هنا القرآن - بحوث للعلامة اسماعيل الكبسي
هنا القرآن
قبس من نور آية
برنامج اذاعي يبحث في العبرة والتدبر في القرآن الكريم بما يكفل تصحيح الأفكار وتقويم الأفهام.
***
الشباب في القرآن
برنامج اذاعي بحثي ذو قراءة عصرية لكثير من القصص والموضوعات القرآنية بما يخدم قضايا الشباب في المجتمع .
***
المرأة والطفل في القرآن
برنامج اذاعي بحثي ذو قراءة عصرية لكثير من القصص والموضوعات القرآنية بحثا في موضوعات المرأة والطفل في القرآن الكريم .
***
ديوان الحمد والثناء
مجموعة شعرية متكاملة في الحمد والثناء تم نشرها من خلال البرنامج الاذاعي الرمضاني (في محراب الصيام ) على مدى عقد من الزمان خلال التسعينيات .
***
صوتيات
مجموعة من البرامج الاذاعية البحثية في القرآن الكريم التي تم تسجيلها بصوت فضيلة الاستاذ /اسماعيل حسين الكبسيهنا القرآن - بحوث للعلامة اسماعيل الكبسي ¶ هنا القرآن ¶ قبس من نور آية ¶ برنامج اذاعي يبحث في العبرة والتدبر في القرآن الكريم بما يكفل تصحيح الأفكار وتقويم الأفهام. ¶ *** ¶ الشباب في القرآن ¶ برنامج اذاعي بحثي ذو قراءة عصرية لكثير من القصص والموضوعات القرآنية بما يخدم قضايا الشباب في المجتمع . ¶ *** ¶ المرأة والطفل في القرآن ¶ برنامج اذاعي بحثي ذو قراءة عصرية لكثير من القصص والموضوعات القرآنية بحثا في موضوعات المرأة والطفل في القرآن الكريم . ¶ *** ¶ ديوان الحمد والثناء ¶ مجموعة شعرية متكاملة في الحمد والثناء تم نشرها من خلال البرنامج الاذاعي الرمضاني (في محراب الصيام ) على مدى عقد من الزمان خلال التسعينيات . ¶ *** ¶ صوتيات ¶ مجموعة من البرامج الاذاعية البحثية في القرآن الكريم التي تم تسجيلها بصوت فضيلة الاستاذ /اسماعيل حسين الكبسي
يدير هذا الموقع الالكتروني (هنا القرآن ) الاستاذ إسماعيل حسين الكبسي أستاذ البلاغة والتفسير في جامع صنعاء الكبير باليمن .
ولد في منطقة الجبي مركز قضا ريمة سابقا عاصمة محافظة ريمة حاليا وكان مولده عام 1360ه أي أن عمره الآن -لحظة كتابة هذا المقال- خمسة وستون عاما كان أبوه يعمل هناك كاتبا في المحكمة الشرعية وقد اعتنى به أبوه وعلمه مع إخوانه في مدرسة ابتدائية حكومية هناك حتى عام 1368ه الموافق 1958م حيث التحق بمدرسة علمية هناك أسسها عامل المنطقة في حينه بإذن من الإمام أحمد حميد الدين الذي أعتمد لها مرتبات المدرسين والطلاب وهم أبناء موظفي الحكومة وأعيان المنطقة، كانت المدرسة تعلم الطلاب علوم العربية والفقة والحديث والتفسير ثم انتقل صاحب الموقع إلى العاصمة صنعاء لاستكمال ما بدأه في مدرسة ريمة فالتحق بمدرسة دار العلوم العليا التي كانت مشهورة في عهد الحكومة المتوكلية بتخريج علماء الدين واللغة وعلماء الفقة والشريعة وعلماء التفسير واستمر في دار العلوم حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م.
لقد كان قيام الثورة إيذانا بإيقاف الدراسة في دار العلوم نظرا لتفرق الأساتذة والطلاب في حزمة الأحداث والحروب المتلاحقة التي استمرت حتى عام 1969م ومع أن الثورة اهتمت بالتعليم الثانوي والجامعي على غرار المنهج المصري إلا أن مدرسة دار العلوم لم تكن قادرة على الاستمرار لعدم الاهتمام بها في العهد الجديد.
في هذه الأحداث كانت وجهة صاحب الموقع هي الإذاعة اليمنية حيث كان معروفا بان له اهتمامات أدبية ونشاطات ثقافية في مجتمع شباب العاصمة والأساتذة والطلاب لهذا فإن زملائه الذين كانوا قد سبقوه إلى الإذاعة قبل الثورة قد فتحو له الأبواب ورحبوا به عنصرا فعالا وقدرة منتجة في مجال الإذاعة وبرامجها المتنوعة التي كانت تمثل صوت الثورة ومنبر العصر الجديد الداعي إلى التطوير والتحديث للمجتمع اليمني والدخول به إلى عصر التحولات الكبرى في العالم.
وهكذا عمل في الإذاعة من أول يوم مذيعا وكاتبا حتى عام 1964م حيث أهله نشاطه الإذاعي وتميزه الإنتاجي لأن يتولى إدارة البرامج في الإذاعة إلى جانب إسهامه الإبداعي في البرامج المتعددة الأغراض والأساليب والأهداف.ثم تولى في عام 1968م إدارة الإذاعة واستمر كذلك حتى أسندت إدارة الإذاعة إلى سواه ولكنه واصل مسيرته مذيعا وكاتبا متميزا للبرامج ولم يأبه بالمنصب لأن مهنته الإذاعية هي الأهم وشخصيته الأدبية هي الأبقى والأرقى في رأيه.لكنه مع ذلك عاد ليتولى في عام 1977م منصب وكيل وزارة الإعلام والثقافة لقطاع الإعلام حتى عام 1979م حيث تعين مستشارا في رئاسة الدولة لشئون الإعلام ثم انتدب عام 1987م للعمل في سفارة اليمن في القاهرة وزيرا مفوضا لشئون الإعلام وقد كان له نشاط ملموس في أوساط أجهزة الإعلام والثقافة المصرية واستطاع أن يطور العلاقات اليمنية المصرية في هذا المجال .
لقد اصدر في عام 1974م صحيفة أسبوعية خاصة كان رئيس تحريرها وصاحب الامتياز فيها وهي (التعاون) وهي الصحيفة المعبرة عن الحركة التعاونية اليمنية التي انطلقت في ذلك العام وحققت قفزات هامة في تطوير المجتمع اليمني في المدينة والريف .بعد ذلك اصدر مجلة (اتحاد التعاون اليمني) لكنه تخلى عنها أخيرا لاتحاد التعاون اليمني واتجه إلى إصدار مجلات خاصة تهتم بالشئون اليمنية بشكل عام فأسس (مجلة سبتمبر) وهي أول مجلة يمنية مصورة ملونة ثم (مجلة اليماني) وكان هو رئيس تحريرها وصاحب الامتياز لكن الأزمات المالية وشحة التمويل حال دون استمرار المجلتين ولكنهما قد أديا دورهما بشكل لا ينساه القارئ اليمني وبهذا فإنه كان من أهم الرواد في الصحافة التعاونية والصحافة العامة بل هو أول من أصدر مجلة يمنية مصورة ملونة. ولأنه اشتهر بذلك فقد كان عمله وكيلا في وزارة الإعلام أولا ثم نائبا لرئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون أخيرا مقترنا بإصدار مجلتين تولى فيهما موقفا قياديا ففي وزارة الإعلام اصدر مجلة (معين) وكان مدير تحريرها وفي مؤسسة الإذاعة اصدر (مجلة الإذاعة والتلفزيون) وكان رئيس تحريرها .
وحين أعيدت وحدة اليمن الكبرى عام 1990م استدعي إلى صنعاء ليكون له إسهام في هذا الحدث الهام وفي مسيرة الوحدة المباركة، اسند إليه منصب نائب رئيس مجلس الإدارة في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون واستمر كذلك حتى أحيل إلى التقاعد وذلك عام 2002م وبهذا يكون قد قضى في العمل الإعلامي أربعين عاما كاملة وبالإبداع والنشاط المتميز حافلة.على أن عمله ونشاطه الإعلامي لم يقتصر على الإذاعة والتلفزيون بل تعداه إلى الصحافة فكان له بروز في هذا المجال لا يخفى وإسهام واسع مشهور وآخر العطاء وكان نشاطه الإعلامي متزامنا ومواكبا لنشاطه الصحفي منذ وقت مبكر.
هو الآن متفرغ لعمله الجديد والهام والذي هو امتداد لدراسته في علوم اللغة والأدب والتفسير فهو يدرس البلاغة والتفسير في جامع صنعاء الكبير.كما أن له برامج معروفة في الإذاعة والتلفزيون اليمنية محورها القرآن الكريم فهي تدور حول فلكه ومكرسة لتفسيره للمشاهد والمستمع بأسلوب جديد مثير للأذهان مفيد للمستمع في كل مكان. ولا يزال عمله في اعداد وتقديم البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون مستمرا حتى يومنا هذا مثل : برنامج ( قبس من نور آبة ) الذي فاح ذكره في الآفاق ,, وبرنامج المسابقات الدينية (مسابقة القرآن الكريم الرمضانية ) ,, والبرنامج الشعري ( في محراب الصيام ) الذي يعنى بقصائد الحمد والثناء ,, وبرنامج ( الشباب في القرآن) ,, وبرنامج (المرأة والطفل في القرآن) وغيرها الكثير ,, ومن هذه البرامج وسواها تدفق هذا الموقع الالكتروني الهام (هنا القرآن) .السيرة الذاتية ¶ يدير هذا الموقع الالكتروني (هنا القرآن ) الاستاذ إسماعيل حسين الكبسي أستاذ البلاغة والتفسير في جامع صنعاء الكبير باليمن . ¶ ولد في منطقة الجبي مركز قضا ريمة سابقا عاصمة محافظة ريمة حاليا وكان مولده عام 1360ه أي أن عمره الآن -لحظة كتابة هذا المقال- خمسة وستون عاما كان أبوه يعمل هناك كاتبا في المحكمة الشرعية وقد اعتنى به أبوه وعلمه مع إخوانه في مدرسة ابتدائية حكومية هناك حتى عام 1368ه الموافق 1958م حيث التحق بمدرسة علمية هناك أسسها عامل المنطقة في حينه بإذن من الإمام أحمد حميد الدين الذي أعتمد لها مرتبات المدرسين والطلاب وهم أبناء موظفي الحكومة وأعيان المنطقة، كانت المدرسة تعلم الطلاب علوم العربية والفقة والحديث والتفسير ثم انتقل صاحب الموقع إلى العاصمة صنعاء لاستكمال ما بدأه في مدرسة ريمة فالتحق بمدرسة دار العلوم العليا التي كانت مشهورة في عهد الحكومة المتوكلية بتخريج علماء الدين واللغة وعلماء الفقة والشريعة وعلماء التفسير واستمر في دار العلوم حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م. ¶ لقد كان قيام الثورة إيذانا بإيقاف الدراسة في دار العلوم نظرا لتفرق الأساتذة والطلاب في حزمة الأحداث والحروب المتلاحقة التي استمرت حتى عام 1969م ومع أن الثورة اهتمت بالتعليم الثانوي والجامعي على غرار المنهج المصري إلا أن مدرسة دار العلوم لم تكن قادرة على الاستمرار لعدم الاهتمام بها في العهد الجديد. ¶ في هذه الأحداث كانت وجهة صاحب الموقع هي الإذاعة اليمنية حيث كان معروفا بان له اهتمامات أدبية ونشاطات ثقافية في مجتمع شباب العاصمة والأساتذة والطلاب لهذا فإن زملائه الذين كانوا قد سبقوه إلى الإذاعة قبل الثورة قد فتحو له الأبواب ورحبوا به عنصرا فعالا وقدرة منتجة في مجال الإذاعة وبرامجها المتنوعة التي كانت تمثل صوت الثورة ومنبر العصر الجديد الداعي إلى التطوير والتحديث للمجتمع اليمني والدخول به إلى عصر التحولات الكبرى في العالم. ¶ وهكذا عمل في الإذاعة من أول يوم مذيعا وكاتبا حتى عام 1964م حيث أهله نشاطه الإذاعي وتميزه الإنتاجي لأن يتولى إدارة البرامج في الإذاعة إلى جانب إسهامه الإبداعي في البرامج المتعددة الأغراض والأساليب والأهداف.ثم تولى في عام 1968م إدارة الإذاعة واستمر كذلك حتى أسندت إدارة الإذاعة إلى سواه ولكنه واصل مسيرته مذيعا وكاتبا متميزا للبرامج ولم يأبه بالمنصب لأن مهنته الإذاعية هي الأهم وشخصيته الأدبية هي الأبقى والأرقى في رأيه.لكنه مع ذلك عاد ليتولى في عام 1977م منصب وكيل وزارة الإعلام والثقافة لقطاع الإعلام حتى عام 1979م حيث تعين مستشارا في رئاسة الدولة لشئون الإعلام ثم انتدب عام 1987م للعمل في سفارة اليمن في القاهرة وزيرا مفوضا لشئون الإعلام وقد كان له نشاط ملموس في أوساط أجهزة الإعلام والثقافة المصرية واستطاع أن يطور العلاقات اليمنية المصرية في هذا المجال . ¶ لقد اصدر في عام 1974م صحيفة أسبوعية خاصة كان رئيس تحريرها وصاحب الامتياز فيها وهي (التعاون) وهي الصحيفة المعبرة عن الحركة التعاونية اليمنية التي انطلقت في ذلك العام وحققت قفزات هامة في تطوير المجتمع اليمني في المدينة والريف .بعد ذلك اصدر مجلة (اتحاد التعاون اليمني) لكنه تخلى عنها أخيرا لاتحاد التعاون اليمني واتجه إلى إصدار مجلات خاصة تهتم بالشئون اليمنية بشكل عام فأسس (مجلة سبتمبر) وهي أول مجلة يمنية مصورة ملونة ثم (مجلة اليماني) وكان هو رئيس تحريرها وصاحب الامتياز لكن الأزمات المالية وشحة التمويل حال دون استمرار المجلتين ولكنهما قد أديا دورهما بشكل لا ينساه القارئ اليمني وبهذا فإنه كان من أهم الرواد في الصحافة التعاونية والصحافة العامة بل هو أول من أصدر مجلة يمنية مصورة ملونة. ولأنه اشتهر بذلك فقد كان عمله وكيلا في وزارة الإعلام أولا ثم نائبا لرئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون أخيرا مقترنا بإصدار مجلتين تولى فيهما موقفا قياديا ففي وزارة الإعلام اصدر مجلة (معين) وكان مدير تحريرها وفي مؤسسة الإذاعة اصدر (مجلة الإذاعة والتلفزيون) وكان رئيس تحريرها . ¶ وحين أعيدت وحدة اليمن الكبرى عام 1990م استدعي إلى صنعاء ليكون له إسهام في هذا الحدث الهام وفي مسيرة الوحدة المباركة، اسند إليه منصب نائب رئيس مجلس الإدارة في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون واستمر كذلك حتى أحيل إلى التقاعد وذلك عام 2002م وبهذا يكون قد قضى في العمل الإعلامي أربعين عاما كاملة وبالإبداع والنشاط المتميز حافلة.على أن عمله ونشاطه الإعلامي لم يقتصر على الإذاعة والتلفزيون بل تعداه إلى الصحافة فكان له بروز في هذا المجال لا يخفى وإسهام واسع مشهور وآخر العطاء وكان نشاطه الإعلامي متزامنا ومواكبا لنشاطه الصحفي منذ وقت مبكر. ¶ هو الآن متفرغ لعمله الجديد والهام والذي هو امتداد لدراسته في علوم اللغة والأدب والتفسير فهو يدرس البلاغة والتفسير في جامع صنعاء الكبير.كما أن له برامج معروفة في الإذاعة والتلفزيون اليمنية محورها القرآن الكريم فهي تدور حول فلكه ومكرسة لتفسيره للمشاهد والمستمع بأسلوب جديد مثير للأذهان مفيد للمستمع في كل مكان. ولا يزال عمله في اعداد وتقديم البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون مستمرا حتى يومنا هذا مثل : برنامج ( قبس من نور آبة ) الذي فاح ذكره في الآفاق ,, وبرنامج المسابقات الدينية (مسابقة القرآن الكريم الرمضانية ) ,, والبرنامج الشعري ( في محراب الصيام ) الذي يعنى بقصائد الحمد والثناء ,, وبرنامج ( الشباب في القرآن) ,, وبرنامج (المرأة والطفل في القرآن) وغيرها الكثير ,, ومن هذه البرامج وسواها تدفق هذا الموقع الالكتروني الهام (هنا القرآن) .
بحوث قرآنية :: قبس من نور آية
هي مجموعة من البحوث القرآنية الموضوعية المعتمدة على الآيات الكريمة في تفسير بعضها البعض ، تدعو أولي الالباب إلى إعادة النظر في المنهجية التدبرية في كتاب الله الكريمبحوث قرآنية :: قبس من نور آية ¶ هي مجموعة من البحوث القرآنية الموضوعية المعتمدة على الآيات الكريمة في تفسير بعضها البعض ، تدعو أولي الالباب إلى إعادة النظر في المنهجية التدبرية في كتاب الله الكريم
الحج أشهر معلومات- الجزء الأول
أزف إلى علماء الإسلام ، وإلى علماء مكة الأعلام ، هذا الخبر الهام ، الحج أربع مرات في العام .. واليهم أوجه هذا البحث القرآني.
أخي القارئ أينما أنت في البحر والبر ، لا تسخر قبل أن تتدبر ، لا تستكبر قبل أن تتفكر ، حاول أن تقرأ أولا ، ثم أنظر متحليا متأملا ثم قل ما يحلو لك عن المقال ، فأنت مدعو معنا بصوت عال ، أنت مدعو للتفكر ، فإذا فكرت فقدر ، ثم أنظر ثم قرر ، واحذرثم احذر أن تكون كمن قال الله عنه (إنه فكر وقدر ?18? فقتل كيف قدر ?19? ثم قتل كيف قدر ?20? ثم نظر ?21? ثم عبس وبسر ?22? ثم أدبر واستكبر ?23?) المدثر 18-23
ألا إن القرآن يسير للمدكر ، واضح البيان للمتفكر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17 ولقد قال الله فيه (الحج أشهر معلومات) وإنها لواضحة البيان وناصعة البينات ، إذا حسنت لدينا النيات ، إنها لحل واضح البيان ، يفتح للناس أبواب من الإحسان ، وتوسع للحج الزمان ، فإن بإمكان الناس أن يكون حجهم أربعة أشهر ، أي أن يكون الحج أربعة مواسم في العام ، أي في كل من الأشهر الحرام يفتح للناس الحج ويقام ، والأشهر الحرم رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم . هذه هي الأربعة الشهر الحرم ، التي أجمع عليها أهل العلم ،
نعم (الحج أشهر معلومات) هكذا قال الله ببيان عربي مبين ، وهل القرآن ينطق بغير العربية الفصحى (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) يوسف 2 . وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن لا نتهم القرآن بالقصور ، بل نحاول أن نفهم الآيات بلا إنحراف ولا تقصير ، الله يقول (الحج أشهر معلومات) فيجمع الأشهر جمع قلة ويصفها بأنها معلومات ،
كيف يقول مفسر أو أكثر أن المراد بالأشهر شهر ونصف أو شهر وعشرين يوما ، إن هذا كلام وتفسير لا يليق بحق الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، والذي بين في الكتاب كلما يهم الإنسان من الأحكام. إذا فالآية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن (الحج أشهر معلومات). يعني أن لكم أيها الناس أن تجعلوا للحج أربعة مواسم ، (رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم وهي الأشهر الحرم) ، فيكون الحج فيهن مفتوحا للناس ، ومسموحا للطائعين والعالمين والركع والسجود من الناس أجمعين بل للعالمين ، إن الله وسع الزمان في الحج وحدد المكان فعرفات محدود ، ومتى محدود ، والحرم بأكمله محدود . لكن الزمان مفتوح في هذه الأشهر الأربعة ، ومسموح فيها بلا حرج ولا تشديد. إن العلماء الذي قالوا أن المراد بالأشهر بعض ذي الحجة ومحرم ، أو بعض ذي الحجه وذي القعدة لم يفهموا أن القرآن منزل للعالمين ، للناس جميعا إلى يوم الدين ، فأخذوا الآية بمأخذ العصر الذي هم فيه ولم يدركوا أن وسائل المواصلات ستجعل الإنسان يصل إلى مكه من أقصى الأرض في يوم واحد ، وأنها ستستقبل من الحجاج الملايين في أسبوع واحد.
لكننا الآن وصلنا إلى هذه الحقيقة ، وأصبح الحج ممكنا للناس أجمعين وأصبح من الممكن أن يصل ملايين الناس إلى مكة في يوم واحد ، من كل فج عميق ، وعليه فإن مواجهة هذا الكم من الحجيج يتم بالعمل بالآية ، وينحل الإشكال وينكشف بالتطبيق للآية العددية ، بل تنفتح بها مجالات الحج لكل قادر بلا تحديد عدد لكل دولة ، فالناس مدعوون للحج من كل جنس ووطن ، ومن كل لون ودين ، فكيف يتم هذا ونحن محددون للحج بشهر واحد .
إن الحج كما يقول الله (أشهر معلومات) إنها الأربع الأشهر الحرم ، فكلها تصلح موسما للحج ، بدليل أنه سماها معلومات ، فلماذا سماها معلومات مع أنه قال في شهر الصيام (أياما معدودات)؟؟ إن هناك لا شك فرقا بين التعبيرين فالمعدود يعني أنه يحتاج إلى أن يعلم ، ولهذا سماه الله وقال : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) البقرة 185 . وإذا كان الله قد حدد شهر الصوم وسماه فذلك لنعرف عدد الأيام التي نصومها ، فكيف لم يحدد أشهر الحج ويقول مثلا :شهر ذي الحجة الذي تقام فيه المناسك ، لكنه عدل عن هذا وقال (أشهر معلومات) ومن المعروف بأنها الأربعة الحرم (فمن فرض فيهن الحج) وتأملوا الآية (فمن فرض فيهن الحج) إن الضمير في كلمة (فيهن) يؤكد أن المراد عودته إلى الأربعة الأشهر المعلومات ، فهن يصلحن جميعا لفرض ونية الحج ، فمن فرض منكم يأيها الناس فيهن أو في أحدهن الحج يكن مقبولا عند الله الذي يخاطبكم بلسان عربي مبين .
قد تقولون وكيف يكون الحج في هذه الأشهر الأربعة؟؟ ومتى يكون العيد؟؟ وكيف يكون النحر والناس قد تعودوا على موسم واحد ويوم للنحر واحد وعيد واحد؟؟ هو في ذي الحجة أي في العشر الأولى منه. نقول تلك عادة إعتادها الناس ، لأن النبي حج في هذا الشهر فاتخذ عادة ، ولم يدرك الناس أن الزمان سيتغير ويدور حتى يصبح من الواضح لهم أن للناس أن يحجوا في الأربعة الأشهر المعلومات.
قد تقولون .. أسلمنا بأن الحج أربعة أشهر فكيف نحدد الوقوف بعرفة ويوم النحر ؟؟ نقول أن التحديد وارد كما حدد في ذي الحجة ، فليكن يوم الوقوف هو اليوم التاسع من كل هذه الشهور ، وليكن يوم النحر هو اليوم العاشر من كل هذه الشهور ، تماما كما هو في شهر ذي الحجة الآن ، ولتأكيد هذا المعنى ولإبراز هذه المهمة التي تهتم بتحديد يوم الوقوف ويوم النحر نقرأ :جاء في سورة البقرة عقب آيات الصيام قول الله سبحانه وتعالى : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) تأملوا ...يسألونك عن الأهلة أي عن سبب نقص القمر وتقديره منازل في النقص والإكتمال ، فقال الله مجيبا أن الحكمة هي أنه (مواقيت للناس) في كل شيء وفي كل مهمات وأمور الحياه ، وكان هذا يكفي لكنه خصص بعد التعميم فقال بعد ذلك (والحج) ليدل على الأهمية ، وإلا فلماذا تأتي كلمة (والحج) إذن فالأهلة هي الدليل العملي لتحديد أول يوم من الشهور الأربعة ليعرف بذلك اليوم التاسع واليوم العاشر ويتحدد برقم .
ثم أن موقع هذه الآية (يسألونك عن الأهلة) ومجيئها عقب آيات الصيام تدعونا للتأمل ، فالصيام جدير بأن يعرف أول أيام شهره ، فلماذا لم يذكر الصيام وذكر بدلا عنه الحج ، إن هذا إشعار لنا بأن الصيام يمكن تحديده بالهلال أو بإكمال العدة ، لأنه شهر واحد وأيامه معدوده ، كما وصفها الله ، ولم يقل كما قال في الحج معلومات ، فكان الحج هو الأهم بالذكر في آية الأهله ، لأنه لا بد أن يحدد أول كل شهر من شهوره بدقه ليعرف اليوم التاسع والعاشر بدقة ،
فالأشهر أربعة لابد أن يكون لها علامات تدل على بدايتها وإمارات واضحة الدلالة وتلك هي الأهله . إن كل شهر من الأربعة لا بد أن يرقب المسلمون هلاله ليعرفوا ببدايته موعد وقوفهم ونحرهم وأيام حجهم ، وعليه فإن يوم تاسع رجب هو يوم عرفه ، ويوم تاسع القعده هو يوم عرفه ، ويوم تاسع الحجة هو يوم عرفه ، ويوم تاسع محرم هو يوم عرفه .
كما أن يوم عاشر هذه الشهور إنما هو يوم النحر ، وما يليها هي أيام التشريق ، تماما كما هي في شهر ذو الحجة الذي إعتدنا عليه .وبعد هذا التقرير الذي أرجوا أنكم قد فهمتموه ، ألفت انتباهكم هنا إلى شيء هام ، هو قوله تعالى في آيات الحج وهو يعلمنا المناسك ويتحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) البقرة 203 لماذا سماها معدودات ولم يقل معلومات؟؟ لأنها فعلا معدودة فهي ثلاثة أيام وهي أيام التشريق ، لكنه وصف أشهر الحج بأنها معلومات لأنها مسماه معلومه مشهورة ، بل موصوفه بأنها الأشهر الحرم ، فهي معلومه لكل الناس ، للمسلم والكافر ، والبادي والحاضر ، والمقيم والمسافر ، والأول والآخر ، بلا لبس ولا اختلاف ،
ولهذا كان الكفار يحتالون على حرمتها بالنسيء ، الذي وصفه الله بأنه زيادة في الكفر وبأنه ضلال مضر ، ثم أنه وعلى ضوء فهم الفرق بين معلوم ومعدود ألفت إنتباهكم إلى شيء هام آخر ، هو قوله تعالى في سورة الحج : (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ?27? ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) الحج 27/28 نعم إنها أيام معلومات ، معلومات بكونها تبدأ من يوم معلوم وتنتهي في يوم معلوم فهي أيام معلومة في الأشهر المعلومة ، تلك هي التاسع والعاشر وما يليها من أيام التشريق ، فهي معلومات في أشهرها المعلومات .
ثم تعالوا معي إلى دليل ثالث ، يؤكد أن الحج يصح في الأشهر الأربعة وهو قولة تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة 36 إن هذا يؤكد أن هذه الأشهر ازلية أبدية ، معلومة للملائكة وللأفلاك ولكل المخلوقات ، التي سبقت الإنسان ، ولا تزال معه مدى الزمان .
إنها مشهورة في السموات والأرض ، ومعروفة لمن وما بينهما من الخلق المدركين لما حولهم ، الموجودين قبل الناس ، فما بال الناس يظلمون أنفسهم فيهن ، وينسون حرمتها وجلالها ، ويجهلون معلوميتها.إن شهرتها وحرمتها وعددها معروفة عند كل خلق الله ، بل وقبل ذلك (عند الله) وهو الله أكبر من كل شيء ، وهو الله خالق كل شيء ، وهو الذي إختار لنا الدين القيم ، فكبروه ، واجعلوا الأشهر الحرم موسما لحجكم ، لتنالوا القرب عند ربكم ، وتزيحوا الظلم عن أنفسكم ، ثم (واعلموا أن الله مع المتقين) .
ثم تعالوا معي إلى سورة الفجر ، فإن شعاع الفجر هناك يكشف لنا سرا عن الحج ، وتشير لأيامه ولياليه بأسلوب بديع لنقرأ السورة من البداية : (والفجر) الكلمة جائت معرفة بالألف واللام (والفجر) ثم ماذا لنقرأ : (وليال عشر) إنها بدون ألف ولام ، إنها بدون تعريف كالأولى قبلها ، إنها بدون حرفي التعريف ( أل ) ثم إنها منكره (ليال) منكرة وصفتها (عشر) منكرة ، فالتنكير شمل الصفة والموصوف (وليال عشر) لماذا هذا؟؟ ... إنتظروا حتى نكمل المشوار ثم لنقرأ ما بعدها :(والشفع ) (والوتر) إنها مثل الأولى كلمة (والفجر) محلاة بأداة التعريف أي معرفة بالألف واللام ، ثم نأتي إلى الأخيرة وهي (والليل إذا يسر) الليل معرف كذلك بالألف واللام ، فلماذا.. لماذا هذا الأسلوب ؟؟
لماذا تعرفت الكلمة الأولى والأخيرات ، وتعرت الثانية عن التعريف ؟؟ إسألوا أنفسكم لماذا عرفت الكلمات المقسم بها كلها إلا كلمتي (وليال عشر)؟؟ لماذا عرفت التي قبلها والتي بعدها بالألف واللام؟؟ وهي لم تعرف مع أن الأسلوب الأمثل أن تعرف جميعا وهذا هو المناسب لقواعد البيان؟؟ لكن التنكير هو البيان ، فتنكيرها يعني أنها فعلا ليال عشر متكررة مع الشهور، وليست معهودة في شهر واحد ، فهي تتكرر في رجب وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي محرم ، وهي التي نعرفها بالأهلة التي هي مواقيت للناس والحج ، وما أشهر الحج إلا كل الأشهر الحرم الأربعة المعلومه عند الله وعند خلقة منذ خلق السموات والأرض ، ثم لنسأل أنفسنا من جديد ، لماذا لم يقل والليالي العشر ، بل قال وليال عشر؟؟ إن هذا لكي يخرجها من التخصيص لان الأشهر أربعة ، وليدلنا ويبين لنا أنها ليالي متكرره مع كل شهر حرام وهي موسم الحج العام.
وبعد ،،، هذه مجرد إشارات ، أصفها أمام المهتمين بشئون الحج في السعودية وسواها ، وأمام المسلمين في كل مكان من الأرض ، ولكل من عاصرنا فيها أو يأتي بعدنا عليها ، إن هذه قضية ستجعل الحج عاما للناس ميسورا ، وتجعل الزمن أمام الناس مفتوحا ، لا تضييق فيه ولا تقسير ، ولا تحديد للعدد ولا تقطير. إن الله قد حدد للحج المكان وعين حدود كل الشعائر والمواقع ، فعرفات له حدود ، ومنى ومزدلفه كذلك ، بل أن الحرم كله محدود بحدود ، ولكنه فتح للناس الزمن ووسع فيه ، لتظهر آيات الله ، فيكون الحج مفتوحا في الأشهر الأربعة ، فمن فرض فيهن الحج فمكانه محدود ، وسلوكه محدود (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
إن الزمان متعدد والمكان محدود ليقبل الناس على الحج بعدد أكبر وليتعلموا القبول بالآخر ، وليحسنوا في التعامل مع من حضر (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).وبذلك يكون لهم عند الله العليم السميع ، مقام رفيع ، (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) ولكي نعمل الخير فلا بد من التزود بشيء هام ، وهو قوله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) . أي لكي تحجوا وبعمل مقبول ، فإن زادكم هو التقوى ، وإنها فعلا خير زاد ، وكيفلا والله يقول في ختام الآية (واتقون يا أولي الألباب) وأولوا الألباب هم الذي يعرفون الله ويقدرونه حق قدرة ويعلمون أن الله يقول :(إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27
ثم إذا جئنا إلى آية التوبة المذكورة سابقا وهي (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) التوبة 36 ستجد أنه قد جاء بعدها مباشرة قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 نعم لو جئنا على هذه الآية والتي قبلها ، وفهمنا مرادها ، وتدبرنا مرماها لمسنا وجلا من الله وخوفا على غفلتنا وإغفالنا هذه الأشهر الحرم فلم تعد لدينا أشهر حرم ، ولم نعد نحرم فيها ما حرم الله ، إننا في حالة نسيء ، وإذا كان الجاهليون يحلونه عاما ويحرمونه عاما فإن النسيء عندنا أصبح دائما ، ولا ندري أننا قد نسينا أنفسنا ، وزين لنا عملنا ، وأضحينا بعيدين عما يريد ربنا ، وعن فهم آياته البينات. وليت شعري ما الذي دهانا ، ومن الذي زين لنا سوء عملنا ، إنه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، واتخاذنا الدين لهوا ولعبا وذلك شأن الكافرين ، الذين يقول الله عنهم وهم في جهنم يتمنون شيئا من ماء الجنة (إن الله حرمهما على الكافرين ?50?) من هم (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) ثم ماذا بعد (وما كانوا بآياتنا يجحدون ?51?) الأعراف 50/51 وهذا هو بيت القصيد ، فإننا بالآيات نجحد ، وفي الدين نلهو ونلعب ، وللدنيا نسعى ونتعب ، وهذا هو الذي يسوق إلى نار ذات لهب فاستيقظوا أيها النائمون على الشهوات ، قبل أن يوقظكم الموت وتدبروا آيات ربكم ، واقبلوا عليها قبل أن تدبروا عن الدنيا وتساقوا للقاء ربكم وتحاسبوا عليها ، وتقولوا (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام 27
قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ... لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة .
وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة).
ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا .
ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.وها نحن نواصل البحث في آيات الحج وكلماته بما يزيدنا إستنارة .
تذييل وبيان لمفردات الحج والمكان
كلمة البيت
هل المراد به تلك العمارة الصغيرة المربعة وسط المباني المستحدثة المحيطة بها؟؟ هذا ما يفهمه الناس ، وهذا ما شاع بين المفسرين ، ولكن هل هذا فهم صحيح يتفق مع القرآن المبين؟؟ تعالوا معي نتبين الآيات ولا بد أن نصل إلى معنى آخر يخالف فهم الأولين . البيت في اللغة أولا هو المكان الذي يؤمن للإنسان البيات في أمان ، والسكن باطمئنان ، فهو مأخوذ من البيات أي السكون ليلا فأطلق على كل مكان يؤمن الليل للإنسان بيتا ، فهو مصدر بات يبيت يقال بات يبيت بياتا ، ولهذا جاء قولة تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون) الأعراف 97 . ثم أطلق البيت بشكل موسع على كل مكان يضمن للإنسان الأمان والسلام في الأرض ولو في الليل أو النهار ولهذا قال الله لقوم صالح (وتنحتون الجبال بيوتا) الأعراف 74 (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) الشعراء 149 (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل 80 ، ومع هذا التحول في معنى البيت فقد تحول إلى معنى أوسع هو المنطقة أو المدينة أو القرية التي يسكنها الإنسان ولهذا قال الله عن النحل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68 ، وليس المراد هنا إلا أن تتخذ الجبال والشجر بيوتا ومن ما يعمله لها الناس من المزارع والمواقع الواسعة ، إذن فليس المراد بالبيت هنا هو مكان الخلية الصغير للنحل ولكن مكان الإنطلاق والأمان والسلوك في الأماكن بإطمئنان . فالجبال الشامخة وما حولها قد تتخذها وتختارها لها بيوتا آمنه وقد تختار الأشجار والغابات الملتفة بيوتا تكون فيها منطلقة وكامنة وسالكة وآمنة .
وعلى هذا الأساس يقول الله لرسوله محمد وهو يخرج إلى بدر (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الأنفال 5 ، فالمراد بالبيت هنا هو المدينة بأكملها لأنها أهله وأحبابه وأنصاره وأصحابه ولهذا قال له في آية أخرى عند خروجه إلى أحد (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121، وهكذا أطلق البيت على الأهل ثم المدينة بأكملها لأنها محببة إليه كأهله ومأمنه كبيته وإذا كان هذا في شأن النبي وحده وفي شأن النحل وحدها فكيف يكون فهمنا لمعنى البيت الذي هو للناس أجمعين. إنه لا بد أن يكون معناه مكانا كبيرا واسع الأبعاد ، له حدود معروفه متباعدة ، وعلى هذا الأساس نفهم أن البيت حين يطلق في الآيات المتعلقة بمكة لا يعني إلا المنطقة الحرام كلها ولا يعني إلا كل المواقع التي تقام فيها المناسك وتؤدى ،
فالبيت يطلق على ما يقع داخل حدود مواقيت الإحرام المعروفة للشامي واليماني والعراقي وسواها والمحددة في كتب الفقه فالبيت هو مكة وما حولها من المناطق الحرام ومن مشاعر الحج والإحرام .هكذا يجب أن نفهم البيت وهكذا يجب أن يكون معلوما لذوي الأفهام . فهو لا يعني البناية والحجرة الصغيرة التي تتوسط المباني المعدة للصلاة (المسماة بالحرم) ولا يعني أيضا المباني المستحدثة المحيطة لأنها تستحدث وتتوسع في كل زمان فلو أطلقنا البيت عليها لكان المعنى أن من هدم جدارا ووسع فكأنما هدم البيت الحرام ، وهذا غير صحيح ولصار المعنى أن من صلى قبل التوسع في المباني الحالية لم يصل في البيت الحرام وهذا غير صحيح ، إن البيت الحرام هو كل المنطقة الحرام وكل المشاعر الحرام المحددة المعالم منذ أقدم الأيام ومنذ آلاف الأعوام .
قد تسألون عن الدليل على ما أقول ،، وأنا أسألكم أولا :هل أنت أيها الحاج تنحر الهدي في المبنى الصغير المسمى الكعبة أو تحمله إليه؟؟ كلا إنما تنحره في منى وتحمله وتنحره هناك وإذا كان الأمر كذلك فاسمع ما يقول الله "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 33 ، أين هو البيت العتيق هل هو الكعبة الصغيرة إذن فقد سمى الله محل النحر وهو منى البيت العتيق ، يعني أنه من البيت العتيق.فللحاج أن ينتفع بالهدي ما دام سائر إلى مكة ثم إذا نحره فلا ينحره إلا في المحل المحدد للإحلال وهو منى والذي هو كائن بشكل جزء من (البيت) فإذا نحرت فيه فقد نحرت في البيت.. وبعد فهل في هذا بيان أم تريدون المزيد من البيان .ها أنذا أتلو عليكم قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37، فقل لي هل يريد إبراهيم بالإسكان لبعض ذريته عند البيت هذا المبنى الذي نراه الآن ؟؟ إذا كان يريد ذلك فلما قال (بواد غير ذي زرع) إذن فالإسكان كان في مكة كاملة التي هي محرمة ، بحدود معلمه ، وهي البيت المحرم الذي أراده إبراهيم. قد تقولون ألم يقل (عند بيتك) فمعنى هذا أن الإسكان كان عند أو قرب هذا المكان الصغير الذي نراه يتوسط العمران .ولكن كلمة عند لا تعني القرب ولكنها تعني الظرفية أي في بيتك المحرم لكنه استعمل كلمة عند ليؤكد اختلاطه بالمكان المحرم كله والتزامه به وحصر إقامته عليه (بواد غير ذي زرع) ولذلك فهو يسأل الله أن يرزق ذريته من الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ثم يعلل الإقامة بأنها ليقيموا الصلاة والصلاة هي الطاعة والالتزام بحرمة المقام. فلا يعتدون ولا يصطادون ولا يفسدون ولا يطلمون .ولا يريدون إلحادا لظلم ولا يتجاوزون ما هو محرم بل يتقون ويشكرون المنعم ويتطهرون ويطهرون الحرم وهكذا عهد الله إليه بما يدل على أن المراد بالبيت هو الحرم كله (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125، فهل المراد بالبيت هو المكان الصغير؟ أم المنطقة الحرام كلها إلى أطراف حدودها؟ إن الثاني هو المراد بلا شك والدليل عليه قوله للطائفين وهم الذي يطوفون عند الوصول إلى مكة والعاكفين وهم الذي يقفون في عرفات والركع والسجود وهما الذين يذكرون الله في منى أيام التشريق. وعلى هذا الأساس فإن علينا أن نفهم قول الله تعالى في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحج 26 بأن المعنى : عرفنا لإبراهيم مكان البيت أو حددنا لإبراهيم مكان البيت لأن بوأ تعني أسكن لقوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) لكن حرف الجر "وهو اللام" في آية الحج (بوأنا لإبراهيم) ضمن الفعل معنى جديدا مضافا إلى معناه الأصلي ذلك المعنى الجديد هو(عرفنا أو حددنا) على أن الفعل قد يكون بمعنى مكناه إذا جاء بعده حرف الجر (في) مثل قوله تعالى لقوم صالح (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) الأعراف 74. أي مكنه في الأرض وعليه فإن آية الحج تعني (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي عرفناه حدود هذا البيت بحيث يكون ما بين هذه الحدود هو البيت الحرام ولهذا جاء بعدها : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26 ولا يمكن أن يكون المراد بالبيت هو المبنى الصغير لأن الطائفين والعاكفين والركع والسجود هم الذي يقودون مناسك الطواف والوقوف بعرفات والإقامة للصلاة والذكر والنحر في منى وهذه هي المشاعر الحرام ، أو هذه هي مكونات البيت الحرام .
وإذا تأكد هذا الفهم فإننا ندرك معنى آية البقرة التي يقول الله فيها : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125. فالمراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة لأنها هي المثابة وهي الأمن كاملة ، لا مجرد المبنى الصغير المربع المعروف ، وهو البناء الذي يتوسط المقامة حوله للصلاة والطواف.وإذا كنت يا أخي في ريب من هذا الفهم فاقرأ قوله تعالى بعده بقليل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125 فهي تعني أن الأب وابنه قد عهد الله إليهما أن يطهرا المنطقة كاملة من كل ظلم وإلحاد ، إلا أنه استبدل بكلمة القائمين كلمة العاكفين وكلاهما تعني الواقفين بعرفات وإذا لم يكن كذلك فهو يعني والعاكفين والمقيمين في هذا البلد الأمين. ثم اقرأ بعد ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 ، فلقد أطلق كلمة (بلد) على البيت ، وهذا يدل على ما قلناه من أن المراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة وإذا لم يكن كذلك فكيف يكون له أهل ولهم رزق وثمرات؟ هل يمكن أن يسكن الناس في المبنى الصغير (المكعب) وهل هم أهله وسكانه؟؟ ثم استمر معي في القراءة لنجد قوله تعالى في آية تدل على أن كلمة البيت أطلقت على المنطقة قبل رفع قواعد المبنى الصغير .. تلك الآية هي قوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 ، نعم إن إبراهيم بعد أن بوأ الله له مكان البيت وحدوده وعرفه بداية المنطقة الحرام ونهايتها من كل الجوانب . بدأ إبراهيم في بناء مركز يكون هو بعلم الله مركز الدائرة للبيت الحرام وللأرض كلها كما سيتضح ذلك فيما بعد.
فالمركز هذا أو مركز الدائرة هو الذي رفع إبراهيم قواعده لكنه ليس البيت ولكنه جزء من البيت ولهذا قال (القواعد من البيت) فأتى بحرف الجر (من) ولو كان هذا المبنى هو البيت لقال (قواعد البيت) بدون حرف من . وبعد فهل اقتنعت يا أخي أن المراد بالبيت في آيات القرآن الخاصة بمكة والحج هو المنطقة الحرام كاملة؟؟ لعلك قد اقتنعت أو قريب من الاقتناع وعلى هذا الأساس من الفهم لمعنى الكلمة أدعوك إلى الآية الهامة التي وردت في سورة آل عمران وهي قوله تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران 96
نعم إن أول بيت وضع للناس هو هذا الذي ببكة مباتا ومأمنا ومثابة وقياما .ولهذا قال وضع والوضع لا يعني إلا البسط والتمهيد والمد والتسخير ولهذا قال في سورة الرحمن (والأرض وضعها للأنام) 10. أي بسطها ومهد، إذن فالمنطقة التي بمكة هي أول بيت وضع للناس.
وهنا آخذك لمعنى جديد وهام وفهم جميل يدل على السلام؛ ذلك أن كلمة أول بيت تدل على أنه قد لحقه بيوت وبيوت للناس وقد تبعته مواقع ومناطق للسكن والاستئناس، هذا ما تدل عليه كلمة (أول) فما هي البيوت التي تلته ؟ إن هذا يجرنا إلى أن نفهم أن المعنى أن مكة أو بالأصح بكه هي أول منطقة أرضيه صلحت للإنسان ليسكن ويستقر بعد أن كانت الأرض مغمورة بالمياه والمحيطات المتأججة الحرارة لكن مكة أو بالأصح بكه هي أول بقعة في الأرض جفت وانحسر عنها الماء المضطرب الأمواج بشكل هائج .فأصبحت هذه المنطقة آمنة من الهياج وبيتا صالحا للإنسان القادم إلى الأرض خليفة بعد أن لم يكن له ذكر قبل ذلك من الأزمان.وللتدليل على هذا المعنى جاءت كلمة بكه ولم تأت كلمة مكه ، والبك هو المص والشفط والتجفيف فهي منطقة انبك عنها الماء وجف وأصبحت صالحة للإنسان المستخلف فهي أول بيت وضع ولا بد أن تليه بيوت وتوسع وهكذا استمر البك في مواقع أخرى وتوالى الانحسار المائي حتى أصبح للإنسان بيوتا ومواقع وقطع في الأرض صالحة للحياة والسكن وفيها له مأمن ومأوى من الماء الهائج الغامر لما تبقى ، وهكذا بقيت المحيطات والبحار الصغرى تحيط بالأرض الجافة الصالحة المرتفعة عن سطح الماء لتصلح للسكن ولتستمد من البحار الرطوبة والرخاء والبخار الذي يجعل الجو ناعما سلسلا طريا ، الهواء منعشا للحياة والأحياء ، وهكذا يتضح لنا أن مكة أو بكه هي أول أرض وضعت للإنسان بإذن الرحمن، وتلتها العديد من الأوطان ، لتصلح لنمو الناس وتكاثر السكان وعليه فلا غرو ولا غرابة أن يجعل الله في بكة هذه آية للناس ، ذلك هو هذا البيت الحرام الذي يستحق أن يحج إليه الناس بشكل عام وأن يجعلوه هو المثابة لهم والقيام وأن يكون أنموذجا للأمن والسلام ، ليصبح أنموذجه معمما في كل الأوطان ، فتكون بيوتا آمنة للخاص والعام ، على مدى الأيام. ولهذا كان البيت الأول أو أول بيت موصوفا بأنه (مباركا) ، (وهدى للعالمين)، وأن يوصف بأنه (فيه آيات بينات)، ثم أن يلزم الله الناس أن يجعلوه أبدا ، متسما بسمة هامة ، وعلامة عامة ، هي : (ومن دخله كان آمنا) ولأنه هكذا فهو (مقام إبراهيم) وما هو إبراهيم؟ إنه الإنسان الذي جعله ربه العلام ، للناس الإمام ، على مدى الأجيال والأعوام ، إلى يوم القيام .ولأن هذا البيت الأول المبارك ، والهدي الأمثل، له هذا الصفات التي لا تماثل ، فإن لله على الناس واجبا به تنصل هو قوله : (ولله على الناس حج البيت) فهل كلهم مدعو لهذا الحج بلا عذر كلا بل أن فضل الله تضاعف فقال (من استطاع إليه سبيلا) فمن استطاع فقد وجب عليه الحج ، وليس له أي عذر أو حجج ، فإذا تخلف فقد استغنى ، وعن فضل الله خرج ، ولهذا قال الله ببيان أبلج (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) نعم إنه إنما يدعونا لفضله وعطائه ولنتعلم بالحج من هداه ولننال من بركاته وآياته ما يرضاه ، فإذا أبينا ذلك الفضل المبين ، فإنما حرمنا أنفسنا وكنا لها ظالمين ، وكفرنا بالله ذي القوة المتين ، واعتمدنا على المتاع التافه المهين .أما الله فهو الذي لا يزيد في ملكه العظيم كل العباد العابدين ، ولا ينقصه كفر الكافرين (فإن الله غني عن العالمين) أليس هذا هو البيان التام الذي يدلنا على أن البيت هو المنطقة الحرام وليس هو المبنى الصغير الذي لقواعده إبراهيم رفع وأقام بل أنه جزء من البيت ومركز الدائرة الهام .
ثم هل أزيدكم تأكيدا على أن البيت هو المنطقة الحرام؟!اقرءوا معي من سورة قريش قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت) 3 ، ثم قوله تعالى في سورة النمل ملقنا رسوله محمدا أن يقول : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) 91 ، إذن فالبيت الذي في سورة قريش وفي سورة النمل هو البلد كاملا ورب ذلك وهذا هو الله الذي حرمها وله كل شيء والذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم لنقرأ معا سورة التين :(والتين والزيتون ?1? وطور سينين ?2? وهذا البلد الأمين ?3?) 1-3 فالبلد الأمين هو البيت الأمين ، وهو الذي من دخله كان آمنا ، ثم لنقرأ سورة البلد : (لا أقسم بهذا البلد ?1? وأنت حل بهذا البلد ?2?) 1,2 فهل كان النبي حالا في البيت الذي يتعهدون أم في البلد الحرام الذي هو البيت الحرام ، أي الذي هو المنطقة الحرام . وهو الذي يقول الله عنه في سورة القصص (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) هكذا قال أهل مكة مدعين أنهم حماة أنفسهم لكن الله يجيب (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) القصص 57 فهل الثمرات تجنى إلى البيت بمعنى المبنى المحدد والمعروف؟ كلا . ولكن إلى البلد كلها وأهلها. ثم قال الله في سورة العنكبوت :(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) 67. فالحرم الآمن هو البيت الآمن ، وهو المنطقة الحرام كلها فمن دخلها من أي اتجاه ومن أي زاوية ومن أي مكان كان آمنا ، ولهذا كان سوق عكاظ مكانا آمنا ، فمن دخله كان آمنا ولم يتعرض لأذى .
والآن وقد عرفنا أن هذا هو أول بيت وضع للناس بالمعنى الذي شرحناه أفليس من المتوقع أن يكون - بل من اليقين أن يكون (فيه آيات بينات) ولا بد أن تتضح للناس على السنوات لاسيما للباحثين في هذه الآيات والمسلحين بعلم الجيولوجيا وعلم ما في الأرض من طبقات. ولعلي بهذا أكتفي لأختم قولي بأن من المناسب جدا أن يسمى البيت العتيق ، أو أن يوصف بأنه (البيت العتيق) كما جاء مرتين في سورة الحج (ثم محلها إلى البيت العتيق) (وليطوفوا بالبيت العتيق) فهو العتيق أي القديم الأصيل ، الأول على سواه كما وصفه الله الجليل (إن أول بيت وضع
(الكعبة)
وبعد هذا أدعوكم الآن إلى كلمة أخرى هي (الكعبة) فلقد وردت في القرآن. فهل هي تعني هذا المبنى الذي رفع قواعده إبراهيم؟ وهل هي إذا وردت تطلق عليه؟ أم لها معنى آخر تدل عليه؟؟ لعلكم ستفاجئون إذا قلت لكم أن كلمة (الكعبة) لا تعني هذا المبنى الصغير أو المبنى الذي أقامه إبراهيم بل تعني شيئا آخرا. فما هو؟ انتظر الجواب يا أخي القارئ وتأمل الكلام تأمل أولى الألباب ، وأنا لا أسألك أن تستقبل كلامي بالترحاب ، حتى تتأكد من صحة القول وسلامة الأدلة وسأوردها من القرآن الذي هو علم الله .
لقد وردت الكعبة مرتين في القرآن ، أي في آيتين فقط وفي سورة المائدة فقط ، هي أولا قوله تعالى :(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، أما الثانية فهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) المائدة 95 .
إن المفسرين يقولون أن البيت الحرام في الآية الأولى رقم (97) هي عطف بيان للكعبة ، أو هي بدل على جهة المدح لا على جهة التوضيح ، لكن هذا التأويل غير مقنع لأن البيان أو البدل لا يأتي للمدح إلا قليلا أو نادرا ، لكن الواقع هو أن الكعبة هي نفسها البيت الحرام بمعناه العام الذي فهمناه فالبيت الحرام بدل أو عطف بيان للبيان لا للمدح ، فالأسلوب هنا يريد أن يقول لنا أن الكعبة اسم للبيت الحرام الذي يعني كل المنطقة الحرام ، بما يعني أن هذا البيت الحرام موصوف بأنه الكعبة. إذن فالكلام مبني على إشعارنا بمعنى جديد وحقيقة جديدة هي أن الكعبة قد بينت بأنها البيت الحرام ، فكلمة البيت الحرام عطف بيان أو بدل ، وهذا هو الفهم الأمثل ،
وإذا اردنا الدليل فإن الآية الثانية التي وردت فيها كلمة الكعبة تقدم الدليل الذي لا ينكر بل يدعم ما نقوله بشكل واضح وأمثل فاقرءوا معي الآية 95 لتتضح لكم القضية يقول الله مخاطبا المؤمنين : (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إن الله يوجب على من قتل الصيد وهو حرم أن يكون جزاؤه حيوانا مقوما مثل الصيد المقتول ويكون من الأنعام يحكم به ذوا عدل من الناس أولى الأفهام ، فإذا تحدد هذا الجزاء فإنه سياق ينحر في مكان النحر المحدد وبالغا إليه بلا تردد ، ولهذا يقول موضحا هذا (هديا بالغ الكعبة) هذا هو الجزاء لمن صاد وهو حرم. وهنا أسأل هل الهدي الذي ينحر يساق إلى غير منى؟؟ فلماذا قال الله (هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة أو المبنى الصغير بالمعنى الذي تفهمونه من التفاسير؟ هل هذه الكعبة بهذا المعنى هي محل النحر للهدي؟؟ كلا. بل محل نحر الهدي هو منى ، كما هو معروف لنا ولمن قبلنا ، أليس هذا الواقع الذي يعرفه الناس على المدى؟ فلماذا قال (هديا بالغ الكعبة)؟؟
إذن فإن (الكعبة) هي اسم آخر للبيت الحرام وهي اسم أراده الله ليدلنا على أن معاني هذا البيت متنوعة وأسمائه وسماته متعددة ، كما أن آياته غير محدودة ، فهو البيت الحرام وهو الكعبة ، بل وله أسماء أخرى وأوصاف أخرى تدل على الاهتمام ، سيتضح لكم ذلك فيما سيأتي من الكلام. أكتفي هنا بشأن (الكعبة) ، بهذا الدليل الواضح البيان لكل ذي عقل وجنان ، وممن تدبر القرآن بإمعان..
قد يسأل سائل إذا كانت كلمة (الكعبة) لا تعني المبنى الصغير الذي رفعه إبراهيم وأنها تعني كل المنطقة الحرام ، فلماذا تسمى هذه المنطقة كلها (الكعبة) ؟ إنه سؤال جيد .ولهذا تعالوا معي إلى معرفة معنى كعب في اللغة العربية ، ولن نطوف في كتب المعجمات ولكن لنقرأ ما جاء في المنجد فقط ، فمما قال في وسط المادة كعب كعوبا (الجارية نهد ثديها) كعب الأناه ثلاثة ، كعب الشيء جعله مكعبا ، الكعب جمعه كعوب كلما ارتفع من الأرض ، الشرف والمجد ، بل وقال الكعب كل مفصل للعظام : العظم الناشئ ، العظم الذي يلعب به ، العقدة من عقد الرمح ، الكعب في علم الهندسة : المجسم الذي له ستة سطوح مربعه متساوية ، كل بيت مربع الغرفة ، أكعاب نصوص النرد ، الكعبة بكارة الجارية جمعه كعاب ، يقال جاء به كعاب وكعب إذا نهد ثديها ، ويقال وجه مكعب إذا كان جافيا ناتئا ، ثم قال أخيرا "وهذا شيء هام في الموضوع" المكعب المجسم الذي له ستة سطوح مربعة متساوية وما كان على هيئته. وختم المادة بقوله : وفي الحساب (مكعب العدد) هو الحاصل من ضربه بمربعة ، فثمانية هو مكعب اثنين.هذا هو أهم ما جاء في المادة كعب وقد جاء ضمنها (الكعبة البيت الحرام بمكة) وليس المهم ما قاله عن الكعبة أو أين وضعها من المادة لكن المهم هو معنى المادة واشتقاقاتها فلو رجعنا نستقرء المعاني والمشتقات لوجدنا (البكارة) التي تعني البداية ولوجدنا العلو والرفعة ولوجدنا الاستدارة والتسديس والتربيع ولوجدنا البروز والظهور ولوجدنا الجمال والحسن ولوجدنا القوة والجلادة والفتوه والجفاف والتجمع والانضمام ثم التضاعف والتزايد الذي يعني البركة والنماء .
فكل المعاني الجميلة التي أرادها الله لهذا البلد الحرام مجتمعة في كلمة الكعبة فهي البارزة الغير خافية وهي الناهده الغير جافية ، وهي مفصل الأرض ذات النجاح وعقدة اللقاء والانفراج وهي نقطة البداية للتكوير والانبعاج وهي مهد ونهد البسط والامتداد وهي معقد الشق والانشراق .وهي مركز الرتق والانفتاق وهي بكر الأرض (أول بيت وضع للناس) وهي مباركة وهدى للناس وهي قيام الناس ومثابة لأنها بارزة مشهورة رفيعة كاعبة. إن هذه الآثار والآيات الثاقبة ، وهي مهوى الناس قاطبة ، وهي مأمن لكل نفس راهبه ، وهي حاضرة في النفوس رغم أنها غائبة ، هذه بعض معاني الكعبة التي دلت عليها الكلمة ، ولها معاني تستظهر مع الأيام القادمة.
إذن أليس من الواضح أن تكون الكعبة في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام) هو المنطقة الحرام ولهذا قال تعالى بعدها البيت الحرام فهو عطف بيان أو بدل وهذا يعني بلا شك أن الكعبة اسم للمنطقة الحرام كلها وليس للمبنى الصغير الذي تعرض للهدم والإصلاح والتصدع وللانزواء في مساحته وللتوسع كما حكاه لنا التاريخ وكما يعرف ذلك المتتبع.
أليس بعد هذا البيان أيها الأخوان نصل معكم إلى إن اسم الكعبة اسم له سعة وشأن ونصل إلى أن المعنى الأصح للكعبة هو اسم يطلق على كل المنطقة الحرام الواضحة الحدود والأركان المعلومة الشعائر والمكان .أرجو أن تقتنعوا بلا ريب ولا تردد بل بترحاب للمعنى الذي تجسد ، لعلي إلى هنا أصل بكم وقد أجهدتكم ولكنه جهد مفيد لي ولكم ، وإنه لجهد محبوب ، مشكور بإذن الله من ربكم ، فهو يحب من تدبر الآيات بإمعان ، وتذكر المعاني باطمئنان ، لقد اعتمد على القرآن ، الذي فيه البيان.ولعلي قبل الوداع أعود بكم إلى الدليل الواضح من القرآن على إرادة المعنى الجديد للكلمة فلقد قال الله عن الذي يقتل الصيد متعمدا وهو حرم قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة بالمعنى المعهود لدينا ، هي التي يبلغها الهدي وينحر فيها ، كلا بل الهدي يبلغ إلى منى ، وهو محل النسك المعهود لنا ، والمعروف لمن نحر قبلنا.وهذا يعني أن منى جزء من الكعبة ، وعليه فالكعبة هي كل المنطقة التي ببكة الحرام ، ولهذا جاءت مبينة بعدها بلا انفصام بقول الله العلام: (البيت الحرام)
ثم وصف الجميع بقوله قياما للناس ثم عطف على الجميع قوله : (والشهر الحرام والهدي والقلائد) ثم بين لنا أن ذلك بعلم منه لأنه العليم بكلما خلق وعليم بما حكم به وأن حكمه هو المعمول به فقال : (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) 97. ثم أكد أن العمل بالتحريم لهذه الكعبة والبيت الحرام أمر هام فقال (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة 98 ، فلنكن حريصين على اجتناب العقاب الشديد الأليم ، ولنحاول التعرض للغفران والرحمة من الغفور الرحيم ، ولنكن على علم أن الله يعلم الظاهر والمكتوم ، ويجازي كل عبد بما يعمله فالرسول قد بلغنا بما أرسله وعلينا أن نتبع ما بلغ (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) المائدة 99
وختاما أقول : وإذا كان معنى (الكعبة) كما عرفنا فإن من المؤكد لهذا المعنى في الأفهام هو أن هذا المقام المكعب البارز ، المبتكر الناهد ، المعروف المشهور ، لكل عابد ، هو مهوى القلوب ، إليه تنهد وتكعب أرحال ، واليه تشد وتكعب الأحمال ، وإليه ترد وتكعب الرجال ، وإليه تأتي كل ضامر يشوق من كل فج عميق ، ويحمل عليها الناس والثمرات بلا تعويق ، فالكعبة كعبة للناس في كل زمان ومكان ، إليها يكعبون ويبرزون ، وإليها ينهدون ويبهزون ، وإليها تقطع الفيافي والحزون ، وإلى مكعبها تتبارك الثمرات وتتواكب الرحلات ، وتتراكب السنوات ، وتتناكب الخطوات ، وتتحرك الأهواء والرغبات ، وتتشارك الجماعات والثبات ، وتتسامك الأحاد والزرافات ، فهي الكعبة التي لا تخفى على الأمم ، وتحفى عنها القدم ، وتحتفي بها الهمم ، وتحف بها القلوب ، وتخف إليها منذ القدم ، وستبقى هكذا إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتخرج الذمم . بارك الله هذا المقام الأكرم ، وتبارك الله الذي جعلها كعبة ، وبهذا نسلم ، وقضى بأنها قيام للناس ومثابة وحرم ، وما حكم به وقضى فهو الحق لأنه بما في السموات والأرض يعلم ، ولأنه محيط علما بما يبدو وما يكتم ، وهو العليم بما يقضي ، والمحيط علما بكل شيء سماوي وأرضي ، ولقد فاز من لربه يرضي ولهداه يتبع باقتناع ، ولحكمه يسلم بحب بلا امتناع ، فالرسول قد بلغ و(ما على الرسول إلا البلاغ) وكل شيء سواه لغو وفراغ ، وكل حكم سوى حكم الله ضلال وظلام ، وكل قول سوى قول الله لباطل وحطام ، ألا إلى الله تصير الأمور ، وهو الرحيم الغفور.
(المسجد الحرام)
إن المسجد الحرام كلمة وردت كثيرا في القرآن وهي في مفهوم المفسرين تعني المكان الذي يطوف فيه الناس ويسجدون وفيه يتعبدون ويجتمعون ، أو فلقد كانوا يعنون بالمسجد الحرام هذا المبنى الذي يحيط بالصحن المعد للطواف ، والذي يتوسطه المبنى الأصغر الذي بناه إبراهيم ورفع قواعده فهل هذا الفهم صحيح ، تعالوا نقرأ القرآن : يقول الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1 ، لنتأمل الآيات بإمعان ولنسأل أولا هل الإسراء تم من المسجد الحرام المتعارف عليه بيننا بأنه المبنى المعد للصلاة والطواف؟؟ إن الجواب على السؤال بلا شك يؤكد أن الإسراء تم من مكة أو من بيت من بيوت مكة ، لا من المسجد الذي للصلاة المعهودة ثم هل كان المبنى الذي كان يجتمع فيه القرشيون حول الأصنام مسجدا لله؟ وهل كان فيه صلاة؟؟ كلا. بل الله يقول (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال 35 إذن (المسجد الحرام) ليس المراد به إلا البلد الأمين بكامله ومحتواه ، ولا يقصد به إلا البيت الحرام بمعناه الذي عرفناه ، لقد أسري بالنبي من المنطقة التي هي مكة أو البلد المسمى بالمسجد الحرام ، قد تسألون ولماذا سمي بالمسجد الحرام ؟ وأنا أسأل هل وصف المسجد بأنه حرام يعني أن الحرم مقصور على المبنى؟؟ إذا كان المسجد هو المبنى فإن هذا يعني أن الحرم محدد به وهذا غير صحيح فالحرم هو البلد الكامل الشامل المناطق الحرام كلها ، التي يعرف الناس حدودها ، وبدايتها ونهايتها ، بلا لبس ولا خلاف ، وعليه فالمسجد المراد به كل المنطقة الحرام .
أما لماذا سمي مسجدا فهو لأنه محل للطاعة والخضوع والانقياد لله والخشوع والتزام سلوك معين معهود للناس مشروع ، فلا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ولا خصام ولا اعتداء ولا قتال ، بل سلام واطمئنان لكل مقيد وباد. ومن يرد فيه بإلحاد ، فأن العذاب له بالمرصاد ، وهكذا سمي البلد مسجدا ، ووصف بأنه الحرام ، لأنه هكذا محكوم فيه بالطاعة والالتزام وهو معهود للناس بشكل عام ، سواء من كفر وغادر الإسلام ، ومن استجاب بعد ذلك للإسلام ، فهو المسجد الحرام ، الذي حكمه معروف ، والتحريم فيه مألوف ، والقتل فيه مكفوف ، وهو بالاحترام محفوف ، فالمسجد الحرام هو البلد بكله ، والمسجد الحرام هو المنطقة الحرام الكاملة.
ثم هل هناك حين أسري بالنبي مسجد في القدس ، كلا بل كان هناك كنائس وأديره لليهود والنصارى ، فلماذا سمي إذن المسجد الأقصى؟ لأنه مقام عبادة وطاعة لله ، ومحط سلام واطمئنان ، فالسجود يعني الخضوع والاستسلام والمسجد يعني موطن التمسك بذلك والالتزام ، فهو المسجد الأقصى ، أي المكان أو البلد الذي يحترم فيه الناس بعضهم بعضا. ثم إذا كان المراد بالمسجد الأقصى هو الكنائس والأديرة والبيع النصرانية فلماذا وصف بالأقصى؟
إن الأقصى لا يوصف إلا بلد كامل أو مقام واسع الأرجاء أو منطقة يسكنها الناس ويعيشون في سلام شامل وعطاء
ولهذا أضاف الله صفة أخرى فقال (الذي باركنا حوله) فالبركة منشورة على كل بقعة فيه وعلى ما حوله ولقد وصفها الله في آيات أخرى بقوله عن إبراهيم (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71 ويقول عن سبأ :(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)سبأ 18 ويقول عن سليمان وهو كان في القدس (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء 81 إذن فهي أرض ، وسماها الله مسجدا فقال (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وعليه فالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة ، وهي التي حرمها الله ،
وبعد تعالوا إلى آية أخرى هي قولة تعالى : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) الفتح 27 وقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 فهل المسجد الحرام هنا يعني المبنى الذي للطواف أم البلد والأرض الحرام كاملة لا شك أن المراد به مكة الأرض المحرمة المحددة المعروفة الطول والعرض ، وهكذا فإن المسجد الحرام هو البلد الحرام هو البيت الحرام هو الكعبة الحرام. فالرسول لم يرد دخول المسجد فقط الذي فيه يتعبد ، ولكن أراد الأرض والبلد الذي هو حرام ، وله حد محدد ، معروف من الأبد. إذا أردتم المزيد من الأدلة ، فاسمعوا هذه الآية :(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) التوبة 7 والمراد بهذا العهد هو ما عقده النبي مع بعض القبائل القاطنة على حدود الأرض الحرام ، ويقول الله عن الحديبية التي تم فيها الصلح مع قريش (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) الفتح 24 فسمى الحديبية بطن مكة ، أي أنها على حدود البلد الحرام. ثم أن هناك آية تؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو البلد أو الأرض المسكونة ضمن المنطقة الحرام ، يقول الله في سورة البقرة عن من حج متمتعا بالعمرة إلى الحج (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فهل الأهل يسكنون في المسجد المصلى أم في البلد الذي جعله الله للناس حراما. وقبلها يقول الله للمؤمنين (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) البقرة191 فهل القتال يكون عند الأرض التي تسكن فيها ، أم عند المسجد الذي يصلى فيه؟ إن المراد الأرض المسكونة. إذن فالمراد بالمسجد الحرام الأرض التي هي محرمة أو البلد الحرام . ثم تعالوا إلى سورة الحج .. يقول الله :(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ثم يصفه بقوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) ثم يقول (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25 فهل العاكف والباد من الناس يسكن في المسجد المصلى ، أم في البلد الذي يسع الجميع ويكون للناس سواء؟ إن الوصف يؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة المسماة بالبيت الحرام ، الذي هو (أول بيت وضع للناس) وهو (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) فالمسجد الحرام هو البيت الحرام. ثم تعالوا أخيرا إلى سورة الأنفال :(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) الأنفال34 ، لا شك أن المراد هنا هو البلد الحرام بأكمله لا مجرد المسجد الصغير بداخله. وهكذا نصل إلى النهاية في هذا الموضوع عسى أن يكون مقبولا عندكم باقتناع.
