بل أرسل إليه البراق ثم صعد إليها على المعراج٦. فما هذا
_________
١ بل الذي قاله أبو إسحاق ومن قبله المعتزلة ليس من التوسط في شيء بل هو جفاء وتفريط، وإنَّما التوسط حقًّا هو قول أهل السنة والجماعة الذين آمنوا بكرامات الأولياء بلا إفراط ولا تفريط، فتوسطوا في ذلك بين غلوّ المتصوفة وجفاء المعتزلة.
٢ في (ب) "وقد نقل أقوام عوام كذبات القوم، من أنَّ الصالحين تجاوزوا حد الإعجاز".
٣ حلية الأولياء (١٠/٣٥) .
٤ سورة النحل، الآية ٧٩.
٥ سورة النور، الاية ٤١.
٦ والحديث متفق عليه من حديث أنس ﵁، البخاري (٦/٣٠٢) ومسلم (١/١٤٥) .
1 / 65