الأشياء وأسبابها.
فإن تكن هذه الحوادث هي تاريخ الناس، فإن الناس أنفسهم تاريخ الحوادث.
ولا نطيل عليك باستقصاء القول في آرائهم وكتبهم في الإعجاز، فإن شيئًا من ذلك تفصيل يقع في موضعه مما تستقبل من هذا الكتاب؛ ولكنا نُنبهك إلى ما قسمناه لك من الرأي في هذا
الموضع، وما تكلفناه من الخُطة في هذا التأليف، فإنا لم نسقط عنك كل المؤنة، ولم نعطك إلى حد الكفاية التي تورِث الاستغناء، بل نهجنا لك سبيلًا إلى الفكر تتقدم أنت فيه، وأعنَّاك على جهة
في النظر تبلغ ما وراءها، وتركنا لك متنفسًا من الأمر تعرف أنت فيه نفسك، وجمعنا لك بالحرص والكد ما إن تدبرتهُ وأحسنتَ في اعتباره وأجريته على حقه من التثبت والتعرف، كان لك منْبهَة إلى
سائره، ومادة فيما يَجيشُ إليك من الخواطر التي لن تبرح يُنمي بعضها بعضًا.
ولسنا نزعم - حفظك الله - أن كتابنا هذا على ضعفه وقلة الحشد فيه قد أحاط بوجوه الإعجاز من كتاب الله، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنا لم ندع من ذلك لغيرنا ما يرفعه أو يضعهُ وما ينقصه أو يَتمّه، فإن من ادعى ذلك زعم باطلًا، وأكبر القولَ فيما زعم وبلغ
بنفسه لعَمري مبلغًا من السرَفِ لا قصدَ معه في التهمة له وسوءِ الظن به، ودعا إليه من النكير ما لا قِبلَ له برده أو بَسطِ العذر فيه، وكان خليقًا أن يكون قد جاء ببهتان يفتريه بين يديه، وأن يكون
ممن لا يَتحاشَؤن الكذب الصرف، ولا يضنون بكرامتهم على الألسنة.
فإن مكارهَ هذا البحث مما
لا يسعة طوق إنسان وإن أسرف على نفسه من القهرِ، ولا يَصلب عليه قلمُ كاتب وإن كان هذا القلم في يد الدهر، ولا بدَّ للباحث في أوله من فلتات الضجر، وإن اعتد، وفي أثنائه من سقطات العزم وإن اشتد، وفي آخره من العجز والانقطاع دون الحد.
على أنا مع ذلك استفرغنا الهمَّ، والتمسنا كل ملتمس، وبَرئنا إلى النفس من تبعة التقصير فيما يبلغ إليه الذرع أو تناله الحيلة، فنهضنا لذلك الأمر نَهضًا وسَبكنا فيه سبكًا مَحضًا، فإن قصرنا فضعف ساقه العجز إلينا، وإن قاربنا فذلك من فضل الله علينا.
وبعد فإنا نقول: إنه لا بد لمن ينظر في كتابنا من إطالة الفكر والتأمل.
فإن ذلك يحدث له روية، وتنشئ له الروية أسبابًا إلى الخواطر، وتفتح عليه الخواطر أبوابًا من النظر، ويهديه النظر
إلى الاستنباط والاستخراج، فإن وقع دون هذه الغاية فحظه من القراء حيث يقع، وإن بلغها فهناك مَداخل الحجج ومخارجها، وتصاريف الأدلة ومدارجها، ثم الإفضاءُ إلى مذاهب الحكمة على ما اشتهى، ثم الانتهاءُ حيث ترى كل حكيم انتهى.
1 / 22