(مقام إبراهيم)
إن الناس يظنون كما قال المفسرون أن مقام إبراهيم هو المكان الذي يقع على يمين المبنى الذي بناه إبراهيم أو رفع قواعده. ولأن الناس يظنون هذا الظن فإنهم يزدحمون فيه عند الطواف ويشكلون أزمة تجعل الطواف عسيرا وهو سهل يسير. يا إخواني إن المراد بقوله تعالى (مقام إبراهيم) ليس إلا المنطقة كاملة فهي مقام ووطن لإبراهيم فيها أقام ، وفيها سكن ، بعضا من الزمن ، ولقد أشار الله إلى هذا بقوله حاكيا عن إبراهيم : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) إبراهيم 37 هذا يدل أن المسكن هو الوادي الواقع ضمن البيت الحرام ، إذن فالمنطقة كلها هي السكن وهي المقام ، ولقد علل إبراهيم إسكان بعض ذريته هنا في هذا الوادي الغير ذي زرع ، علل هذا الإسكان بقوله (ليقيموا الصلاة) فالإقامة ليست لمجرد العيش والعمران ، وليست لمجرد السعي والبحث عن المتاع ، كلا . بل المراد هو الطاعة لله واتباع هداه وتطهر البيت من الشرك والضلال ، ومن الظلم والإلحاد ، وإذا أقام الناس على هذا الطريق الجاد ، فإن الله يكفل لهم المعاش والزاد ، ولهذا جاء دعاء إبراهيم عقب التعليل فقال : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهكذا أجاب الله دعاء إبراهيم وجعل البلد آمنا لكل باد ومقيم ،وجعله حرما آمنا ، وعلى هذا الأساس الذي علل به إبراهيم إسكان ذريته وهو إقامة الصلاة والطاعة والشكر لله ، جاءت آية البقرة ، جاءت الآية تؤكد هذه المعاني بشكل واضح البيان فاقرءوا بإمعان (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) إنه نفس ما دعا به إبراهيم ، فها هو البيت الحرام ، والبلد الحرام ، قد أصبح مثابة للناس ، فيتوبون إليه ، ويتعلمون منه ، ويقتدون بسلكه ومنسكه ، ثم هو مع المثابة آمن ، فمن دخله شكر وأقام الصلاة وهو في أمن لا يزول ، وسكون لا يتزلزل ، وسلوك جميل لا يتحول. إن كلمة (أمنا) في قوله (مثابة للناس وأمنا) تفصح بأن المنطقة كلها قد تجسد فيها الأمن وتجذر ، وتوارث الناس هذا السلوك فيه ، فهو بتغير حتى أصبح البلد كأنه هو الأمن بذاته ، وكأن كل ذرة فيه وكل شبر يشع بالأمن وكل شجرة وعشبة تثمر أمنا وكل نسائمه واحواشه تهب أمنا ، وفي هذا الحال والجو الجميل والأمن الأصيل والسكن الظليل لا بد أن يكون للناس فيه سلك جليل ، يليق بهذه الصفات التي لا تحول ، وعليه جاء الأمر المعجول.
وقبل أن تكمل الايات السياق وقبل أن يصل الوصف للبيت إلى نهاية المطاف انقطع السياق وانطلق الأثر بأجمل انطلاق ليؤكد أن الحال يستحق هذا أشد استحقاق فقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي اتخذوا من هذا البيت أي من هذا البلد أي من هذه المنطقة الحرام ، كما عرفنا ذلك من سياق الكلام ، اتخذوا من هذا البيت الذي هو مقام إبراهيم مصلى ، أي مقاما للعبادة والشكر والطاعة والذكر والتوحيد لله الواحد بلا شرك ولا زور. نعم هذا هو المراد ، إنه يعني أن تكون المنطقة كلها مصلى ، لكل الناس الذين جعل الله لهم البيت مثابة وأمنا ، أليس إبراهيم قد أسكن أهله هناك ليقيموا الصلاة ، إذن فهو القدوة ومثله فلنقم الصلاة ، ولنتخذ مقامه الواسع الكامل مصلى على الدوام تماما كما كان إبراهيم الإمام ، وإذن فليس المراد بمقام إبراهيم هو ذلك الموقع الذي نزدحم فيه بلا جدوى ، بل المراد به كل المنطقة الحرام التي أقام فيها إبراهيم واتخذها مصلى له ولذريته ، ولمن تبعه وبه اقتدى ،
ولهذا عاد السياق من جديد في الآية ليواصل البيان فيوضح لنا أن المقام مقام طاعة وإذعان وتوحيد وإيمان وطهر وتقوى وإحسان فجاء بعد الأمر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فالعهد هذا يؤكد أن المقام هو البيت بكله وبكامله المعروف الحدود (للطائفين والعاكفين والركع السجود) فهو مقام واسع الأرجاء يشمل المنطقة الحرام بلا مراء وليس ذلك المقام المعهود للملأ . ثم إني أسألكم سؤالا لو سلمنا أن المراد بمقام إبراهيم هو ذلك المكان الذي يقابل الحجر الأسود وأن إبراهيم كما قيل كان يقوم فيه ليبني المبنى الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه كان يضع الأحجار على المدماك ويرفعه ، وابنه إسماعيل يمكنه الأحجار ويناوله ، إذا سلمنا بهذا فكم كان طول ذراع إبراهيم وكم كان طول قامته حتى يتمكن من البناء وهو على هذا البعد من المبنى ؟؟ إن هذا ينفي الظنون ويؤكد أن المقام المدعى وهم موروث ، لا يعتمد على اليقين ، قد يقال أن عمر بن الخطاب أزاح مقام إبراهيم من جوار مبنى الحجر الأسود عدة أمتار ، وإلا فالأصل أنه كان قريبا من الجدار بحيث يمكن العمار من وضع الأحجار ، وإذا صح هذا فلماذا أزاحه عمر وهو يعلم أن هذا المقام شعيرة لا تغير ، وأثر لا تحول عما يؤثر ، إن إزاحته تؤكد أن الموضع ليس مقام إبراهيم وإنما هو شعيرة توارثها الناس غابرا عن غابر ، حتى أصبحت من الشعائر ، قد يقال أن النبي صلى هناك حينما اعتمر وتلى الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لكن الحديث ليس متواتر السند بل هو أحادي ، والأحادي معروف أن عمله ظني ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الصلاة في محاذاة الحجر الأسود ، فكان المكان هو هذا المقام المدعى ، ثم أنه قد أراد بتلاوة الآية : أن مكة كلها تصلح مصلى ما دامت مقام إبراهيم المقتدى الذي اتخذها كلها له ولذريته مقاما لإقامة الصلاة فالنبي محمد به اقتدى لا لتحديد الصلاة في ذاك المكان ولكن ليذكر بإبراهيم الإمام ، وليؤكد أنه على ملته أتم الالتزام ، وبعد فهل نستطيع أن نبني على هذا ، إن مقام إبراهيم هو البلد الحرام كله وهو البيت الحرام بأكمله؟؟
لعلنا قد اتضح لنا أن هذا هو المراد وإذا أردتم المزيد من البرهان فها هو إبراهيم يأتي بالبيان في الآيات التي تلي فاقرءوا بإمعان: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 إن البلد هنا هو البيت وهو المقام ها هو إبراهيم يشير إلى المقام ويقول رب اجعل هذا بلدا آمنا ويدعو لأهله بالرزق ويشترط الإيمان بالله واليوم الآخر فهل يمكن أن للمقام الصغير أهل وهم يسكنون فيه ويأكلون وهل يمكن أن ترد الثمرات إلى ذلك المقام الصغير المضنون كلا بل الذي يسكنه أهل وتأتيه ثمرات إنما مكان واسع الأرجاء ، في البلاد يتسع للمقيم والباد وله حدود من دخلها كان في حرم آمن من كل ظلم وإلحاد ومن كل باغ وعاد ، وعلى هذا فإن المقام هو هذا الذي أراده إبراهيم ملاذا . فكان الله معه مجيبا وجعل البيت مثابة وأمنا وجعل المقام مصلى طاهرا وجعل البلد آمنا موفور الأرزاق والأثمار تجيء إليه من كل الأقطار رزقا من لدن الله الغفار .
والآن أكتفي بهذا المقال حول المقام وأرجو أن القارئ قد اقتنع بالبرهان وبالكلام وإني لأدعو لي وله أن يكون إبراهيم لنا هو الإمام وأن تكون ملته لنا هي الملة فهي الإسلام .الحج أشهر معلومات- الجزء الأول ¶ أزف إلى علماء الإسلام ، وإلى علماء مكة الأعلام ، هذا الخبر الهام ، الحج أربع مرات في العام .. واليهم أوجه هذا البحث القرآني. ¶ أخي القارئ أينما أنت في البحر والبر ، لا تسخر قبل أن تتدبر ، لا تستكبر قبل أن تتفكر ، حاول أن تقرأ أولا ، ثم أنظر متحليا متأملا ثم قل ما يحلو لك عن المقال ، فأنت مدعو معنا بصوت عال ، أنت مدعو للتفكر ، فإذا فكرت فقدر ، ثم أنظر ثم قرر ، واحذرثم احذر أن تكون كمن قال الله عنه (إنه فكر وقدر ?18? فقتل كيف قدر ?19? ثم قتل كيف قدر ?20? ثم نظر ?21? ثم عبس وبسر ?22? ثم أدبر واستكبر ?23?) المدثر 18-23 ¶ ألا إن القرآن يسير للمدكر ، واضح البيان للمتفكر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17 ولقد قال الله فيه (الحج أشهر معلومات) وإنها لواضحة البيان وناصعة البينات ، إذا حسنت لدينا النيات ، إنها لحل واضح البيان ، يفتح للناس أبواب من الإحسان ، وتوسع للحج الزمان ، فإن بإمكان الناس أن يكون حجهم أربعة أشهر ، أي أن يكون الحج أربعة مواسم في العام ، أي في كل من الأشهر الحرام يفتح للناس الحج ويقام ، والأشهر الحرم رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم . هذه هي الأربعة الشهر الحرم ، التي أجمع عليها أهل العلم ، ¶ نعم (الحج أشهر معلومات) هكذا قال الله ببيان عربي مبين ، وهل القرآن ينطق بغير العربية الفصحى (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) يوسف 2 . وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن لا نتهم القرآن بالقصور ، بل نحاول أن نفهم الآيات بلا إنحراف ولا تقصير ، الله يقول (الحج أشهر معلومات) فيجمع الأشهر جمع قلة ويصفها بأنها معلومات ، ¶ كيف يقول مفسر أو أكثر أن المراد بالأشهر شهر ونصف أو شهر وعشرين يوما ، إن هذا كلام وتفسير لا يليق بحق الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، والذي بين في الكتاب كلما يهم الإنسان من الأحكام. إذا فالآية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن (الحج أشهر معلومات). يعني أن لكم أيها الناس أن تجعلوا للحج أربعة مواسم ، (رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم وهي الأشهر الحرم) ، فيكون الحج فيهن مفتوحا للناس ، ومسموحا للطائعين والعالمين والركع والسجود من الناس أجمعين بل للعالمين ، إن الله وسع الزمان في الحج وحدد المكان فعرفات محدود ، ومتى محدود ، والحرم بأكمله محدود . لكن الزمان مفتوح في هذه الأشهر الأربعة ، ومسموح فيها بلا حرج ولا تشديد. إن العلماء الذي قالوا أن المراد بالأشهر بعض ذي الحجة ومحرم ، أو بعض ذي الحجه وذي القعدة لم يفهموا أن القرآن منزل للعالمين ، للناس جميعا إلى يوم الدين ، فأخذوا الآية بمأخذ العصر الذي هم فيه ولم يدركوا أن وسائل المواصلات ستجعل الإنسان يصل إلى مكه من أقصى الأرض في يوم واحد ، وأنها ستستقبل من الحجاج الملايين في أسبوع واحد. ¶ لكننا الآن وصلنا إلى هذه الحقيقة ، وأصبح الحج ممكنا للناس أجمعين وأصبح من الممكن أن يصل ملايين الناس إلى مكة في يوم واحد ، من كل فج عميق ، وعليه فإن مواجهة هذا الكم من الحجيج يتم بالعمل بالآية ، وينحل الإشكال وينكشف بالتطبيق للآية العددية ، بل تنفتح بها مجالات الحج لكل قادر بلا تحديد عدد لكل دولة ، فالناس مدعوون للحج من كل جنس ووطن ، ومن كل لون ودين ، فكيف يتم هذا ونحن محددون للحج بشهر واحد . ¶ إن الحج كما يقول الله (أشهر معلومات) إنها الأربع الأشهر الحرم ، فكلها تصلح موسما للحج ، بدليل أنه سماها معلومات ، فلماذا سماها معلومات مع أنه قال في شهر الصيام (أياما معدودات)؟؟ إن هناك لا شك فرقا بين التعبيرين فالمعدود يعني أنه يحتاج إلى أن يعلم ، ولهذا سماه الله وقال : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) البقرة 185 . وإذا كان الله قد حدد شهر الصوم وسماه فذلك لنعرف عدد الأيام التي نصومها ، فكيف لم يحدد أشهر الحج ويقول مثلا :شهر ذي الحجة الذي تقام فيه المناسك ، لكنه عدل عن هذا وقال (أشهر معلومات) ومن المعروف بأنها الأربعة الحرم (فمن فرض فيهن الحج) وتأملوا الآية (فمن فرض فيهن الحج) إن الضمير في كلمة (فيهن) يؤكد أن المراد عودته إلى الأربعة الأشهر المعلومات ، فهن يصلحن جميعا لفرض ونية الحج ، فمن فرض منكم يأيها الناس فيهن أو في أحدهن الحج يكن مقبولا عند الله الذي يخاطبكم بلسان عربي مبين . ¶ قد تقولون وكيف يكون الحج في هذه الأشهر الأربعة؟؟ ومتى يكون العيد؟؟ وكيف يكون النحر والناس قد تعودوا على موسم واحد ويوم للنحر واحد وعيد واحد؟؟ هو في ذي الحجة أي في العشر الأولى منه. نقول تلك عادة إعتادها الناس ، لأن النبي حج في هذا الشهر فاتخذ عادة ، ولم يدرك الناس أن الزمان سيتغير ويدور حتى يصبح من الواضح لهم أن للناس أن يحجوا في الأربعة الأشهر المعلومات. ¶ قد تقولون .. أسلمنا بأن الحج أربعة أشهر فكيف نحدد الوقوف بعرفة ويوم النحر ؟؟ نقول أن التحديد وارد كما حدد في ذي الحجة ، فليكن يوم الوقوف هو اليوم التاسع من كل هذه الشهور ، وليكن يوم النحر هو اليوم العاشر من كل هذه الشهور ، تماما كما هو في شهر ذي الحجة الآن ، ولتأكيد هذا المعنى ولإبراز هذه المهمة التي تهتم بتحديد يوم الوقوف ويوم النحر نقرأ :جاء في سورة البقرة عقب آيات الصيام قول الله سبحانه وتعالى : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) تأملوا ...يسألونك عن الأهلة أي عن سبب نقص القمر وتقديره منازل في النقص والإكتمال ، فقال الله مجيبا أن الحكمة هي أنه (مواقيت للناس) في كل شيء وفي كل مهمات وأمور الحياه ، وكان هذا يكفي لكنه خصص بعد التعميم فقال بعد ذلك (والحج) ليدل على الأهمية ، وإلا فلماذا تأتي كلمة (والحج) إذن فالأهلة هي الدليل العملي لتحديد أول يوم من الشهور الأربعة ليعرف بذلك اليوم التاسع واليوم العاشر ويتحدد برقم . ¶ ثم أن موقع هذه الآية (يسألونك عن الأهلة) ومجيئها عقب آيات الصيام تدعونا للتأمل ، فالصيام جدير بأن يعرف أول أيام شهره ، فلماذا لم يذكر الصيام وذكر بدلا عنه الحج ، إن هذا إشعار لنا بأن الصيام يمكن تحديده بالهلال أو بإكمال العدة ، لأنه شهر واحد وأيامه معدوده ، كما وصفها الله ، ولم يقل كما قال في الحج معلومات ، فكان الحج هو الأهم بالذكر في آية الأهله ، لأنه لا بد أن يحدد أول كل شهر من شهوره بدقه ليعرف اليوم التاسع والعاشر بدقة ، ¶ فالأشهر أربعة لابد أن يكون لها علامات تدل على بدايتها وإمارات واضحة الدلالة وتلك هي الأهله . إن كل شهر من الأربعة لا بد أن يرقب المسلمون هلاله ليعرفوا ببدايته موعد وقوفهم ونحرهم وأيام حجهم ، وعليه فإن يوم تاسع رجب هو يوم عرفه ، ويوم تاسع القعده هو يوم عرفه ، ويوم تاسع الحجة هو يوم عرفه ، ويوم تاسع محرم هو يوم عرفه . ¶ كما أن يوم عاشر هذه الشهور إنما هو يوم النحر ، وما يليها هي أيام التشريق ، تماما كما هي في شهر ذو الحجة الذي إعتدنا عليه .وبعد هذا التقرير الذي أرجوا أنكم قد فهمتموه ، ألفت انتباهكم هنا إلى شيء هام ، هو قوله تعالى في آيات الحج وهو يعلمنا المناسك ويتحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) البقرة 203 لماذا سماها معدودات ولم يقل معلومات؟؟ لأنها فعلا معدودة فهي ثلاثة أيام وهي أيام التشريق ، لكنه وصف أشهر الحج بأنها معلومات لأنها مسماه معلومه مشهورة ، بل موصوفه بأنها الأشهر الحرم ، فهي معلومه لكل الناس ، للمسلم والكافر ، والبادي والحاضر ، والمقيم والمسافر ، والأول والآخر ، بلا لبس ولا اختلاف ، ¶ ولهذا كان الكفار يحتالون على حرمتها بالنسيء ، الذي وصفه الله بأنه زيادة في الكفر وبأنه ضلال مضر ، ثم أنه وعلى ضوء فهم الفرق بين معلوم ومعدود ألفت إنتباهكم إلى شيء هام آخر ، هو قوله تعالى في سورة الحج : (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ?27? ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) الحج 27/28 نعم إنها أيام معلومات ، معلومات بكونها تبدأ من يوم معلوم وتنتهي في يوم معلوم فهي أيام معلومة في الأشهر المعلومة ، تلك هي التاسع والعاشر وما يليها من أيام التشريق ، فهي معلومات في أشهرها المعلومات . ¶ ثم تعالوا معي إلى دليل ثالث ، يؤكد أن الحج يصح في الأشهر الأربعة وهو قولة تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة 36 إن هذا يؤكد أن هذه الأشهر ازلية أبدية ، معلومة للملائكة وللأفلاك ولكل المخلوقات ، التي سبقت الإنسان ، ولا تزال معه مدى الزمان . ¶ إنها مشهورة في السموات والأرض ، ومعروفة لمن وما بينهما من الخلق المدركين لما حولهم ، الموجودين قبل الناس ، فما بال الناس يظلمون أنفسهم فيهن ، وينسون حرمتها وجلالها ، ويجهلون معلوميتها.إن شهرتها وحرمتها وعددها معروفة عند كل خلق الله ، بل وقبل ذلك (عند الله) وهو الله أكبر من كل شيء ، وهو الله خالق كل شيء ، وهو الذي إختار لنا الدين القيم ، فكبروه ، واجعلوا الأشهر الحرم موسما لحجكم ، لتنالوا القرب عند ربكم ، وتزيحوا الظلم عن أنفسكم ، ثم (واعلموا أن الله مع المتقين) . ¶ ثم تعالوا معي إلى سورة الفجر ، فإن شعاع الفجر هناك يكشف لنا سرا عن الحج ، وتشير لأيامه ولياليه بأسلوب بديع لنقرأ السورة من البداية : (والفجر) الكلمة جائت معرفة بالألف واللام (والفجر) ثم ماذا لنقرأ : (وليال عشر) إنها بدون ألف ولام ، إنها بدون تعريف كالأولى قبلها ، إنها بدون حرفي التعريف ( أل ) ثم إنها منكره (ليال) منكرة وصفتها (عشر) منكرة ، فالتنكير شمل الصفة والموصوف (وليال عشر) لماذا هذا؟؟ ... إنتظروا حتى نكمل المشوار ثم لنقرأ ما بعدها :(والشفع ) (والوتر) إنها مثل الأولى كلمة (والفجر) محلاة بأداة التعريف أي معرفة بالألف واللام ، ثم نأتي إلى الأخيرة وهي (والليل إذا يسر) الليل معرف كذلك بالألف واللام ، فلماذا.. لماذا هذا الأسلوب ؟؟ ¶ لماذا تعرفت الكلمة الأولى والأخيرات ، وتعرت الثانية عن التعريف ؟؟ إسألوا أنفسكم لماذا عرفت الكلمات المقسم بها كلها إلا كلمتي (وليال عشر)؟؟ لماذا عرفت التي قبلها والتي بعدها بالألف واللام؟؟ وهي لم تعرف مع أن الأسلوب الأمثل أن تعرف جميعا وهذا هو المناسب لقواعد البيان؟؟ لكن التنكير هو البيان ، فتنكيرها يعني أنها فعلا ليال عشر متكررة مع الشهور، وليست معهودة في شهر واحد ، فهي تتكرر في رجب وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي محرم ، وهي التي نعرفها بالأهلة التي هي مواقيت للناس والحج ، وما أشهر الحج إلا كل الأشهر الحرم الأربعة المعلومه عند الله وعند خلقة منذ خلق السموات والأرض ، ثم لنسأل أنفسنا من جديد ، لماذا لم يقل والليالي العشر ، بل قال وليال عشر؟؟ إن هذا لكي يخرجها من التخصيص لان الأشهر أربعة ، وليدلنا ويبين لنا أنها ليالي متكرره مع كل شهر حرام وهي موسم الحج العام. ¶ وبعد ،،، هذه مجرد إشارات ، أصفها أمام المهتمين بشئون الحج في السعودية وسواها ، وأمام المسلمين في كل مكان من الأرض ، ولكل من عاصرنا فيها أو يأتي بعدنا عليها ، إن هذه قضية ستجعل الحج عاما للناس ميسورا ، وتجعل الزمن أمام الناس مفتوحا ، لا تضييق فيه ولا تقسير ، ولا تحديد للعدد ولا تقطير. إن الله قد حدد للحج المكان وعين حدود كل الشعائر والمواقع ، فعرفات له حدود ، ومنى ومزدلفه كذلك ، بل أن الحرم كله محدود بحدود ، ولكنه فتح للناس الزمن ووسع فيه ، لتظهر آيات الله ، فيكون الحج مفتوحا في الأشهر الأربعة ، فمن فرض فيهن الحج فمكانه محدود ، وسلوكه محدود (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). ¶ إن الزمان متعدد والمكان محدود ليقبل الناس على الحج بعدد أكبر وليتعلموا القبول بالآخر ، وليحسنوا في التعامل مع من حضر (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).وبذلك يكون لهم عند الله العليم السميع ، مقام رفيع ، (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) ولكي نعمل الخير فلا بد من التزود بشيء هام ، وهو قوله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) . أي لكي تحجوا وبعمل مقبول ، فإن زادكم هو التقوى ، وإنها فعلا خير زاد ، وكيفلا والله يقول في ختام الآية (واتقون يا أولي الألباب) وأولوا الألباب هم الذي يعرفون الله ويقدرونه حق قدرة ويعلمون أن الله يقول :(إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27 ¶ ثم إذا جئنا إلى آية التوبة المذكورة سابقا وهي (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) التوبة 36 ستجد أنه قد جاء بعدها مباشرة قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 نعم لو جئنا على هذه الآية والتي قبلها ، وفهمنا مرادها ، وتدبرنا مرماها لمسنا وجلا من الله وخوفا على غفلتنا وإغفالنا هذه الأشهر الحرم فلم تعد لدينا أشهر حرم ، ولم نعد نحرم فيها ما حرم الله ، إننا في حالة نسيء ، وإذا كان الجاهليون يحلونه عاما ويحرمونه عاما فإن النسيء عندنا أصبح دائما ، ولا ندري أننا قد نسينا أنفسنا ، وزين لنا عملنا ، وأضحينا بعيدين عما يريد ربنا ، وعن فهم آياته البينات. وليت شعري ما الذي دهانا ، ومن الذي زين لنا سوء عملنا ، إنه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، واتخاذنا الدين لهوا ولعبا وذلك شأن الكافرين ، الذين يقول الله عنهم وهم في جهنم يتمنون شيئا من ماء الجنة (إن الله حرمهما على الكافرين ?50?) من هم (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) ثم ماذا بعد (وما كانوا بآياتنا يجحدون ?51?) الأعراف 50/51 وهذا هو بيت القصيد ، فإننا بالآيات نجحد ، وفي الدين نلهو ونلعب ، وللدنيا نسعى ونتعب ، وهذا هو الذي يسوق إلى نار ذات لهب فاستيقظوا أيها النائمون على الشهوات ، قبل أن يوقظكم الموت وتدبروا آيات ربكم ، واقبلوا عليها قبل أن تدبروا عن الدنيا وتساقوا للقاء ربكم وتحاسبوا عليها ، وتقولوا (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام 27 ¶ قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ... لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة . ¶ وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة). ¶ ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا . ¶ ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.وها نحن نواصل البحث في آيات الحج وكلماته بما يزيدنا إستنارة . ¶ تذييل وبيان لمفردات الحج والمكان ¶ كلمة البيت ¶ هل المراد به تلك العمارة الصغيرة المربعة وسط المباني المستحدثة المحيطة بها؟؟ هذا ما يفهمه الناس ، وهذا ما شاع بين المفسرين ، ولكن هل هذا فهم صحيح يتفق مع القرآن المبين؟؟ تعالوا معي نتبين الآيات ولا بد أن نصل إلى معنى آخر يخالف فهم الأولين . البيت في اللغة أولا هو المكان الذي يؤمن للإنسان البيات في أمان ، والسكن باطمئنان ، فهو مأخوذ من البيات أي السكون ليلا فأطلق على كل مكان يؤمن الليل للإنسان بيتا ، فهو مصدر بات يبيت يقال بات يبيت بياتا ، ولهذا جاء قولة تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون) الأعراف 97 . ثم أطلق البيت بشكل موسع على كل مكان يضمن للإنسان الأمان والسلام في الأرض ولو في الليل أو النهار ولهذا قال الله لقوم صالح (وتنحتون الجبال بيوتا) الأعراف 74 (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) الشعراء 149 (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل 80 ، ومع هذا التحول في معنى البيت فقد تحول إلى معنى أوسع هو المنطقة أو المدينة أو القرية التي يسكنها الإنسان ولهذا قال الله عن النحل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68 ، وليس المراد هنا إلا أن تتخذ الجبال والشجر بيوتا ومن ما يعمله لها الناس من المزارع والمواقع الواسعة ، إذن فليس المراد بالبيت هنا هو مكان الخلية الصغير للنحل ولكن مكان الإنطلاق والأمان والسلوك في الأماكن بإطمئنان . فالجبال الشامخة وما حولها قد تتخذها وتختارها لها بيوتا آمنه وقد تختار الأشجار والغابات الملتفة بيوتا تكون فيها منطلقة وكامنة وسالكة وآمنة . ¶ وعلى هذا الأساس يقول الله لرسوله محمد وهو يخرج إلى بدر (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الأنفال 5 ، فالمراد بالبيت هنا هو المدينة بأكملها لأنها أهله وأحبابه وأنصاره وأصحابه ولهذا قال له في آية أخرى عند خروجه إلى أحد (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121، وهكذا أطلق البيت على الأهل ثم المدينة بأكملها لأنها محببة إليه كأهله ومأمنه كبيته وإذا كان هذا في شأن النبي وحده وفي شأن النحل وحدها فكيف يكون فهمنا لمعنى البيت الذي هو للناس أجمعين. إنه لا بد أن يكون معناه مكانا كبيرا واسع الأبعاد ، له حدود معروفه متباعدة ، وعلى هذا الأساس نفهم أن البيت حين يطلق في الآيات المتعلقة بمكة لا يعني إلا المنطقة الحرام كلها ولا يعني إلا كل المواقع التي تقام فيها المناسك وتؤدى ، ¶ فالبيت يطلق على ما يقع داخل حدود مواقيت الإحرام المعروفة للشامي واليماني والعراقي وسواها والمحددة في كتب الفقه فالبيت هو مكة وما حولها من المناطق الحرام ومن مشاعر الحج والإحرام .هكذا يجب أن نفهم البيت وهكذا يجب أن يكون معلوما لذوي الأفهام . فهو لا يعني البناية والحجرة الصغيرة التي تتوسط المباني المعدة للصلاة (المسماة بالحرم) ولا يعني أيضا المباني المستحدثة المحيطة لأنها تستحدث وتتوسع في كل زمان فلو أطلقنا البيت عليها لكان المعنى أن من هدم جدارا ووسع فكأنما هدم البيت الحرام ، وهذا غير صحيح ولصار المعنى أن من صلى قبل التوسع في المباني الحالية لم يصل في البيت الحرام وهذا غير صحيح ، إن البيت الحرام هو كل المنطقة الحرام وكل المشاعر الحرام المحددة المعالم منذ أقدم الأيام ومنذ آلاف الأعوام . ¶ قد تسألون عن الدليل على ما أقول ،، وأنا أسألكم أولا :هل أنت أيها الحاج تنحر الهدي في المبنى الصغير المسمى الكعبة أو تحمله إليه؟؟ كلا إنما تنحره في منى وتحمله وتنحره هناك وإذا كان الأمر كذلك فاسمع ما يقول الله "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 33 ، أين هو البيت العتيق هل هو الكعبة الصغيرة إذن فقد سمى الله محل النحر وهو منى البيت العتيق ، يعني أنه من البيت العتيق.فللحاج أن ينتفع بالهدي ما دام سائر إلى مكة ثم إذا نحره فلا ينحره إلا في المحل المحدد للإحلال وهو منى والذي هو كائن بشكل جزء من (البيت) فإذا نحرت فيه فقد نحرت في البيت.. وبعد فهل في هذا بيان أم تريدون المزيد من البيان .ها أنذا أتلو عليكم قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37، فقل لي هل يريد إبراهيم بالإسكان لبعض ذريته عند البيت هذا المبنى الذي نراه الآن ؟؟ إذا كان يريد ذلك فلما قال (بواد غير ذي زرع) إذن فالإسكان كان في مكة كاملة التي هي محرمة ، بحدود معلمه ، وهي البيت المحرم الذي أراده إبراهيم. قد تقولون ألم يقل (عند بيتك) فمعنى هذا أن الإسكان كان عند أو قرب هذا المكان الصغير الذي نراه يتوسط العمران .ولكن كلمة عند لا تعني القرب ولكنها تعني الظرفية أي في بيتك المحرم لكنه استعمل كلمة عند ليؤكد اختلاطه بالمكان المحرم كله والتزامه به وحصر إقامته عليه (بواد غير ذي زرع) ولذلك فهو يسأل الله أن يرزق ذريته من الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ثم يعلل الإقامة بأنها ليقيموا الصلاة والصلاة هي الطاعة والالتزام بحرمة المقام. فلا يعتدون ولا يصطادون ولا يفسدون ولا يطلمون .ولا يريدون إلحادا لظلم ولا يتجاوزون ما هو محرم بل يتقون ويشكرون المنعم ويتطهرون ويطهرون الحرم وهكذا عهد الله إليه بما يدل على أن المراد بالبيت هو الحرم كله (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125، فهل المراد بالبيت هو المكان الصغير؟ أم المنطقة الحرام كلها إلى أطراف حدودها؟ إن الثاني هو المراد بلا شك والدليل عليه قوله للطائفين وهم الذي يطوفون عند الوصول إلى مكة والعاكفين وهم الذي يقفون في عرفات والركع والسجود وهما الذين يذكرون الله في منى أيام التشريق. وعلى هذا الأساس فإن علينا أن نفهم قول الله تعالى في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحج 26 بأن المعنى : عرفنا لإبراهيم مكان البيت أو حددنا لإبراهيم مكان البيت لأن بوأ تعني أسكن لقوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) لكن حرف الجر "وهو اللام" في آية الحج (بوأنا لإبراهيم) ضمن الفعل معنى جديدا مضافا إلى معناه الأصلي ذلك المعنى الجديد هو(عرفنا أو حددنا) على أن الفعل قد يكون بمعنى مكناه إذا جاء بعده حرف الجر (في) مثل قوله تعالى لقوم صالح (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) الأعراف 74. أي مكنه في الأرض وعليه فإن آية الحج تعني (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي عرفناه حدود هذا البيت بحيث يكون ما بين هذه الحدود هو البيت الحرام ولهذا جاء بعدها : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26 ولا يمكن أن يكون المراد بالبيت هو المبنى الصغير لأن الطائفين والعاكفين والركع والسجود هم الذي يقودون مناسك الطواف والوقوف بعرفات والإقامة للصلاة والذكر والنحر في منى وهذه هي المشاعر الحرام ، أو هذه هي مكونات البيت الحرام . ¶ وإذا تأكد هذا الفهم فإننا ندرك معنى آية البقرة التي يقول الله فيها : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125. فالمراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة لأنها هي المثابة وهي الأمن كاملة ، لا مجرد المبنى الصغير المربع المعروف ، وهو البناء الذي يتوسط المقامة حوله للصلاة والطواف.وإذا كنت يا أخي في ريب من هذا الفهم فاقرأ قوله تعالى بعده بقليل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125 فهي تعني أن الأب وابنه قد عهد الله إليهما أن يطهرا المنطقة كاملة من كل ظلم وإلحاد ، إلا أنه استبدل بكلمة القائمين كلمة العاكفين وكلاهما تعني الواقفين بعرفات وإذا لم يكن كذلك فهو يعني والعاكفين والمقيمين في هذا البلد الأمين. ثم اقرأ بعد ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 ، فلقد أطلق كلمة (بلد) على البيت ، وهذا يدل على ما قلناه من أن المراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة وإذا لم يكن كذلك فكيف يكون له أهل ولهم رزق وثمرات؟ هل يمكن أن يسكن الناس في المبنى الصغير (المكعب) وهل هم أهله وسكانه؟؟ ثم استمر معي في القراءة لنجد قوله تعالى في آية تدل على أن كلمة البيت أطلقت على المنطقة قبل رفع قواعد المبنى الصغير .. تلك الآية هي قوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 ، نعم إن إبراهيم بعد أن بوأ الله له مكان البيت وحدوده وعرفه بداية المنطقة الحرام ونهايتها من كل الجوانب . بدأ إبراهيم في بناء مركز يكون هو بعلم الله مركز الدائرة للبيت الحرام وللأرض كلها كما سيتضح ذلك فيما بعد. ¶ فالمركز هذا أو مركز الدائرة هو الذي رفع إبراهيم قواعده لكنه ليس البيت ولكنه جزء من البيت ولهذا قال (القواعد من البيت) فأتى بحرف الجر (من) ولو كان هذا المبنى هو البيت لقال (قواعد البيت) بدون حرف من . وبعد فهل اقتنعت يا أخي أن المراد بالبيت في آيات القرآن الخاصة بمكة والحج هو المنطقة الحرام كاملة؟؟ لعلك قد اقتنعت أو قريب من الاقتناع وعلى هذا الأساس من الفهم لمعنى الكلمة أدعوك إلى الآية الهامة التي وردت في سورة آل عمران وهي قوله تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران 96 ¶ نعم إن أول بيت وضع للناس هو هذا الذي ببكة مباتا ومأمنا ومثابة وقياما .ولهذا قال وضع والوضع لا يعني إلا البسط والتمهيد والمد والتسخير ولهذا قال في سورة الرحمن (والأرض وضعها للأنام) 10. أي بسطها ومهد، إذن فالمنطقة التي بمكة هي أول بيت وضع للناس. ¶ وهنا آخذك لمعنى جديد وهام وفهم جميل يدل على السلام؛ ذلك أن كلمة أول بيت تدل على أنه قد لحقه بيوت وبيوت للناس وقد تبعته مواقع ومناطق للسكن والاستئناس، هذا ما تدل عليه كلمة (أول) فما هي البيوت التي تلته؟ إن هذا يجرنا إلى أن نفهم أن المعنى أن مكة أو بالأصح بكه هي أول منطقة أرضيه صلحت للإنسان ليسكن ويستقر بعد أن كانت الأرض مغمورة بالمياه والمحيطات المتأججة الحرارة لكن مكة أو بالأصح بكه هي أول بقعة في الأرض جفت وانحسر عنها الماء المضطرب الأمواج بشكل هائج .فأصبحت هذه المنطقة آمنة من الهياج وبيتا صالحا للإنسان القادم إلى الأرض خليفة بعد أن لم يكن له ذكر قبل ذلك من الأزمان.وللتدليل على هذا المعنى جاءت كلمة بكه ولم تأت كلمة مكه ، والبك هو المص والشفط والتجفيف فهي منطقة انبك عنها الماء وجف وأصبحت صالحة للإنسان المستخلف فهي أول بيت وضع ولا بد أن تليه بيوت وتوسع وهكذا استمر البك في مواقع أخرى وتوالى الانحسار المائي حتى أصبح للإنسان بيوتا ومواقع وقطع في الأرض صالحة للحياة والسكن وفيها له مأمن ومأوى من الماء الهائج الغامر لما تبقى ، وهكذا بقيت المحيطات والبحار الصغرى تحيط بالأرض الجافة الصالحة المرتفعة عن سطح الماء لتصلح للسكن ولتستمد من البحار الرطوبة والرخاء والبخار الذي يجعل الجو ناعما سلسلا طريا ، الهواء منعشا للحياة والأحياء ، وهكذا يتضح لنا أن مكة أو بكه هي أول أرض وضعت للإنسان بإذن الرحمن، وتلتها العديد من الأوطان ، لتصلح لنمو الناس وتكاثر السكان وعليه فلا غرو ولا غرابة أن يجعل الله في بكة هذه آية للناس ، ذلك هو هذا البيت الحرام الذي يستحق أن يحج إليه الناس بشكل عام وأن يجعلوه هو المثابة لهم والقيام وأن يكون أنموذجا للأمن والسلام ، ليصبح أنموذجه معمما في كل الأوطان ، فتكون بيوتا آمنة للخاص والعام ، على مدى الأيام. ولهذا كان البيت الأول أو أول بيت موصوفا بأنه (مباركا) ، (وهدى للعالمين)، وأن يوصف بأنه (فيه آيات بينات)، ثم أن يلزم الله الناس أن يجعلوه أبدا ، متسما بسمة هامة ، وعلامة عامة ، هي : (ومن دخله كان آمنا) ولأنه هكذا فهو (مقام إبراهيم) وما هو إبراهيم؟ إنه الإنسان الذي جعله ربه العلام ، للناس الإمام ، على مدى الأجيال والأعوام ، إلى يوم القيام .ولأن هذا البيت الأول المبارك ، والهدي الأمثل، له هذا الصفات التي لا تماثل ، فإن لله على الناس واجبا به تنصل هو قوله : (ولله على الناس حج البيت) فهل كلهم مدعو لهذا الحج بلا عذر كلا بل أن فضل الله تضاعف فقال (من استطاع إليه سبيلا) فمن استطاع فقد وجب عليه الحج ، وليس له أي عذر أو حجج ، فإذا تخلف فقد استغنى ، وعن فضل الله خرج ، ولهذا قال الله ببيان أبلج (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) نعم إنه إنما يدعونا لفضله وعطائه ولنتعلم بالحج من هداه ولننال من بركاته وآياته ما يرضاه ، فإذا أبينا ذلك الفضل المبين ، فإنما حرمنا أنفسنا وكنا لها ظالمين ، وكفرنا بالله ذي القوة المتين ، واعتمدنا على المتاع التافه المهين .أما الله فهو الذي لا يزيد في ملكه العظيم كل العباد العابدين ، ولا ينقصه كفر الكافرين (فإن الله غني عن العالمين) أليس هذا هو البيان التام الذي يدلنا على أن البيت هو المنطقة الحرام وليس هو المبنى الصغير الذي لقواعده إبراهيم رفع وأقام بل أنه جزء من البيت ومركز الدائرة الهام . ¶ ثم هل أزيدكم تأكيدا على أن البيت هو المنطقة الحرام؟!اقرءوا معي من سورة قريش قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت) 3 ، ثم قوله تعالى في سورة النمل ملقنا رسوله محمدا أن يقول : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) 91 ، إذن فالبيت الذي في سورة قريش وفي سورة النمل هو البلد كاملا ورب ذلك وهذا هو الله الذي حرمها وله كل شيء والذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم لنقرأ معا سورة التين :(والتين والزيتون ?1? وطور سينين ?2? وهذا البلد الأمين ?3?) 1-3 فالبلد الأمين هو البيت الأمين ، وهو الذي من دخله كان آمنا ، ثم لنقرأ سورة البلد : (لا أقسم بهذا البلد ?1? وأنت حل بهذا البلد ?2?) 1,2 فهل كان النبي حالا في البيت الذي يتعهدون أم في البلد الحرام الذي هو البيت الحرام ، أي الذي هو المنطقة الحرام . وهو الذي يقول الله عنه في سورة القصص (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) هكذا قال أهل مكة مدعين أنهم حماة أنفسهم لكن الله يجيب (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) القصص 57 فهل الثمرات تجنى إلى البيت بمعنى المبنى المحدد والمعروف؟ كلا . ولكن إلى البلد كلها وأهلها. ثم قال الله في سورة العنكبوت :(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) 67. فالحرم الآمن هو البيت الآمن ، وهو المنطقة الحرام كلها فمن دخلها من أي اتجاه ومن أي زاوية ومن أي مكان كان آمنا ، ولهذا كان سوق عكاظ مكانا آمنا ، فمن دخله كان آمنا ولم يتعرض لأذى . ¶ والآن وقد عرفنا أن هذا هو أول بيت وضع للناس بالمعنى الذي شرحناه أفليس من المتوقع أن يكون - بل من اليقين أن يكون (فيه آيات بينات) ولا بد أن تتضح للناس على السنوات لاسيما للباحثين في هذه الآيات والمسلحين بعلم الجيولوجيا وعلم ما في الأرض من طبقات. ولعلي بهذا أكتفي لأختم قولي بأن من المناسب جدا أن يسمى البيت العتيق ، أو أن يوصف بأنه (البيت العتيق) كما جاء مرتين في سورة الحج (ثم محلها إلى البيت العتيق) (وليطوفوا بالبيت العتيق) فهو العتيق أي القديم الأصيل ، الأول على سواه كما وصفه الله الجليل (إن أول بيت وضع ¶ (الكعبة) ¶ وبعد هذا أدعوكم الآن إلى كلمة أخرى هي (الكعبة) فلقد وردت في القرآن. فهل هي تعني هذا المبنى الذي رفع قواعده إبراهيم؟ وهل هي إذا وردت تطلق عليه؟ أم لها معنى آخر تدل عليه؟؟ لعلكم ستفاجئون إذا قلت لكم أن كلمة (الكعبة) لا تعني هذا المبنى الصغير أو المبنى الذي أقامه إبراهيم بل تعني شيئا آخرا. فما هو؟ انتظر الجواب يا أخي القارئ وتأمل الكلام تأمل أولى الألباب ، وأنا لا أسألك أن تستقبل كلامي بالترحاب ، حتى تتأكد من صحة القول وسلامة الأدلة وسأوردها من القرآن الذي هو علم الله . ¶ لقد وردت الكعبة مرتين في القرآن ، أي في آيتين فقط وفي سورة المائدة فقط ، هي أولا قوله تعالى :(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، أما الثانية فهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) المائدة 95 . ¶ إن المفسرين يقولون أن البيت الحرام في الآية الأولى رقم (97) هي عطف بيان للكعبة ، أو هي بدل على جهة المدح لا على جهة التوضيح ، لكن هذا التأويل غير مقنع لأن البيان أو البدل لا يأتي للمدح إلا قليلا أو نادرا ، لكن الواقع هو أن الكعبة هي نفسها البيت الحرام بمعناه العام الذي فهمناه فالبيت الحرام بدل أو عطف بيان للبيان لا للمدح ، فالأسلوب هنا يريد أن يقول لنا أن الكعبة اسم للبيت الحرام الذي يعني كل المنطقة الحرام ، بما يعني أن هذا البيت الحرام موصوف بأنه الكعبة. إذن فالكلام مبني على إشعارنا بمعنى جديد وحقيقة جديدة هي أن الكعبة قد بينت بأنها البيت الحرام ، فكلمة البيت الحرام عطف بيان أو بدل ، وهذا هو الفهم الأمثل ، ¶ وإذا اردنا الدليل فإن الآية الثانية التي وردت فيها كلمة الكعبة تقدم الدليل الذي لا ينكر بل يدعم ما نقوله بشكل واضح وأمثل فاقرءوا معي الآية 95 لتتضح لكم القضية يقول الله مخاطبا المؤمنين : (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إن الله يوجب على من قتل الصيد وهو حرم أن يكون جزاؤه حيوانا مقوما مثل الصيد المقتول ويكون من الأنعام يحكم به ذوا عدل من الناس أولى الأفهام ، فإذا تحدد هذا الجزاء فإنه سياق ينحر في مكان النحر المحدد وبالغا إليه بلا تردد ، ولهذا يقول موضحا هذا (هديا بالغ الكعبة) هذا هو الجزاء لمن صاد وهو حرم. وهنا أسأل هل الهدي الذي ينحر يساق إلى غير منى؟؟ فلماذا قال الله (هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة أو المبنى الصغير بالمعنى الذي تفهمونه من التفاسير؟ هل هذه الكعبة بهذا المعنى هي محل النحر للهدي؟؟ كلا. بل محل نحر الهدي هو منى ، كما هو معروف لنا ولمن قبلنا ، أليس هذا الواقع الذي يعرفه الناس على المدى؟ فلماذا قال (هديا بالغ الكعبة)؟؟ ¶ إذن فإن (الكعبة) هي اسم آخر للبيت الحرام وهي اسم أراده الله ليدلنا على أن معاني هذا البيت متنوعة وأسمائه وسماته متعددة ، كما أن آياته غير محدودة ، فهو البيت الحرام وهو الكعبة ، بل وله أسماء أخرى وأوصاف أخرى تدل على الاهتمام ، سيتضح لكم ذلك فيما سيأتي من الكلام. أكتفي هنا بشأن (الكعبة) ، بهذا الدليل الواضح البيان لكل ذي عقل وجنان ، وممن تدبر القرآن بإمعان.. ¶ قد يسأل سائل إذا كانت كلمة (الكعبة) لا تعني المبنى الصغير الذي رفعه إبراهيم وأنها تعني كل المنطقة الحرام ، فلماذا تسمى هذه المنطقة كلها (الكعبة) ؟ إنه سؤال جيد .ولهذا تعالوا معي إلى معرفة معنى كعب في اللغة العربية ، ولن نطوف في كتب المعجمات ولكن لنقرأ ما جاء في المنجد فقط ، فمما قال في وسط المادة كعب كعوبا (الجارية نهد ثديها) كعب الأناه ثلاثة ، كعب الشيء جعله مكعبا ، الكعب جمعه كعوب كلما ارتفع من الأرض ، الشرف والمجد ، بل وقال الكعب كل مفصل للعظام : العظم الناشئ ، العظم الذي يلعب به ، العقدة من عقد الرمح ، الكعب في علم الهندسة : المجسم الذي له ستة سطوح مربعه متساوية ، كل بيت مربع الغرفة ، أكعاب نصوص النرد ، الكعبة بكارة الجارية جمعه كعاب ، يقال جاء به كعاب وكعب إذا نهد ثديها ، ويقال وجه مكعب إذا كان جافيا ناتئا ، ثم قال أخيرا "وهذا شيء هام في الموضوع" المكعب المجسم الذي له ستة سطوح مربعة متساوية وما كان على هيئته. وختم المادة بقوله : وفي الحساب (مكعب العدد) هو الحاصل من ضربه بمربعة ، فثمانية هو مكعب اثنين.هذا هو أهم ما جاء في المادة كعب وقد جاء ضمنها (الكعبة البيت الحرام بمكة) وليس المهم ما قاله عن الكعبة أو أين وضعها من المادة لكن المهم هو معنى المادة واشتقاقاتها فلو رجعنا نستقرء المعاني والمشتقات لوجدنا (البكارة) التي تعني البداية ولوجدنا العلو والرفعة ولوجدنا الاستدارة والتسديس والتربيع ولوجدنا البروز والظهور ولوجدنا الجمال والحسن ولوجدنا القوة والجلادة والفتوه والجفاف والتجمع والانضمام ثم التضاعف والتزايد الذي يعني البركة والنماء . ¶ فكل المعاني الجميلة التي أرادها الله لهذا البلد الحرام مجتمعة في كلمة الكعبة فهي البارزة الغير خافية وهي الناهده الغير جافية ، وهي مفصل الأرض ذات النجاح وعقدة اللقاء والانفراج وهي نقطة البداية للتكوير والانبعاج وهي مهد ونهد البسط والامتداد وهي معقد الشق والانشراق .وهي مركز الرتق والانفتاق وهي بكر الأرض (أول بيت وضع للناس) وهي مباركة وهدى للناس وهي قيام الناس ومثابة لأنها بارزة مشهورة رفيعة كاعبة. إن هذه الآثار والآيات الثاقبة ، وهي مهوى الناس قاطبة ، وهي مأمن لكل نفس راهبه ، وهي حاضرة في النفوس رغم أنها غائبة ، هذه بعض معاني الكعبة التي دلت عليها الكلمة ، ولها معاني تستظهر مع الأيام القادمة. ¶ إذن أليس من الواضح أن تكون الكعبة في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام) هو المنطقة الحرام ولهذا قال تعالى بعدها البيت الحرام فهو عطف بيان أو بدل وهذا يعني بلا شك أن الكعبة اسم للمنطقة الحرام كلها وليس للمبنى الصغير الذي تعرض للهدم والإصلاح والتصدع وللانزواء في مساحته وللتوسع كما حكاه لنا التاريخ وكما يعرف ذلك المتتبع. ¶ أليس بعد هذا البيان أيها الأخوان نصل معكم إلى إن اسم الكعبة اسم له سعة وشأن ونصل إلى أن المعنى الأصح للكعبة هو اسم يطلق على كل المنطقة الحرام الواضحة الحدود والأركان المعلومة الشعائر والمكان .أرجو أن تقتنعوا بلا ريب ولا تردد بل بترحاب للمعنى الذي تجسد ، لعلي إلى هنا أصل بكم وقد أجهدتكم ولكنه جهد مفيد لي ولكم ، وإنه لجهد محبوب ، مشكور بإذن الله من ربكم ، فهو يحب من تدبر الآيات بإمعان ، وتذكر المعاني باطمئنان ، لقد اعتمد على القرآن ، الذي فيه البيان.ولعلي قبل الوداع أعود بكم إلى الدليل الواضح من القرآن على إرادة المعنى الجديد للكلمة فلقد قال الله عن الذي يقتل الصيد متعمدا وهو حرم قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة بالمعنى المعهود لدينا ، هي التي يبلغها الهدي وينحر فيها ، كلا بل الهدي يبلغ إلى منى ، وهو محل النسك المعهود لنا ، والمعروف لمن نحر قبلنا.وهذا يعني أن منى جزء من الكعبة ، وعليه فالكعبة هي كل المنطقة التي ببكة الحرام ، ولهذا جاءت مبينة بعدها بلا انفصام بقول الله العلام: (البيت الحرام) ¶ ثم وصف الجميع بقوله قياما للناس ثم عطف على الجميع قوله : (والشهر الحرام والهدي والقلائد) ثم بين لنا أن ذلك بعلم منه لأنه العليم بكلما خلق وعليم بما حكم به وأن حكمه هو المعمول به فقال : (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) 97. ثم أكد أن العمل بالتحريم لهذه الكعبة والبيت الحرام أمر هام فقال (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة 98 ، فلنكن حريصين على اجتناب العقاب الشديد الأليم ، ولنحاول التعرض للغفران والرحمة من الغفور الرحيم ، ولنكن على علم أن الله يعلم الظاهر والمكتوم ، ويجازي كل عبد بما يعمله فالرسول قد بلغنا بما أرسله وعلينا أن نتبع ما بلغ (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) المائدة 99 ¶ وختاما أقول : وإذا كان معنى (الكعبة) كما عرفنا فإن من المؤكد لهذا المعنى في الأفهام هو أن هذا المقام المكعب البارز ، المبتكر الناهد ، المعروف المشهور ، لكل عابد ، هو مهوى القلوب ، إليه تنهد وتكعب أرحال ، واليه تشد وتكعب الأحمال ، وإليه ترد وتكعب الرجال ، وإليه تأتي كل ضامر يشوق من كل فج عميق ، ويحمل عليها الناس والثمرات بلا تعويق ، فالكعبة كعبة للناس في كل زمان ومكان ، إليها يكعبون ويبرزون ، وإليها ينهدون ويبهزون ، وإليها تقطع الفيافي والحزون ، وإلى مكعبها تتبارك الثمرات وتتواكب الرحلات ، وتتراكب السنوات ، وتتناكب الخطوات ، وتتحرك الأهواء والرغبات ، وتتشارك الجماعات والثبات ، وتتسامك الأحاد والزرافات ، فهي الكعبة التي لا تخفى على الأمم ، وتحفى عنها القدم ، وتحتفي بها الهمم ، وتحف بها القلوب ، وتخف إليها منذ القدم ، وستبقى هكذا إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتخرج الذمم . بارك الله هذا المقام الأكرم ، وتبارك الله الذي جعلها كعبة ، وبهذا نسلم ، وقضى بأنها قيام للناس ومثابة وحرم ، وما حكم به وقضى فهو الحق لأنه بما في السموات والأرض يعلم ، ولأنه محيط علما بما يبدو وما يكتم ، وهو العليم بما يقضي ، والمحيط علما بكل شيء سماوي وأرضي ، ولقد فاز من لربه يرضي ولهداه يتبع باقتناع ، ولحكمه يسلم بحب بلا امتناع ، فالرسول قد بلغ و (ما على الرسول إلا البلاغ) وكل شيء سواه لغو وفراغ ، وكل حكم سوى حكم الله ضلال وظلام ، وكل قول سوى قول الله لباطل وحطام ، ألا إلى الله تصير الأمور ، وهو الرحيم الغفور. ¶ (المسجد الحرام) ¶ إن المسجد الحرام كلمة وردت كثيرا في القرآن وهي في مفهوم المفسرين تعني المكان الذي يطوف فيه الناس ويسجدون وفيه يتعبدون ويجتمعون ، أو فلقد كانوا يعنون بالمسجد الحرام هذا المبنى الذي يحيط بالصحن المعد للطواف ، والذي يتوسطه المبنى الأصغر الذي بناه إبراهيم ورفع قواعده فهل هذا الفهم صحيح ، تعالوا نقرأ القرآن : يقول الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1 ، لنتأمل الآيات بإمعان ولنسأل أولا هل الإسراء تم من المسجد الحرام المتعارف عليه بيننا بأنه المبنى المعد للصلاة والطواف؟؟ إن الجواب على السؤال بلا شك يؤكد أن الإسراء تم من مكة أو من بيت من بيوت مكة ، لا من المسجد الذي للصلاة المعهودة ثم هل كان المبنى الذي كان يجتمع فيه القرشيون حول الأصنام مسجدا لله؟ وهل كان فيه صلاة؟؟ كلا. بل الله يقول (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال 35 إذن (المسجد الحرام) ليس المراد به إلا البلد الأمين بكامله ومحتواه ، ولا يقصد به إلا البيت الحرام بمعناه الذي عرفناه ، لقد أسري بالنبي من المنطقة التي هي مكة أو البلد المسمى بالمسجد الحرام ، قد تسألون ولماذا سمي بالمسجد الحرام ؟ وأنا أسأل هل وصف المسجد بأنه حرام يعني أن الحرم مقصور على المبنى؟؟ إذا كان المسجد هو المبنى فإن هذا يعني أن الحرم محدد به وهذا غير صحيح فالحرم هو البلد الكامل الشامل المناطق الحرام كلها ، التي يعرف الناس حدودها ، وبدايتها ونهايتها ، بلا لبس ولا خلاف ، وعليه فالمسجد المراد به كل المنطقة الحرام . ¶ أما لماذا سمي مسجدا فهو لأنه محل للطاعة والخضوع والانقياد لله والخشوع والتزام سلوك معين معهود للناس مشروع ، فلا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ولا خصام ولا اعتداء ولا قتال ، بل سلام واطمئنان لكل مقيد وباد. ومن يرد فيه بإلحاد ، فأن العذاب له بالمرصاد ، وهكذا سمي البلد مسجدا ، ووصف بأنه الحرام ، لأنه هكذا محكوم فيه بالطاعة والالتزام وهو معهود للناس بشكل عام ، سواء من كفر وغادر الإسلام ، ومن استجاب بعد ذلك للإسلام ، فهو المسجد الحرام ، الذي حكمه معروف ، والتحريم فيه مألوف ، والقتل فيه مكفوف ، وهو بالاحترام محفوف ، فالمسجد الحرام هو البلد بكله ، والمسجد الحرام هو المنطقة الحرام الكاملة. ¶ ثم هل هناك حين أسري بالنبي مسجد في القدس ، كلا بل كان هناك كنائس وأديره لليهود والنصارى ، فلماذا سمي إذن المسجد الأقصى؟ لأنه مقام عبادة وطاعة لله ، ومحط سلام واطمئنان ، فالسجود يعني الخضوع والاستسلام والمسجد يعني موطن التمسك بذلك والالتزام ، فهو المسجد الأقصى ، أي المكان أو البلد الذي يحترم فيه الناس بعضهم بعضا. ثم إذا كان المراد بالمسجد الأقصى هو الكنائس والأديرة والبيع النصرانية فلماذا وصف بالأقصى؟ ¶ إن الأقصى لا يوصف إلا بلد كامل أو مقام واسع الأرجاء أو منطقة يسكنها الناس ويعيشون في سلام شامل وعطاء ¶ ولهذا أضاف الله صفة أخرى فقال (الذي باركنا حوله) فالبركة منشورة على كل بقعة فيه وعلى ما حوله ولقد وصفها الله في آيات أخرى بقوله عن إبراهيم (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71 ويقول عن سبأ :(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)سبأ 18 ويقول عن سليمان وهو كان في القدس (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء 81 إذن فهي أرض ، وسماها الله مسجدا فقال (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وعليه فالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة ، وهي التي حرمها الله ، ¶ وبعد تعالوا إلى آية أخرى هي قولة تعالى : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) الفتح 27 وقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 فهل المسجد الحرام هنا يعني المبنى الذي للطواف أم البلد والأرض الحرام كاملة لا شك أن المراد به مكة الأرض المحرمة المحددة المعروفة الطول والعرض ، وهكذا فإن المسجد الحرام هو البلد الحرام هو البيت الحرام هو الكعبة الحرام. فالرسول لم يرد دخول المسجد فقط الذي فيه يتعبد ، ولكن أراد الأرض والبلد الذي هو حرام ، وله حد محدد ، معروف من الأبد. إذا أردتم المزيد من الأدلة ، فاسمعوا هذه الآية :(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) التوبة 7 والمراد بهذا العهد هو ما عقده النبي مع بعض القبائل القاطنة على حدود الأرض الحرام ، ويقول الله عن الحديبية التي تم فيها الصلح مع قريش (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) الفتح 24 فسمى الحديبية بطن مكة ، أي أنها على حدود البلد الحرام. ثم أن هناك آية تؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو البلد أو الأرض المسكونة ضمن المنطقة الحرام ، يقول الله في سورة البقرة عن من حج متمتعا بالعمرة إلى الحج (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فهل الأهل يسكنون في المسجد المصلى أم في البلد الذي جعله الله للناس حراما. وقبلها يقول الله للمؤمنين (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) البقرة191 فهل القتال يكون عند الأرض التي تسكن فيها ، أم عند المسجد الذي يصلى فيه؟ إن المراد الأرض المسكونة. إذن فالمراد بالمسجد الحرام الأرض التي هي محرمة أو البلد الحرام . ثم تعالوا إلى سورة الحج .. يقول الله :(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ثم يصفه بقوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) ثم يقول (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25 فهل العاكف والباد من الناس يسكن في المسجد المصلى ، أم في البلد الذي يسع الجميع ويكون للناس سواء؟ إن الوصف يؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة المسماة بالبيت الحرام ، الذي هو (أول بيت وضع للناس) وهو (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) فالمسجد الحرام هو البيت الحرام. ثم تعالوا أخيرا إلى سورة الأنفال :(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) الأنفال34 ، لا شك أن المراد هنا هو البلد الحرام بأكمله لا مجرد المسجد الصغير بداخله. وهكذا نصل إلى النهاية في هذا الموضوع عسى أن يكون مقبولا عندكم باقتناع. ¶ (مقام إبراهيم) ¶ إن الناس يظنون كما قال المفسرون أن مقام إبراهيم هو المكان الذي يقع على يمين المبنى الذي بناه إبراهيم أو رفع قواعده. ولأن الناس يظنون هذا الظن فإنهم يزدحمون فيه عند الطواف ويشكلون أزمة تجعل الطواف عسيرا وهو سهل يسير. يا إخواني إن المراد بقوله تعالى (مقام إبراهيم) ليس إلا المنطقة كاملة فهي مقام ووطن لإبراهيم فيها أقام ، وفيها سكن ، بعضا من الزمن ، ولقد أشار الله إلى هذا بقوله حاكيا عن إبراهيم : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) إبراهيم 37 هذا يدل أن المسكن هو الوادي الواقع ضمن البيت الحرام ، إذن فالمنطقة كلها هي السكن وهي المقام ، ولقد علل إبراهيم إسكان بعض ذريته هنا في هذا الوادي الغير ذي زرع ، علل هذا الإسكان بقوله (ليقيموا الصلاة) فالإقامة ليست لمجرد العيش والعمران ، وليست لمجرد السعي والبحث عن المتاع ، كلا . بل المراد هو الطاعة لله واتباع هداه وتطهر البيت من الشرك والضلال ، ومن الظلم والإلحاد ، وإذا أقام الناس على هذا الطريق الجاد ، فإن الله يكفل لهم المعاش والزاد ، ولهذا جاء دعاء إبراهيم عقب التعليل فقال : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهكذا أجاب الله دعاء إبراهيم وجعل البلد آمنا لكل باد ومقيم ،وجعله حرما آمنا ، وعلى هذا الأساس الذي علل به إبراهيم إسكان ذريته وهو إقامة الصلاة والطاعة والشكر لله ، جاءت آية البقرة ، جاءت الآية تؤكد هذه المعاني بشكل واضح البيان فاقرءوا بإمعان (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) إنه نفس ما دعا به إبراهيم ، فها هو البيت الحرام ، والبلد الحرام ، قد أصبح مثابة للناس ، فيتوبون إليه ، ويتعلمون منه ، ويقتدون بسلكه ومنسكه ، ثم هو مع المثابة آمن ، فمن دخله شكر وأقام الصلاة وهو في أمن لا يزول ، وسكون لا يتزلزل ، وسلوك جميل لا يتحول. إن كلمة (أمنا) في قوله (مثابة للناس وأمنا) تفصح بأن المنطقة كلها قد تجسد فيها الأمن وتجذر ، وتوارث الناس هذا السلوك فيه ، فهو بتغير حتى أصبح البلد كأنه هو الأمن بذاته ، وكأن كل ذرة فيه وكل شبر يشع بالأمن وكل شجرة وعشبة تثمر أمنا وكل نسائمه واحواشه تهب أمنا ، وفي هذا الحال والجو الجميل والأمن الأصيل والسكن الظليل لا بد أن يكون للناس فيه سلك جليل ، يليق بهذه الصفات التي لا تحول ، وعليه جاء الأمر المعجول. ¶ وقبل أن تكمل الايات السياق وقبل أن يصل الوصف للبيت إلى نهاية المطاف انقطع السياق وانطلق الأثر بأجمل انطلاق ليؤكد أن الحال يستحق هذا أشد استحقاق فقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي اتخذوا من هذا البيت أي من هذا البلد أي من هذه المنطقة الحرام ، كما عرفنا ذلك من سياق الكلام ، اتخذوا من هذا البيت الذي هو مقام إبراهيم مصلى ، أي مقاما للعبادة والشكر والطاعة والذكر والتوحيد لله الواحد بلا شرك ولا زور. نعم هذا هو المراد ، إنه يعني أن تكون المنطقة كلها مصلى ، لكل الناس الذين جعل الله لهم البيت مثابة وأمنا ، أليس إبراهيم قد أسكن أهله هناك ليقيموا الصلاة ، إذن فهو القدوة ومثله فلنقم الصلاة ، ولنتخذ مقامه الواسع الكامل مصلى على الدوام تماما كما كان إبراهيم الإمام ، وإذن فليس المراد بمقام إبراهيم هو ذلك الموقع الذي نزدحم فيه بلا جدوى ، بل المراد به كل المنطقة الحرام التي أقام فيها إبراهيم واتخذها مصلى له ولذريته ، ولمن تبعه وبه اقتدى ، ¶ ولهذا عاد السياق من جديد في الآية ليواصل البيان فيوضح لنا أن المقام مقام طاعة وإذعان وتوحيد وإيمان وطهر وتقوى وإحسان فجاء بعد الأمر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فالعهد هذا يؤكد أن المقام هو البيت بكله وبكامله المعروف الحدود (للطائفين والعاكفين والركع السجود) فهو مقام واسع الأرجاء يشمل المنطقة الحرام بلا مراء وليس ذلك المقام المعهود للملأ . ثم إني أسألكم سؤالا لو سلمنا أن المراد بمقام إبراهيم هو ذلك المكان الذي يقابل الحجر الأسود وأن إبراهيم كما قيل كان يقوم فيه ليبني المبنى الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه كان يضع الأحجار على المدماك ويرفعه ، وابنه إسماعيل يمكنه الأحجار ويناوله ، إذا سلمنا بهذا فكم كان طول ذراع إبراهيم وكم كان طول قامته حتى يتمكن من البناء وهو على هذا البعد من المبنى ؟؟ إن هذا ينفي الظنون ويؤكد أن المقام المدعى وهم موروث ، لا يعتمد على اليقين ، قد يقال أن عمر بن الخطاب أزاح مقام إبراهيم من جوار مبنى الحجر الأسود عدة أمتار ، وإلا فالأصل أنه كان قريبا من الجدار بحيث يمكن العمار من وضع الأحجار ، وإذا صح هذا فلماذا أزاحه عمر وهو يعلم أن هذا المقام شعيرة لا تغير ، وأثر لا تحول عما يؤثر ، إن إزاحته تؤكد أن الموضع ليس مقام إبراهيم وإنما هو شعيرة توارثها الناس غابرا عن غابر ، حتى أصبحت من الشعائر ، قد يقال أن النبي صلى هناك حينما اعتمر وتلى الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لكن الحديث ليس متواتر السند بل هو أحادي ، والأحادي معروف أن عمله ظني ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الصلاة في محاذاة الحجر الأسود ، فكان المكان هو هذا المقام المدعى ، ثم أنه قد أراد بتلاوة الآية : أن مكة كلها تصلح مصلى ما دامت مقام إبراهيم المقتدى الذي اتخذها كلها له ولذريته مقاما لإقامة الصلاة فالنبي محمد به اقتدى لا لتحديد الصلاة في ذاك المكان ولكن ليذكر بإبراهيم الإمام ، وليؤكد أنه على ملته أتم الالتزام ، وبعد فهل نستطيع أن نبني على هذا ، إن مقام إبراهيم هو البلد الحرام كله وهو البيت الحرام بأكمله؟؟ ¶ لعلنا قد اتضح لنا أن هذا هو المراد وإذا أردتم المزيد من البرهان فها هو إبراهيم يأتي بالبيان في الآيات التي تلي فاقرءوا بإمعان: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 إن البلد هنا هو البيت وهو المقام ها هو إبراهيم يشير إلى المقام ويقول رب اجعل هذا بلدا آمنا ويدعو لأهله بالرزق ويشترط الإيمان بالله واليوم الآخر فهل يمكن أن للمقام الصغير أهل وهم يسكنون فيه ويأكلون وهل يمكن أن ترد الثمرات إلى ذلك المقام الصغير المضنون كلا بل الذي يسكنه أهل وتأتيه ثمرات إنما مكان واسع الأرجاء ، في البلاد يتسع للمقيم والباد وله حدود من دخلها كان في حرم آمن من كل ظلم وإلحاد ومن كل باغ وعاد ، وعلى هذا فإن المقام هو هذا الذي أراده إبراهيم ملاذا . فكان الله معه مجيبا وجعل البيت مثابة وأمنا وجعل المقام مصلى طاهرا وجعل البلد آمنا موفور الأرزاق والأثمار تجيء إليه من كل الأقطار رزقا من لدن الله الغفار . ¶ والآن أكتفي بهذا المقال حول المقام وأرجو أن القارئ قد اقتنع بالبرهان وبالكلام وإني لأدعو لي وله أن يكون إبراهيم لنا هو الإمام وأن تكون ملته لنا هي الملة فهي الإسلام .
