وعاد الأفندي الآخر يهدئ من روع الشيخ محمد ويخفف عنه، ولكن الشيخ محمد كان ينتفض على كرسيه، ويده ترتعش، وقدماه تحفران الأرض، ويكاد الدم المحتقن يمزق وجهه ويطفر منه.
وفهمت أن القضية معروضة هذا اليوم أمام المحكمة في القاهرة، وأنهم ينتظرون تليفونا عن الحكم.
ولم يمض قليل حتى جاء الجرسون وهو يقول: الشيخ محمد بك، تليفون.
ونهض أحد الأفنديين، وغاب لحظة عاد بعدها وهو ساهم منكس الرأس، وهو يقول: - خسرنا القضية، وحكم لمصلحة الشيخ مصطفى.
وهنا رأيت منظرا ملأني كراهة ورحمة معا؛ فإن وجه الشيخ محمد احتقن، وغشيته زرقة، وجعل ينتفخ، ثم رفس ووقع على الأرض كأنه حيوان مذبوح، وانتفضت أنا وأنا أصرخ: ماء بارد، ماء بارد!
وجعلنا نصب الماء على وجهه، وفككنا أزراره، وأغرقناه بالماء البارد، وتركنا أحد الأفنديين إلى المدينة يبحث عن طبيب، وصرنا نهز الشيخ محمد، ونقعده، ثم نلقيه على ظهره، ثم نفعل العكس، ولكن بلا أية فائدة، فإن المسكين كان قد مات بالنقطة أو بالسكتة، لا ندري.
وجاء الطبيب، فصدق على موته، وحمل المسكين جثة جامدة، وعدت أنا إلى مائدتي، وجعلت أنظر إلى المائدة التي كان عليها هؤلاء الثلاثة، وأتأمل هذا الشيخ محمد، السمين، الدموي، الذي يملك خمس عمارات، قد باع حياته كلها من أجل عمارة لم تكن لتزيده أمانا في الدنيا، أو صحة في الجسم، أو حكمة في العقل، أو رفاهية في العيش.
وكان جسمي لا يزال ينتفض، وحاولت أن أشرب قليلا من الماء، ولكن يدي ارتعشت، فتركت الكوب وأنا أقول: - حرام عليك يا شيخ محمد، أيتمت أطفالك بطمعك وسوء عقلك، رحمة الله عليك! هذه الدنيا، هذه الدنيا!
الفصل الخامس عشر
إلى المعاش
Halaman tidak diketahui