ثم يقول: «واعلم أنه كلما ازدادت المشاهدة ازداد الحب؛ لأن الاشتياق يهيج باللقاء، ومن علامات المحب أنه يستقل الكثير من نفسه، ويستكثر القليل من محبوبه؛ لأن المحبوب غني، فقليله كثير، والمحب فقير فكثيره قليل، ومن نعته أيضا: أنه يعانق طاعة محبوبه ويجانب مخالفته، ومن علاماته الكبرى: أنه خارج عن نفسه بالكلية، وموافق لمحاب محبوبه، هائم القلب بهواه.
خيالك في عيني وذكرك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب؟»
ثم يقول: «ولقد بلغ بي قوة الخيال أن كان حبي يجسد لي محبوبي من خارج لعيني، كما كان يتجسد لرسول الله - صلوات الله عليه - فلا أقدر أنظر إليه، ويخاطبني وأصغي إليه، وأفهم عنه ولقد تركني أياما لا أستطيع طعاما، كلما قدمت لي المائدة يقول لي بلسان أسمعه بقلبي: أتأكل وأنت تشاهدني؟ فأمتنع عن الطعام ولا أجد جوعا، وأمتلئ حتى سمنت، فقام لي حبي مقام الغذاء، وكان أصحابي وأهل بيتي يتعجبون من سمني مع عدم الغذاء؛ فقد كنت أمضي الأيام الكثيرة لا أذوق طعاما، ولا أجد جوعا ولا عطشا، واعلم أنه لا يستغرق الحب المحب إلا إذا كان محبوبه الحق - تعالى، ومشاهدة المحبوب كالغذاء، وكلما ازداد مشاهدة ازداد حبا.
ولمقام المحبة، أربعة ألقاب: منها الحب، وعلامته: ألا يكون للمحب غرض ولا إرادة مع محبوبه. ثم الود، وهو من اسمه - تعالى: الودود، ومن علامته أن يتودد المحب للمحبوب دائما بما يرضيه ويحبه. والثالث: العشق وهو إفراط المحبة، ومنه قوله - تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله ، وقوله - تعالى:
قد شغفها حبا ، أي: صار حبها ليوسف على قلبها كالشغاف، وهي الجلدة الرقيقة التي تحتوي على القلب؛ فهي ظرف له محيط به. والرابع: الهوى: وهو استفراغ الإرادة في المحبوب والتعلق به.»
ثم يقول محيي الدين: «وألطف ما في الحب ما وجدته، وهو أن تجد عشقا مفرطا وهوى وشوقا مقلقا، وغراما وتحولا، وامتناع نوم، وعدم لذة بطعام، ثم ذهولا وذهابا وفناء، ثم تجليا وفيضا ولذة لا توصف.»
صفات المحبين
يقول ذو النون المصري: «إن لله عبادا ملأ قلوبهم من صفاء محبته، وأنار أرواحهم بالشوق إلى رؤيته، فسبحان من شوقهم إليه، وأدنى منه هممهم! سبحان موفقهم ومؤنس وحشتهم وطبيب أسقامهم! إلهي لك تواضعت أبدانهم، وإلى الزيادة منك انبسطت أيديهم؛ فأذقتهم من حلاوة الفهم عنك، ما طيبت به عيشهم، وأدمت به نعيمهم؛ ففتحت لهم أبواب سمواتك، وأبحت لقلوبهم الجولان في ملكوتك، بك ما نسيت محبة المحبين، وعليك معول شوق المشتاقين، وإليك حنت قلوب العارفين، وبك أنست قلوب الصادقين، وعليك عكفت رهبة الخائفين، وبك استجارت أفئدة المقصرين، قد يئست الراحة من فتورهم، وقل طمع الغفلة فيهم، لا يسكنون إلى محادثة الفكرة فيما لا يعنيهم، ولا يفترون عن التعب والسهر، ويناجون ربهم بألسنتهم، ويتضرعون إليه بمسكنتهم، يسألونه العفو عن زلاتهم، والصفح عما وقع من الخطأ في أعمالهم؛ فهم الذين ذابت قلوبهم بفكر الأحزان وخدموه خدمة الأبرار.»
Halaman tidak diketahui