أليس أن قلب الطفل يكاد ينسحق انسحاقا إذ تهب عليه من الجفاء النسمات الباردة الأولى في هذا العالم الزئبقي؟ ولكن ها إن حب والديه يظل لامعا في ألحاظهم كأنوار سماوية وأشعة إلهية.
حنين الطفل أطهر أنواع الحب وأبعدها غورا وأشملها طبيعة لأنه يحتضن العالم بأسره منسكبا على كل نظرة ودودة، ويهتز لسماع كل نغمة عذبة. هو بحر عميق زاخر لا قرار له، وهو ربيع كنوز لا تقدر وخيرات لا تحصى. وكل من اختبر الحب عرف أنه لا يقاس ولا يكال ولا يوزن ولا زيادة فيه ولا نقصان، وإن الذي يحب صادقا يحب بكلية قلبه وروحه وبمجموع قواه وأفكاره.
لكن وا حسرتاه! ما أقل ما يبقى من هذا الحب بعد الوصول إلى نصف رحلة الحياة! عندما يعلم الطفل أن في العالم «غرباء» ويفهم من هم أولئك الغرباء تنتهي أيام طفولته، فيختفي ينبوع الحب وتسحقه أقدام الأعوام والاختبار. ويوم يتلاشى لمعان العين الطاهرة فتحل محله خيالات التعب والريب ينظر الإنسان إلى أخيه نظرة الغريب إلى الغريب ويتحاشى الدنو منه في الشارع المزدحم. يمر غير مسلم خوفا أن لا ترد التحية فتتوجع روحه، لأن الإنسان ذاق مرارة الهجر من أصدقاء طالما بادلهم تحية الرءوس وابتسام الشفاه ولمس الأيدي. الريش البهي يتساقط عن جناحي النفس، وتجف وريقات الزهرة منها وتتمزق، ولا يبقى من منهل الحب سوى قطرات قلائل لإرواء غليل التائه في صحراء الحياة. تلك القطرات نظل ندعوها حبا، فأين هي من حب الطفل الفياض الجواد؟
ليس ذاك سوى حب مزج بالشك والغموم ونار الانفعال المضطرم. حب يفني ذاته بذاته كقطرات المطر على الرمال الحارة. حب يطلب دواما ولا يبذل يوما. حب يسأل «أتريد أن تكون لي؟» ولا يقول «يجب أن أكون لك.» حب يستغرق نفسه، ويذيب نفسه، ويلاشي نفسه، وهو معذب يائس. هذا هو الحب الذي تترنم بوصفه الشعراء ويتوق إليه الفتيان والفتيات. شعلة تلتهب ثم تنطفئ ولا تدفئ، وتذهب تاركة بعدها الدخان والرماد. نحن نزعم يوما أن هذه الأسهم النارية إنما هي آية الحب الدائم، ولكن كلما استعرت تلك النار وعظم لهيبها الموقوت قرب خبوها وحلكت ظلمة الليل الذي يتبعها.
وساعة يسود الأفق ويدلهم حول الواحد منا فيرى نفسه وحيدا شريدا بين السائرين يمنة ويسرة دون أن يعيروه التفافا، إذن تنهض عاطفة منسية وتتمشى في صدره ذهابا وإيابا، ولا يدري أهي عاطفة حب أو عاطفة صداقة، ويود أن يصرخ لكل من أولئك الغرباء «ألا تعرفني؟»
إذ ذاك يشعر بأن الغريب أدنى إلى الغريب من الأخ إلى أخيه ومن الأب إلى ابنه ومن الصديق إلى صديقه، ويدوي في طبقات ذاكرته صوت مجهول قائلا إن هؤلاء «الغرباء» أقرب أصدقائنا وأعزهم لدينا وأحبهم عندنا.
إذن لماذا نمر بهم صامتين ؟ ذاك سر لا يدرك وما علينا سوى الامتثال. عندما يمر قطاران وأنت في أحدهما وفي الآخر وجه يود أن يبتسم لك، حاول مد يدك لمصافحة الصديق المبتعد عنك قهرا. حاول ذلك وجربه لعلك تعلم لماذا يمر الإنسان بالإنسان صامتا.
قال فيلسوف قديم: رأيت بقايا سفينة أغرقتها العاصفة عائمة على صفحة البحر. يتلامس بعضها ويتلاقى إلى حين. ثم تهب الريح فتفرقها شرقا وغربا دون أمل في اللقاء. وذاك مصير بني الإنسان في بحر الحياة، ولكن ليس بينهم من شهد غرق السفينة.
الفصل الثالث
الذكرى الثالثة
Halaman tidak diketahui