وأي مرتبة تسمو إلى مرتبة الحب الإلهي؟! يخلو المحب إلى ربه في محاريبه، يسمر بطاعته ويضيء ليله بنور وجهه، ويقطع نهاره بجميل ذكره، ثم تأتي النشوة الكبرى، بالأنس والرضا.
قال الجنيد: «أشرف المجالس وأعلاها: الجلوس في الجلوة، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد.» ثم قال: «يا لها من مجالس ما أجلها! ومن شراب ما ألذه! طوبى لمن رزقه.»
يقول محيي الدين: «جرت مسألة المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلم فيها الشيوخ، وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا له: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق برأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله!»
ومحيي الدين يرى أن الحب سبب إيجاد العالم، ففي الحديث القدسي: «كنت كنزا لم أعرف، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، وتعرفت إليهم فبي عرفوني.» فأخبر أن الحب كان سبب خلق العالم، فالعالم بالحب خلق وبالحب يعيش، وقد خلقنا لنعبد الله:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ؛ وهذا هو سر الحياة.
وما في الموجودات عند محيي الدين إلا محب ومحبوب؛ حتى السالب والموجب وهما قوام الوجود، حتى ذرات الطبيعة، إنما يمسكها الحب أن تزول أو تحول، ولولا تعشق النفس للجسم ما تم وجودهما، ولولا حب المعاني للكلمات ما امتزجا ولا عرفا.
فالعالم بأسره إنما يتنفس بالحب ويعيش له وبه، والكون كله يتحرك بحب موجده ومبدعه؛ ولكن صور الحب خداعة، اتخذت ألوانها البراقة حجبا ومظهرا لحقيقة مضمرة، فما تنفس الحب في قلب إنسان على الحقيقة لغير خالقه؛ ولكنه احتجب بحجب الصور الدنيوية بحسب المشاكلة. احتجب في الجنس بصور زينب وهند وليلى، وفي الشهوات بحب الدرهم والدينار والجاه، وكل مرغوب محبوب من شهوات الحياة،
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة .
وللحب سببان: الجمال وهو في علاه لله، والإحسان وما ثم إحسان إلا منه، فإن أحببت للإحسان، فما أحببت في الحقيقة إلا الله فإنه المحسن، وإن أحببت للجمال، فما أحببت إلا الله؛ فإنه الجميل نور السموات والأرض.
ومحيي الدين يرى أن الحب ليس دعوى يلفظها اللسان ويتصورها الخيال، بل للحب آيات وشهود وشروط؛ فيطلب إلى المحب أن يمسك سمعه فلا يستمع إلا لكلام محبوبه، ويغض بصره عن كل منظور سوى وجه محبوبه، ويخرس لسانه عن كل كلام إلا عن ذكر محبوبه، ويرمي على خزانة خياله، فلا يتخيل سوى صورة محبوبه، فبه يسمع ويبصر ويتكلم. وفي الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.» وإذا أحب الله العبد، أوحى إلى الملك أن ينادي في السموات: إن الله يحب فلانا، فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، فتقبله البواطن وإن أنكرته الظواهر.
Halaman tidak diketahui