الحج أشهر معلومات- الجزء الثاني
حل رباني وبيان قرآني يقي حجاج البيت الحرام من الإرباك والزحام فاستمعوا وعوا أيها الأنام ويا أولي الألباب والأفهام،، ما يقول الله العلام الذي يعلم ما كان وما يكون والذي أنزل القرآن هدى للعالمين ، إنه يقول في سورة البقرة (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ويقول في سورة التوبة :(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين) التوبة 36، وعليه فإن الأشهر الحرم معلومة ، منذ خلق السموات والأرض ، ومكتوبة في كتاب الله ، ونظامه الكوني ، لا تتغير ولا تتبدل ، فهي أشهر حرم في كل زمان ، وإلى أن تقوم الساعة ، فلا يصح فيها إلا التقوى والسلام ، ولا فيها قتال ولا خصام ، ولا صيد ولا إيذاء للناس ولا للهوام ، بل عدل ونظام ، وحج وصيام ، وركوع وقيام ، وعطوف وإحرام ، ولهذا قال الله (ذلك الدين القيم) فهي محطة زمنية لتعظيم شعائر الله وحرماته ، كما أن الحرم محطة مكانيه لتعظيم الشعائر والحرمات ، فالناس فيها مكلفون بالحج والعمل الصالح ، وترك القلق والانشغال بالمصالح ، فإن ذلك ظلم للنفس ، وسعي جامح ، وحرمان لها من العمل الرابح ، الذي يحرص عليه المؤمن الفالح ، ولهذا قال الله عقب ذلك (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وما الظلم إلا الانشغال بما ليس فيه خير باق ، وما الظلم إلا الاهتمام بالمتاع الفاني ، وما الظلم إلا الانطلاق إلى المطامع ، والاندفاع في الدنيا بلا تقوى ولا وازع . إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، يوم خلق السموات والأرض. فهي شهور معلومة للعالمين ، الأولين والآخرين ، ولا يختلف عليها أحد من السابقين واللاحقين ، ولا المؤمنين ولا الكافرين ، ومثل ذلك التقدير والتنظيم لعدة الشهور السنوية الدائمة ، كان التحديد والتقدير للأربعة الأشهر الدينية المحرمة ، فهي أربعة معلومة للجميع بلا ارتياب ، منذ أن عرف الإنسان نفسه وعرف الحساب.
وإذن فهي أربعة لها شأن متميز هو أنها أربعة حرم ، ودين قيم ، ولها موقع خاص هي أنها قيام للناس ومثابة وموسم للحج لله والإنابة له ولهذا فإن الله يعلنها لنا بوضوح ويقول (الحج أشهر معلومات) نعم معلومات فمن ذا الذي يجهل العلم بها ، إنها معلومة للناس كلها مسلمها وكافرها ، أولها وآخرها ، معلومة لكل الأنبياء والمرسلين وأممها ، ولهذا كان الجاهليون يتحايلون عليها وعلى حرماتها ويلجئون إلى النسيء وهو كفر وضلال وظلام ، ليواطئوا عدة ما حرم الله في الأشهر الحرم، فيحلوا بضلالهم ما حرم الله فيها على الأنام على مدى الأيام والأعوام ، زين لهم سوء عملهم ، فضلوا عن سبيل ربهم ، فتركهم الله لضلالهم (والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 ، وإذن فنحن يجب أن نحترم هذه الأشهر المعلومة ، وأن نستمر على ما كتبه الله لها ، وبها علينا ، إن كنا أمة مسلمة. فإن إقامة الأشهر الحرم ، هو الدين القيم ، وما إقامتها إلا بأن نتبع ما كتب الله فيها وهو الحج ،
قد تسألون بانبهار: هل تعني أنها موسم للحج الأكبر؟ وأقول نعم إن الأشهر الحرم الأربعة هي موسم للحج ، وأن علينا أن نحج فيها ، وأن نقيم شعائر الحج ومناسكه فيها كلها بلا ارتياب ولا تردد ، وإلا كنا واقعين في الشك الذي وقع فيه الجاهليون ، وكنا لكتاب الله ناسين ، وفي آياته مرتابين ، ولنظامه الكوني مخالفين ، وعن إرادته منحرفين ، وعن نعمته مبتعدين ، وللضلال مقتربين ، والله لا يهدي إلا من اهتدى ، فلنهتد بهداه يزدنا هدى. إذن فالحج يصلح أن يقام وتؤدى مناسكه في الأشهر الأربعة :
]رجب الفرد[ و]ذي القعدة[ و]ذي الحجة[ و]محرم[
1 ................... 2 .......... 3 ..........4
إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وبراها وعادت الأشهر الحرم محددة معلومة ، لكل أهل الأرض والسماء ، وانمحى النسيء الذي ضل به الكافرون ، وأضلوا كثيرا ، وضلوا عن سواء السبيل ، وجاء الرسول الخاتم محمد الأمين صلى الله عليه وسلم ليعلن أن الأشهر الحرم هي تلك التي حددها الله العليم الحكيم ، وهذا هو الدين القيم ، وجعلها موسما للعمل الصالح السليم ، ومثابة للناس يتوبون فيها للحق والصراط المستقيم، وقياما للناس يقيمون فيها منارات التحريم لما حرم الله من الدماء والأعراض والأموال. ويرفعون فيها رايات ما شائه الله وارتضاه ، من صالح الأعمال ، ثم وليستمر التحريم في حياتهم طوال الأعوام ، ويستقيم العمل الصالح مدى الأيام ، فما الأشهر الحرم إلا محطات نموذجيه للتزود منها في مسيرة الناس ، إلى كل الأرض والأقطار والأوطان ، وإلى كل الأيام والشهور والأزمان ، فتبقى الأرض كلها حرما آمنا ، ويستمر الزمن كله أشهرا حرما ، ويستقيم الناس على العمل الصالح والتقوى ، متسلحين بذكر الله جل وعلا ، مستنيرين بهداه الذي من اتبعه فلا يضل ولا يشقى ، وهذا هو الذي يجعل الحج لله على الناس من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإن الله غني عنه أبدا.
ولهذا أقول مع احترامي لهؤلاء العلماء الأعلام ، والمجتهدين الكرام أنهم كلهم خرجوا عن النص ، وأبطلوا ما في الآية من المعاني ، وحملوا الآية معنى لا يتفق مع البيان القرآني ، ولا يقره اللسان العربي البياني ، فالله يقول وهو العليم الحكيم ، وهو الذي علمنا اللغة والكلام (الحج أشهر معلومات) إن (أشهر) جمع قله ، يدل على أنها أربعة ، ولهذا قال في آية التوبة (إن عدة الشهور) فأتى بجمع الكثرة ، فكيف تحول جمع أشهر إلى شهر وعشرة أيام؟ وكيف جاز أن يطلق الجمع على المفرد وجزء من المفرد؟؟ إن هذا لا يقول به أحد عربي ، بل حتى العجمي الذي لا يعرف اللسان العربي ، سينكر هذا التفسير العددي لكلمة (أشهر) فكيف بأئمة البيان العربي ، ومجتهدي الفقه الإسلامي.
لقد اجتهدوا وأخطئوا والمخطئ له أجر ، فلهم الأجر. ولكن ليس علينا أن نتبعهم في التفسير للأشهر بأنها شهر ، بل لا بد أن نفهم الآية على معناها الصحيح الواضح بأن (الحج أشهر معلومات) يعني أنها الأشهر المعلومة منذ خلق الله الأرض والسموات . وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، هذه هي الأشهر المعلومات لكل الناس ، لمن يأتي منهم ، ولمن مات وللرسالات والنبوءات ، بلا استثناء ولا تأويلات ، فكيف نجعل أشهر الحج المعلومات ، أقل مما تعنيه الكلمات؟!! إن هذا تقصير لا يرضاه إلا من لا يفهم البينات.
قد تقولون كيف تأتي في آخر الزمان ، وبعد مضي القرون من نزول القرآن ، لتقول لنا أن الحج يصح أن يقام في الأشهر الأربعة المعلومات؟ إن هذا مقال لم يقله أحد من أهل الفقه ، ولا أحد من علماء اللغة؟!!لكني أقول أن القرآن هو قمة اللغة ، بل هو أصل اللغة ، وهو البيان الذي يتعلم منه أهل البيان ، وهو الحكم الذي يحتكم إليه كل فقيه ، ممن تأخر أو تقدم ، وأنا قد فقهت من الآيات ما لم يفقه السابقون ، لأني جئت في زمن لم يدركوا ما فيه من تطورات . فهم كانوا يظنون أن السفر الطويل والمسافات المتطاولات يحتم على الناس أن يحجوا في شهر واحد ، وذلك مبلغ الاستطاعة ، ومنتهى الجهد لكل جماعة ، لكن الزمن الآن قد قرب المسافات وقصر السفر وجعل كل فج عميق ، قريبا من البيت العتيق ، وصير كل الناس قادرين على الفرض بلا معيق ، وسهل صعوبة الانتقال وسير الطريق ، فلم يعد السفر مرهقا ، ولم يعد الطريق شاقا ، ولم يعد بين المشرق والمغرب فارقا ، فالبعد الشاسع قد التفق ، والبون الواسع قد ارتتق ، والحلم الغامض قد تحقق . فأصبح العميق من الفجاج ، سهلا قريبا للحجاج ، وأصبح الأذان في الناس بالحج ، يصل إلى كل قمة وفج ، يحمله الأثير والأقمار ، وتستقبله الأسر والديار ، بلا تفريق بين عرب وعجم ، وبين الأفراد والأمم. فكيفلا يبادر الناس بالحج جماعات ووحدانا ،وكيفلا يأتون من كل فج عميق ، رجالا وركبانا ،
وكيفلا يأتون سراعا ، على كل ضامر ، في البر سائر ، أو للبحر ماخر ، أو في الجو طائر ، فالطائرات والسيارات والبواخر ، كلها يصح أن توصف بالمركب الضامر ، فالكلمة القرآنية دقيقة الدلالة ، تصلح لكل مركوب حيواني أو آله ، فالخيل والبغال ، والحمير والجمال الضوامر ، مثلها الطائرات والقطارات والسيارات والبواخر ، كلها ناقله للأثقال ، سريعة الانتقال ، ضامرة البطون والأطوال ، فالوصف شامل للجميع ، منطبق على الحي والمصنوع ، وكلها من خلق الله البديع .فالانتقال على المستحدث من الآلات ، أصبح يدفع الناس إلى الحج زرافات ، ومن كل القرى والقارات ، ومن البيوت والمؤسسات ،
وإذا كان الأمر كذلك ، فإن مكة لا بد أن تتسع للجميع ، ولا بد أن تستقبل الناس مهما كثرت الجموع ، لأن الفريضة واجبة ، فكيف نطلب من المستطيع أن يتراخى عن واجبه ، وكيف نطلب من المسلم أن ينتظر الأداء ، وهو لا يدري ماذا يكسب غدا ؟؟ إن هذا صد عن سبيل الله واعتداء ، بل وإلحاد وظلم عظيم يوردنا العذاب الأليم ، فما هو الحل أيها الناس العقلاء ، وما هو المخرج من هذه الظلماء ، إنه في القرآن الذي هو الحق والهدى للإنسان ، وفيه البينات والفرقان ، وفيه العلم الذي يهدي إلى الإحسان ، لقد قال الله (الحج أشهر معلومات) فاجعلوا الحج في هذه الأشهر المعلومات ، التي هي أربعة حرم منذ خلقت الأرض والسموات ، وذلك هو الدين القيم ، والطريق الأسلم ، والعمل الأقوم ، أوليس الله هو العليم الحكيم ، الهادي للصراط المستقيم ، أوليس هو المنزل للقرآن هدى للعالمين ، وبلسان عربي مبين ؟؟؟ بلى بلى .. إن هذا هو الحق الذي نزل به الروح الأمين ، على قلب خاتم النبيين .فإذن فلنفهم الكلمات كما اقتضت وأبانت ، ولنعمل بها كما جاءت ، بلا التواء ولا مراء ، فالبيان واضح الجلاء ، والأيام مشعة الضياء ، فلماذا الإنغماس بها في ظلماء ، ولماذا تفسيرها بما يخالف المعنى ، إن هذا هو الغباء ، والغفول الذي به الله لا يرضى ، وكيفلا وقد قال (الحج أشهر معلومات) إنها كلمات واضحة المعنى ، بينة الدلالات ، وإذا أردتم للمعنى وضوحا أوفر، وشئتم تأكيدا يكشف المعنى أكثر ، فاسمعوا ما قال الله بعد ذلك (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكررها ثلاث مرات لتتأكدوا من وضوح الدلالات فكلمة (فيهن) تعني أن للإنسان أن يفرض الحج في أي شهر (فيهن) في أي واحد من الأربعة الأشهر المعلومات (فمن فرض فيهن الحج).
أفهمتم أن هذا تأكيد لكم، وإيضاح لكم، وبيان يقضي على ارتيابكم وحكم يمسح كل شكوككم ، وقرار يبعد كل غموضكم ، فهل تحتكمون إلى القرآن والهدى ، أم إلى الهوى. إذن فافرضوا على أنفسكم الحج باطمئنان ، في أي شهر من الأشهر المعلومات ، وقرروا للناس أن يحجوا لله إلى البيت، في أي شهر من الأربعة المشهورات ، وثقوا بأن هذا هو حكم الله عالم الغيب والشهادة ، فهو العليم بأن الناس سيصلون إلى زمن تتقاصر فيه المسافات المتباعدة ، ويكثر فيه الناس التي للحج قاصدة ، وبأعداد متصاعدة ، بل أن الإسلام سيعم بلادا وأناسا متعددة ، بل وسيدخل الناس في دين الله أفواجا ، ويأتون لبيت الله حجاجا ، ولهذا فقد أفسح الله لهم الزمن والميعاد ، وجعل الحج أشهرا معلومات ، حتى لا يحرم منه من أراد ، أليس الله علام الغيوب ، أليس هو الذي جعل الحج لله على الناس ، فكيف يعلنه على العالمين؟ ولا يفسح لهم الزمن ليسعهم أجمعين؟؟ لنقرأ الآية من جديد : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ومن هو الذي سيفرض فيهن الحج؟؟ إنهم كل الناس. ولنقرأ (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ?96? فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ?97?) آل عمران 96-97، إن كلمة الناس والعالمين تدلان على أن كل الناس المؤمنين ، من كل الملل مدعوون للحج ما داموا مؤمنين.ولكن الناس كفروا بما فيهم أهل الكتاب ، فكان الله غنيا عنهم وعن العالمين ، ولكنهم لو آمنوا لكانوا حجاجا لله ، وللبيت قاصدين ، ولهذا قال الله : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125، وقال (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) المائدة 97، وقال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27، وقال (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) الحج 34، إن قوله ولكل أمة ، يشير إلى أن كل الملل التي لها كتب سماوية ، لها منسك في مكة ، ولهذا قال : فإلاهكم إله واحد. وأمام هذا النداء العام ، وهذا الواجب الهام ، لا بد أن يحصل الزحام ، وقد يؤدي توزيع الحصص ، إلى تأخر الكثير عن الحج وتقاعس الأكثر منهم عن الأداء ، بمختلف الحجج ، وأهم حجة هي تحديد عدد الحجاج ، وتضييق تدفق الأفواج ، وهذا أمر لا يرضاه الله ، الذي يقول (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27 ، فكيف يرضى الله بالتحديد ، وهو يدعوهم من كل فج بلا تحديد وكيف يرضى أن تحجب عنهم المنافع والاكرام وهو يقول :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فالناس يجب أن يشهدوا المنافع الموعودة ، وأن يذكروا الله في الأماكن والأيام المعلومة ، ليعظموا حرمات الله ولينالوا خيره ويعلنوا تقواه .
إذن فإن فتح الباب للحج في الأشهر المعلومات ، واجب أعلنه رب الأرض والسموات ، وحدد ميعاد ومكان هذا الفرض ، يوم خلق السموات والأرض ، فالشهور إثنا عشر منذ القدم ، منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم . فهيا أيها الناس ، هيا أيها المسلمون ، فكروا في الموضوع وقرروا ، ولبيان الله تدبروا ، ولآياته تذكروا ، لتنالوا خير الله وتؤجروا ، فاقدموا على التنفيذ ولا تتحيروا ، فالبيان القرآني واضح كالصباح ، والحكم الرباني حق مشرق وضاح ، وعلينا أن ننطلق على نوره للعمل ، ولا حرج علينا ولا جناح. قد تقولون كيف يمكن أن يكون الحج في الأشهر الأربعة؟ وقد تحدد يوم عرفه بأنه يوم تاسع ذي الحجة؟ ويوم النحر بأنه يوم عاشر ذي الحجة؟ وتحددت أيام التشريق بأنها يوم11/12/13 من ذي الحجة؟ فكيف نستطيع أن نحدد مثلها في الأشهر الأخرى ؟؟ وكيف نخترع من عندنا مواعيد جديدة ونتجرى؟؟ وأقول لكم ليس هناك اختراع ، وليس هناك جرأة على الله ، بل هناك اتباع واستماع ، وتدبر لآيات الله . تدبروا معي قوله تعالى في آية البقرة ، هذه التي نبحثها ، يقول في هذه الآية : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، فهي معلومات معروفات ، ومشهورات لمن تقدم ولمن هو آت ، وتأملوا معي قوله في آية الحج :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فهي أيضا أيام معلومات ، في أشهر معلومات ، لكنه لما تحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)البقرة 203، لقد وصفها بأنها معدودات ، نعم. لأنها ثلاثة أيام ، ولا إثم على من تعجل في يومين ، وهذا يؤكد لنا أن كلمة معلومات تعني شيئا غير المعدودوات ، فالمعلوم لا يتغير اسمه ولا يتبدل موعده ، لكن المعدود المراد به : معرفة العدد مع أنه معلوم موعده بالشهر الذي يكون فيه ، ثم أن الله في آيات الصيام يقول : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ?183? أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون?184?) البقرة 183-184، ثم حدد هذه الأيام المعدودات للصيام بقوله :(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فأيام الصيام معدودة ، وشهرها معلوم ، هو شهر رمضان وبتسمية الشهر عرفنا عددها ، وعرفنا أن شهر الصوم معلوم بإسمه المحدد المعلوم ، فلو كان الحج في أيام معدودة ، وفي شهر واحد فقط كالصيام ، لقال الحج أيام معدودة ، ليكون معناه أنها يوم تسعة وعشره ، وهما يوم الوقوف ويوم النحر ، ثم ثلاثة أيام لرجم الجمرات والذكر ، لكنه لم يرد هذا. بل أراد أن الحج له أشهر معلومات ، وفي كل شهر لنا أيام معدودات ، نحددها نحن في بقية الشهور بنفس العدد ، وفي نفس الموقع ، الذي اعتدنا عليه في شهر ذي الحجة. فنجعل مثلا يوم 9 رجب و9 ذي القعدة و9 محرم يوم الوقوف بعرفه كما هو يوم 9 من ذي الحجة . ونجعل يوم 10رجب و10ذي القعدة و10محرم يوم النحر كما هو يوم 10 من ذي الحجة. وهكذا أيام التشريق ، نجعلها في الأيام التالية ، من الأشهر الثلاثة الباقية ، أي يوم 11/12/13 من كل من رجب وذي القعدة ومحرم .
قد يقول قائل هذا اختراع واجتراء ، بلا دليل ولا اقتداء ، وأنا أقول لكم تمهلوا قبل هذه الاتهامات ، وتعالوا معي إلى الآيات نتدبرها بثبات وبلا تشنجات ، لنقرأ معا قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ، وبعد آيات الصيام مباشرة إنه يقول : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189، إنه يتحدث عن الأهلة فلماذا لم يقل إنها مواقيت للناس والصوم مع أنها جاءت بعد آيات الصوم؟؟لأن الصوم شهر محدد واحد ، فمعرفته سهلة ميسورة ، إما برؤية الهلال ، أو بإكمال عدة شعبان ، وليس هناك حرج في أن تصوم يوما من شعبان ، أو أن تزيد صيام يوم في شوال ، إذا غم عليك الهلال ، لتكمل عدة الأيام المعدودات ، التي هي ثلاثون نعم ذلك أمر سهل ميسور ، ولهذا يقول الله في آيات الصيام :(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فالمراد هو إكمال العدة ، سواء في صيام الشهر لمن شهد الشهر ، أو عند القضاء لمن أفطر ، عن مرض أو سفر . ذلك أن شهر الصيام شهر واحد معلوم معدود ليس له ثان . أما شهور الحج فهي تتكرر ، ولهذا كانت الأهلة مواقيت للناس في كل حياتهم ، ومواقيت للحج وهو الأهم ، ولهذا ذكره وخصه بالذكر ، للاهتمام بشأنه كما هي عادة البيان ، وأساليبه المعروفة لأهل العرفان ، نعم إن الأهلة مواقيت للناس ثم هي مواقيت للحج .لماذا ؟؟ لأن أشهر الحج تتكرر ، ولا بد أن يراقب فيها الهلال ، ليحدد في كل شهر منها مواعيد الحج ، أي أيامه التي هي التاسع والعاشر ، وما يليها من أيام التشريق كما ذكرنا سابقا.لا بد أن يكون الناس على يقين ، من أن يوم كذا في شهر كذا هو يوم الوقوف ، وأن يوم كذا هو يوم النحر ، وهكذا في كل شهر من الأشهر المعلومات. ولا بد أن يكون الناس على علم ، بأن بداية الشهر المعلوم من الأربعة ، هو يوم كذا ليتحدد على ضوئه يوم الحج بلا شك ، ولهذا قال (قل هي مواقيت للناس والحج) ، فخصصه دون سواه ليؤكد لنا أن الحج مكرر الشهور ، وأنه منتظر لكل الناس ، وهلال أشهره منظوره ، ليكونوا على بينة من يوم الحج الأكبر ، في كل واحد من الأربعة الأشهر ، وهكذا لا يمكن أن تأتي هذه الآية عبثا ، ولا يمكن أن تأتي بلا هدف ولا معنى ، بل لها هدف ومعنى ، لمن تدبر وأمعن النظر ، في آيات الله التي لا تخفى على أولى الحجى . إن الآية هذه واضحة الدليل لذي الفكر ، بينة السبيل لذي حجر وعلى ذكر الحجر ، فإني آخذكم إلى آية تشع كالفجر ، وللمراد تنصر ، لنقرأ أوائل سورة الفجر ، فإن النور من آفاقها يظهر ، يقول الله : (والفجر ?1? وليال عشر ?2? والشفع والوتر ?3? والليل إذا يسر ?4? هل في ذلك قسم لذي حجر ?5?) الفجر 1-5 ، إنها الخمس الآيات الأولى ، تأملوا معي الكلمات ، إن الله يقسم فيها بخمس من المخلوقات .اقرءوها مرة ثانية ، هل تلاحظون فرقا بينا بين واحدة وأخرى ؟ أم أنها جاءت بأسلوب واحد واستواء ؟؟ كلا كلا.لقد جاءت الأولى والثالثة والرابعة والخامسة معرفة بالألف واللام ، (والفجر - والشفع - والوتر - والليل إذا يسر) لكن الثانية جاءت بدون تعريف (وليال عشر) ، لم يقل (والليالي العشر)، لماذا؟؟ إنها إشارة لمن يفهم ويتدبر القرآن ، إن هذه الليالي العشر ليست محددة في ذي الحجة ، بل هي عشر ليال في كل شهر من الأشهر الأربعة. أي أن لكل شهر من الأشهر الأربعة ليال عشر، يجب أن تعرف بالأهلة ، التي هي مواقيت للحج ، ولا بد أن تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي ، ليكون تاسعها هو يوم الحج الأكبر ، وعاشرها هو يوم النحر ، إنها عشر ليال تتكرر ، في كل الأربعة الأشهر ولهذا جاء ذكرها منكرا ، بدون أداة تعريف ، وأفردت وحدها بين أخواتها المعرفات بأداة التعريف. إن هذا التنكير لها، إنما هو تعريف لنا، بأنها ليال عشر متكررة ولهذا جاءت منكرة. فسبحان الذي جعل من التنكير تعريفا، ومن التنكير لها تشريفا. وجعل التنكير دليلا على التكرير ، لليالي العشر في الأشهر الأربعة بانتظام ، فهي تتكرر أربع مرات في العام ، وهي في كل شهر لها نفس المقام ، عند ربنا العلام ، ولمن أراد إحيائها بالذكر وبالحج والعمرة ، من أهل الإسلام ، فافهموا يا أولى الأفهام ، وافقهوها يا أولى الأحلام ، هل في ذلك غموض على الفكر ، وهل في ذلك ريب لذي حجر ؟؟
ثم أن يوم عاشوراء ، لا يزال مرتقبا معروفا محترما ، في الشهر الرابع وهو شهر محرم. إنه إشارة واضحة أن لكل شهر من الأشهر الأربعة يوم عاشر هام ، رفيع المقام ، وكأن أهمية هذا اليوم العاشر ، انمحت من الأشهر الأخرى مع مرور الأيام ، ولم يبق منها إلا هذه الإشارة الواضحة في الشهر الرابع وهو محرم.
وبعد فهل نستطيع أن نقول أن الآيتين ، أعني آيتي الأهلة والفجر قد أكدتا لنا أن الحج يصح في الأربعة الأشهر؟ يمكن أن يكون ذلك قد تأكد وأن من له حجر من الناس قد يوافق على أن الحج ليس في شهر ذي الحجة بشكل محدد ، بل أنه يصح في رجب المفرد ، وفي الثلاثة الأشهر المتوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وإذا كنتم في ريب من ذلك فأني أسألكم متى كان صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟؟ بل أحدد السؤال أكثر فأقول متى سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية؟؟ إن المؤرخين يقولون :أذن الرسول في الناس بالحج في شهر ذي القعدة ، ركب الرسول ناقته القصوى ومعه أصحابه ، وساقوا هديهم سبعين بدنه. قد تقولون إنها عمرة ، وليست حجا. لكني أسأل ولماذا ساق النبي الهدي؟؟ إن الهدي لا يكون إلا مع الإهلال بالحج؟!! بل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة) وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل عن قصة حجة الوداع. إذن فإن قصد الرسول في عام الحديبية كان هو الحج لا العمرة وقد أكد هذا القرآن بقوله تعالى : (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 ، ولتأكيد أن القصد هو الحج ، نجد في حكاية الحديبية أنه لما انتهى الصلح ، تردد المسلمون في أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا الهدي ، ليتحللوا من الإحرام ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ، تقدم إلى هديه فنحره ، ودعا بالحلاق فحلق رأسه ، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا. ومن المعروف أن الحلاقة لا تكون إلا بعد التحلل من الحج ، أما العمرة فهي التقصير فقط ، وهذا يعني أن الرسول قد أهل للحج في ذي القعدة ، لكنه لصد قريش له وللمسلمين لم يدخل مكة ، فنحر وحلق وعاد ، لكنه انتظر إلى العام التالي وكما وعده ربه (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) الفتح 27 ، وفي الموعد المضروب ، قبيل بداية شهر الحجة ، سار الرسول في ألفين من الصحابة قاصدين مكة ، وبموجب الصلح ونزولا من قريش على صلح الحديبية ، دخل الرسول مكة المكرمة وأدى عمرة القضاء ، ومكث مع أصحابة فيها ثلاثة أيام يصلي بهم ويذكر الله ، ويؤذن بهم بلال رافعا اسم الله .لعلنا ندرك هنا أن الرسول أدى عمرة تسمى عمرة القضاء ، في شهر الحجة ولم ينو حجا ، فلو كان الحج لا يصح إلا في ذي الحجة لما تأخر النبي عن الإهلال بالحج في هذا الشهر ولاغتنمها فرصة لا تعوض لأداء الحج لاسيما وأن قريشا جلت عن مكة بمجرد دخوله ، ثم لم تأذن له بطول الإقامة في مكة ، فما كان أخره أن يستغل شهر ذي الحجة لأداء الحج لا للعمرة فقط .لكنه لم يفعل لعلمه أن الحج يصح في سوى هذا الشهر ، وأنه غير محدد بذي الحجة وهكذا خرج النبي من مكة ، وعاد إلى المدينة فرحا بتحقيق وعد الله وتصديق رؤياه بدخول المسجد الحرام.
ثم تعالوا بنا نراجع فتح مكة وهو في السنة الثامنة من الهجرة :لقد خرج النبي مع جيش الفتح في الحادي والعشرين من رمضان عام 8 من الهجرة ، ولقد تم له فتح مكة بسلام ، وبإسلام عدد كثير من الأقوام ، وتم تهديم الأصنام ، وتطهير البيت الحرام ، من أثر الشرك والآثام .وبعد إقامة الرسول في مكة أسبوعين ، توجه إلى ردع عدوان هوازن ، التي أرادت بالمسلمين سوءا بعد انتصارهم في فتح مكة وقررت أن تغزوا النبي وقومه ، لكن النبي سار لمواجهتهم وردعهم ، فكان ما كان من فشل المسلمين في حنين ، ثم ثباتهم بسكينة الله على الرسول وعلى المؤمنين ، ثم هزيمة هوازن ، ثم حصار الطائف وثقيف ، وقد استمر الحصار حتى نهاية شوال ، وكما آذن شهر ذي القعدة بالقدوم وهو من الأشهر الحرم ، عاد النبي من الطائف إلى الجعرانه ، فقسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم ، ثم غادرها إلى مكة معتمرا ، في شهر القعدة ، ثم عاد إلى المدينة مع أصحابة من المهاجرين والأنصار ، في أول شهر ذي الحجة .لقد سقت هذه الوقائع رغم عدم الحاجة إليها لنؤكد من جديد أنه لو كان شهر ذي الحجة محددا للحج لانتهز الرسول الوقت ولجعل تواجده في ضواحي مكة فرصة ؛ أو على مقربة منها فرصة لانتظار موعد الحج ، فلم يكن بينه وبين ذي الحجة إلا بقية من ذي القعدة ، فانتظاره كان فرصة ثمينة ، وكان محل ترحيب وحب الجميع ، لاسيما أنه الآن ظافر منتصر حتى لو أقام في مكة منتظرا ، فليست إقامته محددة كما كان في عمرة القضاء ، بل هو الآن مطلق للإقامة كيفما شاء ، وإلى متى شاء ، وفي محل ترحيب واحتفاء ، لكنه رغم هذا غادر مكة بعد العمرة ، ولم ينتظر الحج ، مع أنه على قاب قوسين من ذي الحجة. إن هذا يدلنا على أنه كان يدرك أن ذي الحجة ليس شهرا محددا خاصا بالحج بل أنه (الحج أشهر معلومات) كما قال الله فله أن يحج في أي شهر شاء والأيام أمامه تتوالى .
قد تقولون لكنه لما حج حجة الوداع كان حجة في شهر ذي الحجة ، وكذلك حج أبو بكر وعلي بن أبي طالب في السنة التاسعة ، حين كلف الرسول علي بن أبي طالب بتلاوة سورة براءة على المشركين ، لكني أقول لقد اختار الرسول هذا الشهر لأنه الشهر الأوسط في الأشهر الثلاثة السرد المتوالية ، وهو دائما كان يحب التوسط في كل أمره ، ولا يعني اختياره للشهر الأوسط من الثلاثة الأشهر المتوالية ، أنه الشهر المحدد الأوحد للحج بل هو اختيار جميل من الرسول وبه اجتهد مع علمه أنه ليس هو الشهر المحدد ، وكيفلا والقرآن يقول ويتلى بلسانه على الناس وفيه يقول الله (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) إنه لسان عربي والنبي أفصح العرب ، فكيفلا يفهم النص وكيفلا يفهم أن المراد تكرر الحج أربع مرات في العام كما حدد الله العلام ، إن هذا هو الحق وسواه أوهام .
هكذا أستدل بالحدث على أن الحج ليس محددا في شهر ذي الحجة ، بل وهناك دليل آخر من نفس الحدث ، وفي نفس العام الذي حج فيه النبي وفي نفس الشهر وهو ذو الحجة . هذا الدليل ينصر ما أقول ويؤكد أنه موافق للرسول ، فاستمعوا إلى الدليل القاطع والقول الفصل بلا منازع ، يقول المؤرخون : لقد خرج النبي من المدينة حاجا وحين وصل إلى (ذي الحليفه) ميقات إحرام أهل المدينة ، لبس مع أصحابه ملابس الإحرام ، ثم سار الموكب ملبيا ذاكرا حتى وصل الموكب إلى محلة (سرف) وهي منطقة بين مكة والمدينة ، وهنا أناخ الركب للراحة ، وعندها قال الرسول للصحابة ، وهو النبي المعلم المشرع لهم ، الذي يأخذ الناس منه مناسكهم . ماذا قال لهم ؟ لقد قال :
(من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا) هكذا حدد أن الحج يصح لمن له هدي ، وأن شهر ذي الحجة يصح أن لا يكون موسما للحج ، ولكن للعمرة فقط ، لمن لم يسق الهدي ، مع أنهم كلهم قد عرفوا الواجب وكلهم يصدق عليه قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وكيفلا وهم مع رسول الله الذي تنزل عليه القرآن وهو المبلغ له من الله. ومن الجميل والمهم أن نعرف أن الرسول قد اختار هذا الشهر الأوسط ، من الأشهر الثلاثة الحرم المتوالية ، لأنه يتفق مع قدرة أكبر عدد معه من المسلمين والمسلمات، فهو يصادف أواخر أيام الشتاء وأوائل الربيع من الأشهر الشمسية ، إذ يؤكد الحاسبون أن هذا الشهر العاشر من العام العاشر للهجرة ، يتقابل مع شهر مارس ، من عام 632 ميلادية ، وهو شهر معتدل الجو رائق النسيم ، ناعم الهواء ، للمسافر والمقيم ، وللموكب العظيم ، الذي يتقدمه الرسول الكريم ، أليس هو الذي يصفه ربه بقولة للمؤمنين (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128 ، ولهذا اختار لهم هذا الشهر المتوسط بين الأشهر الحرام والمتوسط الهواء والأنسام ، ليكون أوعى للنشاط في الأسفار والمقام ، والوصول بسلام ، وأداء المناسك بيسر واهتمام ، فصلى الله عليه وعلى من سار معه من الأصحاب والأقوام ، وعليه وعليهم من ربهم السلام ، وعلينا معهم ، وعلى من اتبعهم باحسان إلى يوم القيام.
وبعد ،، فقد يقال أن هذا التعليل لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، شهر ذي الحجة لأداء الحج (حجة الوداع) غير واقعي ولا علمي، بل وغير متفق مع مهمة النبي الذي ينفذ ما أمر به من ربه في أشق الظروف وأصعب المضايق بلا تخير لزمن الربيع والنسيم وبلا اعتبار للمشاق والعوائق ، ألا تذكر أنه سار بالمهاجرين والأنصار إلى تبوك في أشد القيض وفي ساعة العسرة ، رغم كراهتهم وتردد بعضهم ، ليكون لهم درسا هاما بالغا في المبادرة إلى الجهاد في كل حال ، وفي مختلف الأزمان ولهذا قال الله عنهم (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) التوبة 117 ، وأنا أقول أن الاعتراض متوقع من الكثير والقليل ، ردا على ما أوردته من التعليل ، ولكني أقول أن هناك فرقا بين مسير النبي بالمهاجرين والأنصار للحج ، وبين مسيره إلى تبوك ، لقد كان المسير إلى تبوك لردع المتآمرين ضد الدين ، فلقد لاحت علامات الكيد ، وظهرت دلائل المؤامرة على المسلمين ، فلا بد من ردعها بشكل عاجل ، وبلا انتظار ولا بد من المسير إلى أعماق الوديان لإظهار قوة الإسلام والمسلمين ، وقدرتهم على ردع العدوان ، من أي جهة جاء ، وفي أي مكان ، رغم العسر والحر ، فكان لا بد من المسير في أصعب الأزمان وأعسرها ، ليزداد المتآمرون يقينا بأن الصعاب أمام المسلمين تهون ، وأن العسرة عند المؤمنين هي السبيل إلى رضاء رب العالمين ، فالعسير: في طاعته يسير وسلام ، ألم يقل (فإن مع العسر يسرا ?5? إن مع العسر يسرا?6?) الشرح 5-6 ، وهي حقيقة لا يرتاب فيها المؤمنون ، بل تدعوهم إلى الإصرار على ركوب العسر ، لينالوا اليسر في الدنيا ويوم الدين ، ولينالوا أجر الله المحسنين ، ألم يقل الله معاتبا من تخلف من الموكب ، ومبشرا من بادر ورغب ، قال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ?119? ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين?120?) التوبة 119-120 ، إنه وعد بجزاء يسموا إلى مقام المحسنين. بل أن الآيات تتوالى بالوعد الجميل وتتوغل في التبشير من الجليل على كل عمل وعطاء كثير وقليل فيقول الله : (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) التوبة 121 ، وعود تتوالى من الله الغني الحميد ، إلى هؤلاء المبادرين من العبيد وأي جزاء أحب وأبقى وأحسن من جزاء يكون من الله ، إن هذا هو الذي تهون في نيله النفوس والأموال والأولاد والأوطان ، لأن هذه كلها نافذة فانية ، وذلك باق خالد ومبارك متوال في الدنيا والآخرة ، فكيفلا يسير بهم النبي في ساعة العسرة لينالوا مع العسر يسرا ، ومع النصب حبا من الله العلي العظيم. وعليه فإن الدرس الذي أراده الله لعباده في تبوك ، والأجر الحسن الذي أراد أن يكتبه لهم لا بد أن يكون في ساعة العسرة ، ليتوب عليهم ، إنه بهم رءوف رحيم ، وهو التواب الرحيم . فذلك مسير : له عقبى حسنه للمؤمنين ، وإرهاب للمتآمرين والكائدين ، فكان لا بد من مسير يبهر ، وبه اليقين والصبر يظهر ، وبه الصادق يؤجر ، مسير به العدو يقهر ، والمتآمر يدحر ، وأحلامه تتلاشى وتتبخر ، أمام هذا الزحف النبوي الذي استسهل ما تعسر .فكان لهم جميعا الخير من الله والتوبة والرحمة وذلك خير ما يدخر ، وذلك هو الفوز الأكبر .وهكذا كان الفرق بين مسير الحج ومسير الجهاد . وهكذا كانت حجة الوداع في العام التالي لعام تبوك . كانت ذات مسير يفوح باليسر والعبير بينما كان السابق يفوح بالحر والهجير،، ولهم من الله أجر كبير .الحج أشهر معلومات- الجزء الثاني ¶ حل رباني و بيان قرآني يقي حجاج البيت الحرام من الإرباك والزحام فاستمعوا وعوا أيها الأنام ويا أولي الألباب والأفهام،، ما يقول الله العلام الذي يعلم ما كان وما يكون والذي أنزل القرآن هدى للعالمين ، إنه يقول في سورة البقرة (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ويقول في سورة التوبة :(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين) التوبة 36، وعليه فإن الأشهر الحرم معلومة ، منذ خلق السموات والأرض ، ومكتوبة في كتاب الله ، ونظامه الكوني ، لا تتغير ولا تتبدل ، فهي أشهر حرم في كل زمان ، وإلى أن تقوم الساعة ، فلا يصح فيها إلا التقوى والسلام ، ولا فيها قتال ولا خصام ، ولا صيد ولا إيذاء للناس ولا للهوام ، بل عدل ونظام ، وحج وصيام ، وركوع وقيام ، وعطوف وإحرام ، ولهذا قال الله (ذلك الدين القيم) فهي محطة زمنية لتعظيم شعائر الله وحرماته ، كما أن الحرم محطة مكانيه لتعظيم الشعائر والحرمات ، فالناس فيها مكلفون بالحج والعمل الصالح ، وترك القلق والانشغال بالمصالح ، فإن ذلك ظلم للنفس ، وسعي جامح ، وحرمان لها من العمل الرابح ، الذي يحرص عليه المؤمن الفالح ، ولهذا قال الله عقب ذلك (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وما الظلم إلا الانشغال بما ليس فيه خير باق ، وما الظلم إلا الاهتمام بالمتاع الفاني ، وما الظلم إلا الانطلاق إلى المطامع ، والاندفاع في الدنيا بلا تقوى ولا وازع. إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، يوم خلق السموات والأرض. فهي شهور معلومة للعالمين ، الأولين والآخرين ، ولا يختلف عليها أحد من السابقين واللاحقين ، ولا المؤمنين ولا الكافرين ، ومثل ذلك التقدير والتنظيم لعدة الشهور السنوية الدائمة ، كان التحديد والتقدير للأربعة الأشهر الدينية المحرمة ، فهي أربعة معلومة للجميع بلا ارتياب ، منذ أن عرف الإنسان نفسه وعرف الحساب. ¶ وإذن فهي أربعة لها شأن متميز هو أنها أربعة حرم ، ودين قيم ، ولها موقع خاص هي أنها قيام للناس ومثابة وموسم للحج لله والإنابة له ولهذا فإن الله يعلنها لنا بوضوح ويقول (الحج أشهر معلومات) نعم معلومات فمن ذا الذي يجهل العلم بها ، إنها معلومة للناس كلها مسلمها وكافرها ، أولها وآخرها ، معلومة لكل الأنبياء والمرسلين وأممها ، ولهذا كان الجاهليون يتحايلون عليها وعلى حرماتها ويلجئون إلى النسيء وهو كفر وضلال وظلام ، ليواطئوا عدة ما حرم الله في الأشهر الحرم، فيحلوا بضلالهم ما حرم الله فيها على الأنام على مدى الأيام والأعوام ، زين لهم سوء عملهم ، فضلوا عن سبيل ربهم ، فتركهم الله لضلالهم (والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 ، وإذن فنحن يجب أن نحترم هذه الأشهر المعلومة ، وأن نستمر على ما كتبه الله لها ، وبها علينا ، إن كنا أمة مسلمة. فإن إقامة الأشهر الحرم ، هو الدين القيم ، وما إقامتها إلا بأن نتبع ما كتب الله فيها وهو الحج ، ¶ قد تسألون بانبهار: هل تعني أنها موسم للحج الأكبر؟ وأقول نعم إن الأشهر الحرم الأربعة هي موسم للحج ، وأن علينا أن نحج فيها ، وأن نقيم شعائر الحج ومناسكه فيها كلها بلا ارتياب ولا تردد ، وإلا كنا واقعين في الشك الذي وقع فيه الجاهليون ، وكنا لكتاب الله ناسين ، وفي آياته مرتابين ، ولنظامه الكوني مخالفين ، وعن إرادته منحرفين ، وعن نعمته مبتعدين ، وللضلال مقتربين ، والله لا يهدي إلا من اهتدى ، فلنهتد بهداه يزدنا هدى. إذن فالحج يصلح أن يقام وتؤدى مناسكه في الأشهر الأربعة : ¶ ]رجب الفرد[ و ]ذي القعدة[ و ]ذي الحجة[ و ]محرم[ ¶ 1 ................... 2 .......... 3 ..........4 ¶ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وبراها وعادت الأشهر الحرم محددة معلومة ، لكل أهل الأرض والسماء ، وانمحى النسيء الذي ضل به الكافرون ، وأضلوا كثيرا ، وضلوا عن سواء السبيل ، وجاء الرسول الخاتم محمد الأمين صلى الله عليه وسلم ليعلن أن الأشهر الحرم هي تلك التي حددها الله العليم الحكيم ، وهذا هو الدين القيم ، وجعلها موسما للعمل الصالح السليم ، ومثابة للناس يتوبون فيها للحق والصراط المستقيم، وقياما للناس يقيمون فيها منارات التحريم لما حرم الله من الدماء والأعراض والأموال. ويرفعون فيها رايات ما شائه الله وارتضاه ، من صالح الأعمال ، ثم وليستمر التحريم في حياتهم طوال الأعوام ، ويستقيم العمل الصالح مدى الأيام ، فما الأشهر الحرم إلا محطات نموذجيه للتزود منها في مسيرة الناس ، إلى كل الأرض والأقطار والأوطان ، وإلى كل الأيام والشهور والأزمان ، فتبقى الأرض كلها حرما آمنا ، ويستمر الزمن كله أشهرا حرما ، ويستقيم الناس على العمل الصالح والتقوى ، متسلحين بذكر الله جل وعلا ، مستنيرين بهداه الذي من اتبعه فلا يضل ولا يشقى ، وهذا هو الذي يجعل الحج لله على الناس من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإن الله غني عنه أبدا. ¶ ولهذا أقول مع احترامي لهؤلاء العلماء الأعلام ، والمجتهدين الكرام أنهم كلهم خرجوا عن النص ، وأبطلوا ما في الآية من المعاني ، وحملوا الآية معنى لا يتفق مع البيان القرآني ، ولا يقره اللسان العربي البياني ، فالله يقول وهو العليم الحكيم ، وهو الذي علمنا اللغة والكلام (الحج أشهر معلومات) إن (أشهر) جمع قله ، يدل على أنها أربعة ، ولهذا قال في آية التوبة (إن عدة الشهور) فأتى بجمع الكثرة ، فكيف تحول جمع أشهر إلى شهر وعشرة أيام؟ وكيف جاز أن يطلق الجمع على المفرد وجزء من المفرد؟؟ إن هذا لا يقول به أحد عربي ، بل حتى العجمي الذي لا يعرف اللسان العربي ، سينكر هذا التفسير العددي لكلمة (أشهر) فكيف بأئمة البيان العربي ، ومجتهدي الفقه الإسلامي. ¶ لقد اجتهدوا وأخطئوا والمخطئ له أجر ، فلهم الأجر. ولكن ليس علينا أن نتبعهم في التفسير للأشهر بأنها شهر ، بل لا بد أن نفهم الآية على معناها الصحيح الواضح بأن (الحج أشهر معلومات) يعني أنها الأشهر المعلومة منذ خلق الله الأرض والسموات . وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، هذه هي الأشهر المعلومات لكل الناس ، لمن يأتي منهم ، ولمن مات وللرسالات والنبوءات ، بلا استثناء ولا تأويلات ، فكيف نجعل أشهر الحج المعلومات ، أقل مما تعنيه الكلمات؟!! إن هذا تقصير لا يرضاه إلا من لا يفهم البينات. ¶ قد تقولون كيف تأتي في آخر الزمان ، وبعد مضي القرون من نزول القرآن ، لتقول لنا أن الحج يصح أن يقام في الأشهر الأربعة المعلومات؟ إن هذا مقال لم يقله أحد من أهل الفقه ، ولا أحد من علماء اللغة؟!!لكني أقول أن القرآن هو قمة اللغة ، بل هو أصل اللغة ، وهو البيان الذي يتعلم منه أهل البيان ، وهو الحكم الذي يحتكم إليه كل فقيه ، ممن تأخر أو تقدم ، وأنا قد فقهت من الآيات ما لم يفقه السابقون ، لأني جئت في زمن لم يدركوا ما فيه من تطورات . فهم كانوا يظنون أن السفر الطويل والمسافات المتطاولات يحتم على الناس أن يحجوا في شهر واحد ، وذلك مبلغ الاستطاعة ، ومنتهى الجهد لكل جماعة ، لكن الزمن الآن قد قرب المسافات وقصر السفر وجعل كل فج عميق ، قريبا من البيت العتيق ، وصير كل الناس قادرين على الفرض بلا معيق ، وسهل صعوبة الانتقال وسير الطريق ، فلم يعد السفر مرهقا ، ولم يعد الطريق شاقا ، ولم يعد بين المشرق والمغرب فارقا ، فالبعد الشاسع قد التفق ، والبون الواسع قد ارتتق ، والحلم الغامض قد تحقق . فأصبح العميق من الفجاج ، سهلا قريبا للحجاج ، وأصبح الأذان في الناس بالحج ، يصل إلى كل قمة وفج ، يحمله الأثير والأقمار ، وتستقبله الأسر والديار ، بلا تفريق بين عرب وعجم ، وبين الأفراد والأمم. فكيفلا يبادر الناس بالحج جماعات ووحدانا ،وكيفلا يأتون من كل فج عميق ، رجالا وركبانا ، ¶ وكيفلا يأتون سراعا ، على كل ضامر ، في البر سائر ، أو للبحر ماخر ، أو في الجو طائر ، فالطائرات والسيارات والبواخر ، كلها يصح أن توصف بالمركب الضامر ، فالكلمة القرآنية دقيقة الدلالة ، تصلح لكل مركوب حيواني أو آله ، فالخيل والبغال ، والحمير والجمال الضوامر ، مثلها الطائرات والقطارات والسيارات والبواخر ، كلها ناقله للأثقال ، سريعة الانتقال ، ضامرة البطون والأطوال ، فالوصف شامل للجميع ، منطبق على الحي والمصنوع ، وكلها من خلق الله البديع .فالانتقال على المستحدث من الآلات ، أصبح يدفع الناس إلى الحج زرافات ، ومن كل القرى والقارات ، ومن البيوت والمؤسسات ، ¶ وإذا كان الأمر كذلك ، فإن مكة لا بد أن تتسع للجميع ، ولا بد أن تستقبل الناس مهما كثرت الجموع ، لأن الفريضة واجبة ، فكيف نطلب من المستطيع أن يتراخى عن واجبه ، وكيف نطلب من المسلم أن ينتظر الأداء ، وهو لا يدري ماذا يكسب غدا ؟؟ إن هذا صد عن سبيل الله واعتداء ، بل وإلحاد وظلم عظيم يوردنا العذاب الأليم ، فما هو الحل أيها الناس العقلاء ، وما هو المخرج من هذه الظلماء ، إنه في القرآن الذي هو الحق والهدى للإنسان ، وفيه البينات والفرقان ، وفيه العلم الذي يهدي إلى الإحسان ، لقد قال الله (الحج أشهر معلومات) فاجعلوا الحج في هذه الأشهر المعلومات ، التي هي أربعة حرم منذ خلقت الأرض والسموات ، وذلك هو الدين القيم ، والطريق الأسلم ، والعمل الأقوم ، أوليس الله هو العليم الحكيم ، الهادي للصراط المستقيم ، أوليس هو المنزل للقرآن هدى للعالمين ، وبلسان عربي مبين ؟؟؟ بلى بلى .. إن هذا هو الحق الذي نزل به الروح الأمين ، على قلب خاتم النبيين .فإذن فلنفهم الكلمات كما اقتضت وأبانت ، ولنعمل بها كما جاءت ، بلا التواء ولا مراء ، فالبيان واضح الجلاء ، والأيام مشعة الضياء ، فلماذا الإنغماس بها في ظلماء ، ولماذا تفسيرها بما يخالف المعنى ، إن هذا هو الغباء ، والغفول الذي به الله لا يرضى ، وكيفلا وقد قال (الحج أشهر معلومات) إنها كلمات واضحة المعنى ، بينة الدلالات ، وإذا أردتم للمعنى وضوحا أوفر، وشئتم تأكيدا يكشف المعنى أكثر ، فاسمعوا ما قال الله بعد ذلك (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكررها ثلاث مرات لتتأكدوا من وضوح الدلالات فكلمة (فيهن) تعني أن للإنسان أن يفرض الحج في أي شهر (فيهن) في أي واحد من الأربعة الأشهر المعلومات (فمن فرض فيهن الحج). ¶ أفهمتم أن هذا تأكيد لكم، وإيضاح لكم، وبيان يقضي على ارتيابكم وحكم يمسح كل شكوككم ، وقرار يبعد كل غموضكم ، فهل تحتكمون إلى القرآن والهدى ، أم إلى الهوى. إذن فافرضوا على أنفسكم الحج باطمئنان ، في أي شهر من الأشهر المعلومات ، وقرروا للناس أن يحجوا لله إلى البيت، في أي شهر من الأربعة المشهورات ، وثقوا بأن هذا هو حكم الله عالم الغيب والشهادة ، فهو العليم بأن الناس سيصلون إلى زمن تتقاصر فيه المسافات المتباعدة ، ويكثر فيه الناس التي للحج قاصدة ، وبأعداد متصاعدة ، بل أن الإسلام سيعم بلادا وأناسا متعددة ، بل وسيدخل الناس في دين الله أفواجا ، ويأتون لبيت الله حجاجا ، ولهذا فقد أفسح الله لهم الزمن والميعاد ، وجعل الحج أشهرا معلومات ، حتى لا يحرم منه من أراد ، أليس الله علام الغيوب ، أليس هو الذي جعل الحج لله على الناس ، فكيف يعلنه على العالمين؟ ولا يفسح لهم الزمن ليسعهم أجمعين؟؟ لنقرأ الآية من جديد : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ومن هو الذي سيفرض فيهن الحج؟؟ إنهم كل الناس. ولنقرأ (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ?96? فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ?97?) آل عمران 96-97، إن كلمة الناس والعالمين تدلان على أن كل الناس المؤمنين ، من كل الملل مدعوون للحج ما داموا مؤمنين.ولكن الناس كفروا بما فيهم أهل الكتاب ، فكان الله غنيا عنهم وعن العالمين ، ولكنهم لو آمنوا لكانوا حجاجا لله ، وللبيت قاصدين ، ولهذا قال الله : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125، وقال (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) المائدة 97، وقال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27، وقال (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) الحج 34، إن قوله ولكل أمة ، يشير إلى أن كل الملل التي لها كتب سماوية ، لها منسك في مكة ، ولهذا قال : فإلاهكم إله واحد. وأمام هذا النداء العام ، وهذا الواجب الهام ، لا بد أن يحصل الزحام ، وقد يؤدي توزيع الحصص ، إلى تأخر الكثير عن الحج وتقاعس الأكثر منهم عن الأداء ، بمختلف الحجج ، وأهم حجة هي تحديد عدد الحجاج ، وتضييق تدفق الأفواج ، وهذا أمر لا يرضاه الله ، الذي يقول (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27 ، فكيف يرضى الله بالتحديد ، وهو يدعوهم من كل فج بلا تحديد وكيف يرضى أن تحجب عنهم المنافع والاكرام وهو يقول :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فالناس يجب أن يشهدوا المنافع الموعودة ، وأن يذكروا الله في الأماكن والأيام المعلومة ، ليعظموا حرمات الله ولينالوا خيره ويعلنوا تقواه . ¶ إذن فإن فتح الباب للحج في الأشهر المعلومات ، واجب أعلنه رب الأرض والسموات ، وحدد ميعاد ومكان هذا الفرض ، يوم خلق السموات والأرض ، فالشهور إثنا عشر منذ القدم ، منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم . فهيا أيها الناس ، هيا أيها المسلمون ، فكروا في الموضوع وقرروا ، ولبيان الله تدبروا ، ولآياته تذكروا ، لتنالوا خير الله وتؤجروا ، فاقدموا على التنفيذ ولا تتحيروا ، فالبيان القرآني واضح كالصباح ، والحكم الرباني حق مشرق وضاح ، وعلينا أن ننطلق على نوره للعمل ، ولا حرج علينا ولا جناح. قد تقولون كيف يمكن أن يكون الحج في الأشهر الأربعة؟ وقد تحدد يوم عرفه بأنه يوم تاسع ذي الحجة؟ ويوم النحر بأنه يوم عاشر ذي الحجة؟ وتحددت أيام التشريق بأنها يوم11/12/13 من ذي الحجة؟ فكيف نستطيع أن نحدد مثلها في الأشهر الأخرى ؟؟ وكيف نخترع من عندنا مواعيد جديدة ونتجرى؟؟ وأقول لكم ليس هناك اختراع ، وليس هناك جرأة على الله ، بل هناك اتباع واستماع ، وتدبر لآيات الله . تدبروا معي قوله تعالى في آية البقرة ، هذه التي نبحثها ، يقول في هذه الآية : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، فهي معلومات معروفات ، ومشهورات لمن تقدم ولمن هو آت ، وتأملوا معي قوله في آية الحج :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فهي أيضا أيام معلومات ، في أشهر معلومات ، لكنه لما تحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)البقرة 203، لقد وصفها بأنها معدودات ، نعم. لأنها ثلاثة أيام ، ولا إثم على من تعجل في يومين ، وهذا يؤكد لنا أن كلمة معلومات تعني شيئا غير المعدودوات ، فالمعلوم لا يتغير اسمه ولا يتبدل موعده ، لكن المعدود المراد به : معرفة العدد مع أنه معلوم موعده بالشهر الذي يكون فيه ، ثم أن الله في آيات الصيام يقول : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ?183? أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون?184?) البقرة 183-184، ثم حدد هذه الأيام المعدودات للصيام بقوله :(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فأيام الصيام معدودة ، وشهرها معلوم ، هو شهر رمضان وبتسمية الشهر عرفنا عددها ، وعرفنا أن شهر الصوم معلوم بإسمه المحدد المعلوم ، فلو كان الحج في أيام معدودة ، وفي شهر واحد فقط كالصيام ، لقال الحج أيام معدودة ، ليكون معناه أنها يوم تسعة وعشره ، وهما يوم الوقوف ويوم النحر ، ثم ثلاثة أيام لرجم الجمرات والذكر ، لكنه لم يرد هذا. بل أراد أن الحج له أشهر معلومات ، وفي كل شهر لنا أيام معدودات ، نحددها نحن في بقية الشهور بنفس العدد ، وفي نفس الموقع ، الذي اعتدنا عليه في شهر ذي الحجة. فنجعل مثلا يوم 9 رجب و9 ذي القعدة و9 محرم يوم الوقوف بعرفه كما هو يوم 9 من ذي الحجة . ونجعل يوم 10رجب و10ذي القعدة و10محرم يوم النحر كما هو يوم 10 من ذي الحجة. وهكذا أيام التشريق ، نجعلها في الأيام التالية ، من الأشهر الثلاثة الباقية ، أي يوم 11/12/13 من كل من رجب وذي القعدة ومحرم . ¶ قد يقول قائل هذا اختراع واجتراء ، بلا دليل ولا اقتداء ، وأنا أقول لكم تمهلوا قبل هذه الاتهامات ، وتعالوا معي إلى الآيات نتدبرها بثبات وبلا تشنجات ، لنقرأ معا قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ، وبعد آيات الصيام مباشرة إنه يقول : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189، إنه يتحدث عن الأهلة فلماذا لم يقل إنها مواقيت للناس والصوم مع أنها جاءت بعد آيات الصوم؟؟لأن الصوم شهر محدد واحد ، فمعرفته سهلة ميسورة ، إما برؤية الهلال ، أو بإكمال عدة شعبان ، وليس هناك حرج في أن تصوم يوما من شعبان ، أو أن تزيد صيام يوم في شوال ، إذا غم عليك الهلال ، لتكمل عدة الأيام المعدودات ، التي هي ثلاثون نعم ذلك أمر سهل ميسور ، ولهذا يقول الله في آيات الصيام :(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فالمراد هو إكمال العدة ، سواء في صيام الشهر لمن شهد الشهر ، أو عند القضاء لمن أفطر ، عن مرض أو سفر . ذلك أن شهر الصيام شهر واحد معلوم معدود ليس له ثان . أما شهور الحج فهي تتكرر ، ولهذا كانت الأهلة مواقيت للناس في كل حياتهم ، ومواقيت للحج وهو الأهم ، ولهذا ذكره وخصه بالذكر ، للاهتمام بشأنه كما هي عادة البيان ، وأساليبه المعروفة لأهل العرفان ، نعم إن الأهلة مواقيت للناس ثم هي مواقيت للحج .لماذا ؟؟ لأن أشهر الحج تتكرر ، ولا بد أن يراقب فيها الهلال ، ليحدد في كل شهر منها مواعيد الحج ، أي أيامه التي هي التاسع والعاشر ، وما يليها من أيام التشريق كما ذكرنا سابقا.لا بد أن يكون الناس على يقين ، من أن يوم كذا في شهر كذا هو يوم الوقوف ، وأن يوم كذا هو يوم النحر ، وهكذا في كل شهر من الأشهر المعلومات. ولا بد أن يكون الناس على علم ، بأن بداية الشهر المعلوم من الأربعة ، هو يوم كذا ليتحدد على ضوئه يوم الحج بلا شك ، ولهذا قال (قل هي مواقيت للناس والحج) ، فخصصه دون سواه ليؤكد لنا أن الحج مكرر الشهور ، وأنه منتظر لكل الناس ، وهلال أشهره منظوره ، ليكونوا على بينة من يوم الحج الأكبر ، في كل واحد من الأربعة الأشهر ، وهكذا لا يمكن أن تأتي هذه الآية عبثا ، ولا يمكن أن تأتي بلا هدف ولا معنى ، بل لها هدف ومعنى ، لمن تدبر وأمعن النظر ، في آيات الله التي لا تخفى على أولى الحجى . إن الآية هذه واضحة الدليل لذي الفكر ، بينة السبيل لذي حجر وعلى ذكر الحجر ، فإني آخذكم إلى آية تشع كالفجر ، وللمراد تنصر ، لنقرأ أوائل سورة الفجر ، فإن النور من آفاقها يظهر ، يقول الله : (والفجر ?1? وليال عشر ?2? والشفع والوتر ?3? والليل إذا يسر ?4? هل في ذلك قسم لذي حجر ?5?) الفجر 1-5 ، إنها الخمس الآيات الأولى ، تأملوا معي الكلمات ، إن الله يقسم فيها بخمس من المخلوقات .اقرءوها مرة ثانية ، هل تلاحظون فرقا بينا بين واحدة وأخرى ؟ أم أنها جاءت بأسلوب واحد واستواء ؟؟ كلا كلا.لقد جاءت الأولى والثالثة والرابعة والخامسة معرفة بالألف واللام ، (والفجر - والشفع - والوتر - والليل إذا يسر) لكن الثانية جاءت بدون تعريف (و ليال عشر) ، لم يقل (والليالي العشر)، لماذا؟؟ إنها إشارة لمن يفهم ويتدبر القرآن ، إن هذه الليالي العشر ليست محددة في ذي الحجة ، بل هي عشر ليال في كل شهر من الأشهر الأربعة. أي أن لكل شهر من الأشهر الأربعة ليال عشر، يجب أن تعرف بالأهلة ، التي هي مواقيت للحج ، ولا بد أن تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي ، ليكون تاسعها هو يوم الحج الأكبر ، وعاشرها هو يوم النحر ، إنها عشر ليال تتكرر ، في كل الأربعة الأشهر ولهذا جاء ذكرها منكرا ، بدون أداة تعريف ، وأفردت وحدها بين أخواتها المعرفات بأداة التعريف. إن هذا التنكير لها، إنما هو تعريف لنا، بأنها ليال عشر متكررة ولهذا جاءت منكرة. فسبحان الذي جعل من التنكير تعريفا، ومن التنكير لها تشريفا. وجعل التنكير دليلا على التكرير ، لليالي العشر في الأشهر الأربعة بانتظام ، فهي تتكرر أربع مرات في العام ، وهي في كل شهر لها نفس المقام ، عند ربنا العلام ، ولمن أراد إحيائها بالذكر وبالحج والعمرة ، من أهل الإسلام ، فافهموا يا أولى الأفهام ، وافقهوها يا أولى الأحلام ، هل في ذلك غموض على الفكر ، وهل في ذلك ريب لذي حجر ؟؟ ¶ ثم أن يوم عاشوراء ، لا يزال مرتقبا معروفا محترما ، في الشهر الرابع وهو شهر محرم. إنه إشارة واضحة أن لكل شهر من الأشهر الأربعة يوم عاشر هام ، رفيع المقام ، وكأن أهمية هذا اليوم العاشر ، انمحت من الأشهر الأخرى مع مرور الأيام ، ولم يبق منها إلا هذه الإشارة الواضحة في الشهر الرابع وهو محرم. ¶ وبعد فهل نستطيع أن نقول أن الآيتين ، أعني آيتي الأهلة والفجر قد أكدتا لنا أن الحج يصح في الأربعة الأشهر؟ يمكن أن يكون ذلك قد تأكد وأن من له حجر من الناس قد يوافق على أن الحج ليس في شهر ذي الحجة بشكل محدد ، بل أنه يصح في رجب المفرد ، وفي الثلاثة الأشهر المتوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وإذا كنتم في ريب من ذلك فأني أسألكم متى كان صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟؟ بل أحدد السؤال أكثر فأقول متى سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية؟؟ إن المؤرخين يقولون :أذن الرسول في الناس بالحج في شهر ذي القعدة ، ركب الرسول ناقته القصوى ومعه أصحابه ، وساقوا هديهم سبعين بدنه. قد تقولون إنها عمرة ، وليست حجا. لكني أسأل ولماذا ساق النبي الهدي؟؟ إن الهدي لا يكون إلا مع الإهلال بالحج؟!! بل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة) وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل عن قصة حجة الوداع. إذن فإن قصد الرسول في عام الحديبية كان هو الحج لا العمرة وقد أكد هذا القرآن بقوله تعالى : (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 ، ولتأكيد أن القصد هو الحج ، نجد في حكاية الحديبية أنه لما انتهى الصلح ، تردد المسلمون في أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا الهدي ، ليتحللوا من الإحرام ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ، تقدم إلى هديه فنحره ، ودعا بالحلاق فحلق رأسه ، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا. ومن المعروف أن الحلاقة لا تكون إلا بعد التحلل من الحج ، أما العمرة فهي التقصير فقط ، وهذا يعني أن الرسول قد أهل للحج في ذي القعدة ، لكنه لصد قريش له وللمسلمين لم يدخل مكة ، فنحر وحلق وعاد ، لكنه انتظر إلى العام التالي وكما وعده ربه (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) الفتح 27 ، وفي الموعد المضروب ، قبيل بداية شهر الحجة ، سار الرسول في ألفين من الصحابة قاصدين مكة ، وبموجب الصلح ونزولا من قريش على صلح الحديبية ، دخل الرسول مكة المكرمة وأدى عمرة القضاء ، ومكث مع أصحابة فيها ثلاثة أيام يصلي بهم ويذكر الله ، ويؤذن بهم بلال رافعا اسم الله .لعلنا ندرك هنا أن الرسول أدى عمرة تسمى عمرة القضاء ، في شهر الحجة ولم ينو حجا ، فلو كان الحج لا يصح إلا في ذي الحجة لما تأخر النبي عن الإهلال بالحج في هذا الشهر ولاغتنمها فرصة لا تعوض لأداء الحج لاسيما وأن قريشا جلت عن مكة بمجرد دخوله ، ثم لم تأذن له بطول الإقامة في مكة ، فما كان أخره أن يستغل شهر ذي الحجة لأداء الحج لا للعمرة فقط .لكنه لم يفعل لعلمه أن الحج يصح في سوى هذا الشهر ، وأنه غير محدد بذي الحجة وهكذا خرج النبي من مكة ، وعاد إلى المدينة فرحا بتحقيق وعد الله وتصديق رؤياه بدخول المسجد الحرام. ¶ ثم تعالوا بنا نراجع فتح مكة وهو في السنة الثامنة من الهجرة :لقد خرج النبي مع جيش الفتح في الحادي والعشرين من رمضان عام 8 من الهجرة ، ولقد تم له فتح مكة بسلام ، وبإسلام عدد كثير من الأقوام ، وتم تهديم الأصنام ، وتطهير البيت الحرام ، من أثر الشرك والآثام .وبعد إقامة الرسول في مكة أسبوعين ، توجه إلى ردع عدوان هوازن ، التي أرادت بالمسلمين سوءا بعد انتصارهم في فتح مكة وقررت أن تغزوا النبي وقومه ، لكن النبي سار لمواجهتهم وردعهم ، فكان ما كان من فشل المسلمين في حنين ، ثم ثباتهم بسكينة الله على الرسول وعلى المؤمنين ، ثم هزيمة هوازن ، ثم حصار الطائف وثقيف ، وقد استمر الحصار حتى نهاية شوال ، وكما آذن شهر ذي القعدة بالقدوم وهو من الأشهر الحرم ، عاد النبي من الطائف إلى الجعرانه ، فقسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم ، ثم غادرها إلى مكة معتمرا ، في شهر القعدة ، ثم عاد إلى المدينة مع أصحابة من المهاجرين والأنصار ، في أول شهر ذي الحجة .لقد سقت هذه الوقائع رغم عدم الحاجة إليها لنؤكد من جديد أنه لو كان شهر ذي الحجة محددا للحج لانتهز الرسول الوقت ولجعل تواجده في ضواحي مكة فرصة ؛ أو على مقربة منها فرصة لانتظار موعد الحج ، فلم يكن بينه وبين ذي الحجة إلا بقية من ذي القعدة ، فانتظاره كان فرصة ثمينة ، وكان محل ترحيب وحب الجميع ، لاسيما أنه الآن ظافر منتصر حتى لو أقام في مكة منتظرا ، فليست إقامته محددة كما كان في عمرة القضاء ، بل هو الآن مطلق للإقامة كيفما شاء ، وإلى متى شاء ، وفي محل ترحيب واحتفاء ، لكنه رغم هذا غادر مكة بعد العمرة ، ولم ينتظر الحج ، مع أنه على قاب قوسين من ذي الحجة. إن هذا يدلنا على أنه كان يدرك أن ذي الحجة ليس شهرا محددا خاصا بالحج بل أنه (الحج أشهر معلومات) كما قال الله فله أن يحج في أي شهر شاء والأيام أمامه تتوالى . ¶ قد تقولون لكنه لما حج حجة الوداع كان حجة في شهر ذي الحجة ، وكذلك حج أبو بكر وعلي بن أبي طالب في السنة التاسعة ، حين كلف الرسول علي بن أبي طالب بتلاوة سورة براءة على المشركين ، لكني أقول لقد اختار الرسول هذا الشهر لأنه الشهر الأوسط في الأشهر الثلاثة السرد المتوالية ، وهو دائما كان يحب التوسط في كل أمره ، ولا يعني اختياره للشهر الأوسط من الثلاثة الأشهر المتوالية ، أنه الشهر المحدد الأوحد للحج بل هو اختيار جميل من الرسول وبه اجتهد مع علمه أنه ليس هو الشهر المحدد ، وكيفلا والقرآن يقول ويتلى بلسانه على الناس وفيه يقول الله (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) إنه لسان عربي والنبي أفصح العرب ، فكيفلا يفهم النص وكيفلا يفهم أن المراد تكرر الحج أربع مرات في العام كما حدد الله العلام ، إن هذا هو الحق وسواه أوهام . ¶ هكذا أستدل بالحدث على أن الحج ليس محددا في شهر ذي الحجة ، بل وهناك دليل آخر من نفس الحدث ، وفي نفس العام الذي حج فيه النبي وفي نفس الشهر وهو ذو الحجة . هذا الدليل ينصر ما أقول ويؤكد أنه موافق للرسول ، فاستمعوا إلى الدليل القاطع والقول الفصل بلا منازع ، يقول المؤرخون : لقد خرج النبي من المدينة حاجا وحين وصل إلى (ذي الحليفه) ميقات إحرام أهل المدينة ، لبس مع أصحابه ملابس الإحرام ، ثم سار الموكب ملبيا ذاكرا حتى وصل الموكب إلى محلة (سرف) وهي منطقة بين مكة والمدينة ، وهنا أناخ الركب للراحة ، وعندها قال الرسول للصحابة ، وهو النبي المعلم المشرع لهم ، الذي يأخذ الناس منه مناسكهم . ماذا قال لهم ؟ لقد قال : ¶ (من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا) هكذا حدد أن الحج يصح لمن له هدي ، وأن شهر ذي الحجة يصح أن لا يكون موسما للحج ، ولكن للعمرة فقط ، لمن لم يسق الهدي ، مع أنهم كلهم قد عرفوا الواجب وكلهم يصدق عليه قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وكيفلا وهم مع رسول الله الذي تنزل عليه القرآن وهو المبلغ له من الله. ومن الجميل والمهم أن نعرف أن الرسول قد اختار هذا الشهر الأوسط ، من الأشهر الثلاثة الحرم المتوالية ، لأنه يتفق مع قدرة أكبر عدد معه من المسلمين والمسلمات، فهو يصادف أواخر أيام الشتاء وأوائل الربيع من الأشهر الشمسية ، إذ يؤكد الحاسبون أن هذا الشهر العاشر من العام العاشر للهجرة ، يتقابل مع شهر مارس ، من عام 632 ميلادية ، وهو شهر معتدل الجو رائق النسيم ، ناعم الهواء ، للمسافر والمقيم ، وللموكب العظيم ، الذي يتقدمه الرسول الكريم ، أليس هو الذي يصفه ربه بقولة للمؤمنين (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128 ، ولهذا اختار لهم هذا الشهر المتوسط بين الأشهر الحرام والمتوسط الهواء والأنسام ، ليكون أوعى للنشاط في الأسفار والمقام ، والوصول بسلام ، وأداء المناسك بيسر واهتمام ، فصلى الله عليه وعلى من سار معه من الأصحاب والأقوام ، وعليه وعليهم من ربهم السلام ، وعلينا معهم ، وعلى من اتبعهم باحسان إلى يوم القيام. ¶ وبعد ،، فقد يقال أن هذا التعليل لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، شهر ذي الحجة لأداء الحج (حجة الوداع) غير واقعي ولا علمي، بل وغير متفق مع مهمة النبي الذي ينفذ ما أمر به من ربه في أشق الظروف وأصعب المضايق بلا تخير لزمن الربيع والنسيم وبلا اعتبار للمشاق والعوائق ، ألا تذكر أنه سار بالمهاجرين والأنصار إلى تبوك في أشد القيض وفي ساعة العسرة ، رغم كراهتهم وتردد بعضهم ، ليكون لهم درسا هاما بالغا في المبادرة إلى الجهاد في كل حال ، وفي مختلف الأزمان ولهذا قال الله عنهم (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) التوبة 117 ، وأنا أقول أن الاعتراض متوقع من الكثير والقليل ، ردا على ما أوردته من التعليل ، ولكني أقول أن هناك فرقا بين مسير النبي بالمهاجرين والأنصار للحج ، وبين مسيره إلى تبوك ، لقد كان المسير إلى تبوك لردع المتآمرين ضد الدين ، فلقد لاحت علامات الكيد ، وظهرت دلائل المؤامرة على المسلمين ، فلا بد من ردعها بشكل عاجل ، وبلا انتظار ولا بد من المسير إلى أعماق الوديان لإظهار قوة الإسلام والمسلمين ، وقدرتهم على ردع العدوان ، من أي جهة جاء ، وفي أي مكان ، رغم العسر والحر ، فكان لا بد من المسير في أصعب الأزمان وأعسرها ، ليزداد المتآمرون يقينا بأن الصعاب أمام المسلمين تهون ، وأن العسرة عند المؤمنين هي السبيل إلى رضاء رب العالمين ، فالعسير: في طاعته يسير وسلام ، ألم يقل (فإن مع العسر يسرا ?5? إن مع العسر يسرا?6?) الشرح 5-6 ، وهي حقيقة لا يرتاب فيها المؤمنون ، بل تدعوهم إلى الإصرار على ركوب العسر ، لينالوا اليسر في الدنيا ويوم الدين ، ولينالوا أجر الله المحسنين ، ألم يقل الله معاتبا من تخلف من الموكب ، ومبشرا من بادر ورغب ، قال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ?119? ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين?120?) التوبة 119-120 ، إنه وعد بجزاء يسموا إلى مقام المحسنين. بل أن الآيات تتوالى بالوعد الجميل وتتوغل في التبشير من الجليل على كل عمل وعطاء كثير وقليل فيقول الله : (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) التوبة 121 ، وعود تتوالى من الله الغني الحميد ، إلى هؤلاء المبادرين من العبيد وأي جزاء أحب وأبقى وأحسن من جزاء يكون من الله ، إن هذا هو الذي تهون في نيله النفوس والأموال والأولاد والأوطان ، لأن هذه كلها نافذة فانية ، وذلك باق خالد ومبارك متوال في الدنيا والآخرة ، فكيفلا يسير بهم النبي في ساعة العسرة لينالوا مع العسر يسرا ، ومع النصب حبا من الله العلي العظيم. وعليه فإن الدرس الذي أراده الله لعباده في تبوك ، والأجر الحسن الذي أراد أن يكتبه لهم لا بد أن يكون في ساعة العسرة ، ليتوب عليهم ، إنه بهم رءوف رحيم ، وهو التواب الرحيم . فذلك مسير : له عقبى حسنه للمؤمنين ، وإرهاب للمتآمرين والكائدين ، فكان لا بد من مسير يبهر ، وبه اليقين والصبر يظهر ، وبه الصادق يؤجر ، مسير به العدو يقهر ، والمتآمر يدحر ، وأحلامه تتلاشى وتتبخر ، أمام هذا الزحف النبوي الذي استسهل ما تعسر .فكان لهم جميعا الخير من الله والتوبة والرحمة وذلك خير ما يدخر ، وذلك هو الفوز الأكبر .وهكذا كان الفرق بين مسير الحج ومسير الجهاد . وهكذا كانت حجة الوداع في العام التالي لعام تبوك . كانت ذات مسير يفوح باليسر والعبير بينما كان السابق يفوح بالحر والهجير،، ولهم من الله أجر كبير .
هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الاول
لعل من المهم أن نحدد من خلال القرآن كيف تنزل القرآن هل كان يتنزل آيات متفرقة ومع قضايا الأفراد متفقة؟ لعل هذا الرأي لا يتفق مع صريح آيات القرآن ولا يليق بجلال الرحمن الذي يعلم ما يكون وما كان ويعلم حاضر وماضي ومستقبل الإنسان. نعم إن من يعلم السر وأخفى، وما يأتي وما مضى، ويعلم ما في الأرض وما في السماء، وما تحت الثرى، لا يصح أن يعامل معاملة عاقل الحي الذي يفني السكان بحكمه فيما يطرأ من الأعمال ويواجه كل حدث بانفعال ويغير موقفه مع الأحوال. كلا إن معاملة الله بهذا الأسلوب محال فهو الله ذو الكمال المطلق والجلال، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فسبحان الله عما يصفون، هو (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)، وبه كل شيء يقوم وعلى هذا فإن القرآن لا بد أن ينزل بطريقة تليق بالعليم الحكيم، ولا بد أن يلقى على الرسول بأسلوب أسمى مما يتوهمه الواهمون وما يتصورون، (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون).
أليس هو الذي يصف نفسه بقوله: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور* ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [الملك: 13-14]. (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 5-6].(وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].وعليه فهو يعلم ما سيكون كما علم ما كان، وبالتالي فهو بعلمه ينزل القرآن، ولا يتوقف إنزال الآيات على حركة الإنسان ولا على أحداث الزمان؛ كيف وهو خالق الإنسان والزمان. وهكذا تكون هذه الصفات لله سبحانه وتعالى تالية لكل حديث عن القرآن في سور القرآن فهو يقول في أول سورة آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران: 1-4].ثم تأتي الآيات التي أوردناها أولا وهي: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ويقول في أول سورة طه: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه: 1-8].وكذلك جاء في آخر سورة الحشر، فبعد الحديث عن القرآن يورد عددا من أسمائه الحسنى التي تدل على العلم والتدبير فقال تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم) .. إلى آخر السورة. وهكذا هو الحال في أول سورة الرعد، وأول سورة السجدة، وأول سورة غافر، وأول سورة الشورى وفي آخرها، وأول سورة هود، وأول سورة يونس، وأول سورة آل عمران وكذلك سواها، ولكي لا أطيل السرد للسور فقد قال تعالى في سورة النمل مخاطبا النبي المرسل: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) [النمل:6]، وختمها بقوله: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) [النمل:93].
لا أريد من سرد هذه الآيات ولا من تعداد هذه السور أن تمر عليها أيها القارئ مرور العابر، ولكن أن تقرأنها قراءة المتدبر المتذكر؛ حتى لا تكون ممن قال الله عنهم: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [محمد:24]، (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء:82].وبعد؛ فماذا عساه أن يقول القارئ بعد هذه المقدمة الطويلة؟! لعله سيقول: ماذا تريد بهذا الكلام أمام هذا "موضوع إنزال آيات القرآن"؟ لكني أريد أن أقول إن الله الذي هذه صفاته، وذلك شأنه، وهو الله العليم بكل شيء وخالق كل شيء، والقدير على كل شيء ، إن من هذا شأنه لا يصح أن تقول أمام قرآنه - سبحانه سبحانه وتعالى علوا كبيرا - أن يثيره شيء أو حدث ليلقي علينا الآيات، وحاشاه أن يملي عليه إنسان وهذا هو الذي يجرده من العلم والقدرة، وينكر اختصاصه بالعزة والحكمة وباللطف والخبرة، وبتدبير كل مجرة وذرة وإحاطته علما بكل شيء وإحصائه علما لعمل كل حي، وكيف لا وهو الحي الذي لا يموت، ولا يعجزه شيء ولا يفوت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) [سبأ:3]. فأين تذهبون؟، وكيف تجعلون القرآن عضين؟ ها أنذا دعوتكم إلى الذهاب إلى صراط يليق بالله ذي الجلال، ينزه الله ربكم عن الانفعال، ويقدره حق قدره، ويفرده وحده بالعلم والقدرة. كيف وقد أوضح لنا هو في القرآن كيف أنزل القرآن، وبين ذلك بأوضح بيان، ولم يدع مجالا للشك والظنون، بل وضع الأدلة التي تقود إلى اليقين. وها هي الأدلة أضعها بين يديكم وعلى مختلف الدلالات الصريحة.
ولنبدأ المشوار من أول السور الكبار، إنها سورة البقرة، ففيها الدليل والبرهان الذي يدلنا كيف أنزل القرآن. يقول الله تعالى في الآية 23: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]. أسمعتم ماذا قال الله؟. لقد طلب من الناس أن يأتوا بسورة، ولم يقل بآية. إذن فالقرآن كان يتنزل سورا وليس آيات.لا تتعجلوا ولا تنزعجوا فالمشوار ابتدأ فتريثوا حتى نصل إلى المنتهى. تعالوا معي إلى سورة أخرى لنجد أن إنزال القرآن سورا كان قضية معروفة معهودة بين النبي ومن معه من المؤمنين بل ومن يعاصره من المنافقين فكلهم كانوا للسور ينتظرون، ولإنزالها كاملة يعهدون، وبهذا كانوا يتحدون، في جدهم أو في سخريتهم بما يسمعون. وفي سورة التوبة الدليل الذي يقطع كل ريبة، فلنسمع كيف يسجل الله كلام المنافقين المستهترين وكيف يرد عليهم ويصفهم بالكافرين، يقول تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) [التوبة:64]. ماذا قالوا؟ ماذا حذروا؟ ماذا حددوا؟ لقد قالوا وحذروا وحددوا تنزل سورة، نعم سورة، هكذا قال المنافقون. ومعنى هذا أن المعنى أن المعهود بين النبي وبين الناس أن القرآن إنما كان يتنزل سورا وليس هناك أسلوب سوى هذا ظاهرا. ثم قد يقال: إن هذا بحسب الغالب ولكن الأغلب أن الإنزال كان بالآيات..
ولكن لا تتعجلوا فلنتأمل ولنواصل وإلى منتصف السورة ننتقل لنجد إنزال السور ثانيا بشكل متأصل، يقول الله في الآية 86 وهو حديث عن المنافقين (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) [التوبة:86].أسمعتم ما يقوله الله؟؟ لقد سجل هنا عادته وسنته في إنزال القرآن، فقال (وإذا أنزلت سورة). إذن فهي سنة وعادة استنها الله وثبتها في إنزاله القرآن، ولهذا عهدها الناس أجمعون حتى المنافقون، فإذا هم بإنزال السور يتحدثون، ومنها يحذرون. إذن فهي سنة لم تختلف، وطريقة مألوفة لم تنحرف، ولهذا فسنجدها تلوح في آخر السورة واضحة لمن بالحق يعترف، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) [التوبة:124-125].لنتأمل الآيتين نجد أن العبارات يلوح منها أن الناس كانوا يعتادون إنزال السور، وينتظرون منها ما يجد من الخبر، فالمؤمن يستبشر والكافر يسخر، فإذا المؤمن يزداد بالسورة إيمانا ، وإذا الكافر يزداد بها خسرانا، وهكذا كانت كل سورة تحدث أثرا واضحا في الفريقين المتضادين، وكلاهما كان ينتظر ما يستجد من الذكر المبين.
وعلى هذا نستطيع أن نؤكد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما نزلت سورة عليه من ربه يزداد بها اطمئنان قلبه، ثم يهب لإبلاغها على الناس باهتمام ورغبة فيجمعهم إليه متسع بالرغبة والرهبة، ويتلوا عليهم ما تلقاه ويفيض عليهم بحبه، فإذا هم فريقان منهم من يسخر، ومنهم من يستبشر، منهم من يستنير، ومنهم من يلج في الكفور. بل إن الفريق المريض ينسحب من الاجتماع، وينصرف عن الاستماع، ويفر إلى دنيا اللهو والمتاع. وهذا ما توضحه الآية التالية بكل وضوح وتصور حالة المنافقين في الاجتماع، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد). أنظروا إلى هذا التصوير الدقيق. إنه يرسم لنا حالة فريق من المرضى ينظر بعضهم إلى بعض في زحمة الاجتماع، في قلق يشير بعضهم إلى بعض إشارات الضيق والحزن متسائلا (هل يراكم من أحد) فإذا تأكدوا أن المؤمنين مشغولين عنهم بالاستماع والخشوع للقرآن، قرروا الخروج من الاجتماع وانصروفا إلى شأن آخر غير القرآن، وهذا ما يخبرنا الله به بقوله بعد ذلك: (ثم انصرفوا) ثم ماذا؟ ها هو يدعو عليهم ويدفعهم بما يستحقون فيختم الآية بقوله: (صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) [التوبة:127].
إذن فهكذا كان حال الناس عند إنزال القرآن وهكذا أسلوب إنزاله في كل آن، إنه يتنزل سورا والنبي يدعو الناس لإبلاغهم ما نزل وعليهم يقرأ، فإذا فرغ من التلاوة انفض الاجتماع وقد ترك أثرين مختلفين: أثر من النور والإيمان للمؤمنين، وأثر من الكفر والخسران للمنافقين. بل إن منهم من ينفض قبل أن تقضى تلاوة السورة ويتسلل بأشنع صورة، فإذا هم فعلا أولوا قلوب مصروفة عن الحق مختوم عليها بختم النفاق، وبهذا كانوا واستمروا قوم لا يفقهون، إن المنافقين هم الفاسقون. وبهذا تدرك أن القرآن يسجل الحالة بأدق صورة، وتوقن أن القرآن كان يتنزل سورة سورة، ويجمع إليه كل حاضر من المؤمنين ليستمع جديد التنزيل ليزداد إيمانا ويستنير له السبيل.
وإذا كان نزول القرآن سورا أمرا معهودا للمنافقين كما عرفنا من الآيات فإنه كذلك، أو معهود للمؤمنين. وها هو يتضح جليا في حديثهم فيما بينهم وفي معرض تمنياتهم اليومية، فنجدهم يرجون من الله ما يزيدهم ثباتا، فلنسمع حديثهم كما يحكيه الله: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم) [محمد:20].أليس في حديث المؤمنين الذي ينقله إلينا رب العالمين ما يؤكد لنا أن القرآن كان يتنزل سورا؟ وأن هذا أمر معهود للنبي وللمؤمنين، بل ولكل المعاصرين للوحي وللنبوة من المنافقين والكافرين؟ إنه أمر عهدوه من الله وعليه عودهم الله فهم لا يتحدثون إلا عن سور تتنزل، ولا يرجون إلا سورا توحى وترتل، ولا يحذر المنافقون إلا سورة تكشف ما في قلوبهم. إذن فالأمر واضح بين الجميع، والقضية معهودة لدى المعرض والسميع، ولدى المنافق والمطيع.
هذا وللعلم فإن السورتين التي أخذنا منها الآيات الدالة على دعوانا هما سورة التوبة وسورة محمد، وهما سورتان مدنيتان، والمدينة هي التي بدأ فيها التشريع والأحكام التي تخص العلاقات بين الناس وتنظيم الحياة على أقوى الأساس. وهذا حال يدعو إلى التساؤلات وإلى إيضاح مختلف القضايا والحالات من خلال إنزال عدد بسيط من الآيات تخص قضية معينة أو بعض التساؤلات ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل إنه رغم ذلك الداعي إلى إنزال آيات ظل القرآن يتنزل سورا تحيط بكل القضايا بدون انتظار لما يحدث من أحوال وبدون انفعال بما يتجدد من الأفعال أو ما يتردد من سؤال.
كيف لا والله يعلم كل حال؟ وفعل وسؤال، ويدري بما نخفي وما نعلن من الأعمال، وما ننطق به أو نكتمه من الأقوال، فلا يحتاج إلى من ينبهه إلى الإنزال، ولا هو محتاج ما يدعوه لإيضاح أمر أو إشكال، هو هو المحيط بكل شيء علما، والحفيظ على كل شيء والأحسن حكما، وبهذه الصفات والأسماء الحسنى، أنزل القرآن المبين، الذي هو ذكر للعالمين، فيه بيان لكل شيء، وبه يسعد كل حي. فكل سورة تحمل إلى الناس علما شاملا، وبيانا كاملا، وتجيب من كان سائلا، وتوضح السبيل لمن كان عاملا، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء. (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين)
وبعد: ألم يتقرر لديكم أيها القراء أن القرآن كان يتنزل سورا؟. بلى، فإن أردتم أن نزيد الموضوع يقينا ونورا، فلنقرأ ما ورد في سورة يونس: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [يونس:37]). فهو منزل من رب العالمين الذي لا يخفى عليه منا شيء أينما نكون، فهو المنزل القرآن المبين، وهو خير الحاكمين، فكيف يرتاب المفسدون؟ (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [يونس:38])لقد أكد هنا أن الافتراء محال، ورد على المفترين بأوضح المقال، فقال: (فأتوا بسورة مثله) لقد أكد أن الإنزال إنما هو سور كاملة ولذلك فهو يتحداهم أن يأتوا بسورة مثله كاملة البيان بلا إيهام، واضحة البداية والختام، تسرد الأحداث والأحكام، بإتقان وإحكام، بلا اختلاف ولا تقصير، ولا خفاء ولا اضطراب مثير، كلا لا يمكن أن يكون ذلك الكمال إلا من الله العليم الخبير. ولهذا فإن الله يفتتح سورة هود بهذا الافتتاح المثير المنير: (الر .. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [هود:1]). فهو كتاب منزل بإحكام، مفصل السور بالتمام واهتمام، وهو يتنزل بآيات متعددة لا بآية واحدة، وكيف لا وهو (من لدن حكيم خبير)، فهو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الحكمة والكمال، وهو الخبير الذي يعلم ما يحتاج الخلق قبل السؤال. فكيف يحتاج إلى من ينبهه إلى ما يقال؟ كلا إن هذا هو الخبال، الذي لا يليق بذي الجلال، ولهذا كأنه يفند المكذبين ويندد بالمفترين، ويعرض أقوالهم المرتابة بأسلوب مهين، فيقول: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [هود:13]). إن المدعين على النبي أنه افترى القرآن، مدعوون للإتيان بمثله ، بعشر سور مثله في الكمال والجمال والإحكام، وبالتفصيل والتبيين الذي يزيل الإبهام، هل تستطيعون؟ ؟ كلا لا يقدرون حتى ولو دعوا كل أنصارهم من الخلق وافتروا جميعا على الحق، إنهم غير قادرين، فهم لا يستجيبون. وكيف يستجيبون وهم عاجزون؟ ولهذا فإن القرآن هو الحق الذي أنزله الله، وهو الله الحق بالحق، وهو يقول الحق، ويهدي إلى الحق، فمن ذا الذي يستطيع أن يتسجيب لأن يقول مثل قول الله الحق؟ لم يستجب أحد، ولا أحد نطق، ولهذا قال الله مخاطبا كل مؤمن في كل زمان: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:14]).
وهكذا يتأكد أن القرآن نزل سورا، وأن المعهود لدى الجميع أنه يتنزل من الله سورا مرتلة، ، لا كلمات منفصلة، كلا فالله الحكيم الخبير هو الذي أنزله. والآن وقد اتضح الدليل القطعي الذي يدل دلالة مطابقة على ما أردناه فإن لنا دليلا آخرا يدل دلالة ضمنية على ما أوردناه، ذلك هو قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه) [القيامة:19].أربع آيات تدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك لسانه بالقرآن عند تنزله، لعله يحفظ ما يتلى عليه، ولعله يستجمع ما يلقى عليه.إن في هذا دليلا على أن القرآن كان يتنزل سورا عليه فهو يحاول أن يلحق التلاوة بتحريك لسانه، أما لو كان يتنزل آيات معدودة أو آية واحدة لما احتاج إلى هذا العناء والمكابدة، ولما دعاه الله إلى هذا السلوك وأرشده؛ لأن المعروف أن الآيات أو الآية تحفظ بسرعة ولا تحتاج إلى متابعة ومسارعة، ولقد عهدنا العرب في زمن النبي وفي قبله يحفظون القصائد الكاملة والمقاطع والأبيات المتعددة بلا عسر، ويروونها على الناس بيسر فكيف لا يحفظ النبي وهو العربي الفصيح اللسان، المتمرس بالبيان؟ فكيف بالفتى القرشي الذي فاق على الأقران؟
إذن فالقرآن كان يتنزل سورا كاملة، ولهذا كان النبي يحرك لسانه ليمسك بالآيات المتواصلة، ويجمع الفواصل المرتلة، فنهاه ربه عن هذه المحاولة وطمأنه بأن ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، سيتولى جمع القرآن في قلب رسوله المكرم وسيقرن بين آياته في قلبه حتى تستقر السورة وتطبع فيه بقدرة ربه، (إن علينا جمعه وقرآنه) عليه وحده الجمع والقرن بين الآيات التي تكون السور، فإذا انتهت تلاوة السورة، وقرنت الآية بالآية، وأصبحت كاملة وبلغت النهاية، فما على النبي إلا أن يتبع هذا القرآن الذي قرنه الله في قلبه بإتقان (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) وهكذا لا ينتهي النبي من غمرة الوحي حتى تكون السورة قد حلت في قلبه كاملة الآيات، محفوظة الجمل والكلمات، مرسومة الحروف والشكلات، واضحة الدلالات. فما عليه إلا اتباع ما أملي، وإلا تبليغ ما ملي، بشكل مبين جلي. وكيف لا والله يعطف على ذلك بثم للدلالة على علو مرتبة ما يليها من الشأن، فيقول: (ثم إن علينا بيانه). نعم إن على الله وحده البيان لمحمد ولمن استمع القرآن، فإذا هو نور يتلألأ للقلوب، وإذا هو ينير أولي الألباب. وإذن فإن الحقيقة تشع من آيات سورة القيامة بأوضح الدلالة، وتعلن أن القرآن كان ينزل سورا كاملة. ولقد تأكد هذا في سورة طه، حيث يقول الله: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) [طه: 113]. فهو عربي مبين، وهو متنوع التصريف والتلوين، ليكون هاديا للمتقين، وعلما للمتذكرين، ولا يمكن أن يكون القرآن هكذا إلا إذا تنزل بما يبين، وهذا لا يتم إلا بسور كاملة تحتوي على البيان الكامل، وتفصح عن الكلام الحافل، بكامل البيان، وشامل العرفان، أما أن يقطع إلى آيات متباعدة، أو يمزق التنزيل على آية واحدة، فهذا لا يليق بأصحاب البيان، ولا يتفق مع أساليبه المتعاهدة.
فكيف نسلم لشاعر جاهلي أنه لا يمكن أن يمزق القصيدة ولا يفرق أبياتها؛ لأن هذا أمر معيب عليه، ثم نلصق هذا العيب بالله وندعي أن القرآن تنزل ممزقا من لديه ، إن القول بأن القرآن تنزل ممزق الآيات والفواصل متباعد البيان مقطع الكلام غير متواصل، إن هذا لا يليق بالله الكامل. ولهذا فإنه يعلن تعاليه عن هذا الواهم الغافل فيقول عقب الآية السابقة: (فتعالى الله الملك الحق). نعم إنه يتعالى عن الخلق، فهو العالم الحق والملك الحق، فلا يمكن أن ينزل القرآن إلا بما هو أليق، ولا يمكن أن يمزق. ولهذا يكمل الآية فيقول: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) [طه:114].إنه تكرير للنهي الموجه الجانبي وتحديد للوحي بأنه قرآن متكامل البنيان، متتابع الفواصل، يتنزل سورا كاملة تتلى من البداية إلى النهاية بشكل متواصل.
وإذن فعلى الرسول أن يتلقى القرآن الذي يملى غير عجول وعليه الإقبال على القرآن وأن يصغي باستسلام حتى يقضى ما يتلى عليه وأن يسأل الاستزادة من علم الله الوسيع، ويستنير به وينير كل من تلقاه بقلب سميع ففيه البيان والعلم للمتقين ولن يكون في القرآن علما من علم رب العالمين، إلا إذا كان منزلا سورا تبين. فلننزه القرآن من أن يكون عضين، وليتنزه الله من أن ينزل ما لا يستبين، سبحان الله عما يصفون.
وبعد: فإذا أردتم أن نستدل على ما ذهبنا إليه بطريق آخر، فلنعد إلى نفس السور فإن نصوصها تفصح عن الدليل بنور يبهر. إنه نور يسطع، ومن سورة النور يطلع النور، فلتقرأنها من أولها لتستنير: بسم الله الرحمن الرحيم (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) أسمعتم الخبير؟ إن الله نور السماوات والأرض يعلن الخبر فيقول: (سورة أنزلناها وفرضناها)، فهل بعد هذا البيان من عالم الغيب والشهادة تقولون أن القرآن مقطع الإنزال على آية آية؟؟ كلا إن النص يعلن أن القرآن أنزل سورا فيها الآيات بنور الله متكاملة البيان، من البداية حتى النهاية.
فالسورة تبدأ ولا يتوقف تدفقها حتى تنتهي، وهكذا كان يتلقاها النبي من الرحمن فنجد أن ما يتلى عليه قط طبع في قلبه بشكل لا يقبل النسيان. ثم لنقرأ قوله تعالى بعد ذلك: (وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). وهذا هو الحق فالبيان لا يأتي في كل حال، من كلام مقطع الأوصال بلا اتصال، بل بآيات تتواصل بلا انفصال، حتى تفي بالغرض الذي يريده ذو الجلال. كما أن التذكر لا يتوفر بكلام مقطع مبتور، بل بكلام متواصل الألفاظ والمعاني يليق بالله العليم القدير.
وبعد: فلعل سورة النور قد أنارت لنا الطريق بأقوى دليل، وقطعت كل قول في أسلوب التنزيل، وكيف لا وهو من الله العظيم الجليل؟! ولهذا؛ فلأنه يصف نفسه في السورة (الله نور السماوات والأرض)؛ فهل في النور انقطاع؟؟ كلا بل هو متصل يملأ الأصقاع. ثم إن الله يصف نوره بقوله: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) [النور:35]. إن النور متكامل شامل، ولكل ذرة في الوجود واصل، وكل الخلق من منهله ناهل. وهو من القوة والوضوح، بحيث يصل الأعماق قبل السطوح، ويتخلخل في الباطن قبل الظاهر، وينير الأبصار والبصائر، ويضيء العزير قبل البصير، ويبهج العيون ويشرح الصدور، إنه باختصار كما يقول الله: (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء). ومشيئته تبع علمه، فمن علم الله أنه مؤمن متذكر، وأنه مسبح مستغفر، هداه إلى نوره، وجعله من عباده المهتدين الناعمين بخيره. ومن علم الله أنه أعمى مستكبر، مستغن عن ربه مستنفر، صرف عنه الهدى والنور وجعله في (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها). إنه منقطع عن الله نور السماوات والأرض، بعيد عن ربه مشغول بالقرض، فكيف يصله النور؟! وهو في الضلال مغمور، وكيف يجعل الله له سبيلا إلى النور؟! كلا: لقد علم الله أنه نافر كفور، فلم يجعل له نصيبا من عطاء ربه الغزير، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)، وأنى يكون له نور وقد انفصل عن نور السماوات والأرض.
وهكذا فإن الله العليم، يهدي إلى نوره القلب السليم، ويصرفه عن الكفور الأثيم، (ويضرب الله الأمثال للناس). فلقد ضرب لنا المثل على نوره، وأعلمنا أنه يصل إلى كل شيء وإلى كل ذرة، بصورة واضحة منيرة. وهكذا جاء القرآن واضح النور، ساطع الضوء يشرح الصدور، ويبدد الديجور، وينير سبيل كل المستجيبين لله العليم القدير، وأنه بالاستجابة لجدير، والطاعة والاتباع لهداه خير كثير. إن العلم كله له، والهدى هداه، ومن اهتدى بسوى الله تاه. ولهذا يختم الآية بقوله: (والله بكل شيء عليم). ومن هذا شأنه وهذه صفته فهو الهادي إلى الصراط المستقيم، وهداه هو الهدى وعلمه هو العلم الذي به الحياة تصلح وتستقيم، ويسعد به كل قلب سليم، وكل سمع وسامع كريم.
وبعد: أليس الآيات تنزل كاملة متوالية في كل سورة من البداية حتى النهاية بلا انقطاع؟؟ بلى بلى هذا هو الحق بلا نزاع. ولأجل هذا جاء من الله التأكيد على أن السورة هذه آيات متوالية حتى النهاية، فقال في الآية 34 منها: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين)، وكرر هذا التأكيد في الآية 46 منها فقال: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). فهل الهدى إلى صراط مستقيم يتم بآيات مقطعة الإنزال؟، وهل البيان في الكلام العام يتم بكلمات مقطعة الأوصال؟، فكيف بكلام الله العلام!!
وهل التقطع إلا لغو لا ترضاه الأفهام ولا يليق بالعقول؟، فكيف ترضاه لربنا الجليل؟، إنه الحق والحق يقول: (فتعالى الله) عن القول الغامض العي، وقد لقب الآيات في كل شيء، وكان القرآن هو قمة البيان الذي يعجز كل ناطق حي، فلتكن على يقين بأنه تنزل سورا كاملة لها بداية ولها نهاية تحيط بموضوعها، وتفصح عن أغراضها، بما لا يدع مجالا للغواية، وبما يزيد الناس علما ودراية، ويهديهم إلى أسمى غاية.وبعد فإن سورة النور قد أنارت لنا السبيل، وقطعت كل قول بأقوى دليل، وبالنص الذي لا يحمل التأويل.
هل تريدون المزيد من الأدلة؟، على أن السور كانت تتنزل كاملة؟.لنقرأ بعضها فإن البعض يدل على الكل ويكشف عن الصور، وينسف كل ارتياب، ويسترشد به أولوا الألباب. لنبدأ من البقرة، فإن الدلالة فيها واضحة مقررة. ولنقرأ: (الم(1)ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2)الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3)والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون(4)أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:1-5].ماذا أفادت الآيات؟. أفادت أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بما أنزل على محمد وبما أنزل على الأنبياء من قبله. وإذن فهم لهم صفات خاصة، منها الإيمان بكل ما أنزل، ولكل من أرسل. أليس هذا هو بعض ما تقرر هنا؟.بلى.
انتقلوا إلى آخر السورة تجدوا آخرها يتصل بأولها، ومنتهاها يؤكد مبتدأها، وأن الموضوع متصل الآيات، متتابع الدلالات، لا ينفصل ولا يتمزق، ولكن يتوالى ويوثق. ولنقرأ الختام، ففيه القول الفصل الذي يقطع كل الأوهام: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) [البقرة:286].ألم يؤكد هنا ما أثبته هناك؟، ألم يعلن هنا ما أعلنه هناك؟. بلى.
وها هم المؤمنون يتبعون الرسول في الإيمان بما أنزل الله، وها هم كلهم يؤمنون بالله وملائكته "إنه الإيمان بالغيب"، وهي صفة هامة كما كانت هناك هي الصفة الهامة الأولى من صفات المتقين. ثم مع الإيمان بالله وملائكته كأنهم يؤمنون بكتب الله ورسله إيمانا بالتساوي مع الإيمان بالرسول الخاتم، لا فرق بين أحد من الرسل سواء تأخر أو تقدم. وبعد الإخبار من الله بأن الرسول آمن والمؤمنون آمنوا بذلك، ها هم يعلنون بلسان واحد الاستماع لما أنزل الله والطاعة (وقالوا سمعنا وأطعنا)، وإذا كان هذا هو شأنهم وهذا هو سبيلهم، فماذا يريدون به؟.إنهم يريدون المغفرة من ربهم لا سوى، فإن هذا هو المطلب الهام والأثير، لدى المؤمنين بالحق المنير. وكيف لا يطلبون هذا المطلب من ربهم العليم القدير؟، وهو الذي إليه وحده المصير (وإليك المصير)، فهو محاسبهم على العمل الصغير والكبير، فهو لا يخفى عليه شيء ولو تضمير، وهو العليم بذات الصدور، فالمصير إليه خطير، إذا لم يكن بالإيمان بالله ورسله هو الشفيع للعبد الصغير، وهو النور في لقاء ربه الكبير. وهكذا يكون هؤلاء هم الذين يهديهم كما وصفهم الله في الآيات الأولى بقوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:5].
إذن فالموضوع واحد، والبداية والختام تنطلق من غرض واحد، وعلى الإيمان تؤكد، وللطريق الحق تحدد، وهو تكليف لا يصعب على المؤمن الموحد؛ لأنه تكليف من الله الذي يدعو إلى دار السلام، ويعلم قدرة العباد في كل المهام، فلا يكلف إلا بما يستطيعه الإنسان، في كل زمان وفي كل مكان. ولهذا قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة:286].وهي حقيقة لا تشك فيها ولا ترتاب؛ لأنه قول الله الغفور الوهاب (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ومع أن المؤمنين يعلمون هذه الحقيقة فإنهم يتوجهون إلى ربهم داعين مستعيين، ولمولاهم خاشعين مستسلمين، فيقولون: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة:286].وهكذا تنتهي السورة بهذا الدعاء العميق الذي يعلن فيه المؤمنون عجزهم عن الوفاء إلا بعون ربهم، ويرجون فيه أن يجنبهم ما وقع فيه المنافقون بكذبهم، ولا ما وقع فيه أهل الكتاب من قبل من عدم التمسك بكتاب ربهم.ثم وأخيرا يعلن المؤمنون أن الله ربهم ومولاهم وبالتالي فإنه المدعو بنصرهم على القوم الكافرون، وإنه لدعاء يعيدنا إلى بدايات السورة التي وصفت المؤمنين مع هؤلاء الأنواع من الناس بالتفصيل، فالكافرون لا يؤمنون، فقلوبهم عليها وعلى أسماعهم ختم وأبصارهم عليها غشاوة، فهم معادون للإيمان بصورة واضحة بلا غشاوة، أما المنافقون من أهل الكتاب ومن الأعراب فهم موصوفون بصفات الكذب والخداع، والادعاء الذي يدعو إلى الاقتناع، ولكنه ادعاء يكذبه الله ويفضح، وعن طواياهم يكشف ويفصح، فإذا هم يشترون الضلالة بالهدى فهو شراء لا يربح، وهم في ظلمات من كل اتجاه تحيط بهم، وهم صم بكم عمي في دينهم، فلا يرجعون إلى الصواب، ولا يسلكون مع أولي الألباب. بل يستمرون في طريق الهلاك والتباب، ويتمسكون بالارتياب، لكن الله بهم عليم خبير، ولو شاء لذهب بكل مداركهم فهو على كل شيء قدير، وإذن فإن الناس مدعوون إلى طريق الخير والسلام، والارتفاع إلى أعلا مقام، إنهم مدعوون إلى قوله تعالى: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].فعبادة الله الخالق هي ميثاق الخلق للإنسان، وهي مهمته في كل زمان ومكان، وبالعبادة يرتقي إلى التقوى التي تجعله في مصاف عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا.
ولكن كيف يهتدي إلى هذا المقام؟. إن السبيل إلى ذلك هو ما أنزله الله على عبده من الكتاب والإيمان بما فيه بلا ارتياب، فذلك مرتقى أولي الألباب، وإلا فإن النار للكافرين المآب، وهكذا تكون الآيات من البداية إلى النهاية، فالسورة تدور حول هذا الموضوع الهام، الذي يرفع الإنسان إلى أعلى مقام، ولهذا كانت السورة حافلة بمختلف آيات الأحكام، لتنظيم حياة الناس على أحسن نظام، ولتدلهم على الطريق الحق المبين، الذي يدخلهم في اسلم كافة في الدنيا ويوم الدين، ويوصلهم إلى الفوز برضوان رب العالمين، فهل بعد هذا يقال أن السورة نزلت مقطعة الأوصال؟، موزعة الآيات بلا اتصال؟. كلا: بل السورة نزلت كاملة وبأحكام مفصلة متصلة، وآيات متواصلة. وكيف لا والله علام الغيوب يعلم ما كان وما يكون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو معنا أينما كنا، ولهذا فهو في السورة يسأل الناس سؤال استعجاب، ليؤكد غفلة الناس عن ربهم واتخاذهم من دونه الأرباب، فيقول: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) [البقرة:28].فالأرض هو سخرها وهو لنا عليها سبر، وهو الذي للأمر دبر، ولكل خلق هدى وقدر، وللأرزاق بسط وقدر، وإليه الخلق كله يضطر، وهو يجيب المضطر، بل ويعلم سؤال كل مخلوق قبل السؤال، فيأتيه الرزق في كل حال، من ربه ذي الجلال، فهو المحيط بكل شيء علما، وهو الذي يصورنا في الأرحام كيف يشاء.وبهذه الصفات العظيمة لله العليم، تنزل القرآن الحكيم، وتوالت أحكام السورة بتواصل مستقيم، بلا تفريق ولا تقسيم.
فمن ذا يستبعد ذلك على الله!! وهو الذي يصف نفسه بقوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) [البقرة:255].هكذا هو الله ذو العلم والقدرة، فلتقدره حق قدره، ولنوقن أن القرآن تنزل بالأسلوب الذي يليق بمن أنزل، وأن سوره كانت كاملة تنزل. ولنعد إلى سورة البقرة لنستوضح هذه الحقيقة المقررة ولنبدأ من أول السورة: إن الله يأمر الناس في الآية 21 بقوله: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].إن هنا يبدأ سؤال وهو: هل يمكن أن يأمر الله الناس أن يعبدوا ربهم دون أن يوضح لهم كيف يعبدون؟ وماذا يعملون حتى يكونوا من المتقين؟. كلا وحاشا. إذن: فإن السورة قد بينت وأوضحت، وبالأحكام والشعائر والمعاملات حفلت، ولقد توالت فيها الآيات بأسلوب جميل منير، يستسغي ويشرح الصدور، ويصلح ويزكي الناس مدى الدهور، ويحدد لهم معالم السلام في المسير.
ولو أردنا أن نستعرض ما ورد في السورة من الأحكام والواجبات، وشعائر الدين والمعاملات الدنيوية لطال المقال، ولكنا سنشير إليها باقتضاب، ونتلمس تواصلها بدون إسهاب، ولنبدأ من حيث الأمر بالعبادة، فلقد أعقب الأمر للناس بعابدة ربهم، استبعاد أن يكون ما أنزل الله على عبده يواجه بارتيابهم، فإذا أصروا على الارتياب فليأتوا بسورة من مثل القرآن، فيها الوضوح والبيان، إنهم لا يستطيعون، فهم إذن لن يفعلوا، وإذن فإن عليهم أن يكونوا بالقرآن مؤمنين، وإلا فليتقوا النار التي أعدت للكافرين، كما أن الجنة أعدت للمؤمنين، وتتواصل الآيات حتى تنتهي بالآية 29 التي سبقت هنا والتي تذكرنا بأنه خلق لنا الأرض والسماوات، وهنا كان من المناسب أن يذكرنا ببداية الإنسان على الأرض، ولنعرف أن الإنسان طارئ عليها مخلوق لغرض، فكانت آيات الخليفة وحوارها مع الملائكة، ثم آيات أمرهم بالسجود لآدم وامتثالهم للأمر في حين استكبر إبليس وكفر فإذا هو يعلن نفسه عدوا لآدم من البداية وسيظل معه حتى النهاية يغوي ويضل ويردي ويزل، ولقد كانت البداية في الجنة الأولى التي أبيح لآدم فيها أن يأكل رغدا ولما زل خرج من الجنة وهبط من مقام الحياة الآمنة إلى مستقر الحياة المؤقتة إلى حين المقدرة المتاع للبشر أجمعين فلهم فيها الحياة والموت وهم فيها بعضهم لبعض عدو مدى الزمان، وهم في خوف وأحزان، ولا ينجو من هذا إلا من اتقى وعمل صالحا بإيمان، ولا يكون هذا إلا بهدى من الله الذي كتب على نفسه أن يرسل الرسل وينزل البيان، (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة :38-39].
وهكذا بدأت المسيرة وجاء الهدى وجاءت الرسل بالبينات المنيرة ولهذا كان من المناسب أن ترد الآيات التي تذكر بني إسرائيل بعهودهم مع الله وتدعوهم إلى الإيمان بما أنزل الله على محمد عبد الله وهو مصدق لما مهعم وجاءهم مع موسى وعيسى من عند الله، وتذكرهم بالرجوع إلى الله ، ولعل في هذا إنذارا لنا لنكون على وفاء مع الله وتقوى وإلا كنا مثل بني إسرائيل، ألم يكن الله قد فضلهم على العالمين بحمل رسالة الدين، وها هو الله يحملنا حمل القرآن للعالمين، فلنكن في حمله جادين ومجاهدين، وفي إبلاغه مخلصين، وفي العمل به صادقين، لنكون من الصالحين، وإلا كنا مع الذين غضب الله عليهم وكانوا من الخاسرين ، وحلت بهم لعنة اللاعنين، فلنحذر ولنعمل صالحا ولنف بالعهد ليكون عملنا مفلحا، ولتضح لنا التحذير والنذير توالت آيات بني إسرائيل حتى تصل إىل الآية (150) من السورة. وكلها تفصح عناد بني إسرائيل مع المرسلين وتكذيبهم بالآيات والارتياب في الدين، واللجاج في كل حجاج، وتحريف الآيات النازلة عليهم وكتابة الكتاب بأيديهم بما يتفق مع هواهم وادعائهم بأن هذا كتاب ربهم، واتباعهم الشياطين في تعلم السحر ونسبة ذلك إلى سليمان، ثم تعلمهم ما يتفرق به الزوجان، واستمرارهم في اتباع ما يضر الإنسان ولا يرضي الله الرحمن، فكانوا بذلك مستحقين الذلة والغضب والهوان، والعذاب في الدنيا ويم الدين، وخلودهم في لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومع ذلك فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ويفترون على الله أن الجنة لهم محدودة، وأن الدخول لهم دون الناس، وأنهم أولياء لله دون الناس، لكن الله يكذبهم ويدفع زورهم، ويدفعهم بأن ملتهم هي أهوائهم، ويفند دعواهم أنهم أتباع إبراهيم ، ويؤكد أن إبراهيم ليس يهوديا ولا نصرانيا ولكنه إمام المسلمين وأنه لم يكن من المشركين، وكلهم يكابرون وهم يعلمون، أو هم لا يعلمون؛ لأنهم يجهلون ما عندهم من الكتاب المبين، بل لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، وهكذا يؤكد الله أن المسلمين هم المتبعون لكل المرسلين والمؤمنون بما أنزله الله عليهم أجمعين، وأن من لم يؤمن بذلك فإنه كافر أثيم، ولا ينفعه أنه من نسل إبراهيم، فالأنساب لا تنفع ولا ترفع ولكن المهتدي هو من آمن واتبع، وإذن فلكل إنسان مع عمل وعليه يسأل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة:141].وهكذا تبين الآيات بأن بني إسرائيل عاطلون من العلم رغم الادعاء ، بعيدون عن الهدى ، ضالون عن سبيل الأنبياء، متبعون للهوى. وبهذا حرفوا الكتاب ولا يزالون منه في ارتياب، ولهم الذلة والعذاب.
فهل بعد هذا يسير المؤمنون بالقرآن، على هذا الأسلوب المهان؟! لا بد لمن يقرأ القرآن ويؤمن بما فيه أن يتبع هدى الله ولا يرتاب فيه وأن يجاهده في الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وينفق في سبيل الله ليكون على الطريق الحق سائر، وعلى هدى من الله مستنير البصاير. وعلى هذا الأساس بدأت الآيات تتوالى بالأحكام والواجبات، وتوضح سبيل الله الحق في الشعائر والمعاملات، وتضع المعالم الواضحة للأعمال الصالحات، وتعد من استقام برحمة الله وبالنصر والثبات، ثم بالنعيم والجنات، وذلك هو الفوز العظيم، الذي يعمل له العاملون، وعلى هذا الأمل الحق الجميل، والوعد الصادق من الله الجليل.. [اقرأ الآيات من 105 إلى 140].
إن حملة الدين من المسلمين هم أمة الأنبياء والمرسلين، والإسلام دين الله الحق، الذي يدين به كل الخلق، ولقد خسر من عنه فسق، فليسر المسلمون عليه في ثبات، وها هي الطريق واضحة المعالم بالأحكام والآيات، المنظمة للعلاقات أحسن نظام، الهادية إلى السلام. ولذلك بدأت الأحكام تتوالى وتتلألأ على الطريق، فإذا بالقبلة التي ارتضاها الله تحدد، ويرضاها الرسول محمد، ومن اتبع محمد، وما هذه القبلة إلا المسجد الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وهما يدعوان الله بأن يستقيما على الإسلام، وأن تكون ذريتهما ومن اتبعهما على الإسلام، وأن يبعث فيهم رسولا يعلمهم ويخرجهم من الظلام، وإذن فهي القبلة التي توحد الاتجاه، وتلم الشمل إلى الله، وهي التي تتجه إليها الصلاة من كل اتجاه، ولا يشذ عنها إلا الغواه، لا حجة له إلا اتباع هواه، ولهذا يؤكد الله على هذا الاتجاه الذي ارتضاه فقال للمرة الثالثة: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) [البقرة:150].
فالقبلة هذه إتمام للنعمة واتباع هدى الله هو الهدى الذي به تتم النعمة، وكيف لا وهي وجهة يعلم الله أنها الحق، والجدير بها هو الدين الحق، ومن به آمن وصدق؟؟وكما أنعم الله على الناس بالدين أنعم عليهم بالقبلة التي توحد وجهة الموحدين ولتأكيد هذا فإن الله يسوي بينها وبين إرسال الرسول فيقول: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة:151].وهكذا يتواصل التعليم والتزكية وتأتي الآيات للمؤمنين بعلم من الله لم يكونوا به يعلمون من قبل هذه، وما العلم إلا هذه الأحكام والواجبات التي تتواصل في الآيات حتى نهاية السورة.
وكما توحدت القبلة والاتجاه في الصلاة فإنه لا بد أن تتوحد الوجهة في الحياة لتكون كلها صلاة ويكون للناس إمام يؤمهم إلى النجاة، إنه لهو الرسول والكتاب، فالرسول هو الباب والكتاب، والرسول هو الطريق السليم والنور والصواب، السائر إلى غير المآب، فليبادر إلى بيانه أولوا الألباب، وإلا كانوا سائرين إلى العذاب، كما يقول الله منزلا للكتاب: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون*إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) [البقرة:159-160].ولكي يبين العلماء الكتاب للناس فلا بد من معرفة الله حق معرفته وتقديره حق قدره فلا يجعلون له شريكا في ملكه ولا في حكمه فهو الإله الحق والرب الذي خلق: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم) [البقرة:163].ولتأكيد هذه الحقيقة فإن الذين يعقلون يتفكرون في خلق الله رب العالمين وتدبيره لكل المخلوقين: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) [البقرة:164].
وإذا كان الله هو الخالق المدبر والمصرف لكل شيء والمسير والهادي والمقدر والممسك والمسخر فإنه هو الرب الذي لا يشاركه أحد في تدبيره وعلمه، وهو الذي يحب ويعبد ويجاب ويحمد ويهاب ويقصد، فمن ادعى أنه ند لله أو اتخذ له ندا فقد ضل وفي العذاب تردى، وعلى هذا الأساس فإن على الناس أن لا يتبعوا المضلين، وليكونوا في الأرض مهتدين بهدى الله، آكلين مما سخره حلالا طيبا، حامدين شاكرين ما أعطاه، ولا يتبعوا الشيطان فإنه العدو المبين، الداعي إلى الفحشاء والطغيان، والجهل بما أنزل الرحمن، وذلك هو الخسران، الذي يجعل الإنسان أضل من الحيوان.
وأمام هذه الدعوة للناس فإن على المؤمنين العابدين لله أن يعرفوا الحرام والحلال، وها هو البيان يأتيهم من ذي الجلال، (ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون* إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:172-173].وعلى هذا الطريق الواضح فليمض موكب العلم والإيمان، ويهتدى بهدى الرحمن، ولا يكتم ما أنزله الله من البيان، فإن فعل المؤمنون ذلك واشتروا متاع الدنيا والسلطان، فإن الذي اشتروه إنما هو النار والخسران، لقد علموا بالحق فآثروا الباطل والبوار، فما أصبرهم على النار، (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) [البقرة:176].
إن ورود الكتاب هنا بالألف واللام يدل على أنها للعهد فالمراد ذلك الكتاب الذي بدأت به السورة، إذن فالآيات متواصلة يلي بعضها بعضا حتى النهاية، وهكذا تستمر الآيات من هنا متوالية، فتبدأ أولا بالآية 177 والتي تجمل ما ينفصل بعدها من الأحكام وتوجز ما يأتي بعدها من المهام، فإذا هي تشير إلى أهم منابع البر عند الله العلام. يقول الله: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب). ليس الدين بالمظاهر الفارغة والشعارات الجوفاء وليس الاتجاه إلى جهة معينة هو التقوى، فالله هو المقصود لا سوى، ولهذا يواصل بيان البر بقوله: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إن الإيمان بهذه هو البداية ولكن يجب أن تجسد بأعمال صادقة صالحة النية ولهذا قال الحق: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [البقرة:177]. وهكذا تجمل الآية أهم الأحكام والواجبات والمهمات الصالحات، المنطلقة من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبوات، وبهذا تصبح مسيرة المؤمن متصلة بميسر المرسلين فالأنبياء هم أمة المؤمن والله هو رب الجميع وهم له عابدون، والصالحات من الأعمال هي سمة الجميع، فهم أمة واحدة والله ربهم وهم له تقاة هم الصادقون.
وبهذه الروح المؤمنة والعزيمة الموقنة والقلوب الذاكرة لله وبه مطمئنة، تمضي المسيرة إلى حياة السلام والأمن في الدنيا وإلى رحمة الله ثم الجنة من خلال الأحكام والواجبات، والفروض والمهمات، التي تجملها وتبينها ما يلي من الآيات حتى آخر السورة المختومة بتلك الدعوات المعروفات، التي يلهج بها كل مؤمن في كل الحالات، إنها الآية التي تختم بقوله تعالى: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).إنها الآية الأخيرة من السورة [286]، إن هذا هو نتاج الأعمال، ومرتجى النساء والرجال، فالعفو والمغفرة والرحمة، هي الغاية الهامة، والمطمح الأسمى لكل مؤمن ومؤمنة، وعلى هذا الأمل، والمطمح الأجل، تتوالى آيات الأحكام والعمل بعد الآية [177] السابقة، فإذا بنا أمام آيات الديات في القتلى (ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب) ثم آيات الوصية للوالدين والأقربين، والإصلاح بين الخائفين من الجانفين، ثم تبدأ آيات الصيام وأحكامه، وصفة الصيام وأيامه، ورخصة الإفطار في المرض والسفر والوفاء بالقضاء والتزامه، وبيان شأن ليل الصيام وقيامه، والعكوف في المساجد وحرامه، ثم بيان أحكام التعامل في الأموال، وتحريم أكلها بالباطل في كل حال، وتحريم استخدامها في كل أموال الناس، فذلك من أسوأ الأعمال، ثم عودة إلى بيان البر من جديد باقتضاب، والأمر بإتيان البيوت من الأبواب، وفي كل ذلك تكون التقوى هي الغاية لأولي الألباب، وقد عرفنا في أول السورة أن التقوى هي الصفة التي يتصف بها من يهتدون بهذا الكتاب، وتستمر هذه الصفة مع ما يلي الأحكام حتى في القتال التي تأتي أحكامه هنا بصفة تجعل المؤمن ينتصر لله لا لنفسه ويقاتل لرد العدوان لا للانتقام ولإقامة الدين لا لاقتناء المغانم والأموال بل إن المال ينفقه المؤمن المحسن في سبيل الله، فإن لم ينفق فقد ألقى بماله إلى التهلكه وبلا ثمن لأنه أنفقه بغير وجه الله: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [البقرة:195].وهل هناك أسمى للمؤمن من أن ينال بالمال حب الله ذي الجلال، إن ذلك أروع المطامح والآمال، إن الله هو الباقي وكل شيء هالك، وإليه الرجوع وهو ليوم الدين المالك. ومن أهم سبل الإنفاق الحج فهو جهاد بالمال والنفس والجهد بالإقبال من كل فج، ولهذا تأتي هنا آيات الحج والتقوى هي السمة لكل من فرض الحج، والمتبقي هو (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ).وأما من لم يذكر الله وأراد الدنيا فإنه جيفة عفنة تفسد في الأرض، إنه خاسر المعاد، فالله لا يحب الفساد، ولكنه مع ذلك يحب من يشري نفسه بمرضاته فالله رؤوف بالعباد، وبهذا الحب والرأفة للعباد فإن الله يدعوهم إلى السلام. (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). ثم ينذرهم باقتراب الساعة فما ذا ينتظرون بعد البيات إلا أن تأتيهم المذهلات يوم لا ينفع مال ولا بنون (وإلى الله ترجع الأمور) [البقرة:210].
وتتواصل الآيات منذرة ضاربة الأمثال لمن سبق، مؤكدة أن هدى الله هو الحق، وأن الجنة لمن صبر وصدق، ولم ينهزم ولم يرتب، بل صمد حتى جاء نصر الله (إن نصر الله قريب) [البقرة:214].ثم تعود الآيات لبيان الأحكام فتبين نوع ومجال الإنفاق، ثم تعود مرة أخرى إلى القتال، وتؤكد أنه مكتوب على المؤمنين وهو كره لهم ولكن الله يعلم ما لا يعلمون، فليقاتلوا وليثبتوا على الدين ومن يرتد عن دينه (فإنهم في النار خالدون) فالكفر والكفار مستمرون على قتال المؤمنين حتى يردوهم عن الدين، فكيف لا يجاهدون ولرحمة الله راجين، ولكي يكون المؤمن صابرا مجاهدا فلا بد أن يتطهر من بعض الآثام والعادات التي بها يردى، ولهذا بين الله أن الخمر والميسر إثم كبير، ثم أكد أن الإنفاق في سبيل الله خير من الإنفاق في الشهوات والآثام، وأن حماية الأيتام من أجل المهام وإصلاحهم من أصول الإسلام ، فليكن مال المؤمن في الصرف والإنفاق طاهرا، وليكن في كل حياته مجاهدا صابرا، ومثلما يلزم التطهر في المال فإنه واجب في النكاح والاتصال والتزاوج بين النساء والرجال، فالمشركات والمشركون يدعون إلى النار، وزواجهم لا يليق بالمؤمنين الأطهار، وإن العبيد من المؤمنين والمؤمنات خير من الأحرار، وكما يكون من الشرك طاهرا فإن الاتصال الحلال يجب أن يكون ظاهرا، ولهذا فاعتزال النساء في المحيض طهر يحبه الله، وإتيان النساء للحرث واجب فرضه الله، أما إتيانها للشهوة فإنه عبث لا يرضاه الله. وهنا تعرض الآيات للإيمان في كل الأمور، ولليمين في الزواج، فتبينه الآيات بوضوح، وعلى إثر الإيلاء من الأزواج تأتي آيات الطلاق بين الأزواج موضحة أحكامه وتفاصيله بلا اعوجاج مبينة كل أحواله بما لا يدع مجالا للجاج، ثم وقد ينفصل الزوجان بسبب غير الطلاق وهو الوفاة فحكم ذلك مفصل واضح مبين لكل احتمال.
حتى ينتهي أخيرا بإعادة الوصية بالرفق بالمطلقات والإحسان إليهن بلا إعنات فيقول: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) إنه حق على المتقين وهم الذين هذا الكتاب هدى لهم، فإنه تذكير لهم بأول السورة ليستمروا على طاعة الله والإيمان بما أنزله من الحق ويبقى حكم الله هو المرجع في أي عمل مهما دق والاعتماد عليه هو لمن شاء أن يسبق، ولتأكيد هذا نأتي إلى قصة طالوت الذي بعثه الله ملكا لبني إسرائيل فإذا هو لم يثبت معه إلا الذين يظنون أنهم ملاقوا الله فكان الله معهم وهزموا جالوت رغم قلتهم (والله مع الصابرين)، وهنا تعود السورة لتذكرنا بالآيات وبالرسول والكتاب (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) إن هذا تذكير بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا..) الخ الآية، فالموضوع متصل متواصل والآيات تترى بلا فاصل. بلى إن الله يذكرنا بأن الرسل متواصلة الإرسال متتالية الآجال على مختلف الأجيال وكل له شأن وله آية وعليه فإن المسيرة واحدة مهما تباعدت العصور والأزمان.
وتعود الآيات إلى الإنفاق وينادي الله المؤمنين أن يغتنموا الفرصة قبل أن يكونوا ظالمين، فالله هو الرزاق وهم مستخلفون، (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة:254].إن عدم الإنفاق كفر وظلم للنفس مبين، وإن عدم الإنفاق يعني عدم اليقين برب العالمين، ولهذا كان من المناسب أن تأتي هنا آية الكرسي بما فيها من وصف لله العلي العظيم، ثم يعقبها التأكيد على أن الدين اختيار لا إكراه، ومن اختار الطاغوت وهي الدنيا كان في ضلال وظلمات، ثم النار مصيره والمبات، لأنه نسي الله الباقي الذي يحيي ويميت وكل شيء سواه فاني، ولذلك يؤكد هذه الحقيقة في حكاية الذي أماته الله مائة عام فأيقن بعد بعثه أن الله على كل شيء قدير، ثم حكاية إبراهيم عن إحياء الموتى حتى علم أن الله عزيز حكيم، وعلى حرارة هذا الإيمان وصدق هذا اليقين تعود الآيات إلى وصف الإنفاق والمنفقين في سبيل الله، وهي غير الإنفاق في مجال الصدقة التي سبقت. إن هذه الآيات تتناول موضوع الإنفاق الذي يشغل الأيدي العاملة وينقذ المساكين والفقراء من الحاجة والمسكن ، فالإنفاق ينمو ويتضاعف والمجتمع يسعد وبرحمة الله يحف، فمثلهم (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وهذا أقل صورة المضاعفة بل إن الله يضاعف لمن يشاء بحسب نيته وصدقه، والله واسع عليم، فلا يخفى عليه شيء ولا يظلم المنفق أي شيء بل يضاعف ويفي وله أضعاف ما أنفق في الدنيا والأخرى، فهو كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين أما المنافق الذي يمن ويؤذي فإنه كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا، وتستمر الأمثال للمتق المحسن والمنافق الذي يمن حتى تصل الآيات إلى قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة:274].
