ولهذا أضاف الله صفة أخرى فقال (الذي باركنا حوله) فالبركة منشورة على كل بقعة فيه وعلى ما حوله ولقد وصفها الله في آيات أخرى بقوله عن إبراهيم (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71 ويقول عن سبأ :(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)سبأ 18 ويقول عن سليمان وهو كان في القدس (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء 81 إذن فهي أرض ، وسماها الله مسجدا فقال (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وعليه فالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة ، وهي التي حرمها الله ،
وبعد تعالوا إلى آية أخرى هي قولة تعالى : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) الفتح 27 وقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 فهل المسجد الحرام هنا يعني المبنى الذي للطواف أم البلد والأرض الحرام كاملة لا شك أن المراد به مكة الأرض المحرمة المحددة المعروفة الطول والعرض ، وهكذا فإن المسجد الحرام هو البلد الحرام هو البيت الحرام هو الكعبة الحرام. فالرسول لم يرد دخول المسجد فقط الذي فيه يتعبد ، ولكن أراد الأرض والبلد الذي هو حرام ، وله حد محدد ، معروف من الأبد. إذا أردتم المزيد من الأدلة ، فاسمعوا هذه الآية :(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) التوبة 7 والمراد بهذا العهد هو ما عقده النبي مع بعض القبائل القاطنة على حدود الأرض الحرام ، ويقول الله عن الحديبية التي تم فيها الصلح مع قريش (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) الفتح 24 فسمى الحديبية بطن مكة ، أي أنها على حدود البلد الحرام. ثم أن هناك آية تؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو البلد أو الأرض المسكونة ضمن المنطقة الحرام ، يقول الله في سورة البقرة عن من حج متمتعا بالعمرة إلى الحج (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فهل الأهل يسكنون في المسجد المصلى أم في البلد الذي جعله الله للناس حراما. وقبلها يقول الله للمؤمنين (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) البقرة191 فهل القتال يكون عند الأرض التي تسكن فيها ، أم عند المسجد الذي يصلى فيه؟ إن المراد الأرض المسكونة. إذن فالمراد بالمسجد الحرام الأرض التي هي محرمة أو البلد الحرام . ثم تعالوا إلى سورة الحج .. يقول الله :(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ثم يصفه بقوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) ثم يقول (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25 فهل العاكف والباد من الناس يسكن في المسجد المصلى ، أم في البلد الذي يسع الجميع ويكون للناس سواء؟ إن الوصف يؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة المسماة بالبيت الحرام ، الذي هو (أول بيت وضع للناس) وهو (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) فالمسجد الحرام هو البيت الحرام. ثم تعالوا أخيرا إلى سورة الأنفال :(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) الأنفال34 ، لا شك أن المراد هنا هو البلد الحرام بأكمله لا مجرد المسجد الصغير بداخله. وهكذا نصل إلى النهاية في هذا الموضوع عسى أن يكون مقبولا عندكم باقتناع.
(مقام إبراهيم)
إن الناس يظنون كما قال المفسرون أن مقام إبراهيم هو المكان الذي يقع على يمين المبنى الذي بناه إبراهيم أو رفع قواعده. ولأن الناس يظنون هذا الظن فإنهم يزدحمون فيه عند الطواف ويشكلون أزمة تجعل الطواف عسيرا وهو سهل يسير. يا إخواني إن المراد بقوله تعالى (مقام إبراهيم) ليس إلا المنطقة كاملة فهي مقام ووطن لإبراهيم فيها أقام ، وفيها سكن ، بعضا من الزمن ، ولقد أشار الله إلى هذا بقوله حاكيا عن إبراهيم : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) إبراهيم 37 هذا يدل أن المسكن هو الوادي الواقع ضمن البيت الحرام ، إذن فالمنطقة كلها هي السكن وهي المقام ، ولقد علل إبراهيم إسكان بعض ذريته هنا في هذا الوادي الغير ذي زرع ، علل هذا الإسكان بقوله (ليقيموا الصلاة) فالإقامة ليست لمجرد العيش والعمران ، وليست لمجرد السعي والبحث عن المتاع ، كلا . بل المراد هو الطاعة لله واتباع هداه وتطهر البيت من الشرك والضلال ، ومن الظلم والإلحاد ، وإذا أقام الناس على هذا الطريق الجاد ، فإن الله يكفل لهم المعاش والزاد ، ولهذا جاء دعاء إبراهيم عقب التعليل فقال : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهكذا أجاب الله دعاء إبراهيم وجعل البلد آمنا لكل باد ومقيم ،وجعله حرما آمنا ، وعلى هذا الأساس الذي علل به إبراهيم إسكان ذريته وهو إقامة الصلاة والطاعة والشكر لله ، جاءت آية البقرة ، جاءت الآية تؤكد هذه المعاني بشكل واضح البيان فاقرءوا بإمعان (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) إنه نفس ما دعا به إبراهيم ، فها هو البيت الحرام ، والبلد الحرام ، قد أصبح مثابة للناس ، فيتوبون إليه ، ويتعلمون منه ، ويقتدون بسلكه ومنسكه ، ثم هو مع المثابة آمن ، فمن دخله شكر وأقام الصلاة وهو في أمن لا يزول ، وسكون لا يتزلزل ، وسلوك جميل لا يتحول. إن كلمة (أمنا) في قوله (مثابة للناس وأمنا) تفصح بأن المنطقة كلها قد تجسد فيها الأمن وتجذر ، وتوارث الناس هذا السلوك فيه ، فهو بتغير حتى أصبح البلد كأنه هو الأمن بذاته ، وكأن كل ذرة فيه وكل شبر يشع بالأمن وكل شجرة وعشبة تثمر أمنا وكل نسائمه واحواشه تهب أمنا ، وفي هذا الحال والجو الجميل والأمن الأصيل والسكن الظليل لا بد أن يكون للناس فيه سلك جليل ، يليق بهذه الصفات التي لا تحول ، وعليه جاء الأمر المعجول.
وقبل أن تكمل الايات السياق وقبل أن يصل الوصف للبيت إلى نهاية المطاف انقطع السياق وانطلق الأثر بأجمل انطلاق ليؤكد أن الحال يستحق هذا أشد استحقاق فقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي اتخذوا من هذا البيت أي من هذا البلد أي من هذه المنطقة الحرام ، كما عرفنا ذلك من سياق الكلام ، اتخذوا من هذا البيت الذي هو مقام إبراهيم مصلى ، أي مقاما للعبادة والشكر والطاعة والذكر والتوحيد لله الواحد بلا شرك ولا زور. نعم هذا هو المراد ، إنه يعني أن تكون المنطقة كلها مصلى ، لكل الناس الذين جعل الله لهم البيت مثابة وأمنا ، أليس إبراهيم قد أسكن أهله هناك ليقيموا الصلاة ، إذن فهو القدوة ومثله فلنقم الصلاة ، ولنتخذ مقامه الواسع الكامل مصلى على الدوام تماما كما كان إبراهيم الإمام ، وإذن فليس المراد بمقام إبراهيم هو ذلك الموقع الذي نزدحم فيه بلا جدوى ، بل المراد به كل المنطقة الحرام التي أقام فيها إبراهيم واتخذها مصلى له ولذريته ، ولمن تبعه وبه اقتدى ،
ولهذا عاد السياق من جديد في الآية ليواصل البيان فيوضح لنا أن المقام مقام طاعة وإذعان وتوحيد وإيمان وطهر وتقوى وإحسان فجاء بعد الأمر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فالعهد هذا يؤكد أن المقام هو البيت بكله وبكامله المعروف الحدود (للطائفين والعاكفين والركع السجود) فهو مقام واسع الأرجاء يشمل المنطقة الحرام بلا مراء وليس ذلك المقام المعهود للملأ . ثم إني أسألكم سؤالا لو سلمنا أن المراد بمقام إبراهيم هو ذلك المكان الذي يقابل الحجر الأسود وأن إبراهيم كما قيل كان يقوم فيه ليبني المبنى الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه كان يضع الأحجار على المدماك ويرفعه ، وابنه إسماعيل يمكنه الأحجار ويناوله ، إذا سلمنا بهذا فكم كان طول ذراع إبراهيم وكم كان طول قامته حتى يتمكن من البناء وهو على هذا البعد من المبنى ؟؟ إن هذا ينفي الظنون ويؤكد أن المقام المدعى وهم موروث ، لا يعتمد على اليقين ، قد يقال أن عمر بن الخطاب أزاح مقام إبراهيم من جوار مبنى الحجر الأسود عدة أمتار ، وإلا فالأصل أنه كان قريبا من الجدار بحيث يمكن العمار من وضع الأحجار ، وإذا صح هذا فلماذا أزاحه عمر وهو يعلم أن هذا المقام شعيرة لا تغير ، وأثر لا تحول عما يؤثر ، إن إزاحته تؤكد أن الموضع ليس مقام إبراهيم وإنما هو شعيرة توارثها الناس غابرا عن غابر ، حتى أصبحت من الشعائر ، قد يقال أن النبي صلى هناك حينما اعتمر وتلى الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لكن الحديث ليس متواتر السند بل هو أحادي ، والأحادي معروف أن عمله ظني ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الصلاة في محاذاة الحجر الأسود ، فكان المكان هو هذا المقام المدعى ، ثم أنه قد أراد بتلاوة الآية : أن مكة كلها تصلح مصلى ما دامت مقام إبراهيم المقتدى الذي اتخذها كلها له ولذريته مقاما لإقامة الصلاة فالنبي محمد به اقتدى لا لتحديد الصلاة في ذاك المكان ولكن ليذكر بإبراهيم الإمام ، وليؤكد أنه على ملته أتم الالتزام ، وبعد فهل نستطيع أن نبني على هذا ، إن مقام إبراهيم هو البلد الحرام كله وهو البيت الحرام بأكمله؟؟
لعلنا قد اتضح لنا أن هذا هو المراد وإذا أردتم المزيد من البرهان فها هو إبراهيم يأتي بالبيان في الآيات التي تلي فاقرءوا بإمعان: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 إن البلد هنا هو البيت وهو المقام ها هو إبراهيم يشير إلى المقام ويقول رب اجعل هذا بلدا آمنا ويدعو لأهله بالرزق ويشترط الإيمان بالله واليوم الآخر فهل يمكن أن للمقام الصغير أهل وهم يسكنون فيه ويأكلون وهل يمكن أن ترد الثمرات إلى ذلك المقام الصغير المضنون كلا بل الذي يسكنه أهل وتأتيه ثمرات إنما مكان واسع الأرجاء ، في البلاد يتسع للمقيم والباد وله حدود من دخلها كان في حرم آمن من كل ظلم وإلحاد ومن كل باغ وعاد ، وعلى هذا فإن المقام هو هذا الذي أراده إبراهيم ملاذا . فكان الله معه مجيبا وجعل البيت مثابة وأمنا وجعل المقام مصلى طاهرا وجعل البلد آمنا موفور الأرزاق والأثمار تجيء إليه من كل الأقطار رزقا من لدن الله الغفار .
