خريف + ربيع
لقد امتاز بعبقرية الذهن، لا شك في ذلك، ولكنه لم يمتز بعبقرية الحياة. أجل، إن هناك فرقا بين عبقرية الذهن وعبقرية الحياة!
استيقظ الأستاذ ماجد حوالي الساعة الأولى من الصباح، وكان قد آوى إلى فراشه في الساعة الحادية عشرة بعد سهرة تحامل على نفسه فيها وهو متعب.
وأحس أن قلبه يدق دقات غير منتظمة، وأن في رأسه دوارا، وكانت زوجته غارقة في النوم على سرير آخر، ففكر في إيقاظها، ولكنه عاد وتساءل: وماذا يمكنها أن تصنع؟
وازداد الدق في ألم كما لو كان جرحا يضرب، ثم صار خفقانا والتهاثا، فترك نفسه على سريره وهو يقول: إذا كانت هذه هي النهاية فلتكن!
وبقي في قلق وعرق نحو ربع ساعة، عاد إليه بعد ذلك هدوء في النفس وصفاء في الذهن، فاعتدل بقدر ما يستطيع في فراشه وجعل يفكر.
وتقلبت زوجته على سريرها، وخشي أن تراه يقظا، فتناوم، ووضع ذراعه على رأسه، حتى اطمأن إلى أنها نائمة، وعاد إلى نفسه يبحث كأنه يحقق، ثم تنهد وهو يقول: - قد لا أنجو مرة أخرى من مثل هذه النوبة، وقد تفاجئني في الليلة التالية أو بعد عشر سنوات، هذا ما لا أعرف، ولكني أعرف أني حي الآن.
ثم انبسط أمامه فيلم حياته الماضية؛ إنه الآن في الخامسة والستين من عمره، وهي سن خطرة، قل من يتجاوزونها في مصر، وهم في أوربا يبلغونها وهم شبان بفضل العيشة الصحية التي يعيشونها: طعام بلا دسم، ورياضة يومية، ونزهة سنوية، وشباب يستأنف عاما بعد آخر بلا حياء كاذب.
وهو الآن أستاذ معروف في الجامعة وفي غيرها من المحافل الثقافية، وقد ألف كثيرا من الكتب العلمية والفلسفية، وعاش طيلة حياته الماضية وليس له هدف سوى احتواء المعارف وتمحيصها، ودراسة الإنسان والكون. وقد أحاط بالثقافة العالمية، حتى ليمكن أن يقول عن نفسه إنه أكثر الناس ثقافة في بلاده، وأنه ليس هناك ذهن بشري قد وجد من العناية أكثر مما وجد ذهنه؛ فإنه يتصور الكون ويعرف تاريخ الإنسان، ولقد درس من الموضوعات ما لا يخطر على أذهان المثقفين، أليس في مكتبه نحو عشرة كتب ضخمة عن النباتات؟ ثم ألم يشرع هو منذ ثلاث سنوات في دراسة الذرة؟
إنه لا شك عبقري الذهن!
Halaman tidak diketahui