من هو الذي ينفق بالليل والنهار وسرا وعلانية؟. إنما هو الذي ينفق أمواله في سبيل الله فيقيم المشاريع الصناعية والزراعية والعلاجية والتعليمية يفيد الناس ويبيع لهم بأسعار مناسبة وبأرباح غير مبالغة، وهو يقدم لهم السلعة الجيدة والمتقنة الزكية والنقية من كل غش أو نقصان أو سوء ومع ذلك فهو يشغل الأيدي العاملة وينصفهم في الأجور ويرعاهم في كل حال ولا يمن عليهم ولا يكلفهم بما لا يجوز من الأعمال ولا يطلب منهم منافع تخرج عن نطاق المهمات، وتتجاوز نصوص العقد والاختصاصات، كالتصويت في الانتخابات، أو الشهادة له زورا في الخصومات، كلا فهو يتعامل معهم كمتعاقدين يفي لهم ويفون له في حدود ما تعاقدوا عليه كل في مجال عمله، بلا مجاملة ولا مماطلة فلا يأكل من خلالهم أموالا باطلة ولا يحملهم ما لا يطيقون احتماله، إنهم في أمن معه وسرور وهو معهم سعيد مجبور، وربحه موفور، وحقه وحقهم مضمون وهدفهم جميعا (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
ولتأكيد هذا المعنى الذي أوضحته لكم والذي توضحه الآيات وبه تحكم؛ تأتي الآيات التي تصور النقيض من هذا المسلك وتصف الطريق المهلك، وهي آيات الربا فإذا بها تعلن (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وإن آكل الربا لا ينمو حتى ينتكس كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكيف لا والله يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) فآكل الربا مكروه وفاعل الصدقات محبوب، وشتان ما بين الاثنين فذلك كفار أثيم، وهذا مؤمن بالله العظيم، ولهذا فإن الله يؤذن آكلي الربا بحرب من الله ورسوله، وينصحهم بالتوبة بل بالتيسير بل بالعفو عن المعسر، واحتساب ذلك صدقة تنفعه حين لا ينفع مال ولا بنون، ولهذا يختم الآيات بقوله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [البقرة:281].وهنا تنتهي آيات الأموال المتبادلة، والأموال التي تنفق لتشغيل الأيدي العاملة، لتبدأ آيات تنظيم الدنيا بين الناس وتنظيم التجارة التي تدار بين الناس حاضرة، فتؤكد أن الشهادة لازمة والكتابة واجبة، وأن الشهود والكتاب محروسون من الضرر والتخويف المهين فإن فعل المؤمنون ذلك فإنه فسق عن الدين وعن هدى الله الذي علمهم والله بكل شيء عليم. فليحذر المؤمنون من الانحراف عن الحق والانجراف للهوى وليتقوا الله وليتبعوا الهدى، والله يعلم السر وأخفى، وكيف لا وهو يقول: (لله ما في السماوات وما في الأرض) فله تدبير كل شيء وحي، والناس أهم شيء، فهل يتركهم الله القادر؟ كل بل هو يخص الأعمال والخواطر. (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) [البقرة:284].وإذن فالإيمان بالله وبما أنزل هو السبيل الآمن للمؤمن الذي يذكر الله فيوجل.
وبهذا فإن الله يعلن أن هذا هو شأن الرسول، وشأن من اتبعه وآمن معه، وعلى سبيل الله استمر فيها يعمل ويقول. إنها الآيات التي تؤكد البدايات، وتعلن أن السورة متواصلة الأحكام متتالية الآيات، بلا انفصام، لأنها من الله العالم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [البقرة:285]. لقد سمعوا الكتاب والأحكام وأعلنوا الطاعة والالتزام، وطلبوا الغفران من ربهم الغفور، وكيف لا وإليه المصير وهو العليم بهم والبصير، بل هو اللطيف الخبير؛ لأنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ورغم ذلك فإنهم يواصلون الدعاء ويعلنون الافتقار إلى الله لأنه المولى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة: 286].إن هذا هو غاية الأمل لمن اتقى ولمن بهذا الكتاب اهتدى، وهذا هو أسمى المطمح لمن آمن بالله مع الرسول واستقام على نفس السبيل، وهذا هو المآب الذي يتطلع إليه أولوا الألباب فالله مولاهم في الدارين وهو الناصر في الدنيا ويوم الدين إنه الله رب العالمين.
وبعد: هل اتضح بعد هذا العرض الطويل والبيان الكامل عن أسلوب التنزيل؟ هل اتضح لكم أن القرآن تنزل سورا وأن كل سورة كانت تتلى على الرسول كاملة، وأن آياتها متواصلة بلا انقطاع، وأن البيان فيها كامل الشعاع، لعل ذلك قد اتضح، وعن المراد أفصح، لقد حاولت الإيضاح بقدر الإمكان، ولقد أطلت مع أن الإطالة مملولة لدى أهل البيان. لكني إن أطلت في البقرة، فسوف تكون الأمثلة في بقية السور مختصرة، لقد أردت هنا أن أضع الأنموذج الأمثل، ليكون نبراسا لما يتلوه، وليكون دليلا لما يقفوه.
عسى أن ننال جميعا بذلك العلم بأسلوب تنزيل القرآن، ونكون على بينة من الأمر وبرهان، فإن ذلك شأن الباحث في كل زمان ومكان، فهو يميل للإتقان وينجذب للإحسان، ويجب أن يفيد الإنسان، ويفوز برخاء ربه الرحمن، وبقبول ما يعمله مهما كثر أو هان، وأن قبول القليل هو الفوز بالكثير، وأن الكثير المحيط هو البوار المبير، فنقول كما قال إبراهيم: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الاول ¶ لعل من المهم أن نحدد من خلال القرآن كيف تنزل القرآن هل كان يتنزل آيات متفرقة ومع قضايا الأفراد متفقة؟ لعل هذا الرأي لا يتفق مع صريح آيات القرآن ولا يليق بجلال الرحمن الذي يعلم ما يكون وما كان ويعلم حاضر وماضي ومستقبل الإنسان. نعم إن من يعلم السر وأخفى، وما يأتي وما مضى، ويعلم ما في الأرض وما في السماء، وما تحت الثرى، لا يصح أن يعامل معاملة عاقل الحي الذي يفني السكان بحكمه فيما يطرأ من الأعمال ويواجه كل حدث بانفعال ويغير موقفه مع الأحوال. كلا إن معاملة الله بهذا الأسلوب محال فهو الله ذو الكمال المطلق والجلال، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فسبحان الله عما يصفون، هو (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)، وبه كل شيء يقوم وعلى هذا فإن القرآن لا بد أن ينزل بطريقة تليق بالعليم الحكيم، ولا بد أن يلقى على الرسول بأسلوب أسمى مما يتوهمه الواهمون وما يتصورون، (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون). ¶ أليس هو الذي يصف نفسه بقوله: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور* ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [الملك: 13-14]. (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 5-6].(وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].وعليه فهو يعلم ما سيكون كما علم ما كان، وبالتالي فهو بعلمه ينزل القرآن، ولا يتوقف إنزال الآيات على حركة الإنسان ولا على أحداث الزمان؛ كيف وهو خالق الإنسان والزمان. وهكذا تكون هذه الصفات لله سبحانه وتعالى تالية لكل حديث عن القرآن في سور القرآن فهو يقول في أول سورة آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران: 1-4].ثم تأتي الآيات التي أوردناها أولا وهي: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ويقول في أول سورة طه: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه: 1-8].وكذلك جاء في آخر سورة الحشر، فبعد الحديث عن القرآن يورد عددا من أسمائه الحسنى التي تدل على العلم والتدبير فقال تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم) .. إلى آخر السورة. وهكذا هو الحال في أول سورة الرعد، وأول سورة السجدة، وأول سورة غافر، وأول سورة الشورى وفي آخرها، وأول سورة هود، وأول سورة يونس، وأول سورة آل عمران وكذلك سواها، ولكي لا أطيل السرد للسور فقد قال تعالى في سورة النمل مخاطبا النبي المرسل: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) [النمل:6]، وختمها بقوله: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) [النمل:93]. ¶ لا أريد من سرد هذه الآيات ولا من تعداد هذه السور أن تمر عليها أيها القارئ مرور العابر، ولكن أن تقرأنها قراءة المتدبر المتذكر؛ حتى لا تكون ممن قال الله عنهم: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [محمد:24]، (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء:82].وبعد؛ فماذا عساه أن يقول القارئ بعد هذه المقدمة الطويلة؟! لعله سيقول: ماذا تريد بهذا الكلام أمام هذا "موضوع إنزال آيات القرآن"؟ لكني أريد أن أقول إن الله الذي هذه صفاته، وذلك شأنه، وهو الله العليم بكل شيء وخالق كل شيء، والقدير على كل شيء ، إن من هذا شأنه لا يصح أن تقول أمام قرآنه - سبحانه سبحانه وتعالى علوا كبيرا - أن يثيره شيء أو حدث ليلقي علينا الآيات، وحاشاه أن يملي عليه إنسان وهذا هو الذي يجرده من العلم والقدرة، وينكر اختصاصه بالعزة والحكمة وباللطف والخبرة، وبتدبير كل مجرة وذرة وإحاطته علما بكل شيء وإحصائه علما لعمل كل حي، وكيف لا وهو الحي الذي لا يموت، ولا يعجزه شيء ولا يفوت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) [سبأ:3]. فأين تذهبون؟، وكيف تجعلون القرآن عضين؟ ها أنذا دعوتكم إلى الذهاب إلى صراط يليق بالله ذي الجلال، ينزه الله ربكم عن الانفعال، ويقدره حق قدره، ويفرده وحده بالعلم والقدرة. كيف وقد أوضح لنا هو في القرآن كيف أنزل القرآن، وبين ذلك بأوضح بيان، ولم يدع مجالا للشك والظنون، بل وضع الأدلة التي تقود إلى اليقين. وها هي الأدلة أضعها بين يديكم وعلى مختلف الدلالات الصريحة. ¶ ولنبدأ المشوار من أول السور الكبار، إنها سورة البقرة، ففيها الدليل والبرهان الذي يدلنا كيف أنزل القرآن. يقول الله تعالى في الآية 23: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]. أسمعتم ماذا قال الله؟. لقد طلب من الناس أن يأتوا بسورة، ولم يقل بآية. إذن فالقرآن كان يتنزل سورا وليس آيات.لا تتعجلوا ولا تنزعجوا فالمشوار ابتدأ فتريثوا حتى نصل إلى المنتهى. تعالوا معي إلى سورة أخرى لنجد أن إنزال القرآن سورا كان قضية معروفة معهودة بين النبي ومن معه من المؤمنين بل ومن يعاصره من المنافقين فكلهم كانوا للسور ينتظرون، ولإنزالها كاملة يعهدون، وبهذا كانوا يتحدون، في جدهم أو في سخريتهم بما يسمعون. وفي سورة التوبة الدليل الذي يقطع كل ريبة، فلنسمع كيف يسجل الله كلام المنافقين المستهترين وكيف يرد عليهم ويصفهم بالكافرين، يقول تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) [التوبة:64]. ماذا قالوا؟ ماذا حذروا؟ ماذا حددوا؟ لقد قالوا وحذروا وحددوا تنزل سورة، نعم سورة، هكذا قال المنافقون. ومعنى هذا أن المعنى أن المعهود بين النبي وبين الناس أن القرآن إنما كان يتنزل سورا وليس هناك أسلوب سوى هذا ظاهرا. ثم قد يقال: إن هذا بحسب الغالب ولكن الأغلب أن الإنزال كان بالآيات.. ¶ ولكن لا تتعجلوا فلنتأمل ولنواصل وإلى منتصف السورة ننتقل لنجد إنزال السور ثانيا بشكل متأصل، يقول الله في الآية 86 وهو حديث عن المنافقين (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) [التوبة:86].أسمعتم ما يقوله الله؟؟ لقد سجل هنا عادته وسنته في إنزال القرآن، فقال (وإذا أنزلت سورة). إذن فهي سنة وعادة استنها الله وثبتها في إنزاله القرآن، ولهذا عهدها الناس أجمعون حتى المنافقون، فإذا هم بإنزال السور يتحدثون، ومنها يحذرون. إذن فهي سنة لم تختلف، وطريقة مألوفة لم تنحرف، ولهذا فسنجدها تلوح في آخر السورة واضحة لمن بالحق يعترف، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) [التوبة:124-125].لنتأمل الآيتين نجد أن العبارات يلوح منها أن الناس كانوا يعتادون إنزال السور، وينتظرون منها ما يجد من الخبر، فالمؤمن يستبشر والكافر يسخر، فإذا المؤمن يزداد بالسورة إيمانا ، وإذا الكافر يزداد بها خسرانا، وهكذا كانت كل سورة تحدث أثرا واضحا في الفريقين المتضادين، وكلاهما كان ينتظر ما يستجد من الذكر المبين. ¶ وعلى هذا نستطيع أن نؤكد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما نزلت سورة عليه من ربه يزداد بها اطمئنان قلبه، ثم يهب لإبلاغها على الناس باهتمام ورغبة فيجمعهم إليه متسع بالرغبة والرهبة، ويتلوا عليهم ما تلقاه ويفيض عليهم بحبه، فإذا هم فريقان منهم من يسخر، ومنهم من يستبشر، منهم من يستنير، ومنهم من يلج في الكفور. بل إن الفريق المريض ينسحب من الاجتماع، وينصرف عن الاستماع، ويفر إلى دنيا اللهو والمتاع. وهذا ما توضحه الآية التالية بكل وضوح وتصور حالة المنافقين في الاجتماع، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد). أنظروا إلى هذا التصوير الدقيق. إنه يرسم لنا حالة فريق من المرضى ينظر بعضهم إلى بعض في زحمة الاجتماع، في قلق يشير بعضهم إلى بعض إشارات الضيق والحزن متسائلا (هل يراكم من أحد) فإذا تأكدوا أن المؤمنين مشغولين عنهم بالاستماع والخشوع للقرآن، قرروا الخروج من الاجتماع وانصروفا إلى شأن آخر غير القرآن، وهذا ما يخبرنا الله به بقوله بعد ذلك: (ثم انصرفوا) ثم ماذا؟ ها هو يدعو عليهم ويدفعهم بما يستحقون فيختم الآية بقوله: (صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) [التوبة:127]. ¶ إذن فهكذا كان حال الناس عند إنزال القرآن وهكذا أسلوب إنزاله في كل آن، إنه يتنزل سورا والنبي يدعو الناس لإبلاغهم ما نزل وعليهم يقرأ، فإذا فرغ من التلاوة انفض الاجتماع وقد ترك أثرين مختلفين: أثر من النور والإيمان للمؤمنين، وأثر من الكفر والخسران للمنافقين. بل إن منهم من ينفض قبل أن تقضى تلاوة السورة ويتسلل بأشنع صورة، فإذا هم فعلا أولوا قلوب مصروفة عن الحق مختوم عليها بختم النفاق، وبهذا كانوا واستمروا قوم لا يفقهون، إن المنافقين هم الفاسقون. وبهذا تدرك أن القرآن يسجل الحالة بأدق صورة، وتوقن أن القرآن كان يتنزل سورة سورة، ويجمع إليه كل حاضر من المؤمنين ليستمع جديد التنزيل ليزداد إيمانا ويستنير له السبيل. ¶ وإذا كان نزول القرآن سورا أمرا معهودا للمنافقين كما عرفنا من الآيات فإنه كذلك، أو معهود للمؤمنين. وها هو يتضح جليا في حديثهم فيما بينهم وفي معرض تمنياتهم اليومية، فنجدهم يرجون من الله ما يزيدهم ثباتا، فلنسمع حديثهم كما يحكيه الله: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم) [محمد:20].أليس في حديث المؤمنين الذي ينقله إلينا رب العالمين ما يؤكد لنا أن القرآن كان يتنزل سورا؟ وأن هذا أمر معهود للنبي وللمؤمنين، بل ولكل المعاصرين للوحي وللنبوة من المنافقين والكافرين؟ إنه أمر عهدوه من الله وعليه عودهم الله فهم لا يتحدثون إلا عن سور تتنزل، ولا يرجون إلا سورا توحى وترتل، ولا يحذر المنافقون إلا سورة تكشف ما في قلوبهم. إذن فالأمر واضح بين الجميع، والقضية معهودة لدى المعرض والسميع، ولدى المنافق والمطيع. ¶ هذا وللعلم فإن السورتين التي أخذنا منها الآيات الدالة على دعوانا هما سورة التوبة وسورة محمد، وهما سورتان مدنيتان، والمدينة هي التي بدأ فيها التشريع والأحكام التي تخص العلاقات بين الناس وتنظيم الحياة على أقوى الأساس. وهذا حال يدعو إلى التساؤلات وإلى إيضاح مختلف القضايا والحالات من خلال إنزال عدد بسيط من الآيات تخص قضية معينة أو بعض التساؤلات ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل إنه رغم ذلك الداعي إلى إنزال آيات ظل القرآن يتنزل سورا تحيط بكل القضايا بدون انتظار لما يحدث من أحوال وبدون انفعال بما يتجدد من الأفعال أو ما يتردد من سؤال. ¶ كيف لا والله يعلم كل حال؟ وفعل وسؤال، ويدري بما نخفي وما نعلن من الأعمال، وما ننطق به أو نكتمه من الأقوال، فلا يحتاج إلى من ينبهه إلى الإنزال، ولا هو محتاج ما يدعوه لإيضاح أمر أو إشكال، هو هو المحيط بكل شيء علما، والحفيظ على كل شيء والأحسن حكما، وبهذه الصفات والأسماء الحسنى، أنزل القرآن المبين، الذي هو ذكر للعالمين، فيه بيان لكل شيء، وبه يسعد كل حي. فكل سورة تحمل إلى الناس علما شاملا، وبيانا كاملا، وتجيب من كان سائلا، وتوضح السبيل لمن كان عاملا، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء. (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) ¶ وبعد: ألم يتقرر لديكم أيها القراء أن القرآن كان يتنزل سورا؟. بلى، فإن أردتم أن نزيد الموضوع يقينا ونورا، فلنقرأ ما ورد في سورة يونس: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [يونس:37]). فهو منزل من رب العالمين الذي لا يخفى عليه منا شيء أينما نكون، فهو المنزل القرآن المبين، وهو خير الحاكمين، فكيف يرتاب المفسدون؟ (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [يونس:38])لقد أكد هنا أن الافتراء محال، ورد على المفترين بأوضح المقال، فقال: (فأتوا بسورة مثله) لقد أكد أن الإنزال إنما هو سور كاملة ولذلك فهو يتحداهم أن يأتوا بسورة مثله كاملة البيان بلا إيهام، واضحة البداية والختام، تسرد الأحداث والأحكام، بإتقان وإحكام، بلا اختلاف ولا تقصير، ولا خفاء ولا اضطراب مثير، كلا لا يمكن أن يكون ذلك الكمال إلا من الله العليم الخبير. ولهذا فإن الله يفتتح سورة هود بهذا الافتتاح المثير المنير: (الر .. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [هود:1]). فهو كتاب منزل بإحكام، مفصل السور بالتمام واهتمام، وهو يتنزل بآيات متعددة لا بآية واحدة، وكيف لا وهو (من لدن حكيم خبير)، فهو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الحكمة والكمال، وهو الخبير الذي يعلم ما يحتاج الخلق قبل السؤال. فكيف يحتاج إلى من ينبهه إلى ما يقال؟ كلا إن هذا هو الخبال، الذي لا يليق بذي الجلال، ولهذا كأنه يفند المكذبين ويندد بالمفترين، ويعرض أقوالهم المرتابة بأسلوب مهين، فيقول: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [هود:13]). إن المدعين على النبي أنه افترى القرآن، مدعوون للإتيان بمثله ، بعشر سور مثله في الكمال والجمال والإحكام، وبالتفصيل والتبيين الذي يزيل الإبهام، هل تستطيعون؟ ؟ كلا لا يقدرون حتى ولو دعوا كل أنصارهم من الخلق وافتروا جميعا على الحق، إنهم غير قادرين، فهم لا يستجيبون. وكيف يستجيبون وهم عاجزون؟ ولهذا فإن القرآن هو الحق الذي أنزله الله، وهو الله الحق بالحق، وهو يقول الحق، ويهدي إلى الحق، فمن ذا الذي يستطيع أن يتسجيب لأن يقول مثل قول الله الحق؟ لم يستجب أحد، ولا أحد نطق، ولهذا قال الله مخاطبا كل مؤمن في كل زمان: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:14]). ¶ وهكذا يتأكد أن القرآن نزل سورا، وأن المعهود لدى الجميع أنه يتنزل من الله سورا مرتلة، ، لا كلمات منفصلة، كلا فالله الحكيم الخبير هو الذي أنزله. والآن وقد اتضح الدليل القطعي الذي يدل دلالة مطابقة على ما أردناه فإن لنا دليلا آخرا يدل دلالة ضمنية على ما أوردناه، ذلك هو قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه) [القيامة:19].أربع آيات تدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك لسانه بالقرآن عند تنزله، لعله يحفظ ما يتلى عليه، ولعله يستجمع ما يلقى عليه.إن في هذا دليلا على أن القرآن كان يتنزل سورا عليه فهو يحاول أن يلحق التلاوة بتحريك لسانه، أما لو كان يتنزل آيات معدودة أو آية واحدة لما احتاج إلى هذا العناء والمكابدة، ولما دعاه الله إلى هذا السلوك وأرشده؛ لأن المعروف أن الآيات أو الآية تحفظ بسرعة ولا تحتاج إلى متابعة ومسارعة، ولقد عهدنا العرب في زمن النبي وفي قبله يحفظون القصائد الكاملة والمقاطع والأبيات المتعددة بلا عسر، ويروونها على الناس بيسر فكيف لا يحفظ النبي وهو العربي الفصيح اللسان، المتمرس بالبيان؟ فكيف بالفتى القرشي الذي فاق على الأقران؟ ¶ إذن فالقرآن كان يتنزل سورا كاملة، ولهذا كان النبي يحرك لسانه ليمسك بالآيات المتواصلة، ويجمع الفواصل المرتلة، فنهاه ربه عن هذه المحاولة وطمأنه بأن ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، سيتولى جمع القرآن في قلب رسوله المكرم وسيقرن بين آياته في قلبه حتى تستقر السورة وتطبع فيه بقدرة ربه، (إن علينا جمعه وقرآنه) عليه وحده الجمع والقرن بين الآيات التي تكون السور، فإذا انتهت تلاوة السورة، وقرنت الآية بالآية، وأصبحت كاملة وبلغت النهاية، فما على النبي إلا أن يتبع هذا القرآن الذي قرنه الله في قلبه بإتقان (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) وهكذا لا ينتهي النبي من غمرة الوحي حتى تكون السورة قد حلت في قلبه كاملة الآيات، محفوظة الجمل والكلمات، مرسومة الحروف والشكلات، واضحة الدلالات. فما عليه إلا اتباع ما أملي، وإلا تبليغ ما ملي، بشكل مبين جلي. وكيف لا والله يعطف على ذلك بثم للدلالة على علو مرتبة ما يليها من الشأن، فيقول: (ثم إن علينا بيانه). نعم إن على الله وحده البيان لمحمد ولمن استمع القرآن، فإذا هو نور يتلألأ للقلوب، وإذا هو ينير أولي الألباب. وإذن فإن الحقيقة تشع من آيات سورة القيامة بأوضح الدلالة، وتعلن أن القرآن كان ينزل سورا كاملة. ولقد تأكد هذا في سورة طه، حيث يقول الله: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) [طه: 113]. فهو عربي مبين، وهو متنوع التصريف والتلوين، ليكون هاديا للمتقين، وعلما للمتذكرين، ولا يمكن أن يكون القرآن هكذا إلا إذا تنزل بما يبين، وهذا لا يتم إلا بسور كاملة تحتوي على البيان الكامل، وتفصح عن الكلام الحافل، بكامل البيان، وشامل العرفان، أما أن يقطع إلى آيات متباعدة، أو يمزق التنزيل على آية واحدة، فهذا لا يليق بأصحاب البيان، ولا يتفق مع أساليبه المتعاهدة. ¶ فكيف نسلم لشاعر جاهلي أنه لا يمكن أن يمزق القصيدة ولا يفرق أبياتها؛ لأن هذا أمر معيب عليه، ثم نلصق هذا العيب بالله وندعي أن القرآن تنزل ممزقا من لديه ، إن القول بأن القرآن تنزل ممزق الآيات والفواصل متباعد البيان مقطع الكلام غير متواصل، إن هذا لا يليق بالله الكامل. ولهذا فإنه يعلن تعاليه عن هذا الواهم الغافل فيقول عقب الآية السابقة: (فتعالى الله الملك الحق). نعم إنه يتعالى عن الخلق، فهو العالم الحق والملك الحق، فلا يمكن أن ينزل القرآن إلا بما هو أليق، ولا يمكن أن يمزق. ولهذا يكمل الآية فيقول: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) [طه:114].إنه تكرير للنهي الموجه الجانبي وتحديد للوحي بأنه قرآن متكامل البنيان، متتابع الفواصل، يتنزل سورا كاملة تتلى من البداية إلى النهاية بشكل متواصل. ¶ وإذن فعلى الرسول أن يتلقى القرآن الذي يملى غير عجول وعليه الإقبال على القرآن وأن يصغي باستسلام حتى يقضى ما يتلى عليه وأن يسأل الاستزادة من علم الله الوسيع، ويستنير به وينير كل من تلقاه بقلب سميع ففيه البيان والعلم للمتقين ولن يكون في القرآن علما من علم رب العالمين، إلا إذا كان منزلا سورا تبين. فلننزه القرآن من أن يكون عضين، وليتنزه الله من أن ينزل ما لا يستبين، سبحان الله عما يصفون. ¶ وبعد: فإذا أردتم أن نستدل على ما ذهبنا إليه بطريق آخر، فلنعد إلى نفس السور فإن نصوصها تفصح عن الدليل بنور يبهر . إنه نور يسطع، ومن سورة النور يطلع النور، فلتقرأنها من أولها لتستنير: بسم الله الرحمن الرحيم (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) أسمعتم الخبير؟ إن الله نور السماوات والأرض يعلن الخبر فيقول: (سورة أنزلناها وفرضناها)، فهل بعد هذا البيان من عالم الغيب والشهادة تقولون أن القرآن مقطع الإنزال على آية آية؟؟ كلا إن النص يعلن أن القرآن أنزل سورا فيها الآيات بنور الله متكاملة البيان، من البداية حتى النهاية. ¶ فالسورة تبدأ ولا يتوقف تدفقها حتى تنتهي، وهكذا كان يتلقاها النبي من الرحمن فنجد أن ما يتلى عليه قط طبع في قلبه بشكل لا يقبل النسيان. ثم لنقرأ قوله تعالى بعد ذلك: (وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). وهذا هو الحق فالبيان لا يأتي في كل حال، من كلام مقطع الأوصال بلا اتصال، بل بآيات تتواصل بلا انفصال، حتى تفي بالغرض الذي يريده ذو الجلال. كما أن التذكر لا يتوفر بكلام مقطع مبتور، بل بكلام متواصل الألفاظ والمعاني يليق بالله العليم القدير. ¶ وبعد: فلعل سورة النور قد أنارت لنا الطريق بأقوى دليل، وقطعت كل قول في أسلوب التنزيل، وكيف لا وهو من الله العظيم الجليل؟! ولهذا؛ فلأنه يصف نفسه في السورة (الله نور السماوات والأرض)؛ فهل في النور انقطاع؟؟ كلا بل هو متصل يملأ الأصقاع. ثم إن الله يصف نوره بقوله: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) [النور:35]. إن النور متكامل شامل، ولكل ذرة في الوجود واصل، وكل الخلق من منهله ناهل. وهو من القوة والوضوح، بحيث يصل الأعماق قبل السطوح، ويتخلخل في الباطن قبل الظاهر، وينير الأبصار والبصائر، ويضيء العزير قبل البصير، ويبهج العيون ويشرح الصدور، إنه باختصار كما يقول الله: (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ). ومشيئته تبع علمه، فمن علم الله أنه مؤمن متذكر، وأنه مسبح مستغفر، هداه إلى نوره، وجعله من عباده المهتدين الناعمين بخيره. ومن علم الله أنه أعمى مستكبر، مستغن عن ربه مستنفر، صرف عنه الهدى والنور وجعله في (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها). إنه منقطع عن الله نور السماوات والأرض، بعيد عن ربه مشغول بالقرض، فكيف يصله النور؟! وهو في الضلال مغمور، وكيف يجعل الله له سبيلا إلى النور؟! كلا: لقد علم الله أنه نافر كفور، فلم يجعل له نصيبا من عطاء ربه الغزير، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)، وأنى يكون له نور وقد انفصل عن نور السماوات والأرض. ¶ وهكذا فإن الله العليم، يهدي إلى نوره القلب السليم، ويصرفه عن الكفور الأثيم، (ويضرب الله الأمثال للناس). فلقد ضرب لنا المثل على نوره، وأعلمنا أنه يصل إلى كل شيء وإلى كل ذرة، بصورة واضحة منيرة. وهكذا جاء القرآن واضح النور، ساطع الضوء يشرح الصدور، ويبدد الديجور، وينير سبيل كل المستجيبين لله العليم القدير، وأنه بالاستجابة لجدير، والطاعة والاتباع لهداه خير كثير. إن العلم كله له، والهدى هداه، ومن اهتدى بسوى الله تاه. ولهذا يختم الآية بقوله: (والله بكل شيء عليم). ومن هذا شأنه وهذه صفته فهو الهادي إلى الصراط المستقيم، وهداه هو الهدى وعلمه هو العلم الذي به الحياة تصلح وتستقيم، ويسعد به كل قلب سليم، وكل سمع وسامع كريم. ¶ وبعد: أليس الآيات تنزل كاملة متوالية في كل سورة من البداية حتى النهاية بلا انقطاع؟؟ بلى بلى هذا هو الحق بلا نزاع. ولأجل هذا جاء من الله التأكيد على أن السورة هذه آيات متوالية حتى النهاية، فقال في الآية 34 منها: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين)، وكرر هذا التأكيد في الآية 46 منها فقال: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). فهل الهدى إلى صراط مستقيم يتم بآيات مقطعة الإنزال؟، وهل البيان في الكلام العام يتم بكلمات مقطعة الأوصال؟، فكيف بكلام الله العلام!! ¶ وهل التقطع إلا لغو لا ترضاه الأفهام ولا يليق بالعقول؟، فكيف ترضاه لربنا الجليل؟، إنه الحق والحق يقول: (فتعالى الله) عن القول الغامض العي، وقد لقب الآيات في كل شيء، وكان القرآن هو قمة البيان الذي يعجز كل ناطق حي، فلتكن على يقين بأنه تنزل سورا كاملة لها بداية ولها نهاية تحيط بموضوعها، وتفصح عن أغراضها، بما لا يدع مجالا للغواية، وبما يزيد الناس علما ودراية، ويهديهم إلى أسمى غاية.وبعد فإن سورة النور قد أنارت لنا السبيل، وقطعت كل قول بأقوى دليل، وبالنص الذي لا يحمل التأويل. ¶ هل تريدون المزيد من الأدلة؟، على أن السور كانت تتنزل كاملة؟.لنقرأ بعضها فإن البعض يدل على الكل ويكشف عن الصور، وينسف كل ارتياب، ويسترشد به أولوا الألباب. لنبدأ من البقرة، فإن الدلالة فيها واضحة مقررة. ولنقرأ: (الم(1)ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2)الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3)والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون(4)أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:1-5].ماذا أفادت الآيات؟. أفادت أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بما أنزل على محمد وبما أنزل على الأنبياء من قبله. وإذن فهم لهم صفات خاصة، منها الإيمان بكل ما أنزل، ولكل من أرسل. أليس هذا هو بعض ما تقرر هنا؟.بلى. ¶ انتقلوا إلى آخر السورة تجدوا آخرها يتصل بأولها، ومنتهاها يؤكد مبتدأها، وأن الموضوع متصل الآيات، متتابع الدلالات، لا ينفصل ولا يتمزق، ولكن يتوالى ويوثق. ولنقرأ الختام، ففيه القول الفصل الذي يقطع كل الأوهام: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) [البقرة:286].ألم يؤكد هنا ما أثبته هناك؟، ألم يعلن هنا ما أعلنه هناك؟. بلى. ¶ وها هم المؤمنون يتبعون الرسول في الإيمان بما أنزل الله، وها هم كلهم يؤمنون بالله وملائكته "إنه الإيمان بالغيب"، وهي صفة هامة كما كانت هناك هي الصفة الهامة الأولى من صفات المتقين. ثم مع الإيمان بالله وملائكته كأنهم يؤمنون بكتب الله ورسله إيمانا بالتساوي مع الإيمان بالرسول الخاتم، لا فرق بين أحد من الرسل سواء تأخر أو تقدم. وبعد الإخبار من الله بأن الرسول آمن والمؤمنون آمنوا بذلك، ها هم يعلنون بلسان واحد الاستماع لما أنزل الله والطاعة (وقالوا سمعنا وأطعنا)، وإذا كان هذا هو شأنهم وهذا هو سبيلهم، فماذا يريدون به؟.إنهم يريدون المغفرة من ربهم لا سوى، فإن هذا هو المطلب الهام والأثير، لدى المؤمنين بالحق المنير. وكيف لا يطلبون هذا المطلب من ربهم العليم القدير؟، وهو الذي إليه وحده المصير (وإليك المصير)، فهو محاسبهم على العمل الصغير والكبير، فهو لا يخفى عليه شيء ولو تضمير، وهو العليم بذات الصدور، فالمصير إليه خطير، إذا لم يكن بالإيمان بالله ورسله هو الشفيع للعبد الصغير، وهو النور في لقاء ربه الكبير. وهكذا يكون هؤلاء هم الذين يهديهم كما وصفهم الله في الآيات الأولى بقوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:5]. ¶ إذن فالموضوع واحد، والبداية والختام تنطلق من غرض واحد، وعلى الإيمان تؤكد، وللطريق الحق تحدد، وهو تكليف لا يصعب على المؤمن الموحد؛ لأنه تكليف من الله الذي يدعو إلى دار السلام، ويعلم قدرة العباد في كل المهام، فلا يكلف إلا بما يستطيعه الإنسان، في كل زمان وفي كل مكان. ولهذا قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة:286].وهي حقيقة لا تشك فيها ولا ترتاب؛ لأنه قول الله الغفور الوهاب (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ومع أن المؤمنين يعلمون هذه الحقيقة فإنهم يتوجهون إلى ربهم داعين مستعيين، ولمولاهم خاشعين مستسلمين، فيقولون: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة:286].وهكذا تنتهي السورة بهذا الدعاء العميق الذي يعلن فيه المؤمنون عجزهم عن الوفاء إلا بعون ربهم، ويرجون فيه أن يجنبهم ما وقع فيه المنافقون بكذبهم، ولا ما وقع فيه أهل الكتاب من قبل من عدم التمسك بكتاب ربهم.ثم وأخيرا يعلن المؤمنون أن الله ربهم ومولاهم وبالتالي فإنه المدعو بنصرهم على القوم الكافرون، وإنه لدعاء يعيدنا إلى بدايات السورة التي وصفت المؤمنين مع هؤلاء الأنواع من الناس بالتفصيل، فالكافرون لا يؤمنون، فقلوبهم عليها وعلى أسماعهم ختم وأبصارهم عليها غشاوة، فهم معادون للإيمان بصورة واضحة بلا غشاوة، أما المنافقون من أهل الكتاب ومن الأعراب فهم موصوفون بصفات الكذب والخداع، والادعاء الذي يدعو إلى الاقتناع، ولكنه ادعاء يكذبه الله ويفضح، وعن طواياهم يكشف ويفصح، فإذا هم يشترون الضلالة بالهدى فهو شراء لا يربح، وهم في ظلمات من كل اتجاه تحيط بهم، وهم صم بكم عمي في دينهم، فلا يرجعون إلى الصواب، ولا يسلكون مع أولي الألباب. بل يستمرون في طريق الهلاك والتباب، ويتمسكون بالارتياب، لكن الله بهم عليم خبير، ولو شاء لذهب بكل مداركهم فهو على كل شيء قدير، وإذن فإن الناس مدعوون إلى طريق الخير والسلام، والارتفاع إلى أعلا مقام، إنهم مدعوون إلى قوله تعالى: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].فعبادة الله الخالق هي ميثاق الخلق للإنسان، وهي مهمته في كل زمان ومكان، وبالعبادة يرتقي إلى التقوى التي تجعله في مصاف عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا. ¶ ولكن كيف يهتدي إلى هذا المقام؟. إن السبيل إلى ذلك هو ما أنزله الله على عبده من الكتاب والإيمان بما فيه بلا ارتياب، فذلك مرتقى أولي الألباب، وإلا فإن النار للكافرين المآب، وهكذا تكون الآيات من البداية إلى النهاية، فالسورة تدور حول هذا الموضوع الهام، الذي يرفع الإنسان إلى أعلى مقام، ولهذا كانت السورة حافلة بمختلف آيات الأحكام، لتنظيم حياة الناس على أحسن نظام، ولتدلهم على الطريق الحق المبين، الذي يدخلهم في اسلم كافة في الدنيا ويوم الدين، ويوصلهم إلى الفوز برضوان رب العالمين، فهل بعد هذا يقال أن السورة نزلت مقطعة الأوصال؟، موزعة الآيات بلا اتصال؟. كلا: بل السورة نزلت كاملة وبأحكام مفصلة متصلة، وآيات متواصلة. وكيف لا والله علام الغيوب يعلم ما كان وما يكون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو معنا أينما كنا، ولهذا فهو في السورة يسأل الناس سؤال استعجاب، ليؤكد غفلة الناس عن ربهم واتخاذهم من دونه الأرباب، فيقول: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) [البقرة:28].فالأرض هو سخرها وهو لنا عليها سبر، وهو الذي للأمر دبر، ولكل خلق هدى وقدر، وللأرزاق بسط وقدر، وإليه الخلق كله يضطر، وهو يجيب المضطر، بل ويعلم سؤال كل مخلوق قبل السؤال، فيأتيه الرزق في كل حال، من ربه ذي الجلال، فهو المحيط بكل شيء علما، وهو الذي يصورنا في الأرحام كيف يشاء.وبهذه الصفات العظيمة لله العليم، تنزل القرآن الحكيم، وتوالت أحكام السورة بتواصل مستقيم، بلا تفريق ولا تقسيم. ¶ فمن ذا يستبعد ذلك على الله!! وهو الذي يصف نفسه بقوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) [البقرة:255].هكذا هو الله ذو العلم والقدرة، فلتقدره حق قدره، ولنوقن أن القرآن تنزل بالأسلوب الذي يليق بمن أنزل، وأن سوره كانت كاملة تنزل. ولنعد إلى سورة البقرة لنستوضح هذه الحقيقة المقررة ولنبدأ من أول السورة: إن الله يأمر الناس في الآية 21 بقوله: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].إن هنا يبدأ سؤال وهو: هل يمكن أن يأمر الله الناس أن يعبدوا ربهم دون أن يوضح لهم كيف يعبدون؟ وماذا يعملون حتى يكونوا من المتقين؟. كلا وحاشا. إذن: فإن السورة قد بينت وأوضحت، وبالأحكام والشعائر والمعاملات حفلت، ولقد توالت فيها الآيات بأسلوب جميل منير، يستسغي ويشرح الصدور، ويصلح ويزكي الناس مدى الدهور، ويحدد لهم معالم السلام في المسير. ¶ ولو أردنا أن نستعرض ما ورد في السورة من الأحكام والواجبات، وشعائر الدين والمعاملات الدنيوية لطال المقال، ولكنا سنشير إليها باقتضاب، ونتلمس تواصلها بدون إسهاب، ولنبدأ من حيث الأمر بالعبادة، فلقد أعقب الأمر للناس بعابدة ربهم، استبعاد أن يكون ما أنزل الله على عبده يواجه بارتيابهم، فإذا أصروا على الارتياب فليأتوا بسورة من مثل القرآن، فيها الوضوح والبيان، إنهم لا يستطيعون، فهم إذن لن يفعلوا، وإذن فإن عليهم أن يكونوا بالقرآن مؤمنين، وإلا فليتقوا النار التي أعدت للكافرين، كما أن الجنة أعدت للمؤمنين، وتتواصل الآيات حتى تنتهي بالآية 29 التي سبقت هنا والتي تذكرنا بأنه خلق لنا الأرض والسماوات، وهنا كان من المناسب أن يذكرنا ببداية الإنسان على الأرض، ولنعرف أن الإنسان طارئ عليها مخلوق لغرض، فكانت آيات الخليفة وحوارها مع الملائكة، ثم آيات أمرهم بالسجود لآدم وامتثالهم للأمر في حين استكبر إبليس وكفر فإذا هو يعلن نفسه عدوا لآدم من البداية وسيظل معه حتى النهاية يغوي ويضل ويردي ويزل، ولقد كانت البداية في الجنة الأولى التي أبيح لآدم فيها أن يأكل رغدا ولما زل خرج من الجنة وهبط من مقام الحياة الآمنة إلى مستقر الحياة المؤقتة إلى حين المقدرة المتاع للبشر أجمعين فلهم فيها الحياة والموت وهم فيها بعضهم لبعض عدو مدى الزمان، وهم في خوف وأحزان، ولا ينجو من هذا إلا من اتقى وعمل صالحا بإيمان، ولا يكون هذا إلا بهدى من الله الذي كتب على نفسه أن يرسل الرسل وينزل البيان، (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة :38-39]. ¶ وهكذا بدأت المسيرة وجاء الهدى وجاءت الرسل بالبينات المنيرة ولهذا كان من المناسب أن ترد الآيات التي تذكر بني إسرائيل بعهودهم مع الله وتدعوهم إلى الإيمان بما أنزل الله على محمد عبد الله وهو مصدق لما مهعم وجاءهم مع موسى وعيسى من عند الله، وتذكرهم بالرجوع إلى الله ، ولعل في هذا إنذارا لنا لنكون على وفاء مع الله وتقوى وإلا كنا مثل بني إسرائيل، ألم يكن الله قد فضلهم على العالمين بحمل رسالة الدين، وها هو الله يحملنا حمل القرآن للعالمين، فلنكن في حمله جادين ومجاهدين، وفي إبلاغه مخلصين، وفي العمل به صادقين، لنكون من الصالحين، وإلا كنا مع الذين غضب الله عليهم وكانوا من الخاسرين، وحلت بهم لعنة اللاعنين، فلنحذر ولنعمل صالحا ولنف بالعهد ليكون عملنا مفلحا، ولتضح لنا التحذير والنذير توالت آيات بني إسرائيل حتى تصل إىل الآية (150) من السورة. وكلها تفصح عناد بني إسرائيل مع المرسلين وتكذيبهم بالآيات والارتياب في الدين، واللجاج في كل حجاج، وتحريف الآيات النازلة عليهم وكتابة الكتاب بأيديهم بما يتفق مع هواهم وادعائهم بأن هذا كتاب ربهم، واتباعهم الشياطين في تعلم السحر ونسبة ذلك إلى سليمان، ثم تعلمهم ما يتفرق به الزوجان، واستمرارهم في اتباع ما يضر الإنسان ولا يرضي الله الرحمن، فكانوا بذلك مستحقين الذلة والغضب والهوان، والعذاب في الدنيا ويم الدين، وخلودهم في لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومع ذلك فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ويفترون على الله أن الجنة لهم محدودة، وأن الدخول لهم دون الناس، وأنهم أولياء لله دون الناس، لكن الله يكذبهم ويدفع زورهم، ويدفعهم بأن ملتهم هي أهوائهم، ويفند دعواهم أنهم أتباع إبراهيم ، ويؤكد أن إبراهيم ليس يهوديا ولا نصرانيا ولكنه إمام المسلمين وأنه لم يكن من المشركين، وكلهم يكابرون وهم يعلمون، أو هم لا يعلمون؛ لأنهم يجهلون ما عندهم من الكتاب المبين، بل لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، وهكذا يؤكد الله أن المسلمين هم المتبعون لكل المرسلين والمؤمنون بما أنزله الله عليهم أجمعين، وأن من لم يؤمن بذلك فإنه كافر أثيم، ولا ينفعه أنه من نسل إبراهيم، فالأنساب لا تنفع ولا ترفع ولكن المهتدي هو من آمن واتبع، وإذن فلكل إنسان مع عمل وعليه يسأل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة:141].وهكذا تبين الآيات بأن بني إسرائيل عاطلون من العلم رغم الادعاء ، بعيدون عن الهدى ، ضالون عن سبيل الأنبياء، متبعون للهوى. وبهذا حرفوا الكتاب ولا يزالون منه في ارتياب، ولهم الذلة والعذاب. ¶ فهل بعد هذا يسير المؤمنون بالقرآن، على هذا الأسلوب المهان؟! لا بد لمن يقرأ القرآن ويؤمن بما فيه أن يتبع هدى الله ولا يرتاب فيه وأن يجاهده في الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وينفق في سبيل الله ليكون على الطريق الحق سائر، وعلى هدى من الله مستنير البصاير. وعلى هذا الأساس بدأت الآيات تتوالى بالأحكام والواجبات، وتوضح سبيل الله الحق في الشعائر والمعاملات، وتضع المعالم الواضحة للأعمال الصالحات، وتعد من استقام برحمة الله وبالنصر والثبات، ثم بالنعيم والجنات، وذلك هو الفوز العظيم، الذي يعمل له العاملون، وعلى هذا الأمل الحق الجميل، والوعد الصادق من الله الجليل.. [اقرأ الآيات من 105 إلى 140]. ¶ إن حملة الدين من المسلمين هم أمة الأنبياء والمرسلين، والإسلام دين الله الحق، الذي يدين به كل الخلق، ولقد خسر من عنه فسق، فليسر المسلمون عليه في ثبات، وها هي الطريق واضحة المعالم بالأحكام والآيات، المنظمة للعلاقات أحسن نظام، الهادية إلى السلام. ولذلك بدأت الأحكام تتوالى وتتلألأ على الطريق، فإذا بالقبلة التي ارتضاها الله تحدد، ويرضاها الرسول محمد، ومن اتبع محمد، وما هذه القبلة إلا المسجد الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وهما يدعوان الله بأن يستقيما على الإسلام، وأن تكون ذريتهما ومن اتبعهما على الإسلام، وأن يبعث فيهم رسولا يعلمهم ويخرجهم من الظلام، وإذن فهي القبلة التي توحد الاتجاه، وتلم الشمل إلى الله، وهي التي تتجه إليها الصلاة من كل اتجاه، ولا يشذ عنها إلا الغواه، لا حجة له إلا اتباع هواه، ولهذا يؤكد الله على هذا الاتجاه الذي ارتضاه فقال للمرة الثالثة: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) [البقرة:150]. ¶ فالقبلة هذه إتمام للنعمة واتباع هدى الله هو الهدى الذي به تتم النعمة، وكيف لا وهي وجهة يعلم الله أنها الحق، والجدير بها هو الدين الحق، ومن به آمن وصدق؟؟وكما أنعم الله على الناس بالدين أنعم عليهم بالقبلة التي توحد وجهة الموحدين ولتأكيد هذا فإن الله يسوي بينها وبين إرسال الرسول فيقول: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة:151].وهكذا يتواصل التعليم والتزكية وتأتي الآيات للمؤمنين بعلم من الله لم يكونوا به يعلمون من قبل هذه، وما العلم إلا هذه الأحكام والواجبات التي تتواصل في الآيات حتى نهاية السورة. ¶ وكما توحدت القبلة والاتجاه في الصلاة فإنه لا بد أن تتوحد الوجهة في الحياة لتكون كلها صلاة ويكون للناس إمام يؤمهم إلى النجاة، إنه لهو الرسول والكتاب، فالرسول هو الباب والكتاب، والرسول هو الطريق السليم والنور والصواب، السائر إلى غير المآب، فليبادر إلى بيانه أولوا الألباب، وإلا كانوا سائرين إلى العذاب، كما يقول الله منزلا للكتاب: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون*إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) [البقرة:159-160].ولكي يبين العلماء الكتاب للناس فلا بد من معرفة الله حق معرفته وتقديره حق قدره فلا يجعلون له شريكا في ملكه ولا في حكمه فهو الإله الحق والرب الذي خلق: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم) [البقرة:163].ولتأكيد هذه الحقيقة فإن الذين يعقلون يتفكرون في خلق الله رب العالمين وتدبيره لكل المخلوقين: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) [البقرة:164]. ¶ وإذا كان الله هو الخالق المدبر والمصرف لكل شيء والمسير والهادي والمقدر والممسك والمسخر فإنه هو الرب الذي لا يشاركه أحد في تدبيره وعلمه، وهو الذي يحب ويعبد ويجاب ويحمد ويهاب ويقصد، فمن ادعى أنه ند لله أو اتخذ له ندا فقد ضل وفي العذاب تردى، وعلى هذا الأساس فإن على الناس أن لا يتبعوا المضلين، وليكونوا في الأرض مهتدين بهدى الله، آكلين مما سخره حلالا طيبا، حامدين شاكرين ما أعطاه، ولا يتبعوا الشيطان فإنه العدو المبين، الداعي إلى الفحشاء والطغيان، والجهل بما أنزل الرحمن، وذلك هو الخسران، الذي يجعل الإنسان أضل من الحيوان. ¶ وأمام هذه الدعوة للناس فإن على المؤمنين العابدين لله أن يعرفوا الحرام والحلال، وها هو البيان يأتيهم من ذي الجلال، (ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون* إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:172-173].وعلى هذا الطريق الواضح فليمض موكب العلم والإيمان، ويهتدى بهدى الرحمن، ولا يكتم ما أنزله الله من البيان، فإن فعل المؤمنون ذلك واشتروا متاع الدنيا والسلطان، فإن الذي اشتروه إنما هو النار والخسران، لقد علموا بالحق فآثروا الباطل والبوار، فما أصبرهم على النار، (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) [البقرة:176]. ¶ إن ورود الكتاب هنا بالألف واللام يدل على أنها للعهد فالمراد ذلك الكتاب الذي بدأت به السورة، إذن فالآيات متواصلة يلي بعضها بعضا حتى النهاية، وهكذا تستمر الآيات من هنا متوالية، فتبدأ أولا بالآية 177 والتي تجمل ما ينفصل بعدها من الأحكام وتوجز ما يأتي بعدها من المهام، فإذا هي تشير إلى أهم منابع البر عند الله العلام. يقول الله : (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب). ليس الدين بالمظاهر الفارغة والشعارات الجوفاء وليس الاتجاه إلى جهة معينة هو التقوى، فالله هو المقصود لا سوى، ولهذا يواصل بيان البر بقوله: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إن الإيمان بهذه هو البداية ولكن يجب أن تجسد بأعمال صادقة صالحة النية ولهذا قال الحق: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [البقرة:177]. وهكذا تجمل الآية أهم الأحكام والواجبات والمهمات الصالحات، المنطلقة من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبوات، وبهذا تصبح مسيرة المؤمن متصلة بميسر المرسلين فالأنبياء هم أمة المؤمن والله هو رب الجميع وهم له عابدون، والصالحات من الأعمال هي سمة الجميع، فهم أمة واحدة والله ربهم وهم له تقاة هم الصادقون. ¶ وبهذه الروح المؤمنة والعزيمة الموقنة والقلوب الذاكرة لله وبه مطمئنة، تمضي المسيرة إلى حياة السلام والأمن في الدنيا وإلى رحمة الله ثم الجنة من خلال الأحكام والواجبات، والفروض والمهمات، التي تجملها وتبينها ما يلي من الآيات حتى آخر السورة المختومة بتلك الدعوات المعروفات، التي يلهج بها كل مؤمن في كل الحالات، إنها الآية التي تختم بقوله تعالى: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).إنها الآية الأخيرة من السورة [286]، إن هذا هو نتاج الأعمال، ومرتجى النساء والرجال، فالعفو والمغفرة والرحمة، هي الغاية الهامة، والمطمح الأسمى لكل مؤمن ومؤمنة، وعلى هذا الأمل، والمطمح الأجل، تتوالى آيات الأحكام والعمل بعد الآية [177] السابقة، فإذا بنا أمام آيات الديات في القتلى (ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب) ثم آيات الوصية للوالدين والأقربين، والإصلاح بين الخائفين من الجانفين، ثم تبدأ آيات الصيام وأحكامه، وصفة الصيام وأيامه، ورخصة الإفطار في المرض والسفر والوفاء بالقضاء والتزامه، وبيان شأن ليل الصيام وقيامه، والعكوف في المساجد وحرامه، ثم بيان أحكام التعامل في الأموال، وتحريم أكلها بالباطل في كل حال، وتحريم استخدامها في كل أموال الناس، فذلك من أسوأ الأعمال، ثم عودة إلى بيان البر من جديد باقتضاب، والأمر بإتيان البيوت من الأبواب، وفي كل ذلك تكون التقوى هي الغاية لأولي الألباب، وقد عرفنا في أول السورة أن التقوى هي الصفة التي يتصف بها من يهتدون بهذا الكتاب، وتستمر هذه الصفة مع ما يلي الأحكام حتى في القتال التي تأتي أحكامه هنا بصفة تجعل المؤمن ينتصر لله لا لنفسه ويقاتل لرد العدوان لا للانتقام ولإقامة الدين لا لاقتناء المغانم والأموال بل إن المال ينفقه المؤمن المحسن في سبيل الله، فإن لم ينفق فقد ألقى بماله إلى التهلكه وبلا ثمن لأنه أنفقه بغير وجه الله: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [البقرة:195].وهل هناك أسمى للمؤمن من أن ينال بالمال حب الله ذي الجلال، إن ذلك أروع المطامح والآمال، إن الله هو الباقي وكل شيء هالك، وإليه الرجوع وهو ليوم الدين المالك. ومن أهم سبل الإنفاق الحج فهو جهاد بالمال والنفس والجهد بالإقبال من كل فج، ولهذا تأتي هنا آيات الحج والتقوى هي السمة لكل من فرض الحج، والمتبقي هو (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ).وأما من لم يذكر الله وأراد الدنيا فإنه جيفة عفنة تفسد في الأرض، إنه خاسر المعاد، فالله لا يحب الفساد، ولكنه مع ذلك يحب من يشري نفسه بمرضاته فالله رؤوف بالعباد، وبهذا الحب والرأفة للعباد فإن الله يدعوهم إلى السلام. (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). ثم ينذرهم باقتراب الساعة فما ذا ينتظرون بعد البيات إلا أن تأتيهم المذهلات يوم لا ينفع مال ولا بنون (وإلى الله ترجع الأمور) [البقرة:210]. ¶ وتتواصل الآيات منذرة ضاربة الأمثال لمن سبق، مؤكدة أن هدى الله هو الحق، وأن الجنة لمن صبر وصدق، ولم ينهزم ولم يرتب، بل صمد حتى جاء نصر الله (إن نصر الله قريب) [البقرة:214].ثم تعود الآيات لبيان الأحكام فتبين نوع ومجال الإنفاق، ثم تعود مرة أخرى إلى القتال، وتؤكد أنه مكتوب على المؤمنين وهو كره لهم ولكن الله يعلم ما لا يعلمون، فليقاتلوا وليثبتوا على الدين ومن يرتد عن دينه (فإنهم في النار خالدون) فالكفر والكفار مستمرون على قتال المؤمنين حتى يردوهم عن الدين، فكيف لا يجاهدون ولرحمة الله راجين، ولكي يكون المؤمن صابرا مجاهدا فلا بد أن يتطهر من بعض الآثام والعادات التي بها يردى، ولهذا بين الله أن الخمر والميسر إثم كبير، ثم أكد أن الإنفاق في سبيل الله خير من الإنفاق في الشهوات والآثام، وأن حماية الأيتام من أجل المهام وإصلاحهم من أصول الإسلام، فليكن مال المؤمن في الصرف والإنفاق طاهرا، وليكن في كل حياته مجاهدا صابرا، ومثلما يلزم التطهر في المال فإنه واجب في النكاح والاتصال والتزاوج بين النساء والرجال، فالمشركات والمشركون يدعون إلى النار، وزواجهم لا يليق بالمؤمنين الأطهار، وإن العبيد من المؤمنين والمؤمنات خير من الأحرار، وكما يكون من الشرك طاهرا فإن الاتصال الحلال يجب أن يكون ظاهرا، ولهذا فاعتزال النساء في المحيض طهر يحبه الله، وإتيان النساء للحرث واجب فرضه الله، أما إتيانها للشهوة فإنه عبث لا يرضاه الله. وهنا تعرض الآيات للإيمان في كل الأمور، ولليمين في الزواج، فتبينه الآيات بوضوح، وعلى إثر الإيلاء من الأزواج تأتي آيات الطلاق بين الأزواج موضحة أحكامه وتفاصيله بلا اعوجاج مبينة كل أحواله بما لا يدع مجالا للجاج، ثم وقد ينفصل الزوجان بسبب غير الطلاق وهو الوفاة فحكم ذلك مفصل واضح مبين لكل احتمال. ¶ حتى ينتهي أخيرا بإعادة الوصية بالرفق بالمطلقات والإحسان إليهن بلا إعنات فيقول: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) إنه حق على المتقين وهم الذين هذا الكتاب هدى لهم، فإنه تذكير لهم بأول السورة ليستمروا على طاعة الله والإيمان بما أنزله من الحق ويبقى حكم الله هو المرجع في أي عمل مهما دق والاعتماد عليه هو لمن شاء أن يسبق، ولتأكيد هذا نأتي إلى قصة طالوت الذي بعثه الله ملكا لبني إسرائيل فإذا هو لم يثبت معه إلا الذين يظنون أنهم ملاقوا الله فكان الله معهم وهزموا جالوت رغم قلتهم (والله مع الصابرين)، وهنا تعود السورة لتذكرنا بالآيات وبالرسول والكتاب (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) إن هذا تذكير بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا..) الخ الآية، فالموضوع متصل متواصل والآيات تترى بلا فاصل. بلى إن الله يذكرنا بأن الرسل متواصلة الإرسال متتالية الآجال على مختلف الأجيال وكل له شأن وله آية وعليه فإن المسيرة واحدة مهما تباعدت العصور والأزمان. ¶ وتعود الآيات إلى الإنفاق وينادي الله المؤمنين أن يغتنموا الفرصة قبل أن يكونوا ظالمين، فالله هو الرزاق وهم مستخلفون، (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة:254].إن عدم الإنفاق كفر وظلم للنفس مبين، وإن عدم الإنفاق يعني عدم اليقين برب العالمين، ولهذا كان من المناسب أن تأتي هنا آية الكرسي بما فيها من وصف لله العلي العظيم، ثم يعقبها التأكيد على أن الدين اختيار لا إكراه، ومن اختار الطاغوت وهي الدنيا كان في ضلال وظلمات، ثم النار مصيره والمبات، لأنه نسي الله الباقي الذي يحيي ويميت وكل شيء سواه فاني، ولذلك يؤكد هذه الحقيقة في حكاية الذي أماته الله مائة عام فأيقن بعد بعثه أن الله على كل شيء قدير، ثم حكاية إبراهيم عن إحياء الموتى حتى علم أن الله عزيز حكيم، وعلى حرارة هذا الإيمان وصدق هذا اليقين تعود الآيات إلى وصف الإنفاق والمنفقين في سبيل الله، وهي غير الإنفاق في مجال الصدقة التي سبقت. إن هذه الآيات تتناول موضوع الإنفاق الذي يشغل الأيدي العاملة وينقذ المساكين والفقراء من الحاجة والمسكن ، فالإنفاق ينمو ويتضاعف والمجتمع يسعد وبرحمة الله يحف، فمثلهم (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وهذا أقل صورة المضاعفة بل إن الله يضاعف لمن يشاء بحسب نيته وصدقه، والله واسع عليم، فلا يخفى عليه شيء ولا يظلم المنفق أي شيء بل يضاعف ويفي وله أضعاف ما أنفق في الدنيا والأخرى، فهو كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين أما المنافق الذي يمن ويؤذي فإنه كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا، وتستمر الأمثال للمتق المحسن والمنافق الذي يمن حتى تصل الآيات إلى قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة:274]. ¶ من هو الذي ينفق بالليل والنهار وسرا وعلانية؟. إنما هو الذي ينفق أمواله في سبيل الله فيقيم المشاريع الصناعية والزراعية والعلاجية والتعليمية يفيد الناس ويبيع لهم بأسعار مناسبة وبأرباح غير مبالغة، وهو يقدم لهم السلعة الجيدة والمتقنة الزكية والنقية من كل غش أو نقصان أو سوء ومع ذلك فهو يشغل الأيدي العاملة وينصفهم في الأجور ويرعاهم في كل حال ولا يمن عليهم ولا يكلفهم بما لا يجوز من الأعمال ولا يطلب منهم منافع تخرج عن نطاق المهمات، وتتجاوز نصوص العقد والاختصاصات، كالتصويت في الانتخابات، أو الشهادة له زورا في الخصومات، كلا فهو يتعامل معهم كمتعاقدين يفي لهم ويفون له في حدود ما تعاقدوا عليه كل في مجال عمله، بلا مجاملة ولا مماطلة فلا يأكل من خلالهم أموالا باطلة ولا يحملهم ما لا يطيقون احتماله، إنهم في أمن معه وسرور وهو معهم سعيد مجبور، وربحه موفور، وحقه وحقهم مضمون وهدفهم جميعا (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ¶ ولتأكيد هذا المعنى الذي أوضحته لكم والذي توضحه الآيات وبه تحكم؛ تأتي الآيات التي تصور النقيض من هذا المسلك وتصف الطريق المهلك، وهي آيات الربا فإذا بها تعلن (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وإن آكل الربا لا ينمو حتى ينتكس كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكيف لا والله يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) فآكل الربا مكروه وفاعل الصدقات محبوب، وشتان ما بين الاثنين فذلك كفار أثيم، وهذا مؤمن بالله العظيم، ولهذا فإن الله يؤذن آكلي الربا بحرب من الله ورسوله، وينصحهم بالتوبة بل بالتيسير بل بالعفو عن المعسر، واحتساب ذلك صدقة تنفعه حين لا ينفع مال ولا بنون، ولهذا يختم الآيات بقوله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [البقرة:281].وهنا تنتهي آيات الأموال المتبادلة، والأموال التي تنفق لتشغيل الأيدي العاملة، لتبدأ آيات تنظيم الدنيا بين الناس وتنظيم التجارة التي تدار بين الناس حاضرة، فتؤكد أن الشهادة لازمة والكتابة واجبة، وأن الشهود والكتاب محروسون من الضرر والتخويف المهين فإن فعل المؤمنون ذلك فإنه فسق عن الدين وعن هدى الله الذي علمهم والله بكل شيء عليم. فليحذر المؤمنون من الانحراف عن الحق والانجراف للهوى وليتقوا الله وليتبعوا الهدى، والله يعلم السر وأخفى، وكيف لا وهو يقول: (لله ما في السماوات وما في الأرض) فله تدبير كل شيء وحي، والناس أهم شيء، فهل يتركهم الله القادر؟ كل بل هو يخص الأعمال والخواطر. (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) [البقرة:284].وإذن فالإيمان بالله وبما أنزل هو السبيل الآمن للمؤمن الذي يذكر الله فيوجل. ¶ وبهذا فإن الله يعلن أن هذا هو شأن الرسول، وشأن من اتبعه وآمن معه، وعلى سبيل الله استمر فيها يعمل ويقول. إنها الآيات التي تؤكد البدايات، وتعلن أن السورة متواصلة الأحكام متتالية الآيات، بلا انفصام، لأنها من الله العالم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [البقرة:285]. لقد سمعوا الكتاب والأحكام وأعلنوا الطاعة والالتزام، وطلبوا الغفران من ربهم الغفور، وكيف لا وإليه المصير وهو العليم بهم والبصير، بل هو اللطيف الخبير؛ لأنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ورغم ذلك فإنهم يواصلون الدعاء ويعلنون الافتقار إلى الله لأنه المولى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة: 286].إن هذا هو غاية الأمل لمن اتقى ولمن بهذا الكتاب اهتدى، وهذا هو أسمى المطمح لمن آمن بالله مع الرسول واستقام على نفس السبيل، وهذا هو المآب الذي يتطلع إليه أولوا الألباب فالله مولاهم في الدارين وهو الناصر في الدنيا ويوم الدين إنه الله رب العالمين. ¶ وبعد: هل اتضح بعد هذا العرض الطويل والبيان الكامل عن أسلوب التنزيل؟ هل اتضح لكم أن القرآن تنزل سورا وأن كل سورة كانت تتلى على الرسول كاملة، وأن آياتها متواصلة بلا انقطاع، وأن البيان فيها كامل الشعاع، لعل ذلك قد اتضح، وعن المراد أفصح، لقد حاولت الإيضاح بقدر الإمكان، ولقد أطلت مع أن الإطالة مملولة لدى أهل البيان. لكني إن أطلت في البقرة، فسوف تكون الأمثلة في بقية السور مختصرة، لقد أردت هنا أن أضع الأنموذج الأمثل، ليكون نبراسا لما يتلوه، وليكون دليلا لما يقفوه. ¶ عسى أن ننال جميعا بذلك العلم بأسلوب تنزيل القرآن، ونكون على بينة من الأمر وبرهان، فإن ذلك شأن الباحث في كل زمان ومكان، فهو يميل للإتقان وينجذب للإحسان، ويجب أن يفيد الإنسان، ويفوز برخاء ربه الرحمن، وبقبول ما يعمله مهما كثر أو هان، وأن قبول القليل هو الفوز بالكثير، وأن الكثير المحيط هو البوار المبير، فنقول كما قال إبراهيم: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).
هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الثاني
والآن هل آخذكم إلى آل عمران- لنعرف كيف تنزل القران- أم نتجاوزها،، لعل آل عمران والنساء لها ما للبقرة سواء بسواء، أما المائدة فقد قيل أنها آخر ما أنزل، وقد نزلت كاملة، وكذلك الأنعام فقد روي أنها نزلت ومعها سبعون ألف ملك وأن الرسول استقبلها كاملة وتلاها على الناس مرتلة متواصلة، ومثلها قيل عن الأعراف، أما الأنفال والتوبة فحكاية إنزالها معروفة، فالأولى أعقبت معركة بدر الكبرى، والثانية نزلت عقب تبوك ثم أرسل النبي علي ابن أبي طالب ليقرأها على الناس في الحج كاملة.
وإذا كان لا بد من قول يقال في هذه السور، ليتضح الأمر ويظهر، تعالوا معي إلى سورة آل عمران، ولنقرأ بدايتها: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران:1-4].ألا تلاحظون أن الله الحي القيوم هو الذي أنزل الكتاب، ولكي يؤكد القيومية قال: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء(5)هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم(6)) [آل عمران: 5-6].ثم تتوالى الآيات متحدثة عن القرآن فإذا الناس أمامه فريقان: أولهما: هم الذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه منه. وثانيهما: الراسخون في العلم الذين (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) وهؤلاء هم العقلاء المتذكرون (وما يذكر إلا أولوا الألباب) [آل عمران: 7].ولهذا فهم يدعون ربهم مستعيذين به من الزيغ، (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) [آل عمران: 8].لأنهم يعلمون أن الله محيط بكل شيء علما، وأنه لا يخفى عليه شيء وأن تنزيل القرآن بعلمه الذي يحيط بالماضي والآتي وبالظاهر والخفي فإنهم يقولون: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: 9].