والآن أكتفي بهذا المقال حول المقام وأرجو أن القارئ قد اقتنع بالبرهان وبالكلام وإني لأدعو لي وله أن يكون إبراهيم لنا هو الإمام وأن تكون ملته لنا هي الملة فهي الإسلام .الحج أشهر معلومات- الجزء الأول ¶ أزف إلى علماء الإسلام ، وإلى علماء مكة الأعلام ، هذا الخبر الهام ، الحج أربع مرات في العام .. واليهم أوجه هذا البحث القرآني. ¶ أخي القارئ أينما أنت في البحر والبر ، لا تسخر قبل أن تتدبر ، لا تستكبر قبل أن تتفكر ، حاول أن تقرأ أولا ، ثم أنظر متحليا متأملا ثم قل ما يحلو لك عن المقال ، فأنت مدعو معنا بصوت عال ، أنت مدعو للتفكر ، فإذا فكرت فقدر ، ثم أنظر ثم قرر ، واحذرثم احذر أن تكون كمن قال الله عنه (إنه فكر وقدر ?18? فقتل كيف قدر ?19? ثم قتل كيف قدر ?20? ثم نظر ?21? ثم عبس وبسر ?22? ثم أدبر واستكبر ?23?) المدثر 18-23 ¶ ألا إن القرآن يسير للمدكر ، واضح البيان للمتفكر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17 ولقد قال الله فيه (الحج أشهر معلومات) وإنها لواضحة البيان وناصعة البينات ، إذا حسنت لدينا النيات ، إنها لحل واضح البيان ، يفتح للناس أبواب من الإحسان ، وتوسع للحج الزمان ، فإن بإمكان الناس أن يكون حجهم أربعة أشهر ، أي أن يكون الحج أربعة مواسم في العام ، أي في كل من الأشهر الحرام يفتح للناس الحج ويقام ، والأشهر الحرم رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم . هذه هي الأربعة الشهر الحرم ، التي أجمع عليها أهل العلم ، ¶ نعم (الحج أشهر معلومات) هكذا قال الله ببيان عربي مبين ، وهل القرآن ينطق بغير العربية الفصحى (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) يوسف 2 . وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن لا نتهم القرآن بالقصور ، بل نحاول أن نفهم الآيات بلا إنحراف ولا تقصير ، الله يقول (الحج أشهر معلومات) فيجمع الأشهر جمع قلة ويصفها بأنها معلومات ، ¶ كيف يقول مفسر أو أكثر أن المراد بالأشهر شهر ونصف أو شهر وعشرين يوما ، إن هذا كلام وتفسير لا يليق بحق الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، والذي بين في الكتاب كلما يهم الإنسان من الأحكام. إذا فالآية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن (الحج أشهر معلومات). يعني أن لكم أيها الناس أن تجعلوا للحج أربعة مواسم ، (رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم وهي الأشهر الحرم) ، فيكون الحج فيهن مفتوحا للناس ، ومسموحا للطائعين والعالمين والركع والسجود من الناس أجمعين بل للعالمين ، إن الله وسع الزمان في الحج وحدد المكان فعرفات محدود ، ومتى محدود ، والحرم بأكمله محدود . لكن الزمان مفتوح في هذه الأشهر الأربعة ، ومسموح فيها بلا حرج ولا تشديد. إن العلماء الذي قالوا أن المراد بالأشهر بعض ذي الحجة ومحرم ، أو بعض ذي الحجه وذي القعدة لم يفهموا أن القرآن منزل للعالمين ، للناس جميعا إلى يوم الدين ، فأخذوا الآية بمأخذ العصر الذي هم فيه ولم يدركوا أن وسائل المواصلات ستجعل الإنسان يصل إلى مكه من أقصى الأرض في يوم واحد ، وأنها ستستقبل من الحجاج الملايين في أسبوع واحد. ¶ لكننا الآن وصلنا إلى هذه الحقيقة ، وأصبح الحج ممكنا للناس أجمعين وأصبح من الممكن أن يصل ملايين الناس إلى مكة في يوم واحد ، من كل فج عميق ، وعليه فإن مواجهة هذا الكم من الحجيج يتم بالعمل بالآية ، وينحل الإشكال وينكشف بالتطبيق للآية العددية ، بل تنفتح بها مجالات الحج لكل قادر بلا تحديد عدد لكل دولة ، فالناس مدعوون للحج من كل جنس ووطن ، ومن كل لون ودين ، فكيف يتم هذا ونحن محددون للحج بشهر واحد . ¶ إن الحج كما يقول الله (أشهر معلومات) إنها الأربع الأشهر الحرم ، فكلها تصلح موسما للحج ، بدليل أنه سماها معلومات ، فلماذا سماها معلومات مع أنه قال في شهر الصيام (أياما معدودات)؟؟ إن هناك لا شك فرقا بين التعبيرين فالمعدود يعني أنه يحتاج إلى أن يعلم ، ولهذا سماه الله وقال : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) البقرة 185 . وإذا كان الله قد حدد شهر الصوم وسماه فذلك لنعرف عدد الأيام التي نصومها ، فكيف لم يحدد أشهر الحج ويقول مثلا :شهر ذي الحجة الذي تقام فيه المناسك ، لكنه عدل عن هذا وقال (أشهر معلومات) ومن المعروف بأنها الأربعة الحرم (فمن فرض فيهن الحج) وتأملوا الآية (فمن فرض فيهن الحج) إن الضمير في كلمة (فيهن) يؤكد أن المراد عودته إلى الأربعة الأشهر المعلومات ، فهن يصلحن جميعا لفرض ونية الحج ، فمن فرض منكم يأيها الناس فيهن أو في أحدهن الحج يكن مقبولا عند الله الذي يخاطبكم بلسان عربي مبين . ¶ قد تقولون وكيف يكون الحج في هذه الأشهر الأربعة؟؟ ومتى يكون العيد؟؟ وكيف يكون النحر والناس قد تعودوا على موسم واحد ويوم للنحر واحد وعيد واحد؟؟ هو في ذي الحجة أي في العشر الأولى منه. نقول تلك عادة إعتادها الناس ، لأن النبي حج في هذا الشهر فاتخذ عادة ، ولم يدرك الناس أن الزمان سيتغير ويدور حتى يصبح من الواضح لهم أن للناس أن يحجوا في الأربعة الأشهر المعلومات. ¶ قد تقولون .. أسلمنا بأن الحج أربعة أشهر فكيف نحدد الوقوف بعرفة ويوم النحر ؟؟ نقول أن التحديد وارد كما حدد في ذي الحجة ، فليكن يوم الوقوف هو اليوم التاسع من كل هذه الشهور ، وليكن يوم النحر هو اليوم العاشر من كل هذه الشهور ، تماما كما هو في شهر ذي الحجة الآن ، ولتأكيد هذا المعنى ولإبراز هذه المهمة التي تهتم بتحديد يوم الوقوف ويوم النحر نقرأ :جاء في سورة البقرة عقب آيات الصيام قول الله سبحانه وتعالى : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) تأملوا ...يسألونك عن الأهلة أي عن سبب نقص القمر وتقديره منازل في النقص والإكتمال ، فقال الله مجيبا أن الحكمة هي أنه (مواقيت للناس) في كل شيء وفي كل مهمات وأمور الحياه ، وكان هذا يكفي لكنه خصص بعد التعميم فقال بعد ذلك (والحج) ليدل على الأهمية ، وإلا فلماذا تأتي كلمة (والحج) إذن فالأهلة هي الدليل العملي لتحديد أول يوم من الشهور الأربعة ليعرف بذلك اليوم التاسع واليوم العاشر ويتحدد برقم . ¶ ثم أن موقع هذه الآية (يسألونك عن الأهلة) ومجيئها عقب آيات الصيام تدعونا للتأمل ، فالصيام جدير بأن يعرف أول أيام شهره ، فلماذا لم يذكر الصيام وذكر بدلا عنه الحج ، إن هذا إشعار لنا بأن الصيام يمكن تحديده بالهلال أو بإكمال العدة ، لأنه شهر واحد وأيامه معدوده ، كما وصفها الله ، ولم يقل كما قال في الحج معلومات ، فكان الحج هو الأهم بالذكر في آية الأهله ، لأنه لا بد أن يحدد أول كل شهر من شهوره بدقه ليعرف اليوم التاسع والعاشر بدقة ، ¶ فالأشهر أربعة لابد أن يكون لها علامات تدل على بدايتها وإمارات واضحة الدلالة وتلك هي الأهله . إن كل شهر من الأربعة لا بد أن يرقب المسلمون هلاله ليعرفوا ببدايته موعد وقوفهم ونحرهم وأيام حجهم ، وعليه فإن يوم تاسع رجب هو يوم عرفه ، ويوم تاسع القعده هو يوم عرفه ، ويوم تاسع الحجة هو يوم عرفه ، ويوم تاسع محرم هو يوم عرفه . ¶ كما أن يوم عاشر هذه الشهور إنما هو يوم النحر ، وما يليها هي أيام التشريق ، تماما كما هي في شهر ذو الحجة الذي إعتدنا عليه .وبعد هذا التقرير الذي أرجوا أنكم قد فهمتموه ، ألفت انتباهكم هنا إلى شيء هام ، هو قوله تعالى في آيات الحج وهو يعلمنا المناسك ويتحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) البقرة 203 لماذا سماها معدودات ولم يقل معلومات؟؟ لأنها فعلا معدودة فهي ثلاثة أيام وهي أيام التشريق ، لكنه وصف أشهر الحج بأنها معلومات لأنها مسماه معلومه مشهورة ، بل موصوفه بأنها الأشهر الحرم ، فهي معلومه لكل الناس ، للمسلم والكافر ، والبادي والحاضر ، والمقيم والمسافر ، والأول والآخر ، بلا لبس ولا اختلاف ، ¶ ولهذا كان الكفار يحتالون على حرمتها بالنسيء ، الذي وصفه الله بأنه زيادة في الكفر وبأنه ضلال مضر ، ثم أنه وعلى ضوء فهم الفرق بين معلوم ومعدود ألفت إنتباهكم إلى شيء هام آخر ، هو قوله تعالى في سورة الحج : (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ?27? ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) الحج 27/28 نعم إنها أيام معلومات ، معلومات بكونها تبدأ من يوم معلوم وتنتهي في يوم معلوم فهي أيام معلومة في الأشهر المعلومة ، تلك هي التاسع والعاشر وما يليها من أيام التشريق ، فهي معلومات في أشهرها المعلومات . ¶ ثم تعالوا معي إلى دليل ثالث ، يؤكد أن الحج يصح في الأشهر الأربعة وهو قولة تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة 36 إن هذا يؤكد أن هذه الأشهر ازلية أبدية ، معلومة للملائكة وللأفلاك ولكل المخلوقات ، التي سبقت الإنسان ، ولا تزال معه مدى الزمان . ¶ إنها مشهورة في السموات والأرض ، ومعروفة لمن وما بينهما من الخلق المدركين لما حولهم ، الموجودين قبل الناس ، فما بال الناس يظلمون أنفسهم فيهن ، وينسون حرمتها وجلالها ، ويجهلون معلوميتها.إن شهرتها وحرمتها وعددها معروفة عند كل خلق الله ، بل وقبل ذلك (عند الله) وهو الله أكبر من كل شيء ، وهو الله خالق كل شيء ، وهو الذي إختار لنا الدين القيم ، فكبروه ، واجعلوا الأشهر الحرم موسما لحجكم ، لتنالوا القرب عند ربكم ، وتزيحوا الظلم عن أنفسكم ، ثم (واعلموا أن الله مع المتقين) . ¶ ثم تعالوا معي إلى سورة الفجر ، فإن شعاع الفجر هناك يكشف لنا سرا عن الحج ، وتشير لأيامه ولياليه بأسلوب بديع لنقرأ السورة من البداية : (والفجر) الكلمة جائت معرفة بالألف واللام (والفجر) ثم ماذا لنقرأ : (وليال عشر) إنها بدون ألف ولام ، إنها بدون تعريف كالأولى قبلها ، إنها بدون حرفي التعريف ( أل ) ثم إنها منكره (ليال) منكرة وصفتها (عشر) منكرة ، فالتنكير شمل الصفة والموصوف (وليال عشر) لماذا هذا؟؟ ... إنتظروا حتى نكمل المشوار ثم لنقرأ ما بعدها :(والشفع ) (والوتر) إنها مثل الأولى كلمة (والفجر) محلاة بأداة التعريف أي معرفة بالألف واللام ، ثم نأتي إلى الأخيرة وهي (والليل إذا يسر) الليل معرف كذلك بالألف واللام ، فلماذا.. لماذا هذا الأسلوب ؟؟ ¶ لماذا تعرفت الكلمة الأولى والأخيرات ، وتعرت الثانية عن التعريف ؟؟ إسألوا أنفسكم لماذا عرفت الكلمات المقسم بها كلها إلا كلمتي (وليال عشر)؟؟ لماذا عرفت التي قبلها والتي بعدها بالألف واللام؟؟ وهي لم تعرف مع أن الأسلوب الأمثل أن تعرف جميعا وهذا هو المناسب لقواعد البيان؟؟ لكن التنكير هو البيان ، فتنكيرها يعني أنها فعلا ليال عشر متكررة مع الشهور، وليست معهودة في شهر واحد ، فهي تتكرر في رجب وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي محرم ، وهي التي نعرفها بالأهلة التي هي مواقيت للناس والحج ، وما أشهر الحج إلا كل الأشهر الحرم الأربعة المعلومه عند الله وعند خلقة منذ خلق السموات والأرض ، ثم لنسأل أنفسنا من جديد ، لماذا لم يقل والليالي العشر ، بل قال وليال عشر؟؟ إن هذا لكي يخرجها من التخصيص لان الأشهر أربعة ، وليدلنا ويبين لنا أنها ليالي متكرره مع كل شهر حرام وهي موسم الحج العام. ¶ وبعد ،،، هذه مجرد إشارات ، أصفها أمام المهتمين بشئون الحج في السعودية وسواها ، وأمام المسلمين في كل مكان من الأرض ، ولكل من عاصرنا فيها أو يأتي بعدنا عليها ، إن هذه قضية ستجعل الحج عاما للناس ميسورا ، وتجعل الزمن أمام الناس مفتوحا ، لا تضييق فيه ولا تقسير ، ولا تحديد للعدد ولا تقطير. إن الله قد حدد للحج المكان وعين حدود كل الشعائر والمواقع ، فعرفات له حدود ، ومنى ومزدلفه كذلك ، بل أن الحرم كله محدود بحدود ، ولكنه فتح للناس الزمن ووسع فيه ، لتظهر آيات الله ، فيكون الحج مفتوحا في الأشهر الأربعة ، فمن فرض فيهن الحج فمكانه محدود ، وسلوكه محدود (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). ¶ إن الزمان متعدد والمكان محدود ليقبل الناس على الحج بعدد أكبر وليتعلموا القبول بالآخر ، وليحسنوا في التعامل مع من حضر (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).وبذلك يكون لهم عند الله العليم السميع ، مقام رفيع ، (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) ولكي نعمل الخير فلا بد من التزود بشيء هام ، وهو قوله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) . أي لكي تحجوا وبعمل مقبول ، فإن زادكم هو التقوى ، وإنها فعلا خير زاد ، وكيفلا والله يقول في ختام الآية (واتقون يا أولي الألباب) وأولوا الألباب هم الذي يعرفون الله ويقدرونه حق قدرة ويعلمون أن الله يقول :(إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27 ¶ ثم إذا جئنا إلى آية التوبة المذكورة سابقا وهي (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) التوبة 36 ستجد أنه قد جاء بعدها مباشرة قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 نعم لو جئنا على هذه الآية والتي قبلها ، وفهمنا مرادها ، وتدبرنا مرماها لمسنا وجلا من الله وخوفا على غفلتنا وإغفالنا هذه الأشهر الحرم فلم تعد لدينا أشهر حرم ، ولم نعد نحرم فيها ما حرم الله ، إننا في حالة نسيء ، وإذا كان الجاهليون يحلونه عاما ويحرمونه عاما فإن النسيء عندنا أصبح دائما ، ولا ندري أننا قد نسينا أنفسنا ، وزين لنا عملنا ، وأضحينا بعيدين عما يريد ربنا ، وعن فهم آياته البينات. وليت شعري ما الذي دهانا ، ومن الذي زين لنا سوء عملنا ، إنه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، واتخاذنا الدين لهوا ولعبا وذلك شأن الكافرين ، الذين يقول الله عنهم وهم في جهنم يتمنون شيئا من ماء الجنة (إن الله حرمهما على الكافرين ?50?) من هم (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) ثم ماذا بعد (وما كانوا بآياتنا يجحدون ?51?) الأعراف 50/51 وهذا هو بيت القصيد ، فإننا بالآيات نجحد ، وفي الدين نلهو ونلعب ، وللدنيا نسعى ونتعب ، وهذا هو الذي يسوق إلى نار ذات لهب فاستيقظوا أيها النائمون على الشهوات ، قبل أن يوقظكم الموت وتدبروا آيات ربكم ، واقبلوا عليها قبل أن تدبروا عن الدنيا وتساقوا للقاء ربكم وتحاسبوا عليها ، وتقولوا (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام 27 ¶ قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ... لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة . ¶ وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة). ¶ ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا . ¶ ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.وها نحن نواصل البحث في آيات الحج وكلماته بما يزيدنا إستنارة . ¶ تذييل وبيان لمفردات الحج والمكان ¶ كلمة البيت ¶ هل المراد به تلك العمارة الصغيرة المربعة وسط المباني المستحدثة المحيطة بها؟؟ هذا ما يفهمه الناس ، وهذا ما شاع بين المفسرين ، ولكن هل هذا فهم صحيح يتفق مع القرآن المبين؟؟ تعالوا معي نتبين الآيات ولا بد أن نصل إلى معنى آخر يخالف فهم الأولين . البيت في اللغة أولا هو المكان الذي يؤمن للإنسان البيات في أمان ، والسكن باطمئنان ، فهو مأخوذ من البيات أي السكون ليلا فأطلق على كل مكان يؤمن الليل للإنسان بيتا ، فهو مصدر بات يبيت يقال بات يبيت بياتا ، ولهذا جاء قولة تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون) الأعراف 97 . ثم أطلق البيت بشكل موسع على كل مكان يضمن للإنسان الأمان والسلام في الأرض ولو في الليل أو النهار ولهذا قال الله لقوم صالح (وتنحتون الجبال بيوتا) الأعراف 74 (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) الشعراء 149 (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل 80 ، ومع هذا التحول في معنى البيت فقد تحول إلى معنى أوسع هو المنطقة أو المدينة أو القرية التي يسكنها الإنسان ولهذا قال الله عن النحل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68 ، وليس المراد هنا إلا أن تتخذ الجبال والشجر بيوتا ومن ما يعمله لها الناس من المزارع والمواقع الواسعة ، إذن فليس المراد بالبيت هنا هو مكان الخلية الصغير للنحل ولكن مكان الإنطلاق والأمان والسلوك في الأماكن بإطمئنان . فالجبال الشامخة وما حولها قد تتخذها وتختارها لها بيوتا آمنه وقد تختار الأشجار والغابات الملتفة بيوتا تكون فيها منطلقة وكامنة وسالكة وآمنة . ¶ وعلى هذا الأساس يقول الله لرسوله محمد وهو يخرج إلى بدر (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الأنفال 5 ، فالمراد بالبيت هنا هو المدينة بأكملها لأنها أهله وأحبابه وأنصاره وأصحابه ولهذا قال له في آية أخرى عند خروجه إلى أحد (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121، وهكذا أطلق البيت على الأهل ثم المدينة بأكملها لأنها محببة إليه كأهله ومأمنه كبيته وإذا كان هذا في شأن النبي وحده وفي شأن النحل وحدها فكيف يكون فهمنا لمعنى البيت الذي هو للناس أجمعين. إنه لا بد أن يكون معناه مكانا كبيرا واسع الأبعاد ، له حدود معروفه متباعدة ، وعلى هذا الأساس نفهم أن البيت حين يطلق في الآيات المتعلقة بمكة لا يعني إلا المنطقة الحرام كلها ولا يعني إلا كل المواقع التي تقام فيها المناسك وتؤدى ، ¶ فالبيت يطلق على ما يقع داخل حدود مواقيت الإحرام المعروفة للشامي واليماني والعراقي وسواها والمحددة في كتب الفقه فالبيت هو مكة وما حولها من المناطق الحرام ومن مشاعر الحج والإحرام .هكذا يجب أن نفهم البيت وهكذا يجب أن يكون معلوما لذوي الأفهام . فهو لا يعني البناية والحجرة الصغيرة التي تتوسط المباني المعدة للصلاة (المسماة بالحرم) ولا يعني أيضا المباني المستحدثة المحيطة لأنها تستحدث وتتوسع في كل زمان فلو أطلقنا البيت عليها لكان المعنى أن من هدم جدارا ووسع فكأنما هدم البيت الحرام ، وهذا غير صحيح ولصار المعنى أن من صلى قبل التوسع في المباني الحالية لم يصل في البيت الحرام وهذا غير صحيح ، إن البيت الحرام هو كل المنطقة الحرام وكل المشاعر الحرام المحددة المعالم منذ أقدم الأيام ومنذ آلاف الأعوام . ¶ قد تسألون عن الدليل على ما أقول ،، وأنا أسألكم أولا :هل أنت أيها الحاج تنحر الهدي في المبنى الصغير المسمى الكعبة أو تحمله إليه؟؟ كلا إنما تنحره في منى وتحمله وتنحره هناك وإذا كان الأمر كذلك فاسمع ما يقول الله "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 33 ، أين هو البيت العتيق هل هو الكعبة الصغيرة إذن فقد سمى الله محل النحر وهو منى البيت العتيق ، يعني أنه من البيت العتيق.فللحاج أن ينتفع بالهدي ما دام سائر إلى مكة ثم إذا نحره فلا ينحره إلا في المحل المحدد للإحلال وهو منى والذي هو كائن بشكل جزء من (البيت) فإذا نحرت فيه فقد نحرت في البيت.. وبعد فهل في هذا بيان أم تريدون المزيد من البيان .ها أنذا أتلو عليكم قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37، فقل لي هل يريد إبراهيم بالإسكان لبعض ذريته عند البيت هذا المبنى الذي نراه الآن ؟؟ إذا كان يريد ذلك فلما قال (بواد غير ذي زرع) إذن فالإسكان كان في مكة كاملة التي هي محرمة ، بحدود معلمه ، وهي البيت المحرم الذي أراده إبراهيم. قد تقولون ألم يقل (عند بيتك) فمعنى هذا أن الإسكان كان عند أو قرب هذا المكان الصغير الذي نراه يتوسط العمران .ولكن كلمة عند لا تعني القرب ولكنها تعني الظرفية أي في بيتك المحرم لكنه استعمل كلمة عند ليؤكد اختلاطه بالمكان المحرم كله والتزامه به وحصر إقامته عليه (بواد غير ذي زرع) ولذلك فهو يسأل الله أن يرزق ذريته من الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ثم يعلل الإقامة بأنها ليقيموا الصلاة والصلاة هي الطاعة والالتزام بحرمة المقام. فلا يعتدون ولا يصطادون ولا يفسدون ولا يطلمون .ولا يريدون إلحادا لظلم ولا يتجاوزون ما هو محرم بل يتقون ويشكرون المنعم ويتطهرون ويطهرون الحرم وهكذا عهد الله إليه بما يدل على أن المراد بالبيت هو الحرم كله (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125، فهل المراد بالبيت هو المكان الصغير؟ أم المنطقة الحرام كلها إلى أطراف حدودها؟ إن الثاني هو المراد بلا شك والدليل عليه قوله للطائفين وهم الذي يطوفون عند الوصول إلى مكة والعاكفين وهم الذي يقفون في عرفات والركع والسجود وهما الذين يذكرون الله في منى أيام التشريق. وعلى هذا الأساس فإن علينا أن نفهم قول الله تعالى في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحج 26 بأن المعنى : عرفنا لإبراهيم مكان البيت أو حددنا لإبراهيم مكان البيت لأن بوأ تعني أسكن لقوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) لكن حرف الجر "وهو اللام" في آية الحج (بوأنا لإبراهيم) ضمن الفعل معنى جديدا مضافا إلى معناه الأصلي ذلك المعنى الجديد هو(عرفنا أو حددنا) على أن الفعل قد يكون بمعنى مكناه إذا جاء بعده حرف الجر (في) مثل قوله تعالى لقوم صالح (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) الأعراف 74. أي مكنه في الأرض وعليه فإن آية الحج تعني (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي عرفناه حدود هذا البيت بحيث يكون ما بين هذه الحدود هو البيت الحرام ولهذا جاء بعدها : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26 ولا يمكن أن يكون المراد بالبيت هو المبنى الصغير لأن الطائفين والعاكفين والركع والسجود هم الذي يقودون مناسك الطواف والوقوف بعرفات والإقامة للصلاة والذكر والنحر في منى وهذه هي المشاعر الحرام ، أو هذه هي مكونات البيت الحرام . ¶ وإذا تأكد هذا الفهم فإننا ندرك معنى آية البقرة التي يقول الله فيها : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125. فالمراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة لأنها هي المثابة وهي الأمن كاملة ، لا مجرد المبنى الصغير المربع المعروف ، وهو البناء الذي يتوسط المقامة حوله للصلاة والطواف.وإذا كنت يا أخي في ريب من هذا الفهم فاقرأ قوله تعالى بعده بقليل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125 فهي تعني أن الأب وابنه قد عهد الله إليهما أن يطهرا المنطقة كاملة من كل ظلم وإلحاد ، إلا أنه استبدل بكلمة القائمين كلمة العاكفين وكلاهما تعني الواقفين بعرفات وإذا لم يكن كذلك فهو يعني والعاكفين والمقيمين في هذا البلد الأمين. ثم اقرأ بعد ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 ، فلقد أطلق كلمة (بلد) على البيت ، وهذا يدل على ما قلناه من أن المراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة وإذا لم يكن كذلك فكيف يكون له أهل ولهم رزق وثمرات؟ هل يمكن أن يسكن الناس في المبنى الصغير (المكعب) وهل هم أهله وسكانه؟؟ ثم استمر معي في القراءة لنجد قوله تعالى في آية تدل على أن كلمة البيت أطلقت على المنطقة قبل رفع قواعد المبنى الصغير .. تلك الآية هي قوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 ، نعم إن إبراهيم بعد أن بوأ الله له مكان البيت وحدوده وعرفه بداية المنطقة الحرام ونهايتها من كل الجوانب . بدأ إبراهيم في بناء مركز يكون هو بعلم الله مركز الدائرة للبيت الحرام وللأرض كلها كما سيتضح ذلك فيما بعد. ¶ فالمركز هذا أو مركز الدائرة هو الذي رفع إبراهيم قواعده لكنه ليس البيت ولكنه جزء من البيت ولهذا قال (القواعد من البيت) فأتى بحرف الجر (من) ولو كان هذا المبنى هو البيت لقال (قواعد البيت) بدون حرف من . وبعد فهل اقتنعت يا أخي أن المراد بالبيت في آيات القرآن الخاصة بمكة والحج هو المنطقة الحرام كاملة؟؟ لعلك قد اقتنعت أو قريب من الاقتناع وعلى هذا الأساس من الفهم لمعنى الكلمة أدعوك إلى الآية الهامة التي وردت في سورة آل عمران وهي قوله تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران 96 ¶ نعم إن أول بيت وضع للناس هو هذا الذي ببكة مباتا ومأمنا ومثابة وقياما .ولهذا قال وضع والوضع لا يعني إلا البسط والتمهيد والمد والتسخير ولهذا قال في سورة الرحمن (والأرض وضعها للأنام) 10. أي بسطها ومهد، إذن فالمنطقة التي بمكة هي أول بيت وضع للناس. ¶ وهنا آخذك لمعنى جديد وهام وفهم جميل يدل على السلام؛ ذلك أن كلمة أول بيت تدل على أنه قد لحقه بيوت وبيوت للناس وقد تبعته مواقع ومناطق للسكن والاستئناس، هذا ما تدل عليه كلمة (أول) فما هي البيوت التي تلته؟ إن هذا يجرنا إلى أن نفهم أن المعنى أن مكة أو بالأصح بكه هي أول منطقة أرضيه صلحت للإنسان ليسكن ويستقر بعد أن كانت الأرض مغمورة بالمياه والمحيطات المتأججة الحرارة لكن مكة أو بالأصح بكه هي أول بقعة في الأرض جفت وانحسر عنها الماء المضطرب الأمواج بشكل هائج .فأصبحت هذه المنطقة آمنة من الهياج وبيتا صالحا للإنسان القادم إلى الأرض خليفة بعد أن لم يكن له ذكر قبل ذلك من الأزمان.وللتدليل على هذا المعنى جاءت كلمة بكه ولم تأت كلمة مكه ، والبك هو المص والشفط والتجفيف فهي منطقة انبك عنها الماء وجف وأصبحت صالحة للإنسان المستخلف فهي أول بيت وضع ولا بد أن تليه بيوت وتوسع وهكذا استمر البك في مواقع أخرى وتوالى الانحسار المائي حتى أصبح للإنسان بيوتا ومواقع وقطع في الأرض صالحة للحياة والسكن وفيها له مأمن ومأوى من الماء الهائج الغامر لما تبقى ، وهكذا بقيت المحيطات والبحار الصغرى تحيط بالأرض الجافة الصالحة المرتفعة عن سطح الماء لتصلح للسكن ولتستمد من البحار الرطوبة والرخاء والبخار الذي يجعل الجو ناعما سلسلا طريا ، الهواء منعشا للحياة والأحياء ، وهكذا يتضح لنا أن مكة أو بكه هي أول أرض وضعت للإنسان بإذن الرحمن، وتلتها العديد من الأوطان ، لتصلح لنمو الناس وتكاثر السكان وعليه فلا غرو ولا غرابة أن يجعل الله في بكة هذه آية للناس ، ذلك هو هذا البيت الحرام الذي يستحق أن يحج إليه الناس بشكل عام وأن يجعلوه هو المثابة لهم والقيام وأن يكون أنموذجا للأمن والسلام ، ليصبح أنموذجه معمما في كل الأوطان ، فتكون بيوتا آمنة للخاص والعام ، على مدى الأيام. ولهذا كان البيت الأول أو أول بيت موصوفا بأنه (مباركا) ، (وهدى للعالمين)، وأن يوصف بأنه (فيه آيات بينات)، ثم أن يلزم الله الناس أن يجعلوه أبدا ، متسما بسمة هامة ، وعلامة عامة ، هي : (ومن دخله كان آمنا) ولأنه هكذا فهو (مقام إبراهيم) وما هو إبراهيم؟ إنه الإنسان الذي جعله ربه العلام ، للناس الإمام ، على مدى الأجيال والأعوام ، إلى يوم القيام .ولأن هذا البيت الأول المبارك ، والهدي الأمثل، له هذا الصفات التي لا تماثل ، فإن لله على الناس واجبا به تنصل هو قوله : (ولله على الناس حج البيت) فهل كلهم مدعو لهذا الحج بلا عذر كلا بل أن فضل الله تضاعف فقال (من استطاع إليه سبيلا) فمن استطاع فقد وجب عليه الحج ، وليس له أي عذر أو حجج ، فإذا تخلف فقد استغنى ، وعن فضل الله خرج ، ولهذا قال الله ببيان أبلج (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) نعم إنه إنما يدعونا لفضله وعطائه ولنتعلم بالحج من هداه ولننال من بركاته وآياته ما يرضاه ، فإذا أبينا ذلك الفضل المبين ، فإنما حرمنا أنفسنا وكنا لها ظالمين ، وكفرنا بالله ذي القوة المتين ، واعتمدنا على المتاع التافه المهين .أما الله فهو الذي لا يزيد في ملكه العظيم كل العباد العابدين ، ولا ينقصه كفر الكافرين (فإن الله غني عن العالمين) أليس هذا هو البيان التام الذي يدلنا على أن البيت هو المنطقة الحرام وليس هو المبنى الصغير الذي لقواعده إبراهيم رفع وأقام بل أنه جزء من البيت ومركز الدائرة الهام . ¶ ثم هل أزيدكم تأكيدا على أن البيت هو المنطقة الحرام؟!اقرءوا معي من سورة قريش قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت) 3 ، ثم قوله تعالى في سورة النمل ملقنا رسوله محمدا أن يقول : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) 91 ، إذن فالبيت الذي في سورة قريش وفي سورة النمل هو البلد كاملا ورب ذلك وهذا هو الله الذي حرمها وله كل شيء والذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم لنقرأ معا سورة التين :(والتين والزيتون ?1? وطور سينين ?2? وهذا البلد الأمين ?3?) 1-3 فالبلد الأمين هو البيت الأمين ، وهو الذي من دخله كان آمنا ، ثم لنقرأ سورة البلد : (لا أقسم بهذا البلد ?1? وأنت حل بهذا البلد ?2?) 1,2 فهل كان النبي حالا في البيت الذي يتعهدون أم في البلد الحرام الذي هو البيت الحرام ، أي الذي هو المنطقة الحرام . وهو الذي يقول الله عنه في سورة القصص (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) هكذا قال أهل مكة مدعين أنهم حماة أنفسهم لكن الله يجيب (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) القصص 57 فهل الثمرات تجنى إلى البيت بمعنى المبنى المحدد والمعروف؟ كلا . ولكن إلى البلد كلها وأهلها. ثم قال الله في سورة العنكبوت :(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) 67. فالحرم الآمن هو البيت الآمن ، وهو المنطقة الحرام كلها فمن دخلها من أي اتجاه ومن أي زاوية ومن أي مكان كان آمنا ، ولهذا كان سوق عكاظ مكانا آمنا ، فمن دخله كان آمنا ولم يتعرض لأذى . ¶ والآن وقد عرفنا أن هذا هو أول بيت وضع للناس بالمعنى الذي شرحناه أفليس من المتوقع أن يكون - بل من اليقين أن يكون (فيه آيات بينات) ولا بد أن تتضح للناس على السنوات لاسيما للباحثين في هذه الآيات والمسلحين بعلم الجيولوجيا وعلم ما في الأرض من طبقات. ولعلي بهذا أكتفي لأختم قولي بأن من المناسب جدا أن يسمى البيت العتيق ، أو أن يوصف بأنه (البيت العتيق) كما جاء مرتين في سورة الحج (ثم محلها إلى البيت العتيق) (وليطوفوا بالبيت العتيق) فهو العتيق أي القديم الأصيل ، الأول على سواه كما وصفه الله الجليل (إن أول بيت وضع ¶ (الكعبة) ¶ وبعد هذا أدعوكم الآن إلى كلمة أخرى هي (الكعبة) فلقد وردت في القرآن. فهل هي تعني هذا المبنى الذي رفع قواعده إبراهيم؟ وهل هي إذا وردت تطلق عليه؟ أم لها معنى آخر تدل عليه؟؟ لعلكم ستفاجئون إذا قلت لكم أن كلمة (الكعبة) لا تعني هذا المبنى الصغير أو المبنى الذي أقامه إبراهيم بل تعني شيئا آخرا. فما هو؟ انتظر الجواب يا أخي القارئ وتأمل الكلام تأمل أولى الألباب ، وأنا لا أسألك أن تستقبل كلامي بالترحاب ، حتى تتأكد من صحة القول وسلامة الأدلة وسأوردها من القرآن الذي هو علم الله . ¶ لقد وردت الكعبة مرتين في القرآن ، أي في آيتين فقط وفي سورة المائدة فقط ، هي أولا قوله تعالى :(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، أما الثانية فهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) المائدة 95 . ¶ إن المفسرين يقولون أن البيت الحرام في الآية الأولى رقم (97) هي عطف بيان للكعبة ، أو هي بدل على جهة المدح لا على جهة التوضيح ، لكن هذا التأويل غير مقنع لأن البيان أو البدل لا يأتي للمدح إلا قليلا أو نادرا ، لكن الواقع هو أن الكعبة هي نفسها البيت الحرام بمعناه العام الذي فهمناه فالبيت الحرام بدل أو عطف بيان للبيان لا للمدح ، فالأسلوب هنا يريد أن يقول لنا أن الكعبة اسم للبيت الحرام الذي يعني كل المنطقة الحرام ، بما يعني أن هذا البيت الحرام موصوف بأنه الكعبة. إذن فالكلام مبني على إشعارنا بمعنى جديد وحقيقة جديدة هي أن الكعبة قد بينت بأنها البيت الحرام ، فكلمة البيت الحرام عطف بيان أو بدل ، وهذا هو الفهم الأمثل ، ¶ وإذا اردنا الدليل فإن الآية الثانية التي وردت فيها كلمة الكعبة تقدم الدليل الذي لا ينكر بل يدعم ما نقوله بشكل واضح وأمثل فاقرءوا معي الآية 95 لتتضح لكم القضية يقول الله مخاطبا المؤمنين : (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إن الله يوجب على من قتل الصيد وهو حرم أن يكون جزاؤه حيوانا مقوما مثل الصيد المقتول ويكون من الأنعام يحكم به ذوا عدل من الناس أولى الأفهام ، فإذا تحدد هذا الجزاء فإنه سياق ينحر في مكان النحر المحدد وبالغا إليه بلا تردد ، ولهذا يقول موضحا هذا (هديا بالغ الكعبة) هذا هو الجزاء لمن صاد وهو حرم. وهنا أسأل هل الهدي الذي ينحر يساق إلى غير منى؟؟ فلماذا قال الله (هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة أو المبنى الصغير بالمعنى الذي تفهمونه من التفاسير؟ هل هذه الكعبة بهذا المعنى هي محل النحر للهدي؟؟ كلا. بل محل نحر الهدي هو منى ، كما هو معروف لنا ولمن قبلنا ، أليس هذا الواقع الذي يعرفه الناس على المدى؟ فلماذا قال (هديا بالغ الكعبة)؟؟ ¶ إذن فإن (الكعبة) هي اسم آخر للبيت الحرام وهي اسم أراده الله ليدلنا على أن معاني هذا البيت متنوعة وأسمائه وسماته متعددة ، كما أن آياته غير محدودة ، فهو البيت الحرام وهو الكعبة ، بل وله أسماء أخرى وأوصاف أخرى تدل على الاهتمام ، سيتضح لكم ذلك فيما سيأتي من الكلام. أكتفي هنا بشأن (الكعبة) ، بهذا الدليل الواضح البيان لكل ذي عقل وجنان ، وممن تدبر القرآن بإمعان.. ¶ قد يسأل سائل إذا كانت كلمة (الكعبة) لا تعني المبنى الصغير الذي رفعه إبراهيم وأنها تعني كل المنطقة الحرام ، فلماذا تسمى هذه المنطقة كلها (الكعبة) ؟ إنه سؤال جيد .ولهذا تعالوا معي إلى معرفة معنى كعب في اللغة العربية ، ولن نطوف في كتب المعجمات ولكن لنقرأ ما جاء في المنجد فقط ، فمما قال في وسط المادة كعب كعوبا (الجارية نهد ثديها) كعب الأناه ثلاثة ، كعب الشيء جعله مكعبا ، الكعب جمعه كعوب كلما ارتفع من الأرض ، الشرف والمجد ، بل وقال الكعب كل مفصل للعظام : العظم الناشئ ، العظم الذي يلعب به ، العقدة من عقد الرمح ، الكعب في علم الهندسة : المجسم الذي له ستة سطوح مربعه متساوية ، كل بيت مربع الغرفة ، أكعاب نصوص النرد ، الكعبة بكارة الجارية جمعه كعاب ، يقال جاء به كعاب وكعب إذا نهد ثديها ، ويقال وجه مكعب إذا كان جافيا ناتئا ، ثم قال أخيرا "وهذا شيء هام في الموضوع" المكعب المجسم الذي له ستة سطوح مربعة متساوية وما كان على هيئته. وختم المادة بقوله : وفي الحساب (مكعب العدد) هو الحاصل من ضربه بمربعة ، فثمانية هو مكعب اثنين.هذا هو أهم ما جاء في المادة كعب وقد جاء ضمنها (الكعبة البيت الحرام بمكة) وليس المهم ما قاله عن الكعبة أو أين وضعها من المادة لكن المهم هو معنى المادة واشتقاقاتها فلو رجعنا نستقرء المعاني والمشتقات لوجدنا (البكارة) التي تعني البداية ولوجدنا العلو والرفعة ولوجدنا الاستدارة والتسديس والتربيع ولوجدنا البروز والظهور ولوجدنا الجمال والحسن ولوجدنا القوة والجلادة والفتوه والجفاف والتجمع والانضمام ثم التضاعف والتزايد الذي يعني البركة والنماء . ¶ فكل المعاني الجميلة التي أرادها الله لهذا البلد الحرام مجتمعة في كلمة الكعبة فهي البارزة الغير خافية وهي الناهده الغير جافية ، وهي مفصل الأرض ذات النجاح وعقدة اللقاء والانفراج وهي نقطة البداية للتكوير والانبعاج وهي مهد ونهد البسط والامتداد وهي معقد الشق والانشراق .وهي مركز الرتق والانفتاق وهي بكر الأرض (أول بيت وضع للناس) وهي مباركة وهدى للناس وهي قيام الناس ومثابة لأنها بارزة مشهورة رفيعة كاعبة. إن هذه الآثار والآيات الثاقبة ، وهي مهوى الناس قاطبة ، وهي مأمن لكل نفس راهبه ، وهي حاضرة في النفوس رغم أنها غائبة ، هذه بعض معاني الكعبة التي دلت عليها الكلمة ، ولها معاني تستظهر مع الأيام القادمة. ¶ إذن أليس من الواضح أن تكون الكعبة في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام) هو المنطقة الحرام ولهذا قال تعالى بعدها البيت الحرام فهو عطف بيان أو بدل وهذا يعني بلا شك أن الكعبة اسم للمنطقة الحرام كلها وليس للمبنى الصغير الذي تعرض للهدم والإصلاح والتصدع وللانزواء في مساحته وللتوسع كما حكاه لنا التاريخ وكما يعرف ذلك المتتبع. ¶ أليس بعد هذا البيان أيها الأخوان نصل معكم إلى إن اسم الكعبة اسم له سعة وشأن ونصل إلى أن المعنى الأصح للكعبة هو اسم يطلق على كل المنطقة الحرام الواضحة الحدود والأركان المعلومة الشعائر والمكان .أرجو أن تقتنعوا بلا ريب ولا تردد بل بترحاب للمعنى الذي تجسد ، لعلي إلى هنا أصل بكم وقد أجهدتكم ولكنه جهد مفيد لي ولكم ، وإنه لجهد محبوب ، مشكور بإذن الله من ربكم ، فهو يحب من تدبر الآيات بإمعان ، وتذكر المعاني باطمئنان ، لقد اعتمد على القرآن ، الذي فيه البيان.ولعلي قبل الوداع أعود بكم إلى الدليل الواضح من القرآن على إرادة المعنى الجديد للكلمة فلقد قال الله عن الذي يقتل الصيد متعمدا وهو حرم قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة بالمعنى المعهود لدينا ، هي التي يبلغها الهدي وينحر فيها ، كلا بل الهدي يبلغ إلى منى ، وهو محل النسك المعهود لنا ، والمعروف لمن نحر قبلنا.وهذا يعني أن منى جزء من الكعبة ، وعليه فالكعبة هي كل المنطقة التي ببكة الحرام ، ولهذا جاءت مبينة بعدها بلا انفصام بقول الله العلام: (البيت الحرام) ¶ ثم وصف الجميع بقوله قياما للناس ثم عطف على الجميع قوله : (والشهر الحرام والهدي والقلائد) ثم بين لنا أن ذلك بعلم منه لأنه العليم بكلما خلق وعليم بما حكم به وأن حكمه هو المعمول به فقال : (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) 97. ثم أكد أن العمل بالتحريم لهذه الكعبة والبيت الحرام أمر هام فقال (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة 98 ، فلنكن حريصين على اجتناب العقاب الشديد الأليم ، ولنحاول التعرض للغفران والرحمة من الغفور الرحيم ، ولنكن على علم أن الله يعلم الظاهر والمكتوم ، ويجازي كل عبد بما يعمله فالرسول قد بلغنا بما أرسله وعلينا أن نتبع ما بلغ (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) المائدة 99 ¶ وختاما أقول : وإذا كان معنى (الكعبة) كما عرفنا فإن من المؤكد لهذا المعنى في الأفهام هو أن هذا المقام المكعب البارز ، المبتكر الناهد ، المعروف المشهور ، لكل عابد ، هو مهوى القلوب ، إليه تنهد وتكعب أرحال ، واليه تشد وتكعب الأحمال ، وإليه ترد وتكعب الرجال ، وإليه تأتي كل ضامر يشوق من كل فج عميق ، ويحمل عليها الناس والثمرات بلا تعويق ، فالكعبة كعبة للناس في كل زمان ومكان ، إليها يكعبون ويبرزون ، وإليها ينهدون ويبهزون ، وإليها تقطع الفيافي والحزون ، وإلى مكعبها تتبارك الثمرات وتتواكب الرحلات ، وتتراكب السنوات ، وتتناكب الخطوات ، وتتحرك الأهواء والرغبات ، وتتشارك الجماعات والثبات ، وتتسامك الأحاد والزرافات ، فهي الكعبة التي لا تخفى على الأمم ، وتحفى عنها القدم ، وتحتفي بها الهمم ، وتحف بها القلوب ، وتخف إليها منذ القدم ، وستبقى هكذا إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتخرج الذمم . بارك الله هذا المقام الأكرم ، وتبارك الله الذي جعلها كعبة ، وبهذا نسلم ، وقضى بأنها قيام للناس ومثابة وحرم ، وما حكم به وقضى فهو الحق لأنه بما في السموات والأرض يعلم ، ولأنه محيط علما بما يبدو وما يكتم ، وهو العليم بما يقضي ، والمحيط علما بكل شيء سماوي وأرضي ، ولقد فاز من لربه يرضي ولهداه يتبع باقتناع ، ولحكمه يسلم بحب بلا امتناع ، فالرسول قد بلغ و (ما على الرسول إلا البلاغ) وكل شيء سواه لغو وفراغ ، وكل حكم سوى حكم الله ضلال وظلام ، وكل قول سوى قول الله لباطل وحطام ، ألا إلى الله تصير الأمور ، وهو الرحيم الغفور. ¶ (المسجد الحرام) ¶ إن المسجد الحرام كلمة وردت كثيرا في القرآن وهي في مفهوم المفسرين تعني المكان الذي يطوف فيه الناس ويسجدون وفيه يتعبدون ويجتمعون ، أو فلقد كانوا يعنون بالمسجد الحرام هذا المبنى الذي يحيط بالصحن المعد للطواف ، والذي يتوسطه المبنى الأصغر الذي بناه إبراهيم ورفع قواعده فهل هذا الفهم صحيح ، تعالوا نقرأ القرآن : يقول الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1 ، لنتأمل الآيات بإمعان ولنسأل أولا هل الإسراء تم من المسجد الحرام المتعارف عليه بيننا بأنه المبنى المعد للصلاة والطواف؟؟ إن الجواب على السؤال بلا شك يؤكد أن الإسراء تم من مكة أو من بيت من بيوت مكة ، لا من المسجد الذي للصلاة المعهودة ثم هل كان المبنى الذي كان يجتمع فيه القرشيون حول الأصنام مسجدا لله؟ وهل كان فيه صلاة؟؟ كلا. بل الله يقول (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال 35 إذن (المسجد الحرام) ليس المراد به إلا البلد الأمين بكامله ومحتواه ، ولا يقصد به إلا البيت الحرام بمعناه الذي عرفناه ، لقد أسري بالنبي من المنطقة التي هي مكة أو البلد المسمى بالمسجد الحرام ، قد تسألون ولماذا سمي بالمسجد الحرام ؟ وأنا أسأل هل وصف المسجد بأنه حرام يعني أن الحرم مقصور على المبنى؟؟ إذا كان المسجد هو المبنى فإن هذا يعني أن الحرم محدد به وهذا غير صحيح فالحرم هو البلد الكامل الشامل المناطق الحرام كلها ، التي يعرف الناس حدودها ، وبدايتها ونهايتها ، بلا لبس ولا خلاف ، وعليه فالمسجد المراد به كل المنطقة الحرام . ¶ أما لماذا سمي مسجدا فهو لأنه محل للطاعة والخضوع والانقياد لله والخشوع والتزام سلوك معين معهود للناس مشروع ، فلا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ولا خصام ولا اعتداء ولا قتال ، بل سلام واطمئنان لكل مقيد وباد. ومن يرد فيه بإلحاد ، فأن العذاب له بالمرصاد ، وهكذا سمي البلد مسجدا ، ووصف بأنه الحرام ، لأنه هكذا محكوم فيه بالطاعة والالتزام وهو معهود للناس بشكل عام ، سواء من كفر وغادر الإسلام ، ومن استجاب بعد ذلك للإسلام ، فهو المسجد الحرام ، الذي حكمه معروف ، والتحريم فيه مألوف ، والقتل فيه مكفوف ، وهو بالاحترام محفوف ، فالمسجد الحرام هو البلد بكله ، والمسجد الحرام هو المنطقة الحرام الكاملة. ¶ ثم هل هناك حين أسري بالنبي مسجد في القدس ، كلا بل كان هناك كنائس وأديره لليهود والنصارى ، فلماذا سمي إذن المسجد الأقصى؟ لأنه مقام عبادة وطاعة لله ، ومحط سلام واطمئنان ، فالسجود يعني الخضوع والاستسلام والمسجد يعني موطن التمسك بذلك والالتزام ، فهو المسجد الأقصى ، أي المكان أو البلد الذي يحترم فيه الناس بعضهم بعضا. ثم إذا كان المراد بالمسجد الأقصى هو الكنائس والأديرة والبيع النصرانية فلماذا وصف بالأقصى؟ ¶ إن الأقصى لا يوصف إلا بلد كامل أو مقام واسع الأرجاء أو منطقة يسكنها الناس ويعيشون في سلام شامل وعطاء ¶ ولهذا أضاف الله صفة أخرى فقال (الذي باركنا حوله) فالبركة منشورة على كل بقعة فيه وعلى ما حوله ولقد وصفها الله في آيات أخرى بقوله عن إبراهيم (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71 ويقول عن سبأ :(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)سبأ 18 ويقول عن سليمان وهو كان في القدس (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء 81 إذن فهي أرض ، وسماها الله مسجدا فقال (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وعليه فالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة ، وهي التي حرمها الله ، ¶ وبعد تعالوا إلى آية أخرى هي قولة تعالى : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) الفتح 27 وقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 فهل المسجد الحرام هنا يعني المبنى الذي للطواف أم البلد والأرض الحرام كاملة لا شك أن المراد به مكة الأرض المحرمة المحددة المعروفة الطول والعرض ، وهكذا فإن المسجد الحرام هو البلد الحرام هو البيت الحرام هو الكعبة الحرام. فالرسول لم يرد دخول المسجد فقط الذي فيه يتعبد ، ولكن أراد الأرض والبلد الذي هو حرام ، وله حد محدد ، معروف من الأبد. إذا أردتم المزيد من الأدلة ، فاسمعوا هذه الآية :(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) التوبة 7 والمراد بهذا العهد هو ما عقده النبي مع بعض القبائل القاطنة على حدود الأرض الحرام ، ويقول الله عن الحديبية التي تم فيها الصلح مع قريش (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) الفتح 24 فسمى الحديبية بطن مكة ، أي أنها على حدود البلد الحرام. ثم أن هناك آية تؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو البلد أو الأرض المسكونة ضمن المنطقة الحرام ، يقول الله في سورة البقرة عن من حج متمتعا بالعمرة إلى الحج (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فهل الأهل يسكنون في المسجد المصلى أم في البلد الذي جعله الله للناس حراما. وقبلها يقول الله للمؤمنين (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) البقرة191 فهل القتال يكون عند الأرض التي تسكن فيها ، أم عند المسجد الذي يصلى فيه؟ إن المراد الأرض المسكونة. إذن فالمراد بالمسجد الحرام الأرض التي هي محرمة أو البلد الحرام . ثم تعالوا إلى سورة الحج .. يقول الله :(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ثم يصفه بقوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) ثم يقول (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25 فهل العاكف والباد من الناس يسكن في المسجد المصلى ، أم في البلد الذي يسع الجميع ويكون للناس سواء؟ إن الوصف يؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة المسماة بالبيت الحرام ، الذي هو (أول بيت وضع للناس) وهو (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) فالمسجد الحرام هو البيت الحرام. ثم تعالوا أخيرا إلى سورة الأنفال :(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) الأنفال34 ، لا شك أن المراد هنا هو البلد الحرام بأكمله لا مجرد المسجد الصغير بداخله. وهكذا نصل إلى النهاية في هذا الموضوع عسى أن يكون مقبولا عندكم باقتناع. ¶ (مقام إبراهيم) ¶ إن الناس يظنون كما قال المفسرون أن مقام إبراهيم هو المكان الذي يقع على يمين المبنى الذي بناه إبراهيم أو رفع قواعده. ولأن الناس يظنون هذا الظن فإنهم يزدحمون فيه عند الطواف ويشكلون أزمة تجعل الطواف عسيرا وهو سهل يسير. يا إخواني إن المراد بقوله تعالى (مقام إبراهيم) ليس إلا المنطقة كاملة فهي مقام ووطن لإبراهيم فيها أقام ، وفيها سكن ، بعضا من الزمن ، ولقد أشار الله إلى هذا بقوله حاكيا عن إبراهيم : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) إبراهيم 37 هذا يدل أن المسكن هو الوادي الواقع ضمن البيت الحرام ، إذن فالمنطقة كلها هي السكن وهي المقام ، ولقد علل إبراهيم إسكان بعض ذريته هنا في هذا الوادي الغير ذي زرع ، علل هذا الإسكان بقوله (ليقيموا الصلاة) فالإقامة ليست لمجرد العيش والعمران ، وليست لمجرد السعي والبحث عن المتاع ، كلا . بل المراد هو الطاعة لله واتباع هداه وتطهر البيت من الشرك والضلال ، ومن الظلم والإلحاد ، وإذا أقام الناس على هذا الطريق الجاد ، فإن الله يكفل لهم المعاش والزاد ، ولهذا جاء دعاء إبراهيم عقب التعليل فقال : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهكذا أجاب الله دعاء إبراهيم وجعل البلد آمنا لكل باد ومقيم ،وجعله حرما آمنا ، وعلى هذا الأساس الذي علل به إبراهيم إسكان ذريته وهو إقامة الصلاة والطاعة والشكر لله ، جاءت آية البقرة ، جاءت الآية تؤكد هذه المعاني بشكل واضح البيان فاقرءوا بإمعان (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) إنه نفس ما دعا به إبراهيم ، فها هو البيت الحرام ، والبلد الحرام ، قد أصبح مثابة للناس ، فيتوبون إليه ، ويتعلمون منه ، ويقتدون بسلكه ومنسكه ، ثم هو مع المثابة آمن ، فمن دخله شكر وأقام الصلاة وهو في أمن لا يزول ، وسكون لا يتزلزل ، وسلوك جميل لا يتحول. إن كلمة (أمنا) في قوله (مثابة للناس وأمنا) تفصح بأن المنطقة كلها قد تجسد فيها الأمن وتجذر ، وتوارث الناس هذا السلوك فيه ، فهو بتغير حتى أصبح البلد كأنه هو الأمن بذاته ، وكأن كل ذرة فيه وكل شبر يشع بالأمن وكل شجرة وعشبة تثمر أمنا وكل نسائمه واحواشه تهب أمنا ، وفي هذا الحال والجو الجميل والأمن الأصيل والسكن الظليل لا بد أن يكون للناس فيه سلك جليل ، يليق بهذه الصفات التي لا تحول ، وعليه جاء الأمر المعجول. ¶ وقبل أن تكمل الايات السياق وقبل أن يصل الوصف للبيت إلى نهاية المطاف انقطع السياق وانطلق الأثر بأجمل انطلاق ليؤكد أن الحال يستحق هذا أشد استحقاق فقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي اتخذوا من هذا البيت أي من هذا البلد أي من هذه المنطقة الحرام ، كما عرفنا ذلك من سياق الكلام ، اتخذوا من هذا البيت الذي هو مقام إبراهيم مصلى ، أي مقاما للعبادة والشكر والطاعة والذكر والتوحيد لله الواحد بلا شرك ولا زور. نعم هذا هو المراد ، إنه يعني أن تكون المنطقة كلها مصلى ، لكل الناس الذين جعل الله لهم البيت مثابة وأمنا ، أليس إبراهيم قد أسكن أهله هناك ليقيموا الصلاة ، إذن فهو القدوة ومثله فلنقم الصلاة ، ولنتخذ مقامه الواسع الكامل مصلى على الدوام تماما كما كان إبراهيم الإمام ، وإذن فليس المراد بمقام إبراهيم هو ذلك الموقع الذي نزدحم فيه بلا جدوى ، بل المراد به كل المنطقة الحرام التي أقام فيها إبراهيم واتخذها مصلى له ولذريته ، ولمن تبعه وبه اقتدى ، ¶ ولهذا عاد السياق من جديد في الآية ليواصل البيان فيوضح لنا أن المقام مقام طاعة وإذعان وتوحيد وإيمان وطهر وتقوى وإحسان فجاء بعد الأمر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فالعهد هذا يؤكد أن المقام هو البيت بكله وبكامله المعروف الحدود (للطائفين والعاكفين والركع السجود) فهو مقام واسع الأرجاء يشمل المنطقة الحرام بلا مراء وليس ذلك المقام المعهود للملأ . ثم إني أسألكم سؤالا لو سلمنا أن المراد بمقام إبراهيم هو ذلك المكان الذي يقابل الحجر الأسود وأن إبراهيم كما قيل كان يقوم فيه ليبني المبنى الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه كان يضع الأحجار على المدماك ويرفعه ، وابنه إسماعيل يمكنه الأحجار ويناوله ، إذا سلمنا بهذا فكم كان طول ذراع إبراهيم وكم كان طول قامته حتى يتمكن من البناء وهو على هذا البعد من المبنى ؟؟ إن هذا ينفي الظنون ويؤكد أن المقام المدعى وهم موروث ، لا يعتمد على اليقين ، قد يقال أن عمر بن الخطاب أزاح مقام إبراهيم من جوار مبنى الحجر الأسود عدة أمتار ، وإلا فالأصل أنه كان قريبا من الجدار بحيث يمكن العمار من وضع الأحجار ، وإذا صح هذا فلماذا أزاحه عمر وهو يعلم أن هذا المقام شعيرة لا تغير ، وأثر لا تحول عما يؤثر ، إن إزاحته تؤكد أن الموضع ليس مقام إبراهيم وإنما هو شعيرة توارثها الناس غابرا عن غابر ، حتى أصبحت من الشعائر ، قد يقال أن النبي صلى هناك حينما اعتمر وتلى الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لكن الحديث ليس متواتر السند بل هو أحادي ، والأحادي معروف أن عمله ظني ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الصلاة في محاذاة الحجر الأسود ، فكان المكان هو هذا المقام المدعى ، ثم أنه قد أراد بتلاوة الآية : أن مكة كلها تصلح مصلى ما دامت مقام إبراهيم المقتدى الذي اتخذها كلها له ولذريته مقاما لإقامة الصلاة فالنبي محمد به اقتدى لا لتحديد الصلاة في ذاك المكان ولكن ليذكر بإبراهيم الإمام ، وليؤكد أنه على ملته أتم الالتزام ، وبعد فهل نستطيع أن نبني على هذا ، إن مقام إبراهيم هو البلد الحرام كله وهو البيت الحرام بأكمله؟؟ ¶ لعلنا قد اتضح لنا أن هذا هو المراد وإذا أردتم المزيد من البرهان فها هو إبراهيم يأتي بالبيان في الآيات التي تلي فاقرءوا بإمعان: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 إن البلد هنا هو البيت وهو المقام ها هو إبراهيم يشير إلى المقام ويقول رب اجعل هذا بلدا آمنا ويدعو لأهله بالرزق ويشترط الإيمان بالله واليوم الآخر فهل يمكن أن للمقام الصغير أهل وهم يسكنون فيه ويأكلون وهل يمكن أن ترد الثمرات إلى ذلك المقام الصغير المضنون كلا بل الذي يسكنه أهل وتأتيه ثمرات إنما مكان واسع الأرجاء ، في البلاد يتسع للمقيم والباد وله حدود من دخلها كان في حرم آمن من كل ظلم وإلحاد ومن كل باغ وعاد ، وعلى هذا فإن المقام هو هذا الذي أراده إبراهيم ملاذا . فكان الله معه مجيبا وجعل البيت مثابة وأمنا وجعل المقام مصلى طاهرا وجعل البلد آمنا موفور الأرزاق والأثمار تجيء إليه من كل الأقطار رزقا من لدن الله الغفار . ¶ والآن أكتفي بهذا المقال حول المقام وأرجو أن القارئ قد اقتنع بالبرهان وبالكلام وإني لأدعو لي وله أن يكون إبراهيم لنا هو الإمام وأن تكون ملته لنا هي الملة فهي الإسلام .
الحج أشهر معلومات- الجزء الثاني
حل رباني وبيان قرآني يقي حجاج البيت الحرام من الإرباك والزحام فاستمعوا وعوا أيها الأنام ويا أولي الألباب والأفهام،، ما يقول الله العلام الذي يعلم ما كان وما يكون والذي أنزل القرآن هدى للعالمين ، إنه يقول في سورة البقرة (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ويقول في سورة التوبة :(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين) التوبة 36، وعليه فإن الأشهر الحرم معلومة ، منذ خلق السموات والأرض ، ومكتوبة في كتاب الله ، ونظامه الكوني ، لا تتغير ولا تتبدل ، فهي أشهر حرم في كل زمان ، وإلى أن تقوم الساعة ، فلا يصح فيها إلا التقوى والسلام ، ولا فيها قتال ولا خصام ، ولا صيد ولا إيذاء للناس ولا للهوام ، بل عدل ونظام ، وحج وصيام ، وركوع وقيام ، وعطوف وإحرام ، ولهذا قال الله (ذلك الدين القيم) فهي محطة زمنية لتعظيم شعائر الله وحرماته ، كما أن الحرم محطة مكانيه لتعظيم الشعائر والحرمات ، فالناس فيها مكلفون بالحج والعمل الصالح ، وترك القلق والانشغال بالمصالح ، فإن ذلك ظلم للنفس ، وسعي جامح ، وحرمان لها من العمل الرابح ، الذي يحرص عليه المؤمن الفالح ، ولهذا قال الله عقب ذلك (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وما الظلم إلا الانشغال بما ليس فيه خير باق ، وما الظلم إلا الاهتمام بالمتاع الفاني ، وما الظلم إلا الانطلاق إلى المطامع ، والاندفاع في الدنيا بلا تقوى ولا وازع . إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، يوم خلق السموات والأرض. فهي شهور معلومة للعالمين ، الأولين والآخرين ، ولا يختلف عليها أحد من السابقين واللاحقين ، ولا المؤمنين ولا الكافرين ، ومثل ذلك التقدير والتنظيم لعدة الشهور السنوية الدائمة ، كان التحديد والتقدير للأربعة الأشهر الدينية المحرمة ، فهي أربعة معلومة للجميع بلا ارتياب ، منذ أن عرف الإنسان نفسه وعرف الحساب.
Halaman tidak diketahui