وهكذا ندرك أن السورة تبدأ بالحديث عن القرآن وتؤكد أنه أنزل من الله الحي القيوم، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأنه هو الذي يصور في الأرحام كل حي، وعليه فإن من كفر به من أهل الكتاب الذين عندهم التوراة والإنجيل هم أصحاب العذاب وانتقام الله منهم وبيل. وبعد ظهور هذه الحقيقة عن التنزيل للقرآن مصدقا لما قبله، تعالوا ننتقل إلى آخر السورة لنجد الحديث متصل الملفات، متواصل الآيات. فإذا الله المنزل يستثني من أهل الكتاب الذين كفروا بآيات الله فريقا مؤمنا بها، وكأن الآيات في السورة متواصلة بغير انقطاع من أولها إلى آخرها، فاستمعوا وعوا: (من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) [آل عمران:199].ثم تختم السورة بالنداء للمؤمنين أولي الألباب الداعين ربهم أن لا يزغ قلوبهم أمام هذا الكتاب، فإذا النداء يؤكد ما بدأ فيقول: (ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 200].وما الصبر والمصابرة إلا على الإيمان بالكتاب والآيات المنيرة، وما المرابطة إلا الثبات على الفهم والفقه للآيات بقلوب مطمئنة، وما التقوى إلا العمل بما أنزل الله واليقين بالآخرة ، وهي الحقيقة التي أعلنوها في البداية (إن الله لا يخلف الميعاد) وهكذا فإن الفلاح هو مصير المصابرين المرابطين المتقين من العباد.
وبعد: أليس آخر السورة يؤكد بدايتها ويصل أولها بآخرها؟. وبعد: فإذا كانت السورة كما تعرف قد نزلت بعد معركة أحد فتعالوا معي نقرأ الآيات ونتدبر لنعرف أن السورة مترابطة الآيات وأن أولها متصل بما تأخر منها وأن ما عرضته السورة عن المعركة قد لاحت إليه الإشارات من أوائل الآيات، يقول الله: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار) [آل عمران:10].ثم يقول ليؤكد أن الكلام موصول: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب(11)قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد(12)) [آل عمران: 11-12] .بل ويزيد الموضوع وضوحا، والحدث عبرة واتعاضا، فيقول: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) [آل عمران: 13]. إنه إشارة إلى ما حدث في بدر قبل أحد وإنه لوعيد بأن ما جرى من التأبيد سيستمر من الله للمؤمنين ما داموا على طريقه الرشيد. أليس في هذه الآيات من أول السورة ما يؤكد أن الآيات الأولى متصلة بالمتأخرة، ولهذا أعاد الله الآية العاشرة هنا ولكن بصيغة تختلف قليلا عن الأولى فقال: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [آل عمران: 116].
وكما بدأت السورة بالحديث عن القرآن وما قبله من الكتاب فإن الحديث عنه والتذكير به يتواصل في سياق الآيات المتواصل فإذا الله يقول للنبي ومن معه في أواسط السورة ليؤكد أن الآيات متواصلة غير مبتورة، فاستمعوا ما يقول: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) [آل عمران: 84].ثم يعيد التأكيد على الموضوع ليزيدنا يقينا أن مسلسل الآيات غير مقطوع، فإذا آخر السورة نسخ بقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) [آل عمران: 187].
إنها تذكير بما سبق من قوله تعالى في البداية: (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد).فأهل الكتاب هم المقصودون والمسلمون يجب أن يحذروا هذا الخسران المبين وأن لا يدعوا الإيمان وهم كاذبون، ولهذا يقول الله عن أهل الكتاب محذرا للمؤمنين بالكتاب: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) [آل عمران: 188]. وهكذا ينطلق المؤمنون أولوا الألباب متفكرين مسبحين مكثرين الاستعاذة بالله من النار، معلنين إيمانهم بما أنزل الله والاستغفار: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار(193)ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد(194)) [آل عمران: 193-194].أليس في هذا اتصال بما بدأته السورة وهو: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) [آل عمران: 7].(ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: 9].أليس هذا يدل أن الاتصال واضح كالشمس؟، وأن تواصل الآيات في الموضوع بين بلا لبس؟؟ هذه مجرد إشارات سريعة عن آل عمران، ولو استعرضنا تواصل الآيات في السور الطوال، لطال الوقوف، ولكن يكفي أن أقول أن القاري يستطيع أن يدرك ذلك بالسليقة وبالنظر المستبصر المتأني، لاسيما إذا كان خالي الذهن من المسلمات القديمة، وغير ها من الأقاويل التي لا تعتمد على حقائق قويمة، وإن كان لا بد من مرجع أدله عليه؛ فليقرأ مقدمات السور في كتاب العلامة سيد قطب المسمى (في ظلال القرآن) فإن فيه الشفاء والبرهان.
وعلى أي حال فإن هذه الإحالة لا تعني ترك القارئ الآن قبل الأوان، ولكني أدعوه معي إلى سور الثلث الثاني من القرآن. لنبدأ من الجزء الحادي عشر، وسنجد فيه وما يليه أهم السور: (يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر). ولنستأنس للدخول إلى هذه السور بسورة يونس: سنجد أن السورة تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم(1)) .ثم قوله: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين(2)).أولى الآيتين تشير إلى أن السورة فيها آيات الكتاب الحكيم فهي كتاب متكامل، إذن فالسورة آيات والكتاب حكيم، ولا يمكن أن يكون هناك كتاب إلا بآيات مرتبة الكتائب، منظمة بشكل صائب، متتابعة بأسلوب رصين. بهذا يصح أن يسمى كتابا وأن يسمى الكتاب حكيما، وإلا فكيف تلوح الحكمة من فقرات بلا اتصال، هذا لا يليق بذي الجلال. ثم إن الآية الثانية تستنكر أن يعجب الناس من وحي الله إلى رجل منهم لينذرهم ويبشرهم؛ وكيف لا وهو ربهم الذي خلق وقدر، واستمر يدبر الأمر!!فهو يعلم كل شيء ولا شفيع لديه فيما يدبر، إذن فالعجب العجاب ممن لا يتذكر. لا أحتاج هنا أن أورد على القارئ الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من الآيات التي تؤكد علمه بكل شيء في الأرض والسماوات، فالقارئ يمكن أن يعود إليها ويتدبرها ليجد الله محيط بكل شيء علما، وأنه أحكم حكما. ولهذا فإني أدعو القارئ إلى آخر السورة ليتأكد أن أول الآيات ينظر إلى الأخيرة، وأن آخرها يرتبط بأولها بطريقة منيرة. لنقرأ الختام، فإنه يشير إلى البداية بإحكام: (قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل(108)). أليس في هذا ما بيين لنا أن البداية تفتقر إلى النهاية والنهاية تؤكد البداية، ثم استعيدوا معي قوله تعالى في البداية: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس)، ثم قول الناس: (إن هذا لساحر مبين) ثم اقرأوا معي قوله تعالى في آخر السورة أو في الآية الأخيرة: (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين(109)). أليس في هذا ردا على قولهم "إن هذا لساحر مبين" ثم على قولهم افتراء في وسط السورة؟؟بل إنه تثبيت للرسول الذي يتهم بالافتراء على الله، بل إن وسط السورة عدد من الآيات تدل على تواصل الآيات بلا انقطاع، ونكتفي منها بالآيتين 37 و38 من السورة، التي يقول الله فيهما: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين(37)). (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(38)). وهكذا يتواصل الحديث عن القرآن والرسول حتى الآية 44، التي تذكرنا أن السورة متواصلة الموضوع، وأن الحديث غير مقطوع، بل إن الجزء قبل الأخير من السورة يشير إلى أن الحديث موصول الآيات، كاتصال الرسول بربه منزل الآيات، وكتواصل الرسل السابقين واللاحقين والرسالات. يقول الله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين(94)). (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين(95)).
إذن فالحق قد جاء والشك في تواصل الآيات يجب أن يلغى، والخسران والعذاب عاقبة من ادعى أن القرآن مفترى، وهو مصير من جادل وافترى. أليس في هذا ما يؤكد لكم بأن السورة بدأت آياتها ثم تواصلت حتى النهاية، وأن موضوعها متتابع البيان بحكمة ودراية، تليق برب العالمين العليم بكل بداية ونهاية، والذي خلق كل شيء لغاية، فهو الحق الذي يقول الحق، وقوله يتواصل حتى الكمال، كما يتواصل الخلق حتى الاكتمال. فهذا هو اللائق بالله ذي الجلال والإكرام، وهو الجدير بالحكيم العلام، وبهذه الحكمة وبهذه الخبرة، أنزل ما يلي هذه السورة، وهي سورة هود، لنقرأ البداية ثم نتأمل النهاية: يقول الله: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير(1)).فهوالحكيم الخبير الذي أنزل هذا الكتاب المنير، وهو على كل شيء قدير، ولتأكيد هذه الصفات ولتأكيد تواصل الإنزال والآيات؛ يقول في الآية 12 مخاطبا الرسول الذي أوحي إليه التنزيل: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل(12)). إن من هو على كل شيء وكيل، لا بد أن يواصل آيات السور في التنزيل، حتى يكتمل البيان فيها والأحكام والتفصيل، ولكي تكون على يقين أن السور تنزل كاملة، لتقرأ الآية التالية، فإن فيها الدليل المبين: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(13)فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون(14)).
وأنا أقول لكم أيها القراء: هل أنتم مسلمون الآن أن السور كانت تنزل كاملة الآيات والبيان؟.ها هو الله يتحدى الكاذبين المتهمين للرسول بالافتراء فتحداهم بعشر سور لا بعشر آيات، أليس في هذا ما يؤكد أن السور كانت تتواصل من البداية حتى النهاية؟؟ بلى بلى. وكيف لا وقد تنزل بعلم الله!! وعلم الله محيط بكل شيء وهو لا سواه الإله. بل إن الله سبحانه يذكرنا في هذه السورة، ويورد التذكير بصورة منيرة، فبينما هو يقص علينا قصة نوح إذا به يقطع الحديث عن نوح ويعود إلى القرآن متحدثا بجملة وآية معترضة ومنها التحدي يلوح، فيقول معيدا لنفس السؤال القبيح: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون(35)).فالمجرمون هم المدعون أن النبي افترى، أما هو فقد بلغ ما ربه إليه أوحى، نعم لقد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح من قبله، ولهذا تأتي الآية التالية عائدة إلى نوح، توكد على الوحي الذي لا مراء فيه ولا امتراء، فيقول: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون(36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون(37)). فإذا كان الله قد أوحى إلى نوح كيف يصنع، واستمر الوحي بأعين الله حتى اكتمل العمل بلا انقطاع، فكيف لا يوحي إلى محمد كيف يقول !! وكيف لا يتواصل التنزيل وتتوالى الآيات بتنزيل وتفصيل أليس هو الحكيم الخبير!!أليس هو الذي أحكم الآيات ثم فصلها للإنذار والتبشير!! أليس هو على كل شيء قدير؟؟بلى. وعلى هذا استمرت السورة تقص وحي الله للرسل ونصرة لمن آمن وشكر، وتدمير من كذب وكفر، حتى تصل إلى قوله تعالى في أواخر السورة: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد(100)). إنه إجمال لما فصل، وتذكير بأن الله يعلم الماضي والمستقبل، وتتواصل الآيات إلى الآية رقم (120) وفيها يقول الله الأجل: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين). إن كلمة (هذه) في الآية تؤكد أن السورة تواصلت آياتها حتى وصلت إلى هذه الآية وما يليها. وما هو الذي يليها أيها الكرام؟ إنه ثلاث آيات فقط ويحين الختام، فاقرأوا باهتمام، وكونوا من أولي الأفهام، يقول الملك العلام: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون(121)). هكذا يكون الاطمئنان بالله الحكيم، الذي إليه المرجع وهو بكل خلق عليم. ولهذا فإنه يختم السورة بصفات تؤكد الصفات التي بدأت بها، فهو الحكيم الخبير في البداية، أما في النهاية فهو كما يقول: (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون(123)). أليست هذه الآية تتصل بقوله تعالى في البداية (من لدن حكيم خبير)، ثم قوله: (إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير(4))، أليست الذي يصف نفسه بقوله: (وما ربك بغافل عما تعملون) هنا، هو الذي يتطابق مع وصفه هناك بقوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور(5)). أليس من له غيب السماوات والأرض هنا هو الذي يوصف بقوله هناك: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين(6)). أليس الذي قال (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) هناك هو الذي يحكي هنا (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين(120)).
أخيرا: أليس ما أوردته لكم في هذه السورة يوضح البيان ويفصح عن كمال الصورة؟؟أليس الحكيم الخبير هو الذي بالبيان والحكمة جدير؟، وهو الذي ومنه تتواصل الآيات، حتى يكتمل التفصيل ويشع التنزيل؟.بلى بلى ، إن هذا هو الحق الذي لا يختلف عليه أحد، ولا يماري فيه إلا من للفهم افتقد، وعلى الخرافات والأساطير اعتمد، وعن البحث والمعرفة قعد، حتى اختل فهمه وفسد.
ومن سورة هود نقفز بكم سريعا إلى يوسف الذي تبدأ سورته بالسجود، ولست بحاجة إلى تأكيد تواصل آياتها وترابط أحداثها، من بدايتها حتى نهايتها، فذلك معروف لمن قرأها بإتقان، وتدبرها بإمعان، ولا يشك في ذلك إلا خاسر الرهان. فها هي تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب المبين(1)إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(2))، ويأتي في أواخرها قوله تعالى عن القرآن: (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين(104))، فالضمير هنا في آخر السورة يعود إلى القرآن المذكور في أولها، أليس هذا يدل على تواصل الآيات وترابطها؟. ثم إن الله يقول في آيات البداية: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين(3)). ثم تبدأ القصة بقوله تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين(4)).
ويأتي في الختام ما يشير إلى البداية بكل وضوح، فيقول عن يوسف: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء)، ثم إن هذا الآية تختم بقوله تعالى: (إنه هو العليم الحكيم(100))، وهو نفس ما ختمت الآية رقم (6) في أولها، وأبوه يبشره برؤياه ويقول (إن ربك عليم حكيم)، ثم ها هي الآية رقم 7 تقول في أول السورة: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين(7))، ثم تأتي الآية رقم 102 في آخر السورة فتقول (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون(102))، فتؤكد لنا أن السورة أنزلت كاملة من البداية حتى النهاية بل إنها ختمت بآية تدل على أن قصص الأنبياء جميعا تأتي كاملة مفصلة، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون(111)).
أما سورة الرعد فهي كلها عن القرآن من أولها إلى آخرها وهي كلها تؤكد رسالة محمد وتعلن أن (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1)). ثم تأتي الآيات التي تؤكد أن الإنزال من الله فإذا بها تورد عددا من صفات الله وقدرته وحكمته ورحمته وأن الحق في دعوته فمن دعاه أجاب، (له دعوة الحق (14)) ثم (قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار(16)) وعلى هذا فمن استجاب لله فاز بالحسنى، ومن لم يستجب فله لظى، كيف لا والمستجيب عنده العلم الحق، والمكذب أعمى في ظلام مطبق. (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب(19)). ثم تأتي الآيات التي تصف العليم بالحق المنزل حتى تصل إلى قوله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب(28))، وتستمر الآيات تؤكد أن الرسول أرسل ليتلو هذا الكتاب وأن هذا الكتاب منزل ممن (هو قائم على كل نفس بما كسبت (33))وأن هذا الكتاب المنزل حكما عربيا هو الحق الذي لا ينكره إلا ذو الغواية، فلماذا يطلب الناس سواه آية، كلا فلا آية إلا بإذن الله، وما على الرسول إلا البلاغ، فإذا بلغ فقد ثبتت الحجة لله على الناس وأصبح المكذب مستحقا للعذاب في الوقت المناسب فالله عنده (لكل أجل كتاب)، وهكذا تستمر السورة متحدثة عن القرآن حتى تختم بقوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب(43)). لقد بدأت السورة بقوله : تلك آيات الكتاب، وانتهت بكلمة الكتاب، فهل بعد هذا يكون في نزولها كاملة ارتياب؟. وكذلك سواها من السور الصغار والكبار كلها تتنزل كاملة بلا انبتار، قل لي أيها القارئ، ما معنى (رتل) بسكون الباء، وأرتال؟ إنه يعني مجموعة من الناس متراتلين متواصلين سائرين جميعا، وهكذا هو القرآن (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا)، أي أن الله يجمع الآيات أرتالا فتكون مجموعة في سورة كاملة.
وعلى أي حال فإن كل سورة نزلت كاملة مجموعة، ولكن السورة تنزلت منجمة المواعيد، فلقد كان تنجل السور والسورة زمن يطول أو يقصر بحسب مشيئة الله، وما على الرسول إلا أن يستقبل متى شاء الله بدون سبب ولا داع لما يتلقاه سوى إرادة الله الذي أراد أن ينزل هذا القرآن على قلبه ليبلغه للناس مرتلا متتابع الجرعات فلا يمل ولا يكل ولا يثقل، بل يجعل الناس عليه تقبل، (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا). فهو مفروق السور المتباعدة المتعددة، متواصل آيات السورة الواحدة،
وعلى هذا تفهم السورة التي تلي سورة الرعد تلك هي سورة إبراهيم، ها هي تبدأ بقوله: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد(1)). ثم يقص الله فيه قصة كل الرسل مع المكذبين، فإذا النصر فيها للمرسلين الذين يخافون الله ويبلغون رسالاته (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين(13)). وإذا (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد(18)). وإذا القيادات الضالة المضلة تتخلى عن الأتباع في يوم الحسرة، ولكن الجميع ما لهم من محيص، كما أن الشيطان يزيدهم حسرة ويعلن أن الحق من ربهم هو الذي جاءت به رسهلم، فكيف استجابوا ما يعده به عدوهم، فهو اليوم يؤمهم، وبهذا يتضح أن الرسل واتباعهم وما أنزله الله عليهم، هم الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين، وأن المكذبين هم الشجرة الخبيثة المخبثة ما لها من قرار، ولتأكيد هذا تأتي الآيات التي تؤكد أن دعوة إبراهيم لا تزال تؤتي أكلها كل حين في البلد الحرام، وأن أتباعه هم الباقون على الحق ونبذ الأصنام، ولهذا فهم عن إبراهيم وهم من دعى لهم بقوله (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء(40)ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب(41))، فالظالمون هم الخاسرون وهم يتمنون أن يمهلوا عند العذاب بقولهم: (ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل(44)). ولكن لا أمل ولا نجاة فلقد جاءهم البلاغ وجاءتهم الرسل فكانوا غافلين عن دعوة الله فلا بد من يوم مؤخر لينال فيه كل عبد جزاء ما قدم وأخر. (ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب(51))، فلنستعد لذلك اليوم، فلقد جاء النذير اليوم فلا لوم.وبعد: ألم تكن السورة معلنة في البداية أن الكتاب أنزل إلى الرسول ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ أليس في آياتها البلاغ والإنذار والتذكير؟ أليس الرسول محمد الخاتم وكل الرسل من قبله قد بلغوا ما أنزله الله؟ أليس كل الرسل قد أنذروا بأيام الله؟ إذن فمن كذب الرسل فلا بد أن يلقى جزاه: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام(47)). وكيف لا وقد جاء البلاغ!! (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب(52)). لقد اتضح في سورة إبراهيم أن البلاغ في السورة متواصل وأن السور كلها أنزلت بشكل متواصل.
ولتأكيد هذا أكثر فلنستمر في الدلائل، هيا معا إلى سورة الحجر إنها تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين(1)). إن البداية تشير إلى الآيات لا إلى الآية، مما يؤكد أن آيات السورة ستنزل كاملة متواصلة، ولهذا فإن السورة ختمت بقوله تعالى: (إن ربك هو الخلاق العليم(86)ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم(87))، ثم تقول للرسول: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين(94)إنا كفيناك المستهزئين(95)). إن هذه الآيات في الختام تنزل على ما سبق أول السورة (وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون(6)). ولكن الله يعلن علمه بما يقولون وعلمه بما يفعله الرسول من البلاغ المبين فليطمئن وليكن من المسبحين (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون(97)فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين(98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين(99)). لماذا، لأن الله يعلم ما يقولون، فهو المجازي لهم الجزاء الذي يستحقون، وهو يعلم ما يعمله الرسول فما عليه إلا الاستمرار على البلاغ المبين، وسيرى اليقين. أليس في هذا أيها القارئ العزيز قد أتاك اليقين بما أقوله لك منذ حين، أليس في هذه الدلائل ما يقنعك أن كل سورة نزلت آياتها بشكل متواصل، وهنا أتوقف في أواخر النصف الأول من القرآن، فلقد طال معه الوقوف وطال الاستدلال والبيان، ولعل القارئ قد أحس بالملل واكتفى بما تقدم من البرهان.
ولكني مع ذلك أرجوك أيها القارئ أن تواصل معي المسير المتأني، إلى السور التي في النصف الثاني. لن أطيل كما فعلت في الأول، ولكني سأوردها باختصار لا يبعث الملل، مع علمنا أن سورتي الإسراء والكهف كلاهما عن القرآن، وأن آياتهما متواصلة حول الموضوع بلا انقطاع حتى ختمت الأولى بقوله: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) [الإسراء:105 ].(قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) [الإسراء:107 ]. وجاء في البداية: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا(9)). بينما ذكر القرآن في السورة أكثر من مرة في الآيات 45 وما يليها والآية 73 و86 وما يليها إلى قوله (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل (89)).
وفي الكهف كانت البداية (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1)قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا(3)). ولنقرأ في منتصف السورة: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا(54))، ثم ختمت السورة بما تضمنته البداية: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا(110)). أليس في هذا تأكيد لقوله: (قيما لينذر بأسا شديدا)، و(أجرا حسنا) و(وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4))، التي وردت في البداية بلا إذن فالموضوع متصل من البداية حتى النهاية وهكذا في كل سورة فلنواصل المسير لنزيدكم دراية.
أما لو انتقلنا إلى النصف الثاني من القرآن فسنجد أن سورة الإسراء جاء فيها قوله تعالى في الآية رقم (9): (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا(9))، وجاء في آخرها قوله تعالى في الآيتين 105، 106: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا(105)وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا(106)). كما أن السورة لم تخل في أواسطها عن ذكر القرآن فيقول الله في الآية 45: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا(45)).ويقول في الآية رقم 79: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) والضمير للقرآن.وفي الآية: 88: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(88))، إلى آخر الآيات التي تليها حتى (100). أليس في هذا ما يؤكد أن السورة نزلت كاملة، وكذلك سواها من السور، فالموضوع متصل والفقرات متوالية يشد بعضها بعضا ،، كالإسراء أليس أنه تم متواصل الحلقات متتابع اللحظات، واضح الآيات، (لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير(1)). فكما رأى آيات السماء وآيات ربه خالق كل شيء وخالق الإنسان؛ فلا بد أن تكون كذلك آيات القرآن، فسبحان الذي أسرى بعبده سبحان، فآياته مبينة متوالية، سواء في السماوات والأرض كلها أو في كهف صغير منها، فلقد توالت الآيات في الكهف كما توالت سورة الكهف. ألم يكن للفتية فيه آية تلي آية، فالاعتزال ثم الإيواء ثم الضرب على الآذان ثم المنام ثم التقليب ثم الاستيقاظ ثم الإعثار عليهم ثم عودتهم إلى كهفهم كلها آيات (ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا(17- الكهف)).
وها هنا فلندخل سورة الكهف عسى أن نجد فيها ما يدعم الفكرة ويجعل القضية منيرة، ولنقرأ الآية رقم 1: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1))، ثم ما يليها حتى الآية 61. ثم نتجاوز قصة أصحاب الكهف التي تدعم أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، لنصل إلى قوله تعالى في الآية 27 من السورة، وعقب قصة أصحاب الكهف مباشرة: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا(27)). ثم تتوالى الآيات لتؤكد أن كلمات الله هي الباقية وأن لا ملجأ منه إلا إليه حتى نصل إلى قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا(54)). مع الآيات التي تليها كأنها متصلة بالموضوع حتى الآية 59. ثم تأتي قصة موسى مع عبد الله العلامة الذي أوتي علما ورحمة، ثم قصة ذي القرنين ،، وكلا القصتين تؤكد علم الله المحيط بما كان وما يكون والذي يوحي إلى عباده بالخير وبما به يسعدون ولكنهم للهوى يتبعون، فإذا هم أو أكثرهم من الذين يقال عنهم: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا(104))، هؤلاء هم الأخسرون أعمالا، لماذا هذا الضلال والخسران!! إن الله يوضح لنا البيان، إنه لسبب هذا القرآن: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا(105))، ما هو الجزاء؟، (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا(106)). إذن فالسورة كلها قرآن وموضوعها القرآن من البداية حتى النهاية. ألم تبدأ بالحمد لله على إنزال الكتاب؟، ألم يأت في أولها قوله تعالى مخاطبا للرسول: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا(6))، وإذن فإن المستهزئ بالآيات والمكذب له جهنم، والمستجيب له الجنة: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا(107)خالدين فيها لا يبغون عنها حولا(108)). وعليه: فإن الوحي هو الحياة وهو سبيل النجاة، وهو موضوع السورة، (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا(110)).
لعل صعودنا مع الإسراء وصحابه الكريم، وهبوطنا مع أصحاب الكهف والرقيم، قد زاد القضية وضوحا وبيانا "كيف كان ينزل الله القرآن". إن الآيات في الكتاب تدفع كل ارتياب، وتنفع أولي الألباب.ولهذا فأنا إلى المزيد من الآيات أدعوهم، وإلى سورة طه أواعدهم، ها هي تبدأ بالآيات 1و2و3: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)). ثم من أين الإنزال؟. ها هو الجواب: (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)). هل هذا الوصف يكفي لمنزل القرآن؟ إنه يكفي، ولكن قوله (على العرش استوى) ماذا يعني؟ إن الجواب بعد هذا يأتي: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)). فهو المدبر لكل الخلق، وهو العليم بكل سر وجهر، بل هو العليم بأخفى من السر، فإذن فالقرآن هو النور والعلم الذي لا يضل به من تذكر، ومن تذكر بالقرآن وله دعى، فلا بد أن يوحد الله ويخشى، وكيف لا وهو: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)). وهذا المنبع المنيع، والمقام الرفيع، والنور الوسيع، جاء به القرآن، وبهذا العلم الوسيع يقص علينا الله حديث موسى مع فرعون وهو حديث ذو علم عجيب، وفيه التفاصيل التي لا يعلمها إلا علام الغيوب.
فنجوى الناس في الغرف المغلقة، ترد لنا واضحة محققة، وخلجات القلوب الخافقة، نسمعها في الآيات منطلقة، ووسواس النفوس الفاسدة، نراه في القصة بصورة مجسدة. حتى إذا انتهى الحديث عن موسى واكتمل المراد، جاء الحديث عن القرآن وعاد، فإذا بنا نقرأ قول الله مخاطبا رسوله محمد وكل العباد: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا(99)من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا(100)). وتتواصل الآيات لتصل إلى الغاية من الحديث عن القرآن، فإذا بنا نقرأ: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا(113)فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما(114)). تأملوا: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أليس فيها كما سبق أن أكدنا في بداية هذا البحث ما يدل على أن السور كانت تنزل كاملة، وإلا فلماذا استعجل الرسول في تحريك لسانه بالقرآن، إذا كان المنزل عليه آية أو آيتان، (فتعالى الله الملك الحق) أن يكون الإنزال بهذا الأسلوب الذي لا يليق بالرحمن. وبعد: فيكفي هذا، ولنواصل المشوار مع الآيات لنصل إلى قوله تعالى عقب قصة آدم: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى(123))، ثم إن هذه الآية وما يليها من الآيات حتى 132 حديث موصول عن القرآن، وتأكيد على أنه الحق الذي أنزله الرحمن هدى للإنسان ، وسيسمع يوم الحساب ما لم يكن في الحسبان، إذا نسي القرآن: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126)). وهكذا تتوالى الآيات وتتلألا البينات حتى إذا السورة قاربت من الختام، نجد القرآن هو الهدف والمرام، وإذا بنا نقرأ: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى(134)).
إنه أمل محال وأماني تدل على الخبال، فلقد جاء القرآن تذكرة لمن يخشى، فليتذكرالإنسان من قبل أن يذل ويخزى، يومئذ يتذكر وأنى له الذكرى، لقد كذب واستهزأ، فهو بما قدم اليوم يجزى، فلقد قدم الله إليه الوعيد وإلى الحق دعى، فهو يجزيه بما وعى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فطوبى لمن وعى ، وعلى هدى الله سعى، ولعهد الله رعى، وتبا لمن كذب وعصى، وأدبر عن ربه وأقبل على الدنيا، وأعرض عن الهدى واتبع الهوى، إنه لنفسه في النار أردى، وما يغني عنه ماله إذا تردى، إن المكذب متربص مصدق للأماني، ولكنه غافل والله يعد له عدا. (قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) الآية الختام 135 من سورة طه. وما الصراط السوي إلا القرآن، وما الهدى إلا هدى الله الرحمن، ولقد قال لنا بكامل البيان (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى(123)ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى(124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا(125)قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126)).
وبعد فلعل سورة طه قد أضافت إلى الموضوع البيان الذي لا يضاها، فهل يكفي أم تريدون المزيد الذي يشفي. لن أدخل بكم في محراب الأنبياء وسورتهم، ولن آخذكم إلى محراب الحجاج من الناس وقبلتهم، ولن أشغل المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، ولن أعود بكم إلى سورة النور، التي تؤكد أن القرآن أنزل سورا من الله الخبير كما عرفنا قبل هذا. ولكني سأرقى بكم الى المقام المبارك، الذي ينفرد به الله ولا يشارك: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا(1)الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا(2)). إنها سورة الفرقان وإن فيها لنا مزيد من البرهان، ويكفي أن أدعوكم إلى المرور عليها مرور الكرام، فإن البركات ستفتح عليكم ما دمتم تمرون على الآيات بوعي واهتمام، وبإمعان أولي الأفهام، إن البركات ستنهال عليكم والسلام، وكيف لا وأنتم من عباد الرحمن (الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما(63)). لقد بدأت السورة بالفرقان، وانتصفت وهي تتحدث عن القرآن: (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا(30)). وقاربت الختام وهي تتلفت إلى القرآن: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا(57)). ثم ختمت بقوله: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما(77)). إن الفرقان يدعو الناس للإسلام لينالوا سلاما، وينذر الناس العذاب فإن كذبوا فسوف يكون لزاما. وهكذا فإن السورة بما بدأت تختم، وتكرس لموضوع واحد هو القرآن وبه تهتم، أليس في هذا ما يؤكد القضية ويدعم. قد استدعي شهود آخرين ليسو في مستوى الفرقان وعباد الرحمن، ولكن لهم عند الله شأن إذا كانوا من أهل الإيمان، أتدرون منهم أيها الأحباء؟. إنهم إخواننا الشعراء. قد تقولون: فماذا سنجد لديهم من الأدلة على ما تقول وهم يقولون ما لا يفعلون؟. أقول: نعم، ولكنهم قد ينفعون إذا كانوا لله ذاكرين، وهذا هو السبيل لكل الناس ليكون عند الله من المحسنين المقربين، فمهما كانت أعمالهم ومهنهم الدنيوية فأعمالهم هي التي تبرئهم عند رب البرية.
نعم الشعراء هم فئة هامة في المجتمع إذا كانوا مؤمنين بالله وله ذاكرين، وللحق منتصرين من الظالمين، وللفساد مقاومين، وللجهاد داعين، وإليه سائرين، ولهذا كانت السورة باسمهم؛ لأنهم عنصر في الأمة مهم، وصوف رفيع للدفاع عن أمتهم. إنهم يفصحون عن ضمير الأمة، ويقولون الحق في كل قضية ومهمة، ولهذا فإن السورة مفصحة عما نريده من الأدلة على أن سورة القرآن كانت تنزل كاملة. سورة الشعراء. إن السورة تبدأ بقوله تعالى: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)). ثم تخاطب النبي المبلغ للكتاب: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين(3)إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(4)). إذن فالآيات التي يريدها المكذبون تعني تلك الآيات التي جاء بها موسى وعيسى وصالح فكذب بها الأولون، لكن الله هنا يؤكد للنبي وللناس أجمعين أنه غير عاجز عن إنزال آية تخضع الرقاب، ولكنه يكتفي بهذه الآيات في هذا الكتاب، ولكنهم يعرضون عن العلم الذي يأتيهم من الرحمن؛ لأنهم متبعون للهوى الذي يقودهم إلى الخسران، فالاستهزاء عاقبة الهوان. ومع ذلك فهو الله يوجه الناس إلى التفكير في آيات الأرض البينات، التي تفصح عنها كل المخلوقات: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(8)).إن آيات الخلق تدل على الحق، وتدل على أن الله عليم بكل شيء، وغني عن كل شيء وحي، ولكنه يرسل الرسل وينزل الذكر رحمة بالناس، وهو الرب العزيز الغالب على أمره، والرحيم بالإنسان رغم كفره: (وإن ربك لهو العزيز الرحيم(68)). وبهذه الصفات لرب العالمين، أنزل هذا الذكر للعالمين، وبهذا العلم المحيط بالأولين والآخرين؛ بدأت السورة تقص قصص السابقين، وتتوالى الآيات من موسى، وآياته مع فرعون وإفكه، إلى شعيب مع أصحاب الأيكة، وكلهم كذب المرسلين، فكان الهلاك مصير الأولين والآخرين. (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(103)وإن ربك لهو العزيز الرحيم(104)). وحينما تنتهي الآيات من القصص المنيرة، تعود إلى ما بدأته السورة؛ وهو التأكيد على أن آيات الكتاب المبين، تنزيل من رب العالمين (نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)). إذن فمحمد من المنذرين، ومسبوق بغيره من المرسلين، وهذا القرآن هو الذي عند السابقين، (وإنه لفي زبر الأولين(196)). فالكتاب واحد، والدين واحد، والتنزيل من الله الواحد، ومنه نزل القرآن سورا متواصلة الآيات، بدليل هذه النهاية التي تتصل بالبدايات، وهكذا تتواصل الآيات حتى آخر السورة، وهي تتحدث عن القرآن، وتواصل التأكيد على أنه نزل بعلم الرحمن، وأنه العليم بكل ما يكون وما كان، وهو معنا في كل حال ومكان؛ ولهذا فإن التوكل عليه اطمئنان. (وتوكل على العزيز الرحيم(217)الذي يراك حين تقوم(218)وتقلبك في الساجدين (219)إنه هو السميع العليم(220)). ألم تكن شهادة الشعراء قوية الدلالة، بليغة الأداء، تزيد الموضوع سطوعا وجلاء؟؟بلى بلى،
ولكن النمل على الشهادة أقوى رغم عجمتها؛ فلقد كانت في واديها حارسة يقضة لأمتها، صادقة في كلمتها، فلنستشهد بها في القضية، ولنجعلها مع الناس مستوية، لنقرأ البداية في سورة النمل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1)) ثم قوله تعالى لرسوله: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم(6)). فالحكيم العليم هو الملقي، والرسول الأمين هو المتلقي، والذي يلقى هو آيات القرآن وكتاب مبين، وهكذا تبدأ السورة وبالحكمة والبيان تقص القصص السليمانية والسبائية، ثم تختم بقصة قوم صالح الفاسدين، الذين يخافون من الصالحين، وقوم لوط الملوثين، الذين يكرهون المتطهرين: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون(56)). وهنا تبدأ الآيات تثني على الله، الذي لا إله سواه، ولا يعلم الغيب إلا هو، وتفصح عن بديع خلقه: (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون(88)). وهذا البديع الخبير، وهذا الإله العليم القدير، هو الذي أنزل القرآن للإنسان، وبدأ السورة بالقرآن، وختمها بالقرآن. وها نحن نقرأ ما يقوله لرسوله محمد الذي تلقى منه القرآن، ونقرأ كيف يعلمه بحنان، ويدله على القول الحكيم القوي البرهان: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين(91)وأن أتلو القرآن). فإنما أمر محمد من ربه بأن يعبده وحده بإخلاص ويقين، وصفته أنه من المسلمين، المؤمنين بما أنزله رب العالمين. أما مهمته فهي محصورة فقط، ومقصورة على قوله: (وأن أتلو القرآن) فالقرآن مهمته، وإبلاغه إلى الناس وظيفته، وتلك مهمة رفيعة المقام الكريم، لأنه تلقاه من حكيم عليم. ثم إن الله معه يعين، وهو عليم بالضالين وبالمهتدين. (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) (بقية الآية92). إنه واحد من المنذرين، وليس بدعا في المرسلين، بل دينهم له دين، وهو خاتمهم إلى العالمين. وما عليه إلا إبلاغ الآيات، وسيعرفها الناس بإذن الله مهما طالت السنوات، فالله عالم بالخفيات ، (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون(93)). أليست شهادة النمل واضحة الدلالة بأن السور تنزلت كاملة الآيات؟.بلى بلى إن ذلك واضح لكي ذي لب ذاكر، وقلب شاكر (إنما يتذكر أولوا الألباب)
وبعد سورة الشعراء أدعوكم إلى ما قص الله في سورة القصص وما تلى، لقد بدأتها بقوله: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون(3)). هكذا تبدأ السورة بالإشارة إلى آيات الكتاب، وتشير إلى فحوى السورة باقتضاب، ثم تنطلق القصص وتتوالى الأحداث وتتلى، حتى تصل إلى المنتهى. فإذا بالآيات تعود إلى الحديث عن القرآن، فتؤكد أولا أن الله قد أنزل على موسى الكتاب وفيه دليل على إنزال القرآن والبرهان؛ (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون(43)). فالله من شأنه أن يرسل الرسل وأن ينزل الكتب والناس محتاجون لهداه ورحمته، وعليهم أن يصدقوا لعلهم يتذكرون. وما كان لمحمد علم بما كان، لولا هذا الوحي من الرحمن؛ (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين(44)ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين(45)وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون(46)). وإذن فالغاية واحدة والشأن مستمر والرحمة متواصلة والتذكر مرجو للناس في كل حين، وهكذا أنزل القرآن على محمد خاتم النبيين، ولكن الناس كانوا وما زالوا يواجهون ما أرسل بالارتياب والتكذيب، ويطلبون من الرسل البراهين، والحق أمامهم واضح لكل العاقلين. (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون(48)قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين(49)). لكن الظالمين لا يسمعون ولا يعون الحجاج، بل يتبعون اللجاج، والهوى والاعوجاج (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين(50) ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون(51)).فالحجة قد لزمتهم وهم ظالمون، ومع هذا فغفلتهم طاغية،وأعذارهم واهية؛ (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) إنه عذر سقيم عقيم، ولهذا فالله يبطله بقوله الحكيم: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون(57)). وهكذا يستمر الحجاج، مع أصحاب اللجاج، وتتوالى الآيات في السورة تضع البراهين على أن آياتها متواصلة غير مبتورة، حتى تصل إلى قصة قارون التي لها صلة بموسى وفرعون، ولتؤكد أن القصص تتوالى بالحق لقوم يؤمنون، حتى تصل إلى نهاية السورة لتعلن أن الختام يؤكد البداية، فاستمعوا وعوا: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين(85) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين(86))، فالسورة كاملة تتلى وتلقى، والآيات من أولها إلى آخرها تتوالى.
لعل سورة القصص قد أوضحت القضية بصورة جلية، ولعلي لا أكلفكم شططا إذا واصلت استعراض السور على التوالي، ولهذا فأنا أدعوكم إلى تدبرها بشكل انفرادي، ويكفي أنني قد وضعت أمامكم منهج البحث والتدبر، وأصبح أمامكم السبيل سهلا للاستبصار والتذكر. فسورة لقمان وسورة السجدة كلها حديث عن القرآن وموضوعهما هو التأكيد على أنه من الرحمن، فتأملوا بإمعان لتجدوا القضية واضحة للعيان، ولنشرع الخطو مستأنسين بسورة يس. فنجدها تبدأ بقوله: (يس(1)والقرآن الحكيم(2))، ويتوسطها قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين(69)لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين(70))، فالضمير يعود إلى القرآن، وكأنه قريب من الأذهان، مع أن ذكره قد سبق هذه الآية بسبعين آية.وكذلك نجد القضية في سورة (ص): فقد بدأت بقوله: (ص والقرآن ذي الذكر(1))، ويتوسطها قوله تعالى خلال قصة داوود وسليمان: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب(29))، ثم يعود إلى قصة سليمان وتتواصل القصص حتى يقول: (قل هو نبأ عظيم(67)أنتم عنه معرضون(68))، وتنتهي السورة بقوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين(87)ولتعلمن نبأه بعد حين(88)).
وكذلك نجد السور السبع المسماة الخواتيم أو بالمثاني (غافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف)؛ كلها تبدأ بالحديث عن القرآن، وتختم به، ولست بحاجة إلى تكرار إيراد الآيات، لكن سورة الزخرف يتوسطها قوله تعالى إشارة إلى القرآن: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم(61))، وهي مرتبطة بقوله تعالى فيها: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44))، وهما مرتبطتان بأول السورة (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)).
ولنمض مسرعين متجاوزين سورة محمد والفتح والحجرات لنصل إلى (ق) والذاريات وما تلاهما من السور المتواصلة الآيات، بشكل لا يمكن أن يسمح لأحد أن يدعي أنها نزلت على فترات.فإن سورة (ق) تبدأ بقوله تعالى: (ق والقرآن المجيد(1)). وتنتهي بقوله تعالى: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد(45)). وهكذا أخواتها؛ فالذاريات يأتي قبل ختامها قوله: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين(55)) . والطور يأتي وسطها قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون(29)). ويستمر الحجاج به إلى آخرها،
وكذلك النجم، إنها كلها عن القرآن: (والنجم إذا هوى(1)ما ضل صاحبكم وما غوى(2)وما ينطق عن الهوى(3)إن هو إلا وحي يوحى(4)). والختام هو: (أفمن هذا الحديث تعجبون(59) وتضحكون ولا تبكون(60)وأنتم سامدون(61)فاسجدوا لله واعبدوا(62)). أما القمر والرحمن والواقعة فهل يستطيع أحد أن يدعي أن آياتها مقطعة؟.بل لعل النجم والرحمن تضيء الطريق إلى نهاية القرآن، وتؤكد لنا أن السور كانت تنزل كاملة متصلة البيان مترابطة البنيان، إذ كيف ننكر الإبتار والانقطاع على الإنسان ونلصقه بالرحمن، سبحان الله سبحان، عن هذا الافتراء والبهتان. إنه: (الرحمان(1)علم القرآن(2)خلق الإنسان(3)علمه البيان(4)). فالإنسان علمه الرحمن البيان، فكيف يصبح أفصح من المعلم في البيان؟.وكيف ننكر على الإنسان الانقطاع في الكلام، ونلصقه بالخالق العلام؟.وكيف يجوز علىالرحمن التقصير، ولا نجيزه من الإنسان الفقير؟. تعالى الله وسبحان، عن هذا الافتراء وهذا البهتان. إنه قول لا يليق بالغني الحميد (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) [سبأ:49].وعلى أي حال فإن كل السور تفصح عن المراد أروع إفصاح، وتجعل الموضوع بينا كالصباح، فمن تأملها تبين أن كل سورة موحدة الموضوع والقضية، موحدة الأسلوب والشخصية، موحدة البداية والغاية، متصلة الآيات بلا انقطاع حتى النهاية.
ولن أستمر في الاسترسال لاستعراض السور ولبيان الموضوع والمحور، بل سأنتقل إلى دليل آخر، هو: أن أكثر السور التي تبدأ بالحديث عن القرآن تأتي باسم الإشارة المشار به إلى أنها آيات، وأن الآيات فيها جزء من آيات الكتاب.ولنبدأ من سورة يونس وهي من السور التي تركز على القرآن. فإنها تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم(1))، فهذه إشارة إلى آيات السورة التي هي نفسها آيات الكتاب الحكيم ولهذا جاء في آخرها (قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم).
ولنقرأ بداية سورة هود، فإن بدايتها فيها التأكيد: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير(1))، فهل الحكيم الخبير الذي فصل وأحكم الآيات يمكن أن يجعلها في السورة متفرقات؟.كلا، ولهذا جاء في آخرها إشارة إلى آيات السورة بقوله تعالى: (وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين(120)).
وفي سورة يوسف نقرأ: (الر تلك آيات الكتاب المبين(1))، فهل الكتاب المبين يمكن أن يقطع كفل المقتسمين؟، الذين جعلوا القرآن عضين، كلا إنه منزل من رب العالمين. ولنتجاوز يوسف إلى الرعد، فإن فيها التعظيم لله والتسبيح، الذي ينزه الله عن الكلام الغير فصيح، ولنقرأ: (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1)) واقرأوا بعدها صفات الله: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش (2)). فما معنى الاستواء؟ إنه يعني (يدبر الأمر(2))، وإنه يعني: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار(8)عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال(9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار(10)). فمن هذا شأنه، هل يجوز عليه أن يتقطع قرآنه، وأن تبتر آيات السور؟. وهل يمكن أن يتوقف قوله وبيانه على فعل الناس وهم تحت سلطانه؟. كلا، فهو الحكيم العليم، الذي يعلم الحادث والقديم، والظاهر والسر المكتوم، ولا ينتظر لإصدار حكمه فعل عبد خاضع لحكمه، بل يحكم ويقرر للأول والمتأخر، فسنته لا تتغير وحكمه لا يتأثر بمؤثر، سبحانه فه والقدر المقدر، والعليم المدبر، يعلم ما تكسب كل نفس، وهو قائم على كل نفس، وحكمه اليوم كحكمه غدا والأمس.
ولننزل من الرعد إلى الحجر، فإنها للموضوع تنصر، ولنقرأ: (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين(1))، لن نزيد على هذه الآية تعليقا، ففيها الدلالة لمن له عقل ودراية، ولنغادر النصف الأول من القرآن، من النصف الثاني لنجد الاستمرار في البيان؛ ها هي سورة الشعراء تعلن من هناك التأييد في البداية والمنتهى؛ (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2))؛ وسورة النمل تنظم للموكب الجميل، وتبدأ بقول الله الجليل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1)).
لعل من الأفضل أن أتوقف عند النمل، حتى لا أكلفكم الملل، وأنتقل إلى دليل أجمل وأكمل، ففي السور السبع الخواتيم تتحول الإشارة من آيات الكتاب إلى مجمل الكتاب لتدل على أن الآيات هي الكتاب والكتاب هو الآيات، فإذا بسورة غافر تبدأ: (حم(1)تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم(2)) ، ويأتي في الآية رقم 3: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد(4)). أليس في هذا ما يؤكد أن السورة تنزل آيات، وأن السورة تسمى كتابا ولا يسمى كتابا إلا ما اكتمل وتوالى واستمر حتى يكتمل البيان واضحا مفصلا، ولهذا بدأت سورة فصلت، بما يؤكد أن تواصلت: (حم(1)تنزيل من الرحمان الرحيم(2)كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(3)). فهل التفصيل والتنزيل من الرحمن الرحيم يصح عليه التقطيع والتقسيم؟. كلا، إن هذا لا يقول به إلا ذو الفهم السقيم.
ولنأت إلى الشورى، لنجد فيها الوحي يترى ويتوالى: (حم(1)عسق(2)كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم(3)). فهو وحي متصل في كل السور، ولكل سورة مدار ومحور، ولها بداية ومستقر، ولهذا ختمت الشورى بقوله تعالى:(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم(51)). فالعزيز الحكيم في البداية هو العلي الحكيم في النهاية، وبهذه العزة والعلو والحكمة يأتي بعده: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور(53)). فهل النور الهادي إلى الصراط المستقم، صراط الله العزيز الحكيم، يصح أن يقبل التجزؤ والتقسيم؟.كلا، وتعالى الله العلي الحكيم، ولكن زخرف الدنيا هو الذي شغلنا عن الفهم السليم؛
ولكن سورة الزخرف تنذر الغافلين فلتقرأ: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)). فالسورة آيات في كتاب مبين، والكتاب قرآن مقترن بعضه ببعض لمن يعقلون، ولا يمكن أن يعقل الكلام، وهو مقطع الأوصال والأقسام، كلا ولكن لا بد أن يكون كامل البيان والأحكام، رفيع المستوى والمقام، ولهذا قال الله موضحا باهتمام: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)). فهل هذا المقام الرفيع للكتاب إلا دليل على أنه كامل البيان بلا ارتياب؟. ولهذا فإن الغافل عن هذه الآيات والبينات من الخاسرين، (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين(36)). وعليه: فإن على الرسول وعلينا أن نكون به متمسكين، (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم(43). وكيف لا وهو كما يخبرنا ربنا العليم: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44)).
أما الدخان فإن للقرآن عندها شأن: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين(3)فيها يفرق كل أمر حكيم(4)أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين(5)رحمة من ربك إنه هو السميع العليم(6)). من المعروف أن الإنزال في ليلة القدر لم يكن لكل الآيات، ولكن كانت فيها البدايات، والذي نزل هو بعض السور المكونة من آيات ، ولكن الله سماها كتابا، وقال إنه أنزله في ليلة مباركة مع أن الذي حدث فيها هو ظهور الإنزال ذي البركة، ولهذا فإن ليلته مباركة به، وهو مبارك بربه، وعلينا أن نعمل به، وإلا فإن قوارع العذاب لنا مرتقبة، وهذا ما ختمت السورة به: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58)فارتقب إنهم مرتقبون(59)). وهذه الآيات تؤكد أن بداية السورة متصلة بالنهاية.
أما الجاثية والأحقاف فقد بدأت بداية متحدة الكلمات والحركات والآيات، فلها بداية موحدة تتوج كل منهما، هي: (حم(1)تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم(2)). ومن الجميل أن سورة الجاثية تختم بما يشير إلى البداية بأسلوب محكم، مربوط بأولها بحرف الفاء الذي لا يفصم. (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين(36)وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم(37)). ثم إن العزيز الحكيم هي نفس الصفتين التي بدأت بهما آيات السورة، مما يؤكد أنها كاملة الصورة، فهل بعد هذا الربط المتين، نكون في توالي الآيات مرتابين؟! وقد قال الله رب العالمين، في سورة الجاثية لقوم يعقلون: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون(6)). إن هذا هو الناقور، الذي يدق الأذن الموقور، والقلب المثبور: (ويل لكل أفاك أثيم(7)يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم(8)وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين(9)).أليس في هذا ما يدل على أن السور كاملة الآيات؟، بينة الدلالات؟، تتلى الرسول متواليات؟، ليتلوها على الناس في كل الحالات؟، وهي تشع بالبينات، ولا ينقطع سيلها حتى تبلغ إليهم في كمال وثبات، فسبحان الله رب العالمين، الذي يهدي إلى الحق المبين، ويرسل الرسل المبلغين، ليكون الناس والجن على بينة أجمعين: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) [الأحقاف:35].
هذه هي السبع الخواتيم أو السبع المثاني، وهي في القرآن في النصف الثاني، تبدأ بكلمة كتاب. بينما السور التي في النصف الأول تبدأ بكلمة "تلك آيات الكتاب"؛ مما يدلنا على أن السور هي مكونة من آيات، وأن كل سورة تسمى كتاب، لنكون على علم أن السورة كاملة البيان، منظمة التبيان، متواصلة البنيان بلا انقطاع، وكيف لا ومنزلها هو الرحمن. ولقد نقول متأكدين أن السور القرآنية توصف بأنها آيات، ولم ترد فيها كلمة "الآية" المفردة إلا ويراد بها شيئا آخر غير آيات القرآن المتلوة. أعني أن كلمة "آية" التي ترد مفردة في القرآن، مثل قوله تعالى: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) [الأعراف: 103]. أو مثل قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) [البقرة: 106].
أقول: إذا وردت هذه الكلمة، وهي كلمة "آية" بالإفراد في القرآن؛ فإن المراد بها شيئا آخر غير آيات القرآن المتلوة، ولكن لها شأنا آخر وقضية أخرى وهي قضية بالقرآن متصلة.مع العلم أن هناك بحثا كتبناه حول هذه القضية الهامة أوردناه بصورة مستقلة ومفصلة، وقد ذيلنا به هذا البحث؛ لأن له صلة به كما ذيلناه بسرد مقتضب لمواضيع سورة البقرة مستدلين بذلك على أن السور نزلت متواصلة غير مبترة.ولعل من رجع إلى ذلك في ختام هذا البحث يجد فيه ما يشفي الغليل، ويروي العليل، بعون الله الجليل.
ولكني الآن سأواصل الاستدلال على أن السور نزلت كاملة المواضيع، بينة الدلالات، وسأستند إلى ما ورد في ذلك من الآيات؛ التي تؤكد أن القرآن كان يتلى آيات تتوالى وترتل على النبي وعلى الناس ترتيلا. يقول الله سبحانه لرسوله: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) [الإسراء:45]. وقال: (وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد) [الحج:16]. وقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم(15) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) [يونس:98]. وقال: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)) [طه:1-8]. وقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) [الحج:72]. وقال: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء:10]. وقد جاءت بعد قوله: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:2].
لعلي أعلق على ما سبق من الآيات فأقول: من الواضح أن النبي كان يتلو القرآن آيات متواليات، ويبلغها سورة كاملة تشع بالبينات، فلا يمكن أن يتم بيان بكلمات مبتورات، ولا بجمل مبتسرات، تعالى الله العليم الخبير، عن هذا الوهم المبير، فهو الذي أنزل الكتاب المنير، وهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، فلا بد أن يبين لنا بلا إرجاء، ولا بد أن يوضح الغرض بلا خفاء؛ لأنه الله خالق الأرض والسماوات العلى، وهو الله الذي على العرش استوى، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وهو الله له الأسماء الحسنى، ولهذا فإنه يقول: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) [الفرقان:32]. نعم إنه لم ينزله جملة، ولكنه أنزله سورا متكاملة، وكل سورة فيها الآيات تأتي أرتالا متوالية، فكل رتل يتلو الرتل حتى تكتمل السورة، وهذا هو معنى قوله (ورتلناه ترتيلا) أي جعلناه أرتالا، ورتلناه رتلا رتلا، حتى يكون بيانا يتلى، وحجة على من سمع ما يملى، ونورا لمن تدبر ووعى. ويقول الله مؤكدا أن الكتاب أنزل سورا كاملة مرتلة: (وإنه لتنزيل رب العالمين(192)نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)) [الشعراء]. وقال: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين(198)فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين(199)) [الشعراء]. وقال: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) [النمل:6]. وقال في آخرها: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين(91)وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين(92)وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون(93)) [النمل]. أما في سورة القصص فقد قال: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون(3)) [القصص]. ثم شرع في نبأ موسى وفرعون، حتى انتهى منها ثم عاد ليؤكد لنا أن القرآن يتوالى ويتلى عليه إلى آخر السورة فقال: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) [القصص:44]. ثم قال: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون) [القصص:46].
فالقرآن منزل للإنذار، وهذا هو سبب الإنزال لا سبب سواه؛ لأن الله لا يرضى لعباده الكفر، ولكنه يرضى لهم الشكر، فهو الرحيم بهم، وإن شكروا ليزيدنهم، وعلى أي حال فإن الله يختم السورة بقوله: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين(85) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين(86)ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين(87)) [القصص]. فالقرآن والكتاب آيات تنزل وتفرض ولا يمكن أن تقطع وتقرض، والقرآن والكتاب سور منزلة بلسان عربي مبين، ولا يمكن أن نجعل القرآن عضين، وكيف لا والله يقول: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) [الحجر:87]. إلى أن يقول: (كما أنزلنا على المقتسمين(90)الذين جعلوا القرآن عضين(91)فوربك لنسألنهم أجمعين(92)عما كانوا يعملون(93)) [الحجر].
فيا أيها المسلمون لا تكونوامن هؤلاء المقتسمين، فإنكم ستسألون عما تزعمون، وإنه لقسم من رب العالمين، ألم تسمعوه في هذه الآيات بشكل حازم مبين؟؟. ثم تعالوا إلى سورة العنكبوت لتجدوا الله الذي بيده الملكوت يقول عمن يتعنت ويدعي من المكذبين: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين(50)أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون(51)). فالكتاب هو المنزل آيات متوالية تتلى، والله شهيد على ذلك وعنده العلم بما أنزله وبما يتلى، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وبعلمه المحيط بكل شيء أنزل الكتاب لنهتدي، فقال: (الم(1)تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين(2)أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون(3)) [السجدة]. ثم إن هذا الإنزال من رب العالمين، من هو رب العالمين؟.(يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون(5)ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم(6)الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين(7)) [السجدة]. إذن فالكتاب منزل من عالم الغيب والشهادة الذي أحسن كل شيء خلقه.فهل من هذه صفته يمكن أن ينزل ما لا نفهمه، فيقطع الإنزال تبعا لما نعمله؟.كلا، بل هو ينزل الآيات للبيان، وبأسلوب كامل الإحسان، إنه يبين ما لا نفهم وما لا نعلم؛ لأنه يعلم ما لا نعلم.فهل يمكن أن ينزل البيان بأسلوب مقسم لا يبين ولا يفهم؟.كلا، وتعالى الله ربنا الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. فلتكن من المؤمنين الذين قال الله عنهم: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) [السجدة: 15].
إذا فالقرآن كامل البيان، منزل بإحسان وبإتقان يليق بالرحمن. وليس أسلوبا بشريا يعجز عن البيان، ولا شعرا يتبع الأوزان ويتيه في الوديان، يقول ما لا يفعل، وعن التناقض يغفل، كلا بل هو مستقيم لا اختلاف فيه، ولا الباطل يأتيه: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين(69)لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين(70)) [يس]. وإذا كان كذلك فإن الكفار يضيقون به، ويفرون من إسماع من يشع به؛ (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) [سبأ:31]. (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) [فصلت: 26]. إن هذا يؤكد أن الرسول كان يتلو قرآنا مؤثرا، وبيانا مثيرا، ويرتل ذكرا منيرا، ولا يستبين الإثر والإثارة والنور والإنارة إلا من آيات متوالية مرتلة ترتيلا، وبيان بالنور يتلألأ، وذكر مكتمل اكتمالا، فالكافرون أمامه يرتجفون هزالا، ويلحدون عجزا وخبالا؛ (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) [فصلت: 40].
وإذن فإن الذين يدعون تقطيع التنزيل لأسباب النزول إنما هم أناس مخابيل مهازيل، وهم لا يخفون على الله الجليل، وإن كل واحد منهم لمسئول عما يقول، يوم يقول الرسول: (يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) [الفرقان:30]. وكيف لا وهم قوم جعلوا القرآن أباطيل، وحولوه إلى أقاويل، تسيء إلى الله الجليل، الذي يقول: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز(41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(42)) [فصلت]. فهم جديرون بأن يسألوا عما قالوا وعما عملوا، فالله يقول لهم وللرسول وهم لم يسمعوه ولم يعقلوا: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم(43)وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44)) [الزخرف].
ويقول عن هذا القرآن بأنه علم ليوم الامتحان: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم(61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين(62)) [الزخرف]. بل إنه يؤكد في أول السورة أن القرآن مكتمل البيان، وأنه رفيع المقام، وأنه للعقلاء إمام: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)) [الزخرف]. إنه في مقام عظيم، وإنه رفيع حكيم، عند العلي العظيم، ولدى العليم الحكيم، فهل من هذا حاله يكون منزلا بأسلوب سقيم، لا يفهمه ذو الفهم السليم؟.كلا، (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24]. (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء: 82]. والتدبر لا يتم إلا بقرآن متوالي الآيات، متواتر البينات، مكتمل الحلقات، بعضه يدعم بعض ويفسر، وأوله متصل بالآخر؛ لأنه من الله القادر. وكيف لا وهو يقول في سورة القمر، معلنا للناس بلاغا يتكرر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر(17)). ويقول في سورة الجاثية: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون(20)). ويقول فيها: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون(6)).
لعل هناك من سيقول أني أكرر الآيات في هذا البحث. ولكن إذا تكررت فلكل موضع ترد فيه مقام ومعنى تدل عليه، فآيات الله تشع بأوسع الحجج، فلا عيب في تكرارها ولا حرج؛ ولهذا فإني أواصل إيراد الأدلة والحجج، ففيها النور الأبلج، فالموضوع يستدعي المزيد، وهو مبسوط لمن يريد، ومن ضاق بالتطويل، فليس عليه تعويل، ولكني متأكد أن من أراد الحق اليقين، فلا بد أن يصبر ويكون من المدكرين. ولهذا فإني أذكركم بقوله تعالى في سورة "ص" في الآية 29: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)، ومثل هذه الآية وردت كثيرا بزيادة فيها أو نقصان، ولكنها كلها تدعوا الإنسان إلى التدبر والتذكر ليكون من عباد الرحمن، وليكون من أولي العلم والإيمان (إنما يخشى الله من عباده العلماء).وعلى أي حال فالله يقول في آل عمران مؤكدا أن القرآن نزل آيات للبيان: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) أي ما يعلم مآل ما جاء فيه من الوعد والوعيد ومن أحكام العبادة للعبيد، إلا الله؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون، وله الأولى والأخرى، فمن أيقن بالقرآن فهو ممن يقول عنهم: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)، هكذا هو موقفهم الإيمان المطلق والتسليم بالآيات ممن يعلم ما خلق، ولهذا فهم يدعونه بقوله: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)، ثم يؤمنون بلقاء الله يوم الحساب فيقول: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: الآيات7و8و9].
إنه كتاب كامل متكامل، إنه آيات محكمات، إنه آيات متشابهات، وعلينا أن نتأمل ما جاء من الله الوهاب لنكون من الراسخين في العلم ونكون من أولي الألباب. وهذا هو الذي يجعلنا نوقن أن القرآن أنزل سورا لا انقطاع ولا تفريق؛ لأن هذا هو الذي بالله يليق، وكيف لا وقد قال: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) [الزمر:23]. إنه كتاب متشابه، أي أن آياته يشبه بعضها بعضا، ويدعم بعضها بعضا، فلا اختلاف فيها ولا باطل يأتيها، لا من بين يديها ولا من خلفها، ولهذا فإنه مثاني ينعطف بعضه على بعض، ويسند أوله أواخره، ويستوي باطنه وظاهره؛ ولهذا تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم، هؤلاء هم الذين على هدى من ربهم، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بأن القرآن لم ينزل قطعا لا تفهم، ومزقا لا تعلم؛ بل بيان واضح يهدي ويكشف الظلم، ونور يهتدي به من هداه الله الأكرم. لكنه على المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين، عمى، بل يزيدهم عمى طامس، ويجعل نفوسهم كالليل الدامس، إنهم لا يعقلون ولا يعون، ولا يتدبرون القرآن ولا يسمعون: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون).
وبعد فهل لي أن أزيد من الآيات ما يؤيد ما ذهبت إليه؟؟سأكتفي بما ورد منها وما تبقى منها فإنها تدل عليه، لكني سأنتقل إلى دليل آخر، يؤيد ما ذهبت من أن الإنزال كان بكامل السور - ذلك هو البسملة- أي ابتداء كل سورة بآية: (بسم الله الرحمن الرحيم). ألم يقل رسول الله: "إن كل أمر ذي شأن لا يبدأ بإسم الله فهو أبتر"، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. وإن هذا القول ليس إلا أدبا من أدب ربه الذي أدبه، وعلمه من علم ربه الذي علمه. وإذا كان الأمر كذلك فهل يعقل أن يكون الله المعلم الأول، والذي للرسول أرسل، وإليه كتابا انزل، هل يعقل أن يكون الله غير ملتزم بهذا الأدب الجميل، وهذا الأسلوب الجليل؟.كلا، وكيف لا ونحن نقرأ في القرآن الكريم رسالة سليمان إلى ملكة سبأ وهي رسالة لم تتجاوز بضع كلمات، لكنها بدأت بنفس الآية فلنقرأها: (باسم الله الرحمان الرحيم(30)ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين(31)) [النمل]. ونقرأ في القرآن أيضا قولا لنوح لعيه السلام، لقوله عند ركوب السفينة: (وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم) [هود: 41]. بل إنه بأمر الله في موضع آخر بقوله: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين(28)وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين(29)) [المؤمنون].
نعم إذا كان هذا هو شأن الله وشأن رسله الكرام في كل أمر وشأن، فكيف يمكن أن ينزل الله قرآنا على رسوله محمد بدون أن يبدأه باسم الله ويختمه به؟. يعني أننا لو سلمنا أن هناك آية نزلت في وسط سورة وكانت هذه الآية أو الآيات منفردة عما قبلها وعما بعدها من آيات السورة؛ فإن معنى هذا أنها نزلت بدون بسملة وبدون ذكر اسم الله وهذا لا يليق بالله ولا برسوله ولا بجبريل الذي يتنزل على الرسول بالقرآن. إن التخلي عن هذا الأدب الرباني لا يليق بالله رب العالمين. وإذن فإن السور كانت تنزل كاملة وتبدأ بالبسملة، بل وتكرر البسملة في كل سورة منزلة؛ ليتضح للناس أن البسملة أمر هام، لا بد أن تبدأ به كل المهام؛ ولهذا فإن القرآن قد أكد هذا للإنسان، بمختلف البيان، بل إن أول سورة نزلت كما عرفنا قد بدأت باسم الله بالإضافة إلى البسملة المعهودة تلك هي سورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق(1)خلق الإنسان من علق(2)اقرأ وربك الأكرم(3)الذي علم بالقلم(4)علم الإنسان ما لم يعلم(5)). حتى لقد علمنا الله أن نذكر اسمه في كل ما نعمله حتى في القتال والتجارة: (ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [الأنفال:45]. (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [الجمعة:10].
فالفلاح مرهون بذكر الله في كل حال، والصلاح مترتب على ذكر الله بلا ملال، حتى مع نحر الأنعام في كل مكان، وفي صيد الحيوان أوجب الله ذكر اسمه على كل إنسان:
(ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) [الحج: 34]. (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) [الحج:36]. فالأكل الحلال مرهون بذكر اسم الله ذي الجلال. ولست بحاجة إلى مزيد من الآيات التي توجب ذكر اسم الله في كل الأعمال والمهمات وإذا كان الأمر كذلك في مهمات الدنيا وأعمال الناس العادية؛ فكيف يصح أن ينزل جبريل بالوحي من الله الجليل ثم يحمل آيات من سورة أو آية واحدة، مبتورة من ذكر اسم الله، مقطوعة من أي بداية بالبسملة؟.
إن هذا قول واهم، وزعم داهم، وظن ظالم، لا يليق بالله العليم الحكيم، ولا ينسجم مع شرف القرآن الكريم، ولا يتفق مع أدب الله لرسوله الكريم، الذي علمه ربه الخلق العظيم، وجعله على صراط مستقيم. إذن فالسور كانت تنزل كاملة، مبدوءة بالبسملة، متوالية آياتها إلى آخرها متواصلة، لا تنقطع عند آية، ولا تتوقف عند فاصلة، حتى تنتهي السورة بينة متكاملة، موضحة للموضوع مفصلة، وهذه هي الصفات التي وصف الله بها آياته البينات: (حم(1)تنزيل من الرحمان الرحيم(2)كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(3)) [فصلت]. (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) [هود:1]. (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) [الأعراف:52].ولهذا فإن القرآن يقرأ متواصل الآيات، مرتل الفقرات، وعلى من يسمعه أن يصغي ليستبين البينات، وينال من ربه الرحمات، ولقد كان النبي يقرأ على الناس سورا ليتضح لهم البيان ولعلهم يعقلون، ولهذا خاطبهم الله فقال على لسان رسوله الذي يقرأ ما يوحى إليه: (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ثم يقول: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) [الأعراف:203- 204].ولكي يؤكد الله أن ذكر اسمه هو الواجب الذي يجب على الرسول التمسك به مع من اتبعه يختم السورة بذكر اسمه فيقول: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) [الأعراف:205].
وكيف لا يكون هذا هو مسلك الرسول المبلغ، ومتمسك الإنسان المبلغ (بفتح اللام)، وهو خلق الملائكة الذين يتنزلون بوحي الله، ويعملون ما يأمرهم به الله، (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) [الأعراف:206].فالعبادة الحقيقية لله هي في ذكر اسمه في كل حال بلا سأم ولا ملال، وهي التسبيح والسجود والاستماع والإنصات لقول الله المعبود، والعمل به في كل عمل خفي ومشهود، فهو مذكور مشكور محمود، في كل حال وحين إلى اليوم الموعود. فكيف لا يتنزل القرآن مبدوءا باسمه؟ وكيف يصح أن تنزل الآيات مبتورة من ذكر الله غير مبدوءة بالبسملة؟كلا إن هذا لا يقوله إلا الجهلة.
أكتفي بهذا لأنتقل إلى قضية أخرى تعزز ما أقوله في الموضوع، وتدمغ كل حديث وقول موضوع، أما القضية فهي ما أمليه عليكم من آيات بينات، تؤكد أن أسباب النزول ليست إلا رؤيات افتعلها الناس، وليس من الأمر أساس، وإنما هو من شر الوسواس الخناس، وأنا أدعوك معي يا أخي القارئ أن نقرأ معا أمام ذلك: (قل أعوذ برب الناس(1)ملك الناس(2)إله الناس(3)من شر الوسواس الخناس(4)الذي يوسوس في صدور الناس(5)من الجنة والناس(6)) [سورة الناس]. إنك تعلم أن هذه السورة هي آخر سور القرآن، وأن الله قد ذكر فيها ثلاثة من أسمائه الحسنى للاستعاذة به من هذا الشر الذي لا ترتضي به، إنها الأسماء: "رب الناس/ ملك الناس/ إله الناس". فالرب هو المدبر المقدر، والملك هو العلام المقتدر، والإله هو المعبود المتكبر، به وبأسمائه هذه علمنا أن نستعيذ من "الوسواس الخناس.."الخ الآيات، إن هذا هو عدو الإنسان الأول والأخطر، وهو الذي يجعله يكفر ويستكبر، ويفتري الكذب على الله ولا يفتر، فالوسواس هو الذي أخرج آدم من الجنة وهو الذي طوع لابن آدم قتل أخيه، وهو الذي سول لإخوة يوسف تشريد أخيهم بعد أن قرروا قتله. وهو الذي سول لكل المشرقين والمسرفين تكذيب الرسل والكفر بما أنزل وتفريق الناس شيعا، وتقطيع الدين قطعا، وتقسيم الوحي مزقا، (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون(53)فذرهم في غمرتهم حتى حين(54)) [سورة المؤمنون]. فهم بالخير لا يشعرون، فدعهم يلوكون المزاعم سادرين، وتعال معي إلى الحق المبين، لنكون معا ممن قال عنهم الله رب العالمين: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون(57)والذين هم بآيات ربهم يؤمنون(58)والذين هم بربهم لا يشركون(59)والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون(60)أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون(61)) [سورة المؤمنون].
نعم إن الوسواس الخناس هو الذي جعل الناس يتقطعون الأمر بينهم زبرا، ويجعلون القرآن قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، إن هؤلاء هم الذين يقول الله عنهم لرسوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) [الأنعام: 159]. لقد أملى عليهم الهوى الانحياز للقبلية العمياء، والعودة إلى الجاهلية الجهلاء، فإذا بهم يسخرون الآيات لنصر قبائلهم وقبليتهم، ويستخدمون التنزيل لتأصيل جاهليتهم، فإذا الله يذم فلانا ويمدح فلانا، ويهجو القبيلة الفلانية ويمدح العشيرة الفلانية، وكان الله شاعر من شعراء الجاهلية يمدح حين يرضى، ويهجو حين يؤذى، ويخص فلانا بما يرضاه وبما يعتز به بين قومه، ويصب على فلان سوط كلام يذل به بين أهله وقومه، كلا إن الله ليس منحازا لقبيلة أو عشيرة؛ ولكنه الله الذي له كل الخلق عبيد، وهو المدبر لكل موجود، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا).
وإن العبودية لله هي الوسام الذي يفرح به عباد الله، وهي الرحمة والفضل الذي يفرح به أولوا الألباب، الذين انفصلوا عن القبيلة والعشائرية والأنساب، وانحازوا إلى ربهم الوهاب؛ فكانوا له عبيدا وكل له أواب، وإليه المرجع والمآب، وعلى هداه يسيرون إلى السلام، ويحملون الحب والسلام للأنام، بلا عصبية للأقوام، ولا عبودية للطغاة والطغام، وبلا خضوع للظالمين، ولا ذلة للمستكبرين، بل عزة رب العالمين، مؤمنين بقوله المبين: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) [فاطر: 10]. إن الكلم الطيب هو مهوى المؤمنين الطيبين المنحازين لرب العالمين، وإن العمل الصالح هو المهتدي بالقرآن المبين، واليقين بأنه منزل مرتل الآيات كامل السور وليس عضين.إن من قسموا الآيات على أسابب نزول مزعومات، هم من الذين يمكرون السيئات، فلا تعجل على أعمالهم الماكرات، فالله يخصهم بقوله المنير: (لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور).
قد يقول قائل: هل أنت تنكر أسباب النزول، وكل العلماء بها يقول؟.وأقول على هذا التساؤل: إن الذي أنكره هو الأسباب المدعاة التي وصفها المنافقون ليجعلوا الآيات للأهواء تابعة، ومن ردود فعل لدى الله نابعة، ويجعلون الله يتأثر بأدنى واقعة، فينزل آية مسرعة، لتهدأ النفوس المتنازعة، لقد جعلوه كأنه رئيس حي شعبي أو عاقل جمع قروي، أو ربع بدوي، يتنازع الأفراد، فيأتيهم بالقول المراد، ويحتار المختصمون، فيفكر لهم في مخرج مما يحتارون، فيصيب أحيانا فيرضون، ويخطئ فلا يرضون، هكذا جعلوا الله رب العالمين، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل هو الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم السر وأخفى، وهو الذي له الحكم وله الخلق والأمر، وكل شيء به مسير مدبر، فكيف ينفعل بحدث عارض ويتأثر، كلا إن هذا قول لا يقوله إلا كافر جاهل ربه العليم القادر، مستهزئ بالقرآن الذي ينير البصائر، وبالرسول الذي أرسل بالبيان الباهر.
نعم أنا أنكر هذه الأسباب التافهة التي لا تليق بالله ولا برسله ولا بالملائكة، إنها أسباب لفقها المنافقون، وابتدعها المتنازعون على الدنيا؛ ليجعلوا من القرآن لهم سندا ، وليسخروا الوحي لأطماعهم ملتحدا. لقد استهزأوا بالله وآياته ورسله، وارتكبوا البهتان، وافتروا بإمعان، في البينات المنزلة فكانوا شر قوم كاذبين، وأضر على الدين من الكافرين. فليحذر العقلاء من مكرهم، وليتنبه أولوا الألباب من كيدهم، فإن الله أجل وأسمى من أن يجعل القرآن تبعا للغوهم، ومثارا لترهاتهم.
وبعد فإن إنكاري لأسباب النزول المفتراة لا يعني إنكاري لأسباب نزوله المقررة، لقد قرر الله أن أنزال القرآن له أسباب لديه لا تتغير، وله منابع عنده لا تتأثر، بل هي أسباب دائمة لازمة، ومقدرة مقررة مع كل أمة. فهو الذي بعباده الرحيم، وهو الذي بهم العليم، وهو الذي يرسل الرسل إليهم للإنذار من العذاب الأليم، وللتبشير بالنعيم المقيم. فكل حياة الإنسان بل رسل في خسران، وأن سلوكه بدون هدى الله يكتسي بالطغيان، وأن سعيه بدون الذكر المبين يتردى في العدوان، فإذا حياة الناس صراع وخراب، وإذا أعمالهم هباء وسراب، وطريقهم في ظلمات وارتياب، وبهذا تفسد الدنيا ويفسد المآب، ويسقطون جميعا في نار العذاب، والله لا يرضى لعباده الفساد والكفر، ولكنه يحب منهم الصلاح والشكر، ويرضى لهم نعمة الإسلام، ويأبى لهم الاعوجاج عن سبيل السلام؛ لهذا يرسل الرسل تترى، وينزل الكتب تتلى، وينزل معهم الحق والميزان، ليقوم الناس بالقسط ولا يطغوا في الميزان، وبهذا نجد الأدلة واضحة البيان، متلألئة في ثنايا القرآن، فلنقرأ قوله تعالى في سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) [الفرقان:1].
إن السبب في إنزال الفرقان على عبده محمد هو سبب دائم، مع كل رسول يتجدد، إنه كما يقول: (للعالمين نذيرا)، وإذا كان نذيرا للعالمين؛ فهل هم الذين كانوا له معاصرين؟، وهل هم أولئك النفر القليل من المجاهدين؟.كلا، إنه نذير للعالمين المعاصرين واللاحقين إلى يوم الدين؛ولهذا يقول في سورة الجمعة: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم(1) هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين(2)وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم(3)ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(4)). فالرسول مبعوث في الأميين من قومه المعاصرين، ليحملوا هذا الكتاب هم ومن يلحق بهم من الآخرين، نعم ليحملوه خلفا عن سلف إلى العالمين، من ذلك اليوم إلى يوم الدين.
بل إن هذا الكتاب قد نزل من قبل محمد، ومن قبل هؤلاء الأميين، وكان ذلك هو التوراة المنزل كتابها على موسى وعلى قومه ليحملوه إلى كل أمة، هدى للناس ورحمة. لكنهم لم يحملوا هدى ربهم، ولم يشكروا فضل الله عليهم، ولهذا حذرنا من مصيرهم، ومن الاتصاف بصفتهم فقال ممثلا بمثل يليق بهم، وبمن تخلى عن المهمة بعدهم: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) [الجمعة: 5].وإذن فالله من شأنه أن يرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، وأن ينزل معهم الكتاب والميزان للناس أجمعين، ولقد قال: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [الحديد: 25].وقال عقب ذلك: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) [الحديد: 26]؛ ولأن كثير منهم فاسقون كان لا بد أن تتوالى الرسل والكتب المنزلة، ولهذا قال: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوهاما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) [الحديد: 27].
ولنفس السبب الذي أرسل الله به الرسل الأولين؛ أرسل محمدا خاتم النبيين، ولهذا قال بعد ذلك: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) [الحديد: 28]. ولأن إرسال الرسل فضل من الله على الأولين والآخرين، ولأن الأولين لم يؤمنوا ولم يثقوا بما جاءهم من الكتاب؛ فإن الله نزع منهم الفضل الذي أعطى ، وجعله فيمن آمن بمحمد واتقى، ولن يستطيع أحد أن ينزع ما أعطى، ولهذا قال: (لألا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [الحديد: 29]. وإذا كان هذا هو شأن الله ذي الفضل العظيم؛ فإن أسباب النزول أمر مستديم؛ وأن إرسال الرسل صراط مستقيم، شاءه الله للبشر رحمة من ربهم الرحيم، ألم يعدنا بذلك منذ بداية الحياة ومنذ أن هبط آدم إلى الأرض مستخلفا فيها بأمر الله؟. لقد قال لآدم وزوجه معا: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون(38)والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(39)) [سورة البقرة]. ولأن الهدى للعالمين؛ فإن الله يأمر بني إسرائيل أن يؤمنوا بما أنزله الله على خاتم النبيين؛ لأنه نفس ما جاءهم مع الرسل الأولين، فاسمعوه يقول بلسان مبين: (يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40)وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41)) [سورة البقرة]. فهم قد طال عليهم العمر؛ فلا بد أن يؤمنوا بما أنزله الله على رسوله يبشر وينذر، وهكذا هو شأن الله مع كل البشر، وفي كل عصر ومقر، إنه يرسل من يبشر وينذر؛ لينقذ الناس من سقر، وهو عليهم بما ينزل، وهداه وشأنه لا يتحول: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين(97)) [سورة البقرة]. ولهذا فعلى الناس أن يؤمنوا بكل الرسل وبكل ما لهم أنزل، وأول هؤلاء المؤمنون هم أسل: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير(285)) [سورة البقرة].
وهكذا تنتهي السورة الأولى بهذا الإعلان الأزلي الأعلى؛ وبمثل هذا تبدأ آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام(4)). وكيف لا ينزل هذه الكتب المتوالية علينا، وهو الله العليم بحالنا: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء(5)هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم(6)) [سورة آل عمران].
إنه يصورنا في الأرحام على أحسن تقويم، فكيف لا يهدينا على الأرض إلى صراط مستقيم؟، وكيف لا يرسل الرسل وينزل الكتب وهو الحي القيوم؟، إن هذا شأنه مع عباده وهو بهم رحيم، فلا سبب للإنزال إلا علمه بحاجة الناس إلى الهدى، وإلا رحمته التي وسعت كل شيء وهو يكتبها لمن اتقى. فماذا نبحث للآيات عن أسباب تدعوها، ولماذا نجعل الله يتأثر بحوادث صغيرة لا يعبأ بها، وهو الغني عن العالمين؛ (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما(77)) [سورة الفرقان]. ولكن الله الذي لا يعبأ بالجاهلين، فإنه يرحمهم ويرسل لهم المرسلين؛ ولهذا نجد السورة التالية للفرقان تحفل بعدد من الرسل تتوالى بالبرهان، ولكن الله لا يفتقر إلى الناس لكي يكونوا مؤمنين، بل هم الفقراء إليه ليكونوا مؤمنين؛ ولهذا فإنه يبدأ سورة الشعراء بالإشارة إلى آيات الكتاب المبين: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)).فهو آيات وهو مبين، ومن لم يتبين ومن لم يؤمن فإن الله لا يعبأ به ولا يسجيب لمطالبه، ويدعه لما اختاره من ذنبه، ولهذا فإنه لرسوله ينبيه فيقول: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين(3)) [سورة الشعراء ]. فلا تتعب ولا تهلك نفسك، فما عليك إلا تبليغ ما أوحي لك، ولو شاء الله لأنزل آية ولكنه يكتفي بأنه أرسلك بالكتاب وبه كلفك؛ (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(4)) [سورة الشعراء].
وما داموا كذبوا وللآيات طلبوا، فإنهم سينالون ما كسبوا (فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون(6)) [سورة الشعراء]. ثم يحيلهم إلى الآيات في الأرض حولهم: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(7)إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(8)وإن ربك لهو العزيز الرحيم(9)) [سورة الشعراء]. فالآيات مبثوثة في كل شيء، ولكن لا يفهمها إلا من هو ذو قلب حي. ورغم ذلك فإن الله عزيز غني عنهم، وهو رحيم بهم، ولهذا يرسل الرسل باستمرار، وينزل الكتاب لهدايتهم، رغم أنه ما كان أكثرهم مؤمنين. ولقد حلفت السورة بالرسل منهم من له آية، ومنهم من ليس له آية ولكن كلهم جاؤوا لغاية، ولسبب واحد من البداية حتى النهاية؛ هو قوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين(192)نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)) [سورة الشعراء]. فالسبب الأساس هو أن يكون امتدادا لمن سبقه من المنذرين، فهذا هو شأن كل الرسل، وهذه هي رحمة الله بالعالمين، ولهذا فإن القرآن هو نفس ما جاء مع الأولين: (وإنه لفي زبر الأولين) [الشعراء: 196]. ومن المؤكدات والدلائل قوله: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) [الشعراء: 197].
فإذا كان علماء بني إسرائيل يعلمون أن ما جاء به القرآن من المعارف الإلهية والعلوم الغيبية المؤكدة للمعاد، والمتوعدة بالعذاب لمن كذب، والواعدة بالنعيم لمن صدق، إذا كان هذا مما يعلمه هؤلاء فإن ذلك آية على أن القرآن هو من نفس المنبع الذي جاء به كل الأنبياء وأن الله ربهم هو الذي اختارهم للإنذار والتبشير، ليستقيم الناس على الصراط المستنير، وتلك رحمة من الله العليم الخبير، وذلك هو الحق إلا إلى الله تصري الأمور. وهكذا ندرك من الآيات أن الإنزال ليس لسبب طارئ ولكنه لسبب ثابت هو قوله تعالى: (حم~(1) عسق (2)كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3)له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4)) [سورة الشورى].
(وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير(7)ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير(8)) [سورة الشورى]. (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) [الشورى:13]. ولأن الدين واحد فالناس يتفرقون ويحاولون أن يجعلوه شيعا؛ لأنهم يتخذونه وسيلة للدنيا وللسيطرة على الضعفاء؛(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) [الشعراء:14]. نعم لولا أن موعدهم الآخرة لتم القضاء بين المختلفين في الدنيا ولكن الله يعلم من أصلح ومن أفسد ولا يعاجل المفسدين؛ بل يرسل المنذرين؛ ولهذا يقول في الآية: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) [الشورى: 14].ولأن الناس الذين ورثوا الكتاب قد اتبعوا الأهواء؛ لأنهم في شك وارتياب، كان لا بد أن يرسل الله محمدا ليذكر وينذر وليؤكد الإيمان بالكتاب. (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير)[الشورى:15].لو استرسلت في السورة لوردت كلها، فإنها من أولها إلى آخرها تؤكد أن الوحي سببه ثابت وأن الإنزال لا سبب له إلا رحمة الله ذي الجلال.
يا جماعة لو أوردت الأدلة على ذلك لطال المقال. بل إن القضية تحسم وتعرف بأول سورة الزخرف، فإن الله لا يمكن أن يضرب صفحا عن الناس لإسرافهم؛ بل لا بد أن يرسل إليهم وينزل الذكر عليهم. (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)) [سورة الزخرف]. فالكتاب والذكر محفوظ محكوم، وثابت معلوم؛ فلا بد للناس من علم وكتاب به حياتهم تقوم. وهذا الكتاب الذي عند الله ولديه ما هو إلا النظام الذي يدعو الناس إليه؛ ولهذا جعله قرآنا عربيا لعلهم يعقلون، يفغلون هذا النظام العلي الحكيم، ويصون مبتوره على الصراط المستقيم، وهذا حق لا بد أن يفعله الله العليم، حتى ولو كان الناس لا يفهمون ولا يفقهون حتى ولو كانوا بالإسراف مشغولين عن الحق والكتاب المبين؛ ولهذا يقول الله مستفهما في إنكار، مخاطبا أولي الاستكبار: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) [الزخرف:5]. هذا ومستحيل بل لا يليق بالله الجليل، فهو الذي يرحم عباده بالإرسال والتنزيل: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين(6)وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون(7)فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين(8)) [الزخرف].
فالإرسال متوالي ولو استهزأوا ؛ لأن الله لا يريد هلاك المكذبين إلا ببينة وحجة له عليهم، وهكذا كان مع الأولين والآخرين، فهل يعقل الآخرون، ويصغوا لهذا القرآن بلا ارتياب، وهل يفعلون على افتراء المبررات والأسباب: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) [الأعراف:204]. وقبل أن نغادر الزخرف نرفع أعيننا قليلا لنرى في صدر الصفحة آخر سورة الشورى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) [الشورى: 52-53]. أي كذلك الوحي إلى من قبلك أوحينا إليك هذا الروح وهو الكتاب فلم نكن ندري بالكتاب ولا بالإيمان، ولكن الله من شأنه أن يرسل إلى الناس رسلا ليذكرهم ويهديهم، وينير لهم طريق الإحسان، فكان هذا النور الذي يهدي به الله من يشاء وإليه مصر المهتدي ومصير من كذب وتولى، وهو الحاكم الحق المجازي كل حي بما يسعى.
هذا هو سبب الإنزال، ولنفس الغاية ولنفس السبب جاء البيان الكريم في أول سورة إبراهيم، فإن أولها يدل على أن الإنزال ليس له سبب فردي أو حدث آحادي، ولا هو آية تنزل لترد على حكاية أو تقضي في قضية وتسكت حتى تتجدد أخرى. كلا إنما هو كتاب إلى الناس، وليس للناس في زمن ومكان معين ولكن لكل زمان ومكان، فلتقرأ: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد(1)الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد) [إبراهيم: 1-2]. إذن فالكتاب للناس وهو لهدف هام هو إخراجهم من الظلمات إلى النور بل إلى صراط الله العزيز الحميد، فهو عزيز غني غالب على أمره ولكنه حميد في فعله، ولهذا يهدي الناس إلى صراطه، ويتوعد من يصد عن سبيله ويؤكد، ومن يحب الحياة الدنيا فهو في أشد الضلالة، والله يدعو الناس إلى الجنة والمغفرة بفضله، هذا الفضل يتجلى في قوله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم)[إبراهيم:4]. فلا عذر للناس بعد هذا الفضل وهذا البيان، فمن اهتدى فله الفوز ورضى ورحمة الله، فإن الله عنه عزيز، ولهذا قال: (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم)[إبراهيم:4]. ولأن الله يرسل الرسل بلا سبب إلا الرحمة والفضل فإنه يقول: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) [إبراهيم:5].
هل أزيدكم آيات تكون آيات على ما أقول؟، فلنقرأ آخر سورة الإسراء، : (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا(105)وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) [الإسراء: 105-106]. فقد أنزل القرآن بالحق وأنزل ليقرأنه الرسول على الناس على مكث، أي على أيام متوالية وسنين متعاقبة، فلم يتنزل آية آية ولكن سورة سورة إذ لا يمكث المكث إلا على بيان كامل وحق متواصل ولا يمكن أن تسمى النطق بالآية الواحدة قراءة بل لا تمسى قراءة إلا ماكان كلاما متقارنا بعضه ببعض متواصل الفقرات متكامل المعاني والآيات ولا يمكن أن يفهم الناس المقروء على المكث إلا فرقان كامل المعاني وافر البيان بلا تقطيع ولا ميلان وكيف لا وهو الله الرحمن. فيامن يدعي أن الإنزال جاء مقطع الآيات فأنت لم تؤمن بالبيان، ولم تكن من الساجدين للاذقان (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) فأنتم لا تعلمون لكن هناك من يعلم ويعرف الله حق المعرفة وله يعظم، ولآياته يحترم، وهم هؤلاء: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا(107)ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا(108)ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) [سورة الإسراء: 107-109]. هكذا هم أولوا العلم الذين يعلمون أن المتلو هو من عند ربهم العلي، وأنه بيان ورحمة وموعظة ونعمة تشع بها آيات الله التي تتنزل وتتوالى سورة سورة، ولهذا فهي تتلى عليهم: فلا يمكن أن يتلى إلا الكلام الوافي الآيات ،وإلا السور التي تفي وتتوالى فيها البينات؛ فلا تسمي النطق بآية واحدة تلاوة، وليس في العربية من يقول: اتل علينا كلمة كذا، بل يقول اتل قصيدة كذا أو خطبة فلان.
فأنتم يا من جعلتم القرآن عضين، فا تعرفون اللغة ولستم للقرآن محترمين، ولا لربكم مقدرين، ولعلكم ممن قال الله عنهم: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) [الأنعام:91 ].
بل إني آخذكم قبل الانصراف عن السورة إلى قمة موضوعها وإلى ذروة حجتها، (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(88)ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) [الإسراء: 88-89]. إن من يقرأ الآيتين بإمعان وتدبر وتذكر وتفكر، وهو لله يقدر، فلا بد أن يفهم أن القرآن بهذا الإحسان والإتقان لا يمكن أن يتنزل مزقا تلقى بلا بيان، ولا يمكن أن يكون بهذا الإعجاز وفي مقام هذا التحدي وهو ينزل قطعا لا تفيد ولا تبين، ولا يمكن أن يكون الإنس والجن عاجزين عن الإتيان بمثله وهو كلمات لا تبين وغير متصلة.
إن هذا من القول الهراء الذي لا يليق بأولي الألباب قوله، ثم إن التصريف فيه من كل مثل هل يتفق مع الأسباب السخيفة التي يدعي من غفل أنه بسببها نزل؟. كلا بل التصريف والأمثال من شأن القرآن الذي تنزل بجمال، سورا تتوالى باكتمال، وأمثالا تتلى بكمال، ليتضح بها البيان للناس من ربهم ذي الجلال. فهو الذي يقول: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)[الإسراء: 82].
لن أطيل الصعود بكم مع الإسراء، بل سأنصرف عنها متجها إلى سورة أخرى. إن فيها الدليل الأقوى الذي لا يرتاب فيه ، نعم تعالوا معي فلنأو إلى الكهف: (ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)[الكهف:16].يقول الله في أولها: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) [الكهف:1]. هكذا هو الكتاب لا عوج فيه، بل هو قيم ولا تفرق فيه، بل سليم، ثم لماذا أنزل من الله؟.(لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا) [الكهف: 2-3]. ثم ماذا بعد، هل هناك سبب آخر؟ نعم: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4)ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) [الكهف: 4-5]. فالقرآن أنزل لسبب هام وعام، ولسبب يعلمه الله العلام؛ إنه إقامة الاعوجاج في الأنام، وإماطة الجهل من عقول عباد الأصنام، والذين ادعوا لله ولدا تاهوا في ظلام، فالقرآن جاء ينير لهم الطريق، ويهديهم إلى نور العلم، ويخرجهم من ظلمات الجهل المحيق رحمة من ربهم العليم. فالجهل لا يرضاه الله للعباد، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ولكنه يريد لهم العلم ، ولهذا كان القرآن هو النور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وكان إنزاله في ليلة مباركة تفرق فيها الأمور ذات الأحكام، فالله من شأنه أن يدبر الأمر، وأن يرسل الرسل ليجنب الناس من الخطر، (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا أنزلناه في ليلة مباركة).
لماذا يارب؟.
ها هو الجواب (إنا كنا منذرين) [سورة الدخان:3].ثم إن من صفة هذه الليلة أنها كما يقول العليم: (فيها يفرق كل أمر حكيم(4)أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين) [سورة الدخان]. فما هو السبب للإنزال؟ وما هو السبب لفرق الأمر الحكيم؟. إن السبب أن الله موصوف بأنه (إنا كنا منذرين)؛ فلا بد من إنزال الكتاب، ولا بد أن يكون الكتاب واضحا ومبينا، ولهذا فإن من شأن الله (إنا كنا مرسلين)، فالكتاب منزل في ليلة مباركة؛ ولا بد أن يبلغه رسول بلغة واضحة، ولهذا كان الإرسال وكان الإنزال، ثم هناك سبب أهم وأعم هو (رحمة من ربك إنه هو السميع العليم) [سورة الدخان: 6]. وكيف لا وهو الله (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين(7)لا إله إلا هو يحي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين)[سورة الدخان:7-8].
لهذه الأسباب كان الإنزال وكان الإرسال، ولهذه الأسباب اختار هذه الليلة المباركة لظهور أول الآيات المنزلة، ولإبلاغ الرسول بما أرسله ولمن أرسله، فكان ما أراده الله ولا راد له، ولهذا يختم السورة بقوله: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) [الدخان:58]. فالتذكر هو السبب المقصور عليه تيسير القرآن باللغة العربية ،، ومن كذب فليرتقب العاقبة التي لا تنفع الذين كانوا في غي يلعبون، (فارتقب إنهم مرتقبون)[الدخان:59]. لهذا أكتفي من البيان، على أسباب تنزل القرآن، ولعلي قد فتحت الطريق للقارئ لمعرفة المزيد لتدبر آيات القرآن.
وبعد فإني أدعوك الآن إلى أن تراجع معي بعض أسباب النزول المدعاه، إني أقول لك إنها مضحكة مبكية، وإنها تجعل القرآن خاليا من البيان بالكلية؛ لأضرب لك مثلا: قيل أن سورة الكهف نزلت لتجيب على ثلاثة أسئلة نقلها القرشيون أو تلقاها القرشيون من يهود المدينة ليوجهوها إلى النبي لسبر صحة نبوته وصحة الوحي إليه، مع أني أشك في هذه المحاولة منهم؛ لأنهم مكذبون مع علمهم بصدقه، مكذبون استكبارا (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) وعلى أي حال هذه الثلاثة الأسئلة أو الثلاث المسائل هي بما معناه:
1- عن فتية في زمن غابر فارقوا قومهم فما كان من خبرهم.
2- عن رجل وصل إلى الشرق والغرب فمن هو وماذا عمل.
3- عن الروح أو ما هو الروح.
وهكذا وعدهم الرسول بالإجابة على الأسئلة في اليوم التالي ولم يقل إن شاء الله.
لكن الجواب لم يأتي إلا بعد شهر أو أكثر، ولهذا قيل له في السورة التي جاءت بالجواب: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) فكان التأخير عتابا للرسول مع أني أشك في هذا السلوك من الرسول وفي هذا التعامل معه من ربه؛ فالرسول ما كان يعمل شيئا إلا بإذن الله ولم يكن يجهل أنه مرسل من ربه، وأن أمره تحت مشيئة ربه، فكيف ينسى ذلك في خطابه من منكري الربوبية!!كلا، وعلى أي حال فقد أجابت السورة (سورة الكهف)، عن سؤالين اثنين فقط هما: الفتية وذي القرنين، أما الروح فلم تجب عليه ولم يأت الجواب عليه إلا في سورة الإسراء؛ لماذا؟ هل الله لا يعلم أن الأسئلة ثلاثة فنسي الجواب عن الثالث؟. تعالى الله عن ذلك.
هل الله يقصر في البيان وهو يقول أن القرآن فيه البيان؟.
تعالى الله عن ذلك.
إذن فلماذا لم تأت الإجابات الثلاثة متوالية على الأسئلة الثلاثة؟.
الجواب: أنه لم يكن هناك سؤال مباشر ولا وعد من الرسول بالإجابة ولكن الأسلوب القرآني والبياني يضع الأشياء الهامة في معرض السؤال والجواب لتنبيه القارئ إلى الموضوع ولتثير الخواطر حول ما يدور من الحوار، وما يتوالى من التذكير والإنذار.
ثم إن الله رب العالمين يعلم ما يدور في خواطر الناس من تساؤلات، فهو يجيب عليها بدون سؤال مباشر ملفوظ، ولكن بشكل ملحوظ، أليس هو الذي يعطينا ما نسأله وما نحتاج؟، قبل أن نسأل وقبل أن نحتاج؟، وقبل أن نعلم بحاجتنا للشيء المعطى؟.
إنه يعطيك الحركة والقدرة على الكلام قبل أن تتحرك أو تتكلم لكن محاولة الحركة ومحاولة الكلام سئوال، فهو يجيبه في الحال.
وهكذا هو معنا في القرآن يجيب على التساؤلات، ويوردها بأسلوب جميل لتكون الآيات مبينات.
ثم إن سورة الإسراء نزلت قبل سورة الكهف بسنتين، فكيف يأتي الجواب عن سؤال الروح فيها ولم يأت في سورة الكهف أن هذا دليل على أنه لا سؤال ولا أصل للحكاية من الأساس؟.
ولكن سورة الكهف نزلت كما أنزل سواها للبيان، ولإنذار الإنسان، كما يقول الله في أولها هذا هو سبب الإنزال، إنه الإنذار والتبشير، والبيان للإنسان ليستنير، وهذا هو شأن إنزال بقية السور، وهذا هو سبب إنزال كل القرآن،
وحاشا أن يلجئه الناس إلى الإنزال بما يدور في حياتهم من الأفعال والأقوال، إنه الكبير المتعال. ثم إن دعوى أن إنزال السور كان للإجابة على الأسئلة الثلاثة المذكورة يلغي صفة القرآن بأنه بيان وبرهان، وبصائر للإنسان؛ لأن الإجابة عن السؤال الثالث - وهو الروح - تخلفت ولم يكتمل البيان، ونحن بهذا ننسب العجز إلى الرحمن، سبحانه سبحان؛ إذ لو كان السبب هو الأسئلة الثلاثة لما تخلف البيان عن الكمال؛ لأن المجيب هو الله ذو الجلال، المنزه عن التقصير، والذي هو على كل شيء قدير.
وقبل أن نغادر الموضوع لا بد أن أدعوكم إلى أن نقرأ معا هذا الوصف للقرآن الذي ورد في سورة الإسراء، إنه يدل على أن القرآن كامل بلا مراء:(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) [الإسراء: 88]. إن هذا دليل على أن الإنزال لآيات القرآن كان متواصلا كامل البيان، تبدأ السورة ولا تتوقف حتى تنتهي؛ ولهذا سميت الآيات والسور قرآنا؛ لأنه مقرون بعضه ببعض بأسلوب مبين، لا بأسلوب المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين.
ولعل هؤلاء المقتسمين مشمولين بما يقوله الله رب العالمين: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا)[الإسراء: 89]. (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) [الكهف: 54].
إن الجدل حول إنزال القرآن عضين، وحول أسباب نزول الذكر المبين، جدال عقيم لا يعني إلا الإساءة إلى الله العليم، والاستهزاء بالقرآن الكريم، والعبث بآيات الذكر الحكيم، فسبحان الله عما يصفون. إنهم لا يقدرون الله حق قدره، ويجعلونه غير خبير إلا بغيره، ومستعينا بهم في تدبير أمره، سبحانه سبحانه الذي لا يخفى عليه ذرة.
وكيف لا وهو يقول: (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) [سورة طه:4-7]. بل إنه يخاطب رسوله بقوله: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا)[الكهف: 27].
إن المتلو هو كتاب وهو آيات متوالية، وبينات غير خافية، والتلاوة لا تكون إلا لآيات تفصح بالبينات. لعل هذا يكفي في الاستدلال، وإن أردتم المزيد فلنغادر الجدال إلى البحث السديد، ولنحاول فهم الكلام بقلب رشيد.
لن آخذكم إلى خارج القرآن ولكني سأطوف بكم في سوره من جديد، فلنعلم أن السور كلها مسميات، فكل سورة لها اسم به تعرف عند نزولها بلا تريث، فالسورة الثانية من القرآن اسمها البقرة. أليست كذلك؟
بلى، لكن أين ورد اسم البقرة أو ذكرها؟.
لم يرد إلا في الآيات 67 وما يليها من السورة إلى 71.
فهل يمكن أن نبني على أساسكم القائل أن السورة نزلت مقطعة؟. هل يمكن مع هذا أن تسمى السورة بهذا الاسم قبل نزول الآيات التي تذكر فيها البقرة؟. كلا. إذن فكيف سميت السورة بهذا الاسم من البداية!!
لم تسم بهذا الإسم إلا لأنها نزلت كاملة متواصلة حتى النهاية، ولها صح أن يطلق عليها هذا الاسم وبه تسمى وإلا كان الاسم عبثا وإبهاما، وهذا لا يجوز على الله العليم. وكذلك تقول في سورة آل عمران، بل إن سورة المائدة لم تذكر فيها المائدة إلا في أواخرها، فكيف سميت بهذا الاسم من بدايتها؟!.
ومثل ذلك تقول في الأنعام ويونس وإبراهيم والحجر والنمل والشعراء والأحقاف والعنكبوت وسواها. وإذن فإن تسمية السور منذ البداية حتى النهاية، ولهذا فإن تسميتها تصبح قضية غير خافية، وإلا كان الأمر إبهاما وتعمية.
ثم لماذا تسلمون أن قصار السور كانت تنزل كاملة متواصلة ولا تسلمون أن كبارها كذلك؟. هل أنتم في ريب من قدرة الرحمن على ذلك؟. ألم يتحدى الناس في كبار السور بأن باتوا بسورة أو بعشر سور؟، أليس هذا دليلا على الإنزال الكامل لكل سورة، ودفعا لمن يقول أن آيات السور تنزلت مبتورة؟.كلا إنكم لم تقدروا الله حق قدره، ولهذا فالله يقول لكم: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) [الأنعام: 91].
بل إنه يؤكد لكم أنه أنزل الكتاب المبارك فقال: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون) [الأنعام: 92].
إن من يدعي أسباب للنزول ويجعل القرآن مقتسما بلا ترتيل ينطبق عليه ما الله يقول: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون..) [الأنعام: 93].وكيف لا وهؤلاء يضيفون إلى الوحي المنزل بترتيل، أسبابا للتنزيل، وينسبون إلى الله أحوالا لا تليق بمقامه الجليل، فهو يثار بالأفعال، وينبه بما يقال، وينتظر الهدى للناس حتى يأتيه السؤال.
كلا إن هذا باطل لا يرضاه ذو الجلال، وهذا افتراء وكذاب، يأباه أولوا الألباب، الراسخون في علم الكتاب. إن الله حين يتحدث عن القرآن لا يصفه إلا بأنه كتاب وبأنه آيات وبأنه مرتل ترتيلا، وهذه أوصاف تدل على الاتصال والتوالي، وأنه أنزل كتاتب متكاملة، وأرتالا متواصلة، وآيات تتلى، وبينات تترى، ليست مبتورة بترا.
إن من يقول بالآيات المبتورة إنما هو مبتور، فالله قد سمى القرآن الكوثر، وهو وصف يدل على التوالي الذي يتواتر، ومن ادعى غير ذلك فإنه للبيان وللآيات ينحر، وهو شانئ للبيان الأنور، وهو لا شك الأبتر: (إنا أعطيناك الكوثر(1)فصل لربك وانحر(2)إن شانئك هو الأبتر(3)) [سورة الكوثر]. بهذا أختتم المقال، شاكرا لله ذي الجلال، شانئا لمن حاول الجدال، وأعتمد على أسباب الإنزال.هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الثاني ¶ والآن هل آخذكم إلى آل عمران- لنعرف كيف تنزل القران- أم نتجاوزها،، لعل آل عمران والنساء لها ما للبقرة سواء بسواء، أما المائدة فقد قيل أنها آخر ما أنزل، وقد نزلت كاملة، وكذلك الأنعام فقد روي أنها نزلت ومعها سبعون ألف ملك وأن الرسول استقبلها كاملة وتلاها على الناس مرتلة متواصلة، ومثلها قيل عن الأعراف، أما الأنفال والتوبة فحكاية إنزالها معروفة، فالأولى أعقبت معركة بدر الكبرى، والثانية نزلت عقب تبوك ثم أرسل النبي علي ابن أبي طالب ليقرأها على الناس في الحج كاملة. ¶ وإذا كان لا بد من قول يقال في هذه السور، ليتضح الأمر ويظهر، تعالوا معي إلى سورة آل عمران، ولنقرأ بدايتها: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران:1-4].ألا تلاحظون أن الله الحي القيوم هو الذي أنزل الكتاب، ولكي يؤكد القيومية قال: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء(5)هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم(6)) [آل عمران: 5-6].ثم تتوالى الآيات متحدثة عن القرآن فإذا الناس أمامه فريقان: أولهما: هم الذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه منه. وثانيهما: الراسخون في العلم الذين (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) وهؤلاء هم العقلاء المتذكرون (وما يذكر إلا أولوا الألباب) [آل عمران: 7].ولهذا فهم يدعون ربهم مستعيذين به من الزيغ، (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) [آل عمران: 8].لأنهم يعلمون أن الله محيط بكل شيء علما، وأنه لا يخفى عليه شيء وأن تنزيل القرآن بعلمه الذي يحيط بالماضي والآتي وبالظاهر والخفي فإنهم يقولون: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: 9]. ¶ وهكذا ندرك أن السورة تبدأ بالحديث عن القرآن وتؤكد أنه أنزل من الله الحي القيوم، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأنه هو الذي يصور في الأرحام كل حي، وعليه فإن من كفر به من أهل الكتاب الذين عندهم التوراة والإنجيل هم أصحاب العذاب وانتقام الله منهم وبيل. وبعد ظهور هذه الحقيقة عن التنزيل للقرآن مصدقا لما قبله، تعالوا ننتقل إلى آخر السورة لنجد الحديث متصل الملفات، متواصل الآيات. فإذا الله المنزل يستثني من أهل الكتاب الذين كفروا بآيات الله فريقا مؤمنا بها، وكأن الآيات في السورة متواصلة بغير انقطاع من أولها إلى آخرها، فاستمعوا وعوا: (من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) [آل عمران:199].ثم تختم السورة بالنداء للمؤمنين أولي الألباب الداعين ربهم أن لا يزغ قلوبهم أمام هذا الكتاب، فإذا النداء يؤكد ما بدأ فيقول: (ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 200].وما الصبر والمصابرة إلا على الإيمان بالكتاب والآيات المنيرة، وما المرابطة إلا الثبات على الفهم والفقه للآيات بقلوب مطمئنة، وما التقوى إلا العمل بما أنزل الله واليقين بالآخرة ، وهي الحقيقة التي أعلنوها في البداية (إن الله لا يخلف الميعاد) وهكذا فإن الفلاح هو مصير المصابرين المرابطين المتقين من العباد. ¶ وبعد: أليس آخر السورة يؤكد بدايتها ويصل أولها بآخرها؟. وبعد: فإذا كانت السورة كما تعرف قد نزلت بعد معركة أحد فتعالوا معي نقرأ الآيات ونتدبر لنعرف أن السورة مترابطة الآيات وأن أولها متصل بما تأخر منها وأن ما عرضته السورة عن المعركة قد لاحت إليه الإشارات من أوائل الآيات، يقول الله: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار) [آل عمران:10].ثم يقول ليؤكد أن الكلام موصول: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب(11)قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد(12)) [آل عمران: 11-12] .بل ويزيد الموضوع وضوحا، والحدث عبرة واتعاضا، فيقول: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) [آل عمران: 13]. إنه إشارة إلى ما حدث في بدر قبل أحد وإنه لوعيد بأن ما جرى من التأبيد سيستمر من الله للمؤمنين ما داموا على طريقه الرشيد. أليس في هذه الآيات من أول السورة ما يؤكد أن الآيات الأولى متصلة بالمتأخرة، ولهذا أعاد الله الآية العاشرة هنا ولكن بصيغة تختلف قليلا عن الأولى فقال: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [آل عمران: 116]. ¶ وكما بدأت السورة بالحديث عن القرآن وما قبله من الكتاب فإن الحديث عنه والتذكير به يتواصل في سياق الآيات المتواصل فإذا الله يقول للنبي ومن معه في أواسط السورة ليؤكد أن الآيات متواصلة غير مبتورة، فاستمعوا ما يقول: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) [آل عمران: 84].ثم يعيد التأكيد على الموضوع ليزيدنا يقينا أن مسلسل الآيات غير مقطوع، فإذا آخر السورة نسخ بقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) [آل عمران: 187]. ¶ إنها تذكير بما سبق من قوله تعالى في البداية: (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد).فأهل الكتاب هم المقصودون والمسلمون يجب أن يحذروا هذا الخسران المبين وأن لا يدعوا الإيمان وهم كاذبون، ولهذا يقول الله عن أهل الكتاب محذرا للمؤمنين بالكتاب: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) [آل عمران: 188]. وهكذا ينطلق المؤمنون أولوا الألباب متفكرين مسبحين مكثرين الاستعاذة بالله من النار، معلنين إيمانهم بما أنزل الله والاستغفار: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار(193)ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد(194)) [آل عمران: 193-194].أليس في هذا اتصال بما بدأته السورة وهو: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) [آل عمران: 7].(ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: 9].أليس هذا يدل أن الاتصال واضح كالشمس؟، وأن تواصل الآيات في الموضوع بين بلا لبس؟؟ هذه مجرد إشارات سريعة عن آل عمران، ولو استعرضنا تواصل الآيات في السور الطوال، لطال الوقوف، ولكن يكفي أن أقول أن القاري يستطيع أن يدرك ذلك بالسليقة وبالنظر المستبصر المتأني، لاسيما إذا كان خالي الذهن من المسلمات القديمة، وغير ها من الأقاويل التي لا تعتمد على حقائق قويمة، وإن كان لا بد من مرجع أدله عليه؛ فليقرأ مقدمات السور في كتاب العلامة سيد قطب المسمى (في ظلال القرآن) فإن فيه الشفاء والبرهان. ¶ وعلى أي حال فإن هذه الإحالة لا تعني ترك القارئ الآن قبل الأوان، ولكني أدعوه معي إلى سور الثلث الثاني من القرآن. لنبدأ من الجزء الحادي عشر، وسنجد فيه وما يليه أهم السور: (يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر). ولنستأنس للدخول إلى هذه السور بسورة يونس: سنجد أن السورة تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم(1)) .ثم قوله: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين(2)).أولى الآيتين تشير إلى أن السورة فيها آيات الكتاب الحكيم فهي كتاب متكامل، إذن فالسورة آيات والكتاب حكيم، ولا يمكن أن يكون هناك كتاب إلا بآيات مرتبة الكتائب، منظمة بشكل صائب، متتابعة بأسلوب رصين. بهذا يصح أن يسمى كتابا وأن يسمى الكتاب حكيما، وإلا فكيف تلوح الحكمة من فقرات بلا اتصال، هذا لا يليق بذي الجلال. ثم إن الآية الثانية تستنكر أن يعجب الناس من وحي الله إلى رجل منهم لينذرهم ويبشرهم؛ وكيف لا وهو ربهم الذي خلق وقدر، واستمر يدبر الأمر!!فهو يعلم كل شيء ولا شفيع لديه فيما يدبر، إذن فالعجب العجاب ممن لا يتذكر. لا أحتاج هنا أن أورد على القارئ الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من الآيات التي تؤكد علمه بكل شيء في الأرض والسماوات، فالقارئ يمكن أن يعود إليها ويتدبرها ليجد الله محيط بكل شيء علما، وأنه أحكم حكما. ولهذا فإني أدعو القارئ إلى آخر السورة ليتأكد أن أول الآيات ينظر إلى الأخيرة، وأن آخرها يرتبط بأولها بطريقة منيرة. لنقرأ الختام، فإنه يشير إلى البداية بإحكام: (قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل(108)). أليس في هذا ما بيين لنا أن البداية تفتقر إلى النهاية والنهاية تؤكد البداية، ثم استعيدوا معي قوله تعالى في البداية: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس)، ثم قول الناس: (إن هذا لساحر مبين) ثم اقرأوا معي قوله تعالى في آخر السورة أو في الآية الأخيرة: (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين(109)). أليس في هذا ردا على قولهم "إن هذا لساحر مبين" ثم على قولهم افتراء في وسط السورة؟؟بل إنه تثبيت للرسول الذي يتهم بالافتراء على الله، بل إن وسط السورة عدد من الآيات تدل على تواصل الآيات بلا انقطاع، ونكتفي منها بالآيتين 37 و 38 من السورة، التي يقول الله فيهما: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين(37)). (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(38)). وهكذا يتواصل الحديث عن القرآن والرسول حتى الآية 44، التي تذكرنا أن السورة متواصلة الموضوع، وأن الحديث غير مقطوع، بل إن الجزء قبل الأخير من السورة يشير إلى أن الحديث موصول الآيات، كاتصال الرسول بربه منزل الآيات، وكتواصل الرسل السابقين واللاحقين والرسالات. يقول الله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين(94)). (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين(95)). ¶ إذن فالحق قد جاء والشك في تواصل الآيات يجب أن يلغى، والخسران والعذاب عاقبة من ادعى أن القرآن مفترى، وهو مصير من جادل وافترى. أليس في هذا ما يؤكد لكم بأن السورة بدأت آياتها ثم تواصلت حتى النهاية، وأن موضوعها متتابع البيان بحكمة ودراية، تليق برب العالمين العليم بكل بداية ونهاية، والذي خلق كل شيء لغاية، فهو الحق الذي يقول الحق، وقوله يتواصل حتى الكمال، كما يتواصل الخلق حتى الاكتمال. فهذا هو اللائق بالله ذي الجلال والإكرام، وهو الجدير بالحكيم العلام، وبهذه الحكمة وبهذه الخبرة، أنزل ما يلي هذه السورة، وهي سورة هود، لنقرأ البداية ثم نتأمل النهاية: يقول الله: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير(1)).فهوالحكيم الخبير الذي أنزل هذا الكتاب المنير، وهو على كل شيء قدير، ولتأكيد هذه الصفات ولتأكيد تواصل الإنزال والآيات؛ يقول في الآية 12 مخاطبا الرسول الذي أوحي إليه التنزيل: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل(12)). إن من هو على كل شيء وكيل، لا بد أن يواصل آيات السور في التنزيل، حتى يكتمل البيان فيها والأحكام والتفصيل، ولكي تكون على يقين أن السور تنزل كاملة، لتقرأ الآية التالية، فإن فيها الدليل المبين: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(13)فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون(14)). ¶ وأنا أقول لكم أيها القراء: هل أنتم مسلمون الآن أن السور كانت تنزل كاملة الآيات والبيان؟.ها هو الله يتحدى الكاذبين المتهمين للرسول بالافتراء فتحداهم بعشر سور لا بعشر آيات، أليس في هذا ما يؤكد أن السور كانت تتواصل من البداية حتى النهاية؟؟ بلى بلى. وكيف لا وقد تنزل بعلم الله!! وعلم الله محيط بكل شيء وهو لا سواه الإله. بل إن الله سبحانه يذكرنا في هذه السورة، ويورد التذكير بصورة منيرة، فبينما هو يقص علينا قصة نوح إذا به يقطع الحديث عن نوح ويعود إلى القرآن متحدثا بجملة وآية معترضة ومنها التحدي يلوح، فيقول معيدا لنفس السؤال القبيح: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون(35)).فالمجرمون هم المدعون أن النبي افترى، أما هو فقد بلغ ما ربه إليه أوحى، نعم لقد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح من قبله، ولهذا تأتي الآية التالية عائدة إلى نوح، توكد على الوحي الذي لا مراء فيه ولا امتراء، فيقول: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون(36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون(37)). فإذا كان الله قد أوحى إلى نوح كيف يصنع، واستمر الوحي بأعين الله حتى اكتمل العمل بلا انقطاع، فكيف لا يوحي إلى محمد كيف يقول !! وكيف لا يتواصل التنزيل وتتوالى الآيات بتنزيل وتفصيل أليس هو الحكيم الخبير!!أليس هو الذي أحكم الآيات ثم فصلها للإنذار والتبشير!! أليس هو على كل شيء قدير؟؟بلى. وعلى هذا استمرت السورة تقص وحي الله للرسل ونصرة لمن آمن وشكر، وتدمير من كذب وكفر، حتى تصل إلى قوله تعالى في أواخر السورة: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد(100)). إنه إجمال لما فصل، وتذكير بأن الله يعلم الماضي والمستقبل، وتتواصل الآيات إلى الآية رقم (120) وفيها يقول الله الأجل: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين). إن كلمة (هذه) في الآية تؤكد أن السورة تواصلت آياتها حتى وصلت إلى هذه الآية وما يليها. وما هو الذي يليها أيها الكرام؟ إنه ثلاث آيات فقط ويحين الختام، فاقرأوا باهتمام، وكونوا من أولي الأفهام، يقول الملك العلام: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون(121)). هكذا يكون الاطمئنان بالله الحكيم، الذي إليه المرجع وهو بكل خلق عليم. ولهذا فإنه يختم السورة بصفات تؤكد الصفات التي بدأت بها، فهو الحكيم الخبير في البداية، أما في النهاية فهو كما يقول: (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون(123)). أليست هذه الآية تتصل بقوله تعالى في البداية (من لدن حكيم خبير)، ثم قوله: (إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير(4))، أليست الذي يصف نفسه بقوله: (وما ربك بغافل عما تعملون) هنا، هو الذي يتطابق مع وصفه هناك بقوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور(5)). أليس من له غيب السماوات والأرض هنا هو الذي يوصف بقوله هناك: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين(6)). أليس الذي قال (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) هناك هو الذي يحكي هنا (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين(120)). ¶ أخيرا: أليس ما أوردته لكم في هذه السورة يوضح البيان ويفصح عن كمال الصورة؟؟أليس الحكيم الخبير هو الذي بالبيان والحكمة جدير؟، وهو الذي ومنه تتواصل الآيات، حتى يكتمل التفصيل ويشع التنزيل؟.بلى بلى ، إن هذا هو الحق الذي لا يختلف عليه أحد، ولا يماري فيه إلا من للفهم افتقد، وعلى الخرافات والأساطير اعتمد، وعن البحث والمعرفة قعد، حتى اختل فهمه وفسد. ¶ ومن سورة هود نقفز بكم سريعا إلى يوسف الذي تبدأ سورته بالسجود، ولست بحاجة إلى تأكيد تواصل آياتها وترابط أحداثها، من بدايتها حتى نهايتها، فذلك معروف لمن قرأها بإتقان، وتدبرها بإمعان، ولا يشك في ذلك إلا خاسر الرهان. فها هي تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب المبين(1)إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(2))، ويأتي في أواخرها قوله تعالى عن القرآن: (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين(104))، فالضمير هنا في آخر السورة يعود إلى القرآن المذكور في أولها، أليس هذا يدل على تواصل الآيات وترابطها؟. ثم إن الله يقول في آيات البداية: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين(3)). ثم تبدأ القصة بقوله تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين(4)). ¶ ويأتي في الختام ما يشير إلى البداية بكل وضوح، فيقول عن يوسف: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء)، ثم إن هذا الآية تختم بقوله تعالى: (إنه هو العليم الحكيم(100))، وهو نفس ما ختمت الآية رقم (6) في أولها، وأبوه يبشره برؤياه ويقول (إن ربك عليم حكيم)، ثم ها هي الآية رقم 7 تقول في أول السورة: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7))، ثم تأتي الآية رقم 102 في آخر السورة فتقول (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون(102))، فتؤكد لنا أن السورة أنزلت كاملة من البداية حتى النهاية بل إنها ختمت بآية تدل على أن قصص الأنبياء جميعا تأتي كاملة مفصلة، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون(111)). ¶ أما سورة الرعد فهي كلها عن القرآن من أولها إلى آخرها وهي كلها تؤكد رسالة محمد وتعلن أن (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1)). ثم تأتي الآيات التي تؤكد أن الإنزال من الله فإذا بها تورد عددا من صفات الله وقدرته وحكمته ورحمته وأن الحق في دعوته فمن دعاه أجاب، (له دعوة الحق (14)) ثم (قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار(16)) وعلى هذا فمن استجاب لله فاز بالحسنى، ومن لم يستجب فله لظى، كيف لا والمستجيب عنده العلم الحق، والمكذب أعمى في ظلام مطبق. (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب(19)). ثم تأتي الآيات التي تصف العليم بالحق المنزل حتى تصل إلى قوله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب(28))، وتستمر الآيات تؤكد أن الرسول أرسل ليتلو هذا الكتاب وأن هذا الكتاب منزل ممن (هو قائم على كل نفس بما كسبت (33))وأن هذا الكتاب المنزل حكما عربيا هو الحق الذي لا ينكره إلا ذو الغواية، فلماذا يطلب الناس سواه آية، كلا فلا آية إلا بإذن الله، وما على الرسول إلا البلاغ، فإذا بلغ فقد ثبتت الحجة لله على الناس وأصبح المكذب مستحقا للعذاب في الوقت المناسب فالله عنده (لكل أجل كتاب)، وهكذا تستمر السورة متحدثة عن القرآن حتى تختم بقوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب(43)). لقد بدأت السورة بقوله : تلك آيات الكتاب، وانتهت بكلمة الكتاب، فهل بعد هذا يكون في نزولها كاملة ارتياب؟. وكذلك سواها من السور الصغار والكبار كلها تتنزل كاملة بلا انبتار، قل لي أيها القارئ، ما معنى (رتل) بسكون الباء، وأرتال؟ إنه يعني مجموعة من الناس متراتلين متواصلين سائرين جميعا، وهكذا هو القرآن (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا)، أي أن الله يجمع الآيات أرتالا فتكون مجموعة في سورة كاملة. ¶ وعلى أي حال فإن كل سورة نزلت كاملة مجموعة، ولكن السورة تنزلت منجمة المواعيد، فلقد كان تنجل السور والسورة زمن يطول أو يقصر بحسب مشيئة الله، وما على الرسول إلا أن يستقبل متى شاء الله بدون سبب ولا داع لما يتلقاه سوى إرادة الله الذي أراد أن ينزل هذا القرآن على قلبه ليبلغه للناس مرتلا متتابع الجرعات فلا يمل ولا يكل ولا يثقل، بل يجعل الناس عليه تقبل، (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا). فهو مفروق السور المتباعدة المتعددة، متواصل آيات السورة الواحدة، ¶ وعلى هذا تفهم السورة التي تلي سورة الرعد تلك هي سورة إبراهيم، ها هي تبدأ بقوله: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد(1)). ثم يقص الله فيه قصة كل الرسل مع المكذبين، فإذا النصر فيها للمرسلين الذين يخافون الله ويبلغون رسالاته (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين(13)). وإذا (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد(18)). وإذا القيادات الضالة المضلة تتخلى عن الأتباع في يوم الحسرة، ولكن الجميع ما لهم من محيص، كما أن الشيطان يزيدهم حسرة ويعلن أن الحق من ربهم هو الذي جاءت به رسهلم، فكيف استجابوا ما يعده به عدوهم، فهو اليوم يؤمهم، وبهذا يتضح أن الرسل واتباعهم وما أنزله الله عليهم، هم الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين، وأن المكذبين هم الشجرة الخبيثة المخبثة ما لها من قرار، ولتأكيد هذا تأتي الآيات التي تؤكد أن دعوة إبراهيم لا تزال تؤتي أكلها كل حين في البلد الحرام، وأن أتباعه هم الباقون على الحق ونبذ الأصنام، ولهذا فهم عن إبراهيم وهم من دعى لهم بقوله (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء(40)ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب(41))، فالظالمون هم الخاسرون وهم يتمنون أن يمهلوا عند العذاب بقولهم: (ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل(44)). ولكن لا أمل ولا نجاة فلقد جاءهم البلاغ وجاءتهم الرسل فكانوا غافلين عن دعوة الله فلا بد من يوم مؤخر لينال فيه كل عبد جزاء ما قدم وأخر. (ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب(51))، فلنستعد لذلك اليوم، فلقد جاء النذير اليوم فلا لوم.وبعد: ألم تكن السورة معلنة في البداية أن الكتاب أنزل إلى الرسول ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ أليس في آياتها البلاغ والإنذار والتذكير؟ أليس الرسول محمد الخاتم وكل الرسل من قبله قد بلغوا ما أنزله الله؟ أليس كل الرسل قد أنذروا بأيام الله؟ إذن فمن كذب الرسل فلا بد أن يلقى جزاه: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام(47)). وكيف لا وقد جاء البلاغ!! (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب(52)). لقد اتضح في سورة إبراهيم أن البلاغ في السورة متواصل وأن السور كلها أنزلت بشكل متواصل. ¶ ولتأكيد هذا أكثر فلنستمر في الدلائل، هيا معا إلى سورة الحجر إنها تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين(1)). إن البداية تشير إلى الآيات لا إلى الآية، مما يؤكد أن آيات السورة ستنزل كاملة متواصلة، ولهذا فإن السورة ختمت بقوله تعالى: (إن ربك هو الخلاق العليم(86)ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم(87))، ثم تقول للرسول: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين(94)إنا كفيناك المستهزئين(95)). إن هذه الآيات في الختام تنزل على ما سبق أول السورة (وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون(6)). ولكن الله يعلن علمه بما يقولون وعلمه بما يفعله الرسول من البلاغ المبين فليطمئن وليكن من المسبحين (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون(97)فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين(98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين(99)). لماذا، لأن الله يعلم ما يقولون، فهو المجازي لهم الجزاء الذي يستحقون، وهو يعلم ما يعمله الرسول فما عليه إلا الاستمرار على البلاغ المبين، وسيرى اليقين. أليس في هذا أيها القارئ العزيز قد أتاك اليقين بما أقوله لك منذ حين، أليس في هذه الدلائل ما يقنعك أن كل سورة نزلت آياتها بشكل متواصل، وهنا أتوقف في أواخر النصف الأول من القرآن، فلقد طال معه الوقوف وطال الاستدلال والبيان، ولعل القارئ قد أحس بالملل واكتفى بما تقدم من البرهان. ¶ ولكني مع ذلك أرجوك أيها القارئ أن تواصل معي المسير المتأني، إلى السور التي في النصف الثاني. لن أطيل كما فعلت في الأول، ولكني سأوردها باختصار لا يبعث الملل، مع علمنا أن سورتي الإسراء والكهف كلاهما عن القرآن، وأن آياتهما متواصلة حول الموضوع بلا انقطاع حتى ختمت الأولى بقوله: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) [الإسراء:105 ].(قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) [الإسراء:107 ]. وجاء في البداية: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا(9)). بينما ذكر القرآن في السورة أكثر من مرة في الآيات 45 وما يليها والآية 73 و86 وما يليها إلى قوله (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل (89)). ¶ وفي الكهف كانت البداية (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1)قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا(3)). ولنقرأ في منتصف السورة: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا(54))، ثم ختمت السورة بما تضمنته البداية: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا(110)). أليس في هذا تأكيد لقوله: (قيما لينذر بأسا شديدا)، و (أجرا حسنا) و (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4))، التي وردت في البداية بلا إذن فالموضوع متصل من البداية حتى النهاية وهكذا في كل سورة فلنواصل المسير لنزيدكم دراية. ¶ أما لو انتقلنا إلى النصف الثاني من القرآن فسنجد أن سورة الإسراء جاء فيها قوله تعالى في الآية رقم (9): (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا(9))، وجاء في آخرها قوله تعالى في الآيتين 105، 106: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا(105)وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا(106)). كما أن السورة لم تخل في أواسطها عن ذكر القرآن فيقول الله في الآية 45: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا(45)).ويقول في الآية رقم 79: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) والضمير للقرآن.وفي الآية: 88: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(88))، إلى آخر الآيات التي تليها حتى (100). أليس في هذا ما يؤكد أن السورة نزلت كاملة، وكذلك سواها من السور، فالموضوع متصل والفقرات متوالية يشد بعضها بعضا ،، كالإسراء أليس أنه تم متواصل الحلقات متتابع اللحظات، واضح الآيات، (لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير(1)). فكما رأى آيات السماء وآيات ربه خالق كل شيء وخالق الإنسان؛ فلا بد أن تكون كذلك آيات القرآن، فسبحان الذي أسرى بعبده سبحان، فآياته مبينة متوالية، سواء في السماوات والأرض كلها أو في كهف صغير منها، فلقد توالت الآيات في الكهف كما توالت سورة الكهف. ألم يكن للفتية فيه آية تلي آية، فالاعتزال ثم الإيواء ثم الضرب على الآذان ثم المنام ثم التقليب ثم الاستيقاظ ثم الإعثار عليهم ثم عودتهم إلى كهفهم كلها آيات (ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا(17- الكهف)). ¶ وها هنا فلندخل سورة الكهف عسى أن نجد فيها ما يدعم الفكرة ويجعل القضية منيرة، ولنقرأ الآية رقم 1: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1))، ثم ما يليها حتى الآية 61. ثم نتجاوز قصة أصحاب الكهف التي تدعم أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، لنصل إلى قوله تعالى في الآية 27 من السورة، وعقب قصة أصحاب الكهف مباشرة: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا(27)). ثم تتوالى الآيات لتؤكد أن كلمات الله هي الباقية وأن لا ملجأ منه إلا إليه حتى نصل إلى قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا(54)). مع الآيات التي تليها كأنها متصلة بالموضوع حتى الآية 59. ثم تأتي قصة موسى مع عبد الله العلامة الذي أوتي علما ورحمة، ثم قصة ذي القرنين ،، وكلا القصتين تؤكد علم الله المحيط بما كان وما يكون والذي يوحي إلى عباده بالخير وبما به يسعدون ولكنهم للهوى يتبعون، فإذا هم أو أكثرهم من الذين يقال عنهم: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا(104))، هؤلاء هم الأخسرون أعمالا، لماذا هذا الضلال والخسران!! إن الله يوضح لنا البيان، إنه لسبب هذا القرآن: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا(105))، ما هو الجزاء؟، (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا(106)). إذن فالسورة كلها قرآن وموضوعها القرآن من البداية حتى النهاية. ألم تبدأ بالحمد لله على إنزال الكتاب؟، ألم يأت في أولها قوله تعالى مخاطبا للرسول: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا(6))، وإذن فإن المستهزئ بالآيات والمكذب له جهنم، والمستجيب له الجنة: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا(107)خالدين فيها لا يبغون عنها حولا(108)). وعليه: فإن الوحي هو الحياة وهو سبيل النجاة، وهو موضوع السورة، (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا(110)). ¶ لعل صعودنا مع الإسراء وصحابه الكريم، وهبوطنا مع أصحاب الكهف والرقيم، قد زاد القضية وضوحا وبيانا "كيف كان ينزل الله القرآن". إن الآيات في الكتاب تدفع كل ارتياب، وتنفع أولي الألباب.ولهذا فأنا إلى المزيد من الآيات أدعوهم، وإلى سورة طه أواعدهم، ها هي تبدأ بالآيات 1و2و3: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)). ثم من أين الإنزال؟. ها هو الجواب: (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)). هل هذا الوصف يكفي لمنزل القرآن؟ إنه يكفي، ولكن قوله (على العرش استوى) ماذا يعني؟ إن الجواب بعد هذا يأتي: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)). فهو المدبر لكل الخلق، وهو العليم بكل سر وجهر، بل هو العليم بأخفى من السر، فإذن فالقرآن هو النور والعلم الذي لا يضل به من تذكر، ومن تذكر بالقرآن وله دعى، فلا بد أن يوحد الله ويخشى، وكيف لا وهو: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)). وهذا المنبع المنيع، والمقام الرفيع، والنور الوسيع، جاء به القرآن، وبهذا العلم الوسيع يقص علينا الله حديث موسى مع فرعون وهو حديث ذو علم عجيب، وفيه التفاصيل التي لا يعلمها إلا علام الغيوب. ¶ فنجوى الناس في الغرف المغلقة، ترد لنا واضحة محققة، وخلجات القلوب الخافقة، نسمعها في الآيات منطلقة، ووسواس النفوس الفاسدة، نراه في القصة بصورة مجسدة. حتى إذا انتهى الحديث عن موسى واكتمل المراد، جاء الحديث عن القرآن وعاد، فإذا بنا نقرأ قول الله مخاطبا رسوله محمد وكل العباد: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا(99)من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا(100)). وتتواصل الآيات لتصل إلى الغاية من الحديث عن القرآن، فإذا بنا نقرأ: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا(113)فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما(114)). تأملوا: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أليس فيها كما سبق أن أكدنا في بداية هذا البحث ما يدل على أن السور كانت تنزل كاملة، وإلا فلماذا استعجل الرسول في تحريك لسانه بالقرآن، إذا كان المنزل عليه آية أو آيتان، (فتعالى الله الملك الحق) أن يكون الإنزال بهذا الأسلوب الذي لا يليق بالرحمن. وبعد: فيكفي هذا، ولنواصل المشوار مع الآيات لنصل إلى قوله تعالى عقب قصة آدم: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى(123))، ثم إن هذه الآية وما يليها من الآيات حتى 132 حديث موصول عن القرآن، وتأكيد على أنه الحق الذي أنزله الرحمن هدى للإنسان ، وسيسمع يوم الحساب ما لم يكن في الحسبان، إذا نسي القرآن: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126)). وهكذا تتوالى الآيات وتتلألا البينات حتى إذا السورة قاربت من الختام، نجد القرآن هو الهدف والمرام، وإذا بنا نقرأ: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى(134)). ¶ إنه أمل محال وأماني تدل على الخبال، فلقد جاء القرآن تذكرة لمن يخشى، فليتذكرالإنسان من قبل أن يذل ويخزى، يومئذ يتذكر وأنى له الذكرى، لقد كذب واستهزأ، فهو بما قدم اليوم يجزى، فلقد قدم الله إليه الوعيد وإلى الحق دعى، فهو يجزيه بما وعى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فطوبى لمن وعى ، وعلى هدى الله سعى، ولعهد الله رعى، وتبا لمن كذب وعصى، وأدبر عن ربه وأقبل على الدنيا، وأعرض عن الهدى واتبع الهوى، إنه لنفسه في النار أردى، وما يغني عنه ماله إذا تردى، إن المكذب متربص مصدق للأماني، ولكنه غافل والله يعد له عدا. (قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) الآية الختام 135 من سورة طه. وما الصراط السوي إلا القرآن، وما الهدى إلا هدى الله الرحمن، ولقد قال لنا بكامل البيان (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى(123)ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى(124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا(125)قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126)). ¶ وبعد فلعل سورة طه قد أضافت إلى الموضوع البيان الذي لا يضاها، فهل يكفي أم تريدون المزيد الذي يشفي. لن أدخل بكم في محراب الأنبياء وسورتهم، ولن آخذكم إلى محراب الحجاج من الناس وقبلتهم، ولن أشغل المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، ولن أعود بكم إلى سورة النور، التي تؤكد أن القرآن أنزل سورا من الله الخبير كما عرفنا قبل هذا. ولكني سأرقى بكم الى المقام المبارك، الذي ينفرد به الله ولا يشارك: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا(1)الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا(2)). إنها سورة الفرقان وإن فيها لنا مزيد من البرهان، ويكفي أن أدعوكم إلى المرور عليها مرور الكرام، فإن البركات ستفتح عليكم ما دمتم تمرون على الآيات بوعي واهتمام، وبإمعان أولي الأفهام، إن البركات ستنهال عليكم والسلام، وكيف لا وأنتم من عباد الرحمن (الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما(63)). لقد بدأت السورة بالفرقان، وانتصفت وهي تتحدث عن القرآن: (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا(30)). وقاربت الختام وهي تتلفت إلى القرآن: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا(57)). ثم ختمت بقوله: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما(77)). إن الفرقان يدعو الناس للإسلام لينالوا سلاما، وينذر الناس العذاب فإن كذبوا فسوف يكون لزاما. وهكذا فإن السورة بما بدأت تختم، وتكرس لموضوع واحد هو القرآن وبه تهتم، أليس في هذا ما يؤكد القضية ويدعم. قد استدعي شهود آخرين ليسو في مستوى الفرقان وعباد الرحمن، ولكن لهم عند الله شأن إذا كانوا من أهل الإيمان، أتدرون منهم أيها الأحباء؟. إنهم إخواننا الشعراء. قد تقولون: فماذا سنجد لديهم من الأدلة على ما تقول وهم يقولون ما لا يفعلون؟. أقول: نعم، ولكنهم قد ينفعون إذا كانوا لله ذاكرين، وهذا هو السبيل لكل الناس ليكون عند الله من المحسنين المقربين، فمهما كانت أعمالهم ومهنهم الدنيوية فأعمالهم هي التي تبرئهم عند رب البرية. ¶ نعم الشعراء هم فئة هامة في المجتمع إذا كانوا مؤمنين بالله وله ذاكرين، وللحق منتصرين من الظالمين، وللفساد مقاومين، وللجهاد داعين، وإليه سائرين، ولهذا كانت السورة باسمهم؛ لأنهم عنصر في الأمة مهم، وصوف رفيع للدفاع عن أمتهم. إنهم يفصحون عن ضمير الأمة، ويقولون الحق في كل قضية ومهمة، ولهذا فإن السورة مفصحة عما نريده من الأدلة على أن سورة القرآن كانت تنزل كاملة. سورة الشعراء. إن السورة تبدأ بقوله تعالى: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)). ثم تخاطب النبي المبلغ للكتاب: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين(3)إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(4)). إذن فالآيات التي يريدها المكذبون تعني تلك الآيات التي جاء بها موسى وعيسى وصالح فكذب بها الأولون، لكن الله هنا يؤكد للنبي وللناس أجمعين أنه غير عاجز عن إنزال آية تخضع الرقاب، ولكنه يكتفي بهذه الآيات في هذا الكتاب، ولكنهم يعرضون عن العلم الذي يأتيهم من الرحمن؛ لأنهم متبعون للهوى الذي يقودهم إلى الخسران، فالاستهزاء عاقبة الهوان. ومع ذلك فهو الله يوجه الناس إلى التفكير في آيات الأرض البينات، التي تفصح عنها كل المخلوقات: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(8)).إن آيات الخلق تدل على الحق، وتدل على أن الله عليم بكل شيء، وغني عن كل شيء وحي، ولكنه يرسل الرسل وينزل الذكر رحمة بالناس، وهو الرب العزيز الغالب على أمره، والرحيم بالإنسان رغم كفره: (وإن ربك لهو العزيز الرحيم(68)). وبهذه الصفات لرب العالمين، أنزل هذا الذكر للعالمين، وبهذا العلم المحيط بالأولين والآخرين؛ بدأت السورة تقص قصص السابقين، وتتوالى الآيات من موسى، وآياته مع فرعون وإفكه، إلى شعيب مع أصحاب الأيكة، وكلهم كذب المرسلين، فكان الهلاك مصير الأولين والآخرين. (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(103)وإن ربك لهو العزيز الرحيم(104)). وحينما تنتهي الآيات من القصص المنيرة، تعود إلى ما بدأته السورة؛ وهو التأكيد على أن آيات الكتاب المبين، تنزيل من رب العالمين (نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)). إذن فمحمد من المنذرين، ومسبوق بغيره من المرسلين، وهذا القرآن هو الذي عند السابقين، (وإنه لفي زبر الأولين(196)). فالكتاب واحد، والدين واحد، والتنزيل من الله الواحد، ومنه نزل القرآن سورا متواصلة الآيات، بدليل هذه النهاية التي تتصل بالبدايات، وهكذا تتواصل الآيات حتى آخر السورة، وهي تتحدث عن القرآن، وتواصل التأكيد على أنه نزل بعلم الرحمن، وأنه العليم بكل ما يكون وما كان، وهو معنا في كل حال ومكان؛ ولهذا فإن التوكل عليه اطمئنان. (وتوكل على العزيز الرحيم(217)الذي يراك حين تقوم(218)وتقلبك في الساجدين(219)إنه هو السميع العليم(220)). ألم تكن شهادة الشعراء قوية الدلالة، بليغة الأداء، تزيد الموضوع سطوعا وجلاء؟؟بلى بلى، ¶ ولكن النمل على الشهادة أقوى رغم عجمتها؛ فلقد كانت في واديها حارسة يقضة لأمتها، صادقة في كلمتها، فلنستشهد بها في القضية، ولنجعلها مع الناس مستوية، لنقرأ البداية في سورة النمل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1)) ثم قوله تعالى لرسوله: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم(6)). فالحكيم العليم هو الملقي، والرسول الأمين هو المتلقي، والذي يلقى هو آيات القرآن وكتاب مبين، وهكذا تبدأ السورة وبالحكمة والبيان تقص القصص السليمانية والسبائية، ثم تختم بقصة قوم صالح الفاسدين، الذين يخافون من الصالحين، وقوم لوط الملوثين، الذين يكرهون المتطهرين: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون(56)). وهنا تبدأ الآيات تثني على الله، الذي لا إله سواه، ولا يعلم الغيب إلا هو، وتفصح عن بديع خلقه: (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون(88)). وهذا البديع الخبير، وهذا الإله العليم القدير، هو الذي أنزل القرآن للإنسان، وبدأ السورة بالقرآن، وختمها بالقرآن. وها نحن نقرأ ما يقوله لرسوله محمد الذي تلقى منه القرآن، ونقرأ كيف يعلمه بحنان، ويدله على القول الحكيم القوي البرهان: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين(91)وأن أتلو القرآن). فإنما أمر محمد من ربه بأن يعبده وحده بإخلاص ويقين، وصفته أنه من المسلمين، المؤمنين بما أنزله رب العالمين. أما مهمته فهي محصورة فقط، ومقصورة على قوله: (وأن أتلو القرآن) فالقرآن مهمته، وإبلاغه إلى الناس وظيفته، وتلك مهمة رفيعة المقام الكريم، لأنه تلقاه من حكيم عليم. ثم إن الله معه يعين، وهو عليم بالضالين وبالمهتدين. (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) (بقية الآية92). إنه واحد من المنذرين، وليس بدعا في المرسلين، بل دينهم له دين، وهو خاتمهم إلى العالمين. وما عليه إلا إبلاغ الآيات، وسيعرفها الناس بإذن الله مهما طالت السنوات، فالله عالم بالخفيات، (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون(93)). أليست شهادة النمل واضحة الدلالة بأن السور تنزلت كاملة الآيات؟.بلى بلى إن ذلك واضح لكي ذي لب ذاكر، وقلب شاكر (إنما يتذكر أولوا الألباب) ¶ وبعد سورة الشعراء أدعوكم إلى ما قص الله في سورة القصص وما تلى، لقد بدأتها بقوله: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون(3)). هكذا تبدأ السورة بالإشارة إلى آيات الكتاب، وتشير إلى فحوى السورة باقتضاب، ثم تنطلق القصص وتتوالى الأحداث وتتلى، حتى تصل إلى المنتهى. فإذا بالآيات تعود إلى الحديث عن القرآن، فتؤكد أولا أن الله قد أنزل على موسى الكتاب وفيه دليل على إنزال القرآن والبرهان؛ (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون(43)). فالله من شأنه أن يرسل الرسل وأن ينزل الكتب والناس محتاجون لهداه ورحمته ، وعليهم أن يصدقوا لعلهم يتذكرون. وما كان لمحمد علم بما كان، لولا هذا الوحي من الرحمن؛ (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين(44)ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين(45)وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون(46)). وإذن فالغاية واحدة والشأن مستمر والرحمة متواصلة والتذكر مرجو للناس في كل حين، وهكذا أنزل القرآن على محمد خاتم النبيين، ولكن الناس كانوا وما زالوا يواجهون ما أرسل بالارتياب والتكذيب، ويطلبون من الرسل البراهين، والحق أمامهم واضح لكل العاقلين. (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون(48)قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين(49)). لكن الظالمين لا يسمعون ولا يعون الحجاج، بل يتبعون اللجاج، والهوى والاعوجاج (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين(50) ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون(51)).فالحجة قد لزمتهم وهم ظالمون، ومع هذا فغفلتهم طاغية،وأعذارهم واهية؛ (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) إنه عذر سقيم عقيم، ولهذا فالله يبطله بقوله الحكيم: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون(57)). وهكذا يستمر الحجاج، مع أصحاب اللجاج، وتتوالى الآيات في السورة تضع البراهين على أن آياتها متواصلة غير مبتورة، حتى تصل إلى قصة قارون التي لها صلة بموسى وفرعون، ولتؤكد أن القصص تتوالى بالحق لقوم يؤمنون، حتى تصل إلى نهاية السورة لتعلن أن الختام يؤكد البداية، فاستمعوا وعوا: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين(85) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين(86))، فالسورة كاملة تتلى وتلقى، والآيات من أولها إلى آخرها تتوالى. ¶ لعل سورة القصص قد أوضحت القضية بصورة جلية، ولعلي لا أكلفكم شططا إذا واصلت استعراض السور على التوالي، ولهذا فأنا أدعوكم إلى تدبرها بشكل انفرادي، ويكفي أنني قد وضعت أمامكم منهج البحث والتدبر، وأصبح أمامكم السبيل سهلا للاستبصار والتذكر. فسورة لقمان وسورة السجدة كلها حديث عن القرآن وموضوعهما هو التأكيد على أنه من الرحمن، فتأملوا بإمعان لتجدوا القضية واضحة للعيان، ولنشرع الخطو مستأنسين بسورة يس. فنجدها تبدأ بقوله: (يس(1)والقرآن الحكيم(2))، ويتوسطها قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين(69)لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين(70))، فالضمير يعود إلى القرآن، وكأنه قريب من الأذهان، مع أن ذكره قد سبق هذه الآية بسبعين آية.وكذلك نجد القضية في سورة (ص): فقد بدأت بقوله: (ص والقرآن ذي الذكر(1))، ويتوسطها قوله تعالى خلال قصة داوود وسليمان: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب(29))، ثم يعود إلى قصة سليمان وتتواصل القصص حتى يقول: (قل هو نبأ عظيم(67)أنتم عنه معرضون(68))، وتنتهي السورة بقوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين(87)ولتعلمن نبأه بعد حين(88)). ¶ وكذلك نجد السور السبع المسماة الخواتيم أو بالمثاني (غافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف)؛ كلها تبدأ بالحديث عن القرآن، وتختم به، ولست بحاجة إلى تكرار إيراد الآيات، لكن سورة الزخرف يتوسطها قوله تعالى إشارة إلى القرآن: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم(61))، وهي مرتبطة بقوله تعالى فيها: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44))، وهما مرتبطتان بأول السورة (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)). ¶ ولنمض مسرعين متجاوزين سورة محمد والفتح والحجرات لنصل إلى (ق) والذاريات وما تلاهما من السور المتواصلة الآيات، بشكل لا يمكن أن يسمح لأحد أن يدعي أنها نزلت على فترات.فإن سورة (ق) تبدأ بقوله تعالى: (ق والقرآن المجيد(1)). وتنتهي بقوله تعالى: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد(45)). وهكذا أخواتها؛ فالذاريات يأتي قبل ختامها قوله: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين(55)) . والطور يأتي وسطها قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون(29)). ويستمر الحجاج به إلى آخرها، ¶ وكذلك النجم، إنها كلها عن القرآن: (والنجم إذا هوى(1)ما ضل صاحبكم وما غوى(2)وما ينطق عن الهوى(3)إن هو إلا وحي يوحى(4)). والختام هو: (أفمن هذا الحديث تعجبون(59) وتضحكون ولا تبكون(60)وأنتم سامدون(61)فاسجدوا لله واعبدوا(62)). أما القمر والرحمن والواقعة فهل يستطيع أحد أن يدعي أن آياتها مقطعة؟.بل لعل النجم والرحمن تضيء الطريق إلى نهاية القرآن، وتؤكد لنا أن السور كانت تنزل كاملة متصلة البيان مترابطة البنيان، إذ كيف ننكر الإبتار والانقطاع على الإنسان ونلصقه بالرحمن، سبحان الله سبحان، عن هذا الافتراء والبهتان. إنه: (الرحمان(1)علم القرآن(2)خلق الإنسان(3)علمه البيان(4)). فالإنسان علمه الرحمن البيان، فكيف يصبح أفصح من المعلم في البيان؟.وكيف ننكر على الإنسان الانقطاع في الكلام، ونلصقه بالخالق العلام؟.وكيف يجوز علىالرحمن التقصير، ولا نجيزه من الإنسان الفقير؟. تعالى الله وسبحان، عن هذا الافتراء وهذا البهتان. إنه قول لا يليق بالغني الحميد (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) [سبأ:49].وعلى أي حال فإن كل السور تفصح عن المراد أروع إفصاح، وتجعل الموضوع بينا كالصباح، فمن تأملها تبين أن كل سورة موحدة الموضوع والقضية، موحدة الأسلوب والشخصية، موحدة البداية والغاية، متصلة الآيات بلا انقطاع حتى النهاية. ¶ ولن أستمر في الاسترسال لاستعراض السور ولبيان الموضوع والمحور، بل سأنتقل إلى دليل آخر، هو: أن أكثر السور التي تبدأ بالحديث عن القرآن تأتي باسم الإشارة المشار به إلى أنها آيات، وأن الآيات فيها جزء من آيات الكتاب.ولنبدأ من سورة يونس وهي من السور التي تركز على القرآن. فإنها تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم(1))، فهذه إشارة إلى آيات السورة التي هي نفسها آيات الكتاب الحكيم ولهذا جاء في آخرها (قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم). ¶ ولنقرأ بداية سورة هود، فإن بدايتها فيها التأكيد: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير(1))، فهل الحكيم الخبير الذي فصل وأحكم الآيات يمكن أن يجعلها في السورة متفرقات؟.كلا، ولهذا جاء في آخرها إشارة إلى آيات السورة بقوله تعالى: (وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين(120)). ¶ وفي سورة يوسف نقرأ: (الر تلك آيات الكتاب المبين(1))، فهل الكتاب المبين يمكن أن يقطع كفل المقتسمين؟، الذين جعلوا القرآن عضين، كلا إنه منزل من رب العالمين. ولنتجاوز يوسف إلى الرعد، فإن فيها التعظيم لله والتسبيح، الذي ينزه الله عن الكلام الغير فصيح، ولنقرأ: (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1)) واقرأوا بعدها صفات الله: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش (2)). فما معنى الاستواء؟ إنه يعني (يدبر الأمر(2))، وإنه يعني: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار(8)عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال(9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار(10)). فمن هذا شأنه، هل يجوز عليه أن يتقطع قرآنه، وأن تبتر آيات السور؟. وهل يمكن أن يتوقف قوله وبيانه على فعل الناس وهم تحت سلطانه؟. كلا، فهو الحكيم العليم، الذي يعلم الحادث والقديم، والظاهر والسر المكتوم، ولا ينتظر لإصدار حكمه فعل عبد خاضع لحكمه، بل يحكم ويقرر للأول والمتأخر، فسنته لا تتغير وحكمه لا يتأثر بمؤثر، سبحانه فه والقدر المقدر، والعليم المدبر، يعلم ما تكسب كل نفس، وهو قائم على كل نفس، وحكمه اليوم كحكمه غدا والأمس. ¶ ولننزل من الرعد إلى الحجر، فإنها للموضوع تنصر، ولنقرأ: (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين(1))، لن نزيد على هذه الآية تعليقا، ففيها الدلالة لمن له عقل ودراية، ولنغادر النصف الأول من القرآن، من النصف الثاني لنجد الاستمرار في البيان؛ ها هي سورة الشعراء تعلن من هناك التأييد في البداية والمنتهى؛ (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2))؛ وسورة النمل تنظم للموكب الجميل، وتبدأ بقول الله الجليل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1)). ¶ لعل من الأفضل أن أتوقف عند النمل، حتى لا أكلفكم الملل، وأنتقل إلى دليل أجمل وأكمل، ففي السور السبع الخواتيم تتحول الإشارة من آيات الكتاب إلى مجمل الكتاب لتدل على أن الآيات هي الكتاب والكتاب هو الآيات، فإذا بسورة غافر تبدأ: (حم(1)تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم(2)) ، ويأتي في الآية رقم 3: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد(4)). أليس في هذا ما يؤكد أن السورة تنزل آيات، وأن السورة تسمى كتابا ولا يسمى كتابا إلا ما اكتمل وتوالى واستمر حتى يكتمل البيان واضحا مفصلا، ولهذا بدأت سورة فصلت، بما يؤكد أن تواصلت: (حم(1)تنزيل من الرحمان الرحيم(2)كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(3)). فهل التفصيل والتنزيل من الرحمن الرحيم يصح عليه التقطيع والتقسيم؟. كلا، إن هذا لا يقول به إلا ذو الفهم السقيم. ¶ ولنأت إلى الشورى، لنجد فيها الوحي يترى ويتوالى: (حم(1)عسق(2)كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم(3)). فهو وحي متصل في كل السور، ولكل سورة مدار ومحور، ولها بداية ومستقر، ولهذا ختمت الشورى بقوله تعالى:(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم(51)). فالعزيز الحكيم في البداية هو العلي الحكيم في النهاية، وبهذه العزة والعلو والحكمة يأتي بعده: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور(53)). فهل النور الهادي إلى الصراط المستقم، صراط الله العزيز الحكيم، يصح أن يقبل التجزؤ والتقسيم؟.كلا، وتعالى الله العلي الحكيم، ولكن زخرف الدنيا هو الذي شغلنا عن الفهم السليم؛ ¶ ولكن سورة الزخرف تنذر الغافلين فلتقرأ: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)). فالسورة آيات في كتاب مبين ، والكتاب قرآن مقترن بعضه ببعض لمن يعقلون، ولا يمكن أن يعقل الكلام، وهو مقطع الأوصال والأقسام، كلا ولكن لا بد أن يكون كامل البيان والأحكام، رفيع المستوى والمقام، ولهذا قال الله موضحا باهتمام: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)). فهل هذا المقام الرفيع للكتاب إلا دليل على أنه كامل البيان بلا ارتياب؟. ولهذا فإن الغافل عن هذه الآيات والبينات من الخاسرين، (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين(36)). وعليه: فإن على الرسول وعلينا أن نكون به متمسكين، (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم(43). وكيف لا وهو كما يخبرنا ربنا العليم: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44)). ¶ أما الدخان فإن للقرآن عندها شأن: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين(3)فيها يفرق كل أمر حكيم(4)أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين(5)رحمة من ربك إنه هو السميع العليم(6)). من المعروف أن الإنزال في ليلة القدر لم يكن لكل الآيات، ولكن كانت فيها البدايات، والذي نزل هو بعض السور المكونة من آيات، ولكن الله سماها كتابا، وقال إنه أنزله في ليلة مباركة مع أن الذي حدث فيها هو ظهور الإنزال ذي البركة، ولهذا فإن ليلته مباركة به، وهو مبارك بربه، وعلينا أن نعمل به، وإلا فإن قوارع العذاب لنا مرتقبة، وهذا ما ختمت السورة به: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58)فارتقب إنهم مرتقبون(59)). وهذه الآيات تؤكد أن بداية السورة متصلة بالنهاية. ¶ أما الجاثية والأحقاف فقد بدأت بداية متحدة الكلمات والحركات والآيات، فلها بداية موحدة تتوج كل منهما، هي: (حم(1)تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم(2)). ومن الجميل أن سورة الجاثية تختم بما يشير إلى البداية بأسلوب محكم، مربوط بأولها بحرف الفاء الذي لا يفصم. (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين(36)وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم(37)). ثم إن العزيز الحكيم هي نفس الصفتين التي بدأت بهما آيات السورة، مما يؤكد أنها كاملة الصورة، فهل بعد هذا الربط المتين، نكون في توالي الآيات مرتابين؟! وقد قال الله رب العالمين، في سورة الجاثية لقوم يعقلون: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون(6)). إن هذا هو الناقور، الذي يدق الأذن الموقور، والقلب المثبور: (ويل لكل أفاك أثيم(7)يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم(8)وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين(9)).أليس في هذا ما يدل على أن السور كاملة الآيات؟، بينة الدلالات؟، تتلى الرسول متواليات؟، ليتلوها على الناس في كل الحالات؟، وهي تشع بالبينات، ولا ينقطع سيلها حتى تبلغ إليهم في كمال وثبات، فسبحان الله رب العالمين، الذي يهدي إلى الحق المبين، ويرسل الرسل المبلغين، ليكون الناس والجن على بينة أجمعين: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) [الأحقاف:35]. ¶ هذه هي السبع الخواتيم أو السبع المثاني، وهي في القرآن في النصف الثاني، تبدأ بكلمة كتاب. بينما السور التي في النصف الأول تبدأ بكلمة "تلك آيات الكتاب"؛ مما يدلنا على أن السور هي مكونة من آيات، وأن كل سورة تسمى كتاب، لنكون على علم أن السورة كاملة البيان، منظمة التبيان، متواصلة البنيان بلا انقطاع، وكيف لا ومنزلها هو الرحمن. ولقد نقول متأكدين أن السور القرآنية توصف بأنها آيات، ولم ترد فيها كلمة "الآية" المفردة إلا ويراد بها شيئا آخر غير آيات القرآن المتلوة. أعني أن كلمة "آية" التي ترد مفردة في القرآن، مثل قوله تعالى: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) [الأعراف: 103]. أو مثل قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) [البقرة: 106]. ¶ أقول: إذا وردت هذه الكلمة، وهي كلمة "آية" بالإفراد في القرآن؛ فإن المراد بها شيئا آخر غير آيات القرآن المتلوة، ولكن لها شأنا آخر وقضية أخرى وهي قضية بالقرآن متصلة.مع العلم أن هناك بحثا كتبناه حول هذه القضية الهامة أوردناه بصورة مستقلة ومفصلة، وقد ذيلنا به هذا البحث؛ لأن له صلة به كما ذيلناه بسرد مقتضب لمواضيع سورة البقرة مستدلين بذلك على أن السور نزلت متواصلة غير مبترة.ولعل من رجع إلى ذلك في ختام هذا البحث يجد فيه ما يشفي الغليل، ويروي العليل، بعون الله الجليل. ¶ ولكني الآن سأواصل الاستدلال على أن السور نزلت كاملة المواضيع، بينة الدلالات، وسأستند إلى ما ورد في ذلك من الآيات؛ التي تؤكد أن القرآن كان يتلى آيات تتوالى وترتل على النبي وعلى الناس ترتيلا. يقول الله سبحانه لرسوله: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) [الإسراء:45]. وقال: (وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد) [الحج:16]. وقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم(15) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) [يونس:98]. وقال: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)) [طه:1-8]. وقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) [الحج:72]. وقال: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء:10]. وقد جاءت بعد قوله: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:2]. ¶ لعلي أعلق على ما سبق من الآيات فأقول: من الواضح أن النبي كان يتلو القرآن آيات متواليات، ويبلغها سورة كاملة تشع بالبينات، فلا يمكن أن يتم بيان بكلمات مبتورات، ولا بجمل مبتسرات، تعالى الله العليم الخبير، عن هذا الوهم المبير، فهو الذي أنزل الكتاب المنير، وهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، فلا بد أن يبين لنا بلا إرجاء، ولا بد أن يوضح الغرض بلا خفاء؛ لأنه الله خالق الأرض والسماوات العلى، وهو الله الذي على العرش استوى، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وهو الله له الأسماء الحسنى، ولهذا فإنه يقول: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) [الفرقان:32]. نعم إنه لم ينزله جملة، ولكنه أنزله سورا متكاملة، وكل سورة فيها الآيات تأتي أرتالا متوالية، فكل رتل يتلو الرتل حتى تكتمل السورة، وهذا هو معنى قوله (ورتلناه ترتيلا) أي جعلناه أرتالا، ورتلناه رتلا رتلا، حتى يكون بيانا يتلى، وحجة على من سمع ما يملى، ونورا لمن تدبر ووعى. ويقول الله مؤكدا أن الكتاب أنزل سورا كاملة مرتلة: (وإنه لتنزيل رب العالمين(192)نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)) [الشعراء]. وقال: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين(198)فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين(199)) [الشعراء]. وقال: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) [النمل:6]. وقال في آخرها: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين(91)وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين(92)وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون(93)) [النمل]. أما في سورة القصص فقد قال: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون(3)) [القصص]. ثم شرع في نبأ موسى وفرعون، حتى انتهى منها ثم عاد ليؤكد لنا أن القرآن يتوالى ويتلى عليه إلى آخر السورة فقال: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) [القصص:44]. ثم قال: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون) [القصص:46]. ¶ فالقرآن منزل للإنذار، وهذا هو سبب الإنزال لا سبب سواه؛ لأن الله لا يرضى لعباده الكفر، ولكنه يرضى لهم الشكر، فهو الرحيم بهم، وإن شكروا ليزيدنهم، وعلى أي حال فإن الله يختم السورة بقوله: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين(85) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين(86)ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين(87)) [القصص]. فالقرآن والكتاب آيات تنزل وتفرض ولا يمكن أن تقطع وتقرض، والقرآن والكتاب سور منزلة بلسان عربي مبين، ولا يمكن أن نجعل القرآن عضين، وكيف لا والله يقول: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) [الحجر:87]. إلى أن يقول: (كما أنزلنا على المقتسمين(90)الذين جعلوا القرآن عضين(91)فوربك لنسألنهم أجمعين(92)عما كانوا يعملون(93)) [الحجر]. ¶ فيا أيها المسلمون لا تكونوامن هؤلاء المقتسمين، فإنكم ستسألون عما تزعمون، وإنه لقسم من رب العالمين، ألم تسمعوه في هذه الآيات بشكل حازم مبين؟؟. ثم تعالوا إلى سورة العنكبوت لتجدوا الله الذي بيده الملكوت يقول عمن يتعنت ويدعي من المكذبين: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين(50)أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون(51)). فالكتاب هو المنزل آيات متوالية تتلى، والله شهيد على ذلك وعنده العلم بما أنزله وبما يتلى، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وبعلمه المحيط بكل شيء أنزل الكتاب لنهتدي، فقال: (الم(1)تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين(2)أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون(3)) [السجدة]. ثم إن هذا الإنزال من رب العالمين، من هو رب العالمين؟.(يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون(5)ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم(6)الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين(7)) [السجدة]. إذن فالكتاب منزل من عالم الغيب والشهادة الذي أحسن كل شيء خلقه.فهل من هذه صفته يمكن أن ينزل ما لا نفهمه، فيقطع الإنزال تبعا لما نعمله؟.كلا، بل هو ينزل الآيات للبيان، وبأسلوب كامل الإحسان، إنه يبين ما لا نفهم وما لا نعلم؛ لأنه يعلم ما لا نعلم.فهل يمكن أن ينزل البيان بأسلوب مقسم لا يبين ولا يفهم؟.كلا، وتعالى الله ربنا الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. فلتكن من المؤمنين الذين قال الله عنهم: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) [السجدة: 15]. ¶ إذا فالقرآن كامل البيان، منزل بإحسان وبإتقان يليق بالرحمن. وليس أسلوبا بشريا يعجز عن البيان، ولا شعرا يتبع الأوزان ويتيه في الوديان، يقول ما لا يفعل، وعن التناقض يغفل، كلا بل هو مستقيم لا اختلاف فيه، ولا الباطل يأتيه: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين(69)لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين(70)) [يس]. وإذا كان كذلك فإن الكفار يضيقون به، ويفرون من إسماع من يشع به؛ (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) [سبأ:31]. (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) [فصلت: 26]. إن هذا يؤكد أن الرسول كان يتلو قرآنا مؤثرا، وبيانا مثيرا، ويرتل ذكرا منيرا، ولا يستبين الإثر والإثارة والنور والإنارة إلا من آيات متوالية مرتلة ترتيلا، وبيان بالنور يتلألأ، وذكر مكتمل اكتمالا، فالكافرون أمامه يرتجفون هزالا، ويلحدون عجزا وخبالا؛ (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) [فصلت: 40]. ¶ وإذن فإن الذين يدعون تقطيع التنزيل لأسباب النزول إنما هم أناس مخابيل مهازيل، وهم لا يخفون على الله الجليل، وإن كل واحد منهم لمسئول عما يقول، يوم يقول الرسول: (يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) [الفرقان:30]. وكيف لا وهم قوم جعلوا القرآن أباطيل، وحولوه إلى أقاويل، تسيء إلى الله الجليل، الذي يقول: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز(41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(42)) [فصلت]. فهم جديرون بأن يسألوا عما قالوا وعما عملوا، فالله يقول لهم وللرسول وهم لم يسمعوه ولم يعقلوا: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم(43)وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44)) [الزخرف]. ¶ ويقول عن هذا القرآن بأنه علم ليوم الامتحان: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم(61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين(62)) [الزخرف]. بل إنه يؤكد في أول السورة أن القرآن مكتمل البيان، وأنه رفيع المقام، وأنه للعقلاء إمام: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)) [الزخرف]. إنه في مقام عظيم، وإنه رفيع حكيم، عند العلي العظيم، ولدى العليم الحكيم، فهل من هذا حاله يكون منزلا بأسلوب سقيم، لا يفهمه ذو الفهم السليم؟.كلا، (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24]. (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء: 82]. والتدبر لا يتم إلا بقرآن متوالي الآيات، متواتر البينات، مكتمل الحلقات، بعضه يدعم بعض ويفسر، وأوله متصل بالآخر؛ لأنه من الله القادر. وكيف لا وهو يقول في سورة القمر، معلنا للناس بلاغا يتكرر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر(17)). ويقول في سورة الجاثية: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون(20)). ويقول فيها: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون(6)). ¶ لعل هناك من سيقول أني أكرر الآيات في هذا البحث. ولكن إذا تكررت فلكل موضع ترد فيه مقام ومعنى تدل عليه، فآيات الله تشع بأوسع الحجج، فلا عيب في تكرارها ولا حرج؛ ولهذا فإني أواصل إيراد الأدلة والحجج، ففيها النور الأبلج، فالموضوع يستدعي المزيد، وهو مبسوط لمن يريد، ومن ضاق بالتطويل، فليس عليه تعويل، ولكني متأكد أن من أراد الحق اليقين، فلا بد أن يصبر ويكون من المدكرين. ولهذا فإني أذكركم بقوله تعالى في سورة "ص" في الآية 29: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)، ومثل هذه الآية وردت كثيرا بزيادة فيها أو نقصان، ولكنها كلها تدعوا الإنسان إلى التدبر والتذكر ليكون من عباد الرحمن، وليكون من أولي العلم والإيمان (إنما يخشى الله من عباده العلماء).وعلى أي حال فالله يقول في آل عمران مؤكدا أن القرآن نزل آيات للبيان: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) أي ما يعلم مآل ما جاء فيه من الوعد والوعيد ومن أحكام العبادة للعبيد، إلا الله؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون، وله الأولى والأخرى، فمن أيقن بالقرآن فهو ممن يقول عنهم: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)، هكذا هو موقفهم الإيمان المطلق والتسليم بالآيات ممن يعلم ما خلق، ولهذا فهم يدعونه بقوله: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)، ثم يؤمنون بلقاء الله يوم الحساب فيقول: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: الآيات7و8و9]. ¶ إنه كتاب كامل متكامل، إنه آيات محكمات، إنه آيات متشابهات، وعلينا أن نتأمل ما جاء من الله الوهاب لنكون من الراسخين في العلم ونكون من أولي الألباب. وهذا هو الذي يجعلنا نوقن أن القرآن أنزل سورا لا انقطاع ولا تفريق؛ لأن هذا هو الذي بالله يليق، وكيف لا وقد قال: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ) [الزمر:23]. إنه كتاب متشابه، أي أن آياته يشبه بعضها بعضا، ويدعم بعضها بعضا، فلا اختلاف فيها ولا باطل يأتيها، لا من بين يديها ولا من خلفها، ولهذا فإنه مثاني ينعطف بعضه على بعض، ويسند أوله أواخره، ويستوي باطنه وظاهره؛ ولهذا تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم، هؤلاء هم الذين على هدى من ربهم، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بأن القرآن لم ينزل قطعا لا تفهم، ومزقا لا تعلم؛ بل بيان واضح يهدي ويكشف الظلم، ونور يهتدي به من هداه الله الأكرم. لكنه على المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين، عمى، بل يزيدهم عمى طامس، ويجعل نفوسهم كالليل الدامس، إنهم لا يعقلون ولا يعون، ولا يتدبرون القرآن ولا يسمعون: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). ¶ وبعد فهل لي أن أزيد من الآيات ما يؤيد ما ذهبت إليه؟؟سأكتفي بما ورد منها وما تبقى منها فإنها تدل عليه، لكني سأنتقل إلى دليل آخر، يؤيد ما ذهبت من أن الإنزال كان بكامل السور - ذلك هو البسملة- أي ابتداء كل سورة بآية: (بسم الله الرحمن الرحيم). ألم يقل رسول الله: "إن كل أمر ذي شأن لا يبدأ بإسم الله فهو أبتر"، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. وإن هذا القول ليس إلا أدبا من أدب ربه الذي أدبه، وعلمه من علم ربه الذي علمه. وإذا كان الأمر كذلك فهل يعقل أن يكون الله المعلم الأول، والذي للرسول أرسل، وإليه كتابا انزل، هل يعقل أن يكون الله غير ملتزم بهذا الأدب الجميل، وهذا الأسلوب الجليل؟.كلا، وكيف لا ونحن نقرأ في القرآن الكريم رسالة سليمان إلى ملكة سبأ وهي رسالة لم تتجاوز بضع كلمات، لكنها بدأت بنفس الآية فلنقرأها: (باسم الله الرحمان الرحيم(30)ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين(31)) [النمل]. ونقرأ في القرآن أيضا قولا لنوح لعيه السلام، لقوله عند ركوب السفينة: (وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم) [هود: 41]. بل إنه بأمر الله في موضع آخر بقوله: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين(28)وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين(29)) [المؤمنون]. ¶ نعم إذا كان هذا هو شأن الله وشأن رسله الكرام في كل أمر وشأن، فكيف يمكن أن ينزل الله قرآنا على رسوله محمد بدون أن يبدأه باسم الله ويختمه به؟. يعني أننا لو سلمنا أن هناك آية نزلت في وسط سورة وكانت هذه الآية أو الآيات منفردة عما قبلها وعما بعدها من آيات السورة؛ فإن معنى هذا أنها نزلت بدون بسملة وبدون ذكر اسم الله وهذا لا يليق بالله ولا برسوله ولا بجبريل الذي يتنزل على الرسول بالقرآن. إن التخلي عن هذا الأدب الرباني لا يليق بالله رب العالمين. وإذن فإن السور كانت تنزل كاملة وتبدأ بالبسملة، بل وتكرر البسملة في كل سورة منزلة؛ ليتضح للناس أن البسملة أمر هام، لا بد أن تبدأ به كل المهام؛ ولهذا فإن القرآن قد أكد هذا للإنسان، بمختلف البيان، بل إن أول سورة نزلت كما عرفنا قد بدأت باسم الله بالإضافة إلى البسملة المعهودة تلك هي سورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق(1)خلق الإنسان من علق(2)اقرأ وربك الأكرم(3)الذي علم بالقلم(4)علم الإنسان ما لم يعلم(5)). حتى لقد علمنا الله أن نذكر اسمه في كل ما نعمله حتى في القتال والتجارة: (ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [الأنفال:45]. (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [الجمعة:10]. ¶ فالفلاح مرهون بذكر الله في كل حال، والصلاح مترتب على ذكر الله بلا ملال، حتى مع نحر الأنعام في كل مكان، وفي صيد الحيوان أوجب الله ذكر اسمه على كل إنسان: ¶ (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) [الحج: 34]. (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) [الحج:36]. فالأكل الحلال مرهون بذكر اسم الله ذي الجلال. ولست بحاجة إلى مزيد من الآيات التي توجب ذكر اسم الله في كل الأعمال والمهمات وإذا كان الأمر كذلك في مهمات الدنيا وأعمال الناس العادية؛ فكيف يصح أن ينزل جبريل بالوحي من الله الجليل ثم يحمل آيات من سورة أو آية واحدة، مبتورة من ذكر اسم الله، مقطوعة من أي بداية بالبسملة؟. ¶ إن هذا قول واهم، وزعم داهم، وظن ظالم، لا يليق بالله العليم الحكيم، ولا ينسجم مع شرف القرآن الكريم، ولا يتفق مع أدب الله لرسوله الكريم، الذي علمه ربه الخلق العظيم، وجعله على صراط مستقيم. إذن فالسور كانت تنزل كاملة، مبدوءة بالبسملة، متوالية آياتها إلى آخرها متواصلة، لا تنقطع عند آية، ولا تتوقف عند فاصلة، حتى تنتهي السورة بينة متكاملة، موضحة للموضوع مفصلة، وهذه هي الصفات التي وصف الله بها آياته البينات: (حم(1)تنزيل من الرحمان الرحيم(2)كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(3)) [فصلت]. (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) [هود:1]. (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) [الأعراف:52].ولهذا فإن القرآن يقرأ متواصل الآيات، مرتل الفقرات، وعلى من يسمعه أن يصغي ليستبين البينات، وينال من ربه الرحمات، ولقد كان النبي يقرأ على الناس سورا ليتضح لهم البيان ولعلهم يعقلون، ولهذا خاطبهم الله فقال على لسان رسوله الذي يقرأ ما يوحى إليه: (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ثم يقول: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) [الأعراف:203- 204].ولكي يؤكد الله أن ذكر اسمه هو الواجب الذي يجب على الرسول التمسك به مع من اتبعه يختم السورة بذكر اسمه فيقول: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) [الأعراف:205]. ¶ وكيف لا يكون هذا هو مسلك الرسول المبلغ، ومتمسك الإنسان المبلغ (بفتح اللام)، وهو خلق الملائكة الذين يتنزلون بوحي الله، ويعملون ما يأمرهم به الله، (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) [الأعراف:206].فالعبادة الحقيقية لله هي في ذكر اسمه في كل حال بلا سأم ولا ملال، وهي التسبيح والسجود والاستماع والإنصات لقول الله المعبود، والعمل به في كل عمل خفي ومشهود، فهو مذكور مشكور محمود، في كل حال وحين إلى اليوم الموعود. فكيف لا يتنزل القرآن مبدوءا باسمه؟ وكيف يصح أن تنزل الآيات مبتورة من ذكر الله غير مبدوءة بالبسملة؟كلا إن هذا لا يقوله إلا الجهلة. ¶ أكتفي بهذا لأنتقل إلى قضية أخرى تعزز ما أقوله في الموضوع، وتدمغ كل حديث وقول موضوع، أما القضية فهي ما أمليه عليكم من آيات بينات، تؤكد أن أسباب النزول ليست إلا رؤيات افتعلها الناس، وليس من الأمر أساس، وإنما هو من شر الوسواس الخناس، وأنا أدعوك معي يا أخي القارئ أن نقرأ معا أمام ذلك: (قل أعوذ برب الناس(1)ملك الناس(2)إله الناس(3)من شر الوسواس الخناس(4)الذي يوسوس في صدور الناس(5)من الجنة والناس(6)) [سورة الناس]. إنك تعلم أن هذه السورة هي آخر سور القرآن، وأن الله قد ذكر فيها ثلاثة من أسمائه الحسنى للاستعاذة به من هذا الشر الذي لا ترتضي به، إنها الأسماء: "رب الناس/ ملك الناس/ إله الناس". فالرب هو المدبر المقدر، والملك هو العلام المقتدر، والإله هو المعبود المتكبر، به وبأسمائه هذه علمنا أن نستعيذ من "الوسواس الخناس.."الخ الآيات، إن هذا هو عدو الإنسان الأول والأخطر، وهو الذي يجعله يكفر ويستكبر، ويفتري الكذب على الله ولا يفتر، فالوسواس هو الذي أخرج آدم من الجنة وهو الذي طوع لابن آدم قتل أخيه، وهو الذي سول لإخوة يوسف تشريد أخيهم بعد أن قرروا قتله. وهو الذي سول لكل المشرقين والمسرفين تكذيب الرسل والكفر بما أنزل وتفريق الناس شيعا، وتقطيع الدين قطعا، وتقسيم الوحي مزقا، (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون (53)فذرهم في غمرتهم حتى حين(54)) [سورة المؤمنون]. فهم بالخير لا يشعرون، فدعهم يلوكون المزاعم سادرين، وتعال معي إلى الحق المبين، لنكون معا ممن قال عنهم الله رب العالمين: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون(57)والذين هم بآيات ربهم يؤمنون(58)والذين هم بربهم لا يشركون(59)والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون(60)أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون(61)) [سورة المؤمنون]. ¶ نعم إن الوسواس الخناس هو الذي جعل الناس يتقطعون الأمر بينهم زبرا، ويجعلون القرآن قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، إن هؤلاء هم الذين يقول الله عنهم لرسوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) [الأنعام: 159]. لقد أملى عليهم الهوى الانحياز للقبلية العمياء، والعودة إلى الجاهلية الجهلاء، فإذا بهم يسخرون الآيات لنصر قبائلهم وقبليتهم، ويستخدمون التنزيل لتأصيل جاهليتهم، فإذا الله يذم فلانا ويمدح فلانا، ويهجو القبيلة الفلانية ويمدح العشيرة الفلانية، وكان الله شاعر من شعراء الجاهلية يمدح حين يرضى، ويهجو حين يؤذى، ويخص فلانا بما يرضاه وبما يعتز به بين قومه، ويصب على فلان سوط كلام يذل به بين أهله وقومه، كلا إن الله ليس منحازا لقبيلة أو عشيرة؛ ولكنه الله الذي له كل الخلق عبيد، وهو المدبر لكل موجود، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا). ¶ وإن العبودية لله هي الوسام الذي يفرح به عباد الله، وهي الرحمة والفضل الذي يفرح به أولوا الألباب، الذين انفصلوا عن القبيلة والعشائرية والأنساب، وانحازوا إلى ربهم الوهاب؛ فكانوا له عبيدا وكل له أواب، وإليه المرجع والمآب، وعلى هداه يسيرون إلى السلام، ويحملون الحب والسلام للأنام، بلا عصبية للأقوام، ولا عبودية للطغاة والطغام، وبلا خضوع للظالمين، ولا ذلة للمستكبرين، بل عزة رب العالمين، مؤمنين بقوله المبين: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) [فاطر: 10]. إن الكلم الطيب هو مهوى المؤمنين الطيبين المنحازين لرب العالمين، وإن العمل الصالح هو المهتدي بالقرآن المبين، واليقين بأنه منزل مرتل الآيات كامل السور وليس عضين.إن من قسموا الآيات على أسابب نزول مزعومات، هم من الذين يمكرون السيئات، فلا تعجل على أعمالهم الماكرات، فالله يخصهم بقوله المنير: (لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور). ¶ قد يقول قائل: هل أنت تنكر أسباب النزول، وكل العلماء بها يقول؟.وأقول على هذا التساؤل: إن الذي أنكره هو الأسباب المدعاة التي وصفها المنافقون ليجعلوا الآيات للأهواء تابعة، ومن ردود فعل لدى الله نابعة، ويجعلون الله يتأثر بأدنى واقعة، فينزل آية مسرعة، لتهدأ النفوس المتنازعة، لقد جعلوه كأنه رئيس حي شعبي أو عاقل جمع قروي، أو ربع بدوي، يتنازع الأفراد، فيأتيهم بالقول المراد، ويحتار المختصمون، فيفكر لهم في مخرج مما يحتارون، فيصيب أحيانا فيرضون، ويخطئ فلا يرضون، هكذا جعلوا الله رب العالمين، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل هو الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم السر وأخفى، وهو الذي له الحكم وله الخلق والأمر، وكل شيء به مسير مدبر، فكيف ينفعل بحدث عارض ويتأثر، كلا إن هذا قول لا يقوله إلا كافر جاهل ربه العليم القادر، مستهزئ بالقرآن الذي ينير البصائر، وبالرسول الذي أرسل بالبيان الباهر. ¶ نعم أنا أنكر هذه الأسباب التافهة التي لا تليق بالله ولا برسله ولا بالملائكة، إنها أسباب لفقها المنافقون، وابتدعها المتنازعون على الدنيا؛ ليجعلوا من القرآن لهم سندا ، وليسخروا الوحي لأطماعهم ملتحدا. لقد استهزأوا بالله وآياته ورسله، وارتكبوا البهتان، وافتروا بإمعان، في البينات المنزلة فكانوا شر قوم كاذبين، وأضر على الدين من الكافرين. فليحذر العقلاء من مكرهم، وليتنبه أولوا الألباب من كيدهم، فإن الله أجل وأسمى من أن يجعل القرآن تبعا للغوهم، ومثارا لترهاتهم. ¶ وبعد فإن إنكاري لأسباب النزول المفتراة لا يعني إنكاري لأسباب نزوله المقررة، لقد قرر الله أن أنزال القرآن له أسباب لديه لا تتغير، وله منابع عنده لا تتأثر، بل هي أسباب دائمة لازمة، ومقدرة مقررة مع كل أمة. فهو الذي بعباده الرحيم، وهو الذي بهم العليم، وهو الذي يرسل الرسل إليهم للإنذار من العذاب الأليم، وللتبشير بالنعيم المقيم. فكل حياة الإنسان بل رسل في خسران، وأن سلوكه بدون هدى الله يكتسي بالطغيان، وأن سعيه بدون الذكر المبين يتردى في العدوان، فإذا حياة الناس صراع وخراب، وإذا أعمالهم هباء وسراب، وطريقهم في ظلمات وارتياب، وبهذا تفسد الدنيا ويفسد المآب، ويسقطون جميعا في نار العذاب، والله لا يرضى لعباده الفساد والكفر، ولكنه يحب منهم الصلاح والشكر، ويرضى لهم نعمة الإسلام، ويأبى لهم الاعوجاج عن سبيل السلام؛ لهذا يرسل الرسل تترى، وينزل الكتب تتلى، وينزل معهم الحق والميزان، ليقوم الناس بالقسط ولا يطغوا في الميزان، وبهذا نجد الأدلة واضحة البيان، متلألئة في ثنايا القرآن، فلنقرأ قوله تعالى في سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) [الفرقان:1]. ¶ إن السبب في إنزال الفرقان على عبده محمد هو سبب دائم، مع كل رسول يتجدد، إنه كما يقول: (للعالمين نذيرا)، وإذا كان نذيرا للعالمين؛ فهل هم الذين كانوا له معاصرين؟، وهل هم أولئك النفر القليل من المجاهدين؟.كلا، إنه نذير للعالمين المعاصرين واللاحقين إلى يوم الدين؛ولهذا يقول في سورة الجمعة: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم(1) هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين(2)وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم(3)ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(4)). فالرسول مبعوث في الأميين من قومه المعاصرين، ليحملوا هذا الكتاب هم ومن يلحق بهم من الآخرين، نعم ليحملوه خلفا عن سلف إلى العالمين، من ذلك اليوم إلى يوم الدين. ¶ بل إن هذا الكتاب قد نزل من قبل محمد، ومن قبل هؤلاء الأميين، وكان ذلك هو التوراة المنزل كتابها على موسى وعلى قومه ليحملوه إلى كل أمة ، هدى للناس ورحمة. لكنهم لم يحملوا هدى ربهم، ولم يشكروا فضل الله عليهم، ولهذا حذرنا من مصيرهم، ومن الاتصاف بصفتهم فقال ممثلا بمثل يليق بهم، وبمن تخلى عن المهمة بعدهم: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) [الجمعة: 5].وإذن فالله من شأنه أن يرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، وأن ينزل معهم الكتاب والميزان للناس أجمعين، ولقد قال: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [الحديد: 25].وقال عقب ذلك: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) [الحديد: 26]؛ ولأن كثير منهم فاسقون كان لا بد أن تتوالى الرسل والكتب المنزلة، ولهذا قال: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوهاما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) [الحديد: 27]. ¶ ولنفس السبب الذي أرسل الله به الرسل الأولين؛ أرسل محمدا خاتم النبيين، ولهذا قال بعد ذلك: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) [الحديد: 28]. ولأن إرسال الرسل فضل من الله على الأولين والآخرين، ولأن الأولين لم يؤمنوا ولم يثقوا بما جاءهم من الكتاب؛ فإن الله نزع منهم الفضل الذي أعطى ، وجعله فيمن آمن بمحمد واتقى، ولن يستطيع أحد أن ينزع ما أعطى، ولهذا قال: (لألا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [الحديد: 29]. وإذا كان هذا هو شأن الله ذي الفضل العظيم؛ فإن أسباب النزول أمر مستديم؛ وأن إرسال الرسل صراط مستقيم، شاءه الله للبشر رحمة من ربهم الرحيم، ألم يعدنا بذلك منذ بداية الحياة ومنذ أن هبط آدم إلى الأرض مستخلفا فيها بأمر الله؟. لقد قال لآدم وزوجه معا: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون(38)والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(39)) [سورة البقرة]. ولأن الهدى للعالمين؛ فإن الله يأمر بني إسرائيل أن يؤمنوا بما أنزله الله على خاتم النبيين؛ لأنه نفس ما جاءهم مع الرسل الأولين، فاسمعوه يقول بلسان مبين: (يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40)وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41)) [سورة البقرة]. فهم قد طال عليهم العمر؛ فلا بد أن يؤمنوا بما أنزله الله على رسوله يبشر وينذر، وهكذا هو شأن الله مع كل البشر، وفي كل عصر ومقر، إنه يرسل من يبشر وينذر؛ لينقذ الناس من سقر، وهو عليهم بما ينزل، وهداه وشأنه لا يتحول: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين(97)) [سورة البقرة]. ولهذا فعلى الناس أن يؤمنوا بكل الرسل وبكل ما لهم أنزل، وأول هؤلاء المؤمنون هم أسل: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير(285)) [سورة البقرة]. ¶ وهكذا تنتهي السورة الأولى بهذا الإعلان الأزلي الأعلى؛ وبمثل هذا تبدأ آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام(4)). وكيف لا ينزل هذه الكتب المتوالية علينا، وهو الله العليم بحالنا: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء(5)هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم(6)) [سورة آل عمران]. ¶ إنه يصورنا في الأرحام على أحسن تقويم، فكيف لا يهدينا على الأرض إلى صراط مستقيم؟، وكيف لا يرسل الرسل وينزل الكتب وهو الحي القيوم؟، إن هذا شأنه مع عباده وهو بهم رحيم، فلا سبب للإنزال إلا علمه بحاجة الناس إلى الهدى، وإلا رحمته التي وسعت كل شيء وهو يكتبها لمن اتقى. فماذا نبحث للآيات عن أسباب تدعوها، ولماذا نجعل الله يتأثر بحوادث صغيرة لا يعبأ بها، وهو الغني عن العالمين؛ (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما(77)) [سورة الفرقان]. ولكن الله الذي لا يعبأ بالجاهلين، فإنه يرحمهم ويرسل لهم المرسلين؛ ولهذا نجد السورة التالية للفرقان تحفل بعدد من الرسل تتوالى بالبرهان، ولكن الله لا يفتقر إلى الناس لكي يكونوا مؤمنين، بل هم الفقراء إليه ليكونوا مؤمنين؛ ولهذا فإنه يبدأ سورة الشعراء بالإشارة إلى آيات الكتاب المبين: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)).فهو آيات وهو مبين، ومن لم يتبين ومن لم يؤمن فإن الله لا يعبأ به ولا يسجيب لمطالبه، ويدعه لما اختاره من ذنبه، ولهذا فإنه لرسوله ينبيه فيقول: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين(3)) [سورة الشعراء]. فلا تتعب ولا تهلك نفسك، فما عليك إلا تبليغ ما أوحي لك، ولو شاء الله لأنزل آية ولكنه يكتفي بأنه أرسلك بالكتاب وبه كلفك؛ (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(4)) [سورة الشعراء]. ¶ وما داموا كذبوا وللآيات طلبوا، فإنهم سينالون ما كسبوا (فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون(6)) [سورة الشعراء]. ثم يحيلهم إلى الآيات في الأرض حولهم: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(7)إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(8)وإن ربك لهو العزيز الرحيم(9)) [سورة الشعراء]. فالآيات مبثوثة في كل شيء، ولكن لا يفهمها إلا من هو ذو قلب حي. ورغم ذلك فإن الله عزيز غني عنهم، وهو رحيم بهم، ولهذا يرسل الرسل باستمرار، وينزل الكتاب لهدايتهم، رغم أنه ما كان أكثرهم مؤمنين. ولقد حلفت السورة بالرسل منهم من له آية، ومنهم من ليس له آية ولكن كلهم جاؤوا لغاية، ولسبب واحد من البداية حتى النهاية؛ هو قوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين(192)نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)) [سورة الشعراء]. فالسبب الأساس هو أن يكون امتدادا لمن سبقه من المنذرين، فهذا هو شأن كل الرسل، وهذه هي رحمة الله بالعالمين، ولهذا فإن القرآن هو نفس ما جاء مع الأولين: (وإنه لفي زبر الأولين) [الشعراء: 196]. ومن المؤكدات والدلائل قوله: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) [الشعراء: 197]. ¶ فإذا كان علماء بني إسرائيل يعلمون أن ما جاء به القرآن من المعارف الإلهية والعلوم الغيبية المؤكدة للمعاد، والمتوعدة بالعذاب لمن كذب، والواعدة بالنعيم لمن صدق، إذا كان هذا مما يعلمه هؤلاء فإن ذلك آية على أن القرآن هو من نفس المنبع الذي جاء به كل الأنبياء وأن الله ربهم هو الذي اختارهم للإنذار والتبشير، ليستقيم الناس على الصراط المستنير، وتلك رحمة من الله العليم الخبير، وذلك هو الحق إلا إلى الله تصري الأمور. وهكذا ندرك من الآيات أن الإنزال ليس لسبب طارئ ولكنه لسبب ثابت هو قوله تعالى: (حم~(1) عسق (2)كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3)له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4)) [سورة الشورى]. ¶ (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير(7)ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير(8)) [سورة الشورى]. (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) [الشورى:13]. ولأن الدين واحد فالناس يتفرقون ويحاولون أن يجعلوه شيعا؛ لأنهم يتخذونه وسيلة للدنيا وللسيطرة على الضعفاء؛(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) [الشعراء:14]. نعم لولا أن موعدهم الآخرة لتم القضاء بين المختلفين في الدنيا ولكن الله يعلم من أصلح ومن أفسد ولا يعاجل المفسدين؛ بل يرسل المنذرين؛ ولهذا يقول في الآية: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) [الشورى: 14].ولأن الناس الذين ورثوا الكتاب قد اتبعوا الأهواء؛ لأنهم في شك وارتياب، كان لا بد أن يرسل الله محمدا ليذكر وينذر وليؤكد الإيمان بالكتاب. (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير)[الشورى:15].لو استرسلت في السورة لوردت كلها، فإنها من أولها إلى آخرها تؤكد أن الوحي سببه ثابت وأن الإنزال لا سبب له إلا رحمة الله ذي الجلال. ¶ يا جماعة لو أوردت الأدلة على ذلك لطال المقال. بل إن القضية تحسم وتعرف بأول سورة الزخرف، فإن الله لا يمكن أن يضرب صفحا عن الناس لإسرافهم؛ بل لا بد أن يرسل إليهم وينزل الذكر عليهم. (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)) [سورة الزخرف]. فالكتاب والذكر محفوظ محكوم، وثابت معلوم؛ فلا بد للناس من علم وكتاب به حياتهم تقوم. وهذا الكتاب الذي عند الله ولديه ما هو إلا النظام الذي يدعو الناس إليه؛ ولهذا جعله قرآنا عربيا لعلهم يعقلون، يفغلون هذا النظام العلي الحكيم، ويصون مبتوره على الصراط المستقيم، وهذا حق لا بد أن يفعله الله العليم، حتى ولو كان الناس لا يفهمون ولا يفقهون حتى ولو كانوا بالإسراف مشغولين عن الحق والكتاب المبين؛ ولهذا يقول الله مستفهما في إنكار، مخاطبا أولي الاستكبار: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) [الزخرف:5]. هذا ومستحيل بل لا يليق بالله الجليل، فهو الذي يرحم عباده بالإرسال والتنزيل: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين(6)وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون(7)فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين(8)) [الزخرف]. ¶ فالإرسال متوالي ولو استهزأوا ؛ لأن الله لا يريد هلاك المكذبين إلا ببينة وحجة له عليهم، وهكذا كان مع الأولين والآخرين، فهل يعقل الآخرون، ويصغوا لهذا القرآن بلا ارتياب، وهل يفعلون على افتراء المبررات والأسباب: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) [الأعراف:204]. وقبل أن نغادر الزخرف نرفع أعيننا قليلا لنرى في صدر الصفحة آخر سورة الشورى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) [الشورى: 52-53]. أي كذلك الوحي إلى من قبلك أوحينا إليك هذا الروح وهو الكتاب فلم نكن ندري بالكتاب ولا بالإيمان، ولكن الله من شأنه أن يرسل إلى الناس رسلا ليذكرهم ويهديهم، وينير لهم طريق الإحسان، فكان هذا النور الذي يهدي به الله من يشاء وإليه مصر المهتدي ومصير من كذب وتولى، وهو الحاكم الحق المجازي كل حي بما يسعى. ¶ هذا هو سبب الإنزال، ولنفس الغاية ولنفس السبب جاء البيان الكريم في أول سورة إبراهيم، فإن أولها يدل على أن الإنزال ليس له سبب فردي أو حدث آحادي، ولا هو آية تنزل لترد على حكاية أو تقضي في قضية وتسكت حتى تتجدد أخرى. كلا إنما هو كتاب إلى الناس، وليس للناس في زمن ومكان معين ولكن لكل زمان ومكان، فلتقرأ: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد(1)الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد) [إبراهيم: 1-2]. إذن فالكتاب للناس وهو لهدف هام هو إخراجهم من الظلمات إلى النور بل إلى صراط الله العزيز الحميد، فهو عزيز غني غالب على أمره ولكنه حميد في فعله، ولهذا يهدي الناس إلى صراطه، ويتوعد من يصد عن سبيله ويؤكد ، ومن يحب الحياة الدنيا فهو في أشد الضلالة، والله يدعو الناس إلى الجنة والمغفرة بفضله، هذا الفضل يتجلى في قوله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم)[إبراهيم:4]. فلا عذر للناس بعد هذا الفضل وهذا البيان، فمن اهتدى فله الفوز ورضى ورحمة الله، فإن الله عنه عزيز، ولهذا قال: (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم)[إبراهيم:4]. ولأن الله يرسل الرسل بلا سبب إلا الرحمة والفضل فإنه يقول: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) [إبراهيم:5]. ¶ هل أزيدكم آيات تكون آيات على ما أقول؟، فلنقرأ آخر سورة الإسراء، : (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا(105)وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) [الإسراء: 105-106]. فقد أنزل القرآن بالحق وأنزل ليقرأنه الرسول على الناس على مكث، أي على أيام متوالية وسنين متعاقبة، فلم يتنزل آية آية ولكن سورة سورة إذ لا يمكث المكث إلا على بيان كامل وحق متواصل ولا يمكن أن تسمى النطق بالآية الواحدة قراءة بل لا تمسى قراءة إلا ماكان كلاما متقارنا بعضه ببعض متواصل الفقرات متكامل المعاني والآيات ولا يمكن أن يفهم الناس المقروء على المكث إلا فرقان كامل المعاني وافر البيان بلا تقطيع ولا ميلان وكيف لا وهو الله الرحمن. فيامن يدعي أن الإنزال جاء مقطع الآيات فأنت لم تؤمن بالبيان، ولم تكن من الساجدين للاذقان (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) فأنتم لا تعلمون لكن هناك من يعلم ويعرف الله حق المعرفة وله يعظم، ولآياته يحترم، وهم هؤلاء: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا(107)ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا(108)ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) [سورة الإسراء: 107-109]. هكذا هم أولوا العلم الذين يعلمون أن المتلو هو من عند ربهم العلي، وأنه بيان ورحمة وموعظة ونعمة تشع بها آيات الله التي تتنزل وتتوالى سورة سورة، ولهذا فهي تتلى عليهم: فلا يمكن أن يتلى إلا الكلام الوافي الآيات ،وإلا السور التي تفي وتتوالى فيها البينات؛ فلا تسمي النطق بآية واحدة تلاوة، وليس في العربية من يقول: اتل علينا كلمة كذا، بل يقول اتل قصيدة كذا أو خطبة فلان. ¶ فأنتم يا من جعلتم القرآن عضين، فا تعرفون اللغة ولستم للقرآن محترمين، ولا لربكم مقدرين، ولعلكم ممن قال الله عنهم: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) [الأنعام:91 ]. ¶ بل إني آخذكم قبل الانصراف عن السورة إلى قمة موضوعها وإلى ذروة حجتها، (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(88)ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) [الإسراء: 88-89]. إن من يقرأ الآيتين بإمعان وتدبر وتذكر وتفكر، وهو لله يقدر، فلا بد أن يفهم أن القرآن بهذا الإحسان والإتقان لا يمكن أن يتنزل مزقا تلقى بلا بيان، ولا يمكن أن يكون بهذا الإعجاز وفي مقام هذا التحدي وهو ينزل قطعا لا تفيد ولا تبين، ولا يمكن أن يكون الإنس والجن عاجزين عن الإتيان بمثله وهو كلمات لا تبين وغير متصلة. ¶ إن هذا من القول الهراء الذي لا يليق بأولي الألباب قوله، ثم إن التصريف فيه من كل مثل هل يتفق مع الأسباب السخيفة التي يدعي من غفل أنه بسببها نزل؟. كلا بل التصريف والأمثال من شأن القرآن الذي تنزل بجمال، سورا تتوالى باكتمال، وأمثالا تتلى بكمال، ليتضح بها البيان للناس من ربهم ذي الجلال. فهو الذي يقول: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)[الإسراء: 82]. ¶ لن أطيل الصعود بكم مع الإسراء، بل سأنصرف عنها متجها إلى سورة أخرى. إن فيها الدليل الأقوى الذي لا يرتاب فيه ، نعم تعالوا معي فلنأو إلى الكهف: (ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)[الكهف:16].يقول الله في أولها: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) [الكهف:1]. هكذا هو الكتاب لا عوج فيه، بل هو قيم ولا تفرق فيه، بل سليم، ثم لماذا أنزل من الله؟.(لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا) [الكهف: 2-3]. ثم ماذا بعد، هل هناك سبب آخر؟ نعم: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4)ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) [الكهف: 4-5]. فالقرآن أنزل لسبب هام وعام، ولسبب يعلمه الله العلام؛ إنه إقامة الاعوجاج في الأنام، وإماطة الجهل من عقول عباد الأصنام، والذين ادعوا لله ولدا تاهوا في ظلام، فالقرآن جاء ينير لهم الطريق، ويهديهم إلى نور العلم، ويخرجهم من ظلمات الجهل المحيق رحمة من ربهم العليم. فالجهل لا يرضاه الله للعباد، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ولكنه يريد لهم العلم، ولهذا كان القرآن هو النور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وكان إنزاله في ليلة مباركة تفرق فيها الأمور ذات الأحكام، فالله من شأنه أن يدبر الأمر، وأن يرسل الرسل ليجنب الناس من الخطر، (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا أنزلناه في ليلة مباركة). ¶ لماذا يارب؟. ¶ ها هو الجواب (إنا كنا منذرين) [سورة الدخان:3].ثم إن من صفة هذه الليلة أنها كما يقول العليم: (فيها يفرق كل أمر حكيم(4)أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين) [سورة الدخان]. فما هو السبب للإنزال؟ وما هو السبب لفرق الأمر الحكيم؟. إن السبب أن الله موصوف بأنه (إنا كنا منذرين)؛ فلا بد من إنزال الكتاب، ولا بد أن يكون الكتاب واضحا ومبينا، ولهذا فإن من شأن الله (إنا كنا مرسلين)، فالكتاب منزل في ليلة مباركة؛ ولا بد أن يبلغه رسول بلغة واضحة، ولهذا كان الإرسال وكان الإنزال، ثم هناك سبب أهم وأعم هو (رحمة من ربك إنه هو السميع العليم) [سورة الدخان: 6]. وكيف لا وهو الله (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين(7)لا إله إلا هو يحي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين)[سورة الدخان:7-8]. ¶ لهذه الأسباب كان الإنزال وكان الإرسال، ولهذه الأسباب اختار هذه الليلة المباركة لظهور أول الآيات المنزلة، ولإبلاغ الرسول بما أرسله ولمن أرسله، فكان ما أراده الله ولا راد له، ولهذا يختم السورة بقوله: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) [الدخان:58]. فالتذكر هو السبب المقصور عليه تيسير القرآن باللغة العربية ،، ومن كذب فليرتقب العاقبة التي لا تنفع الذين كانوا في غي يلعبون، (فارتقب إنهم مرتقبون)[الدخان:59]. لهذا أكتفي من البيان، على أسباب تنزل القرآن، ولعلي قد فتحت الطريق للقارئ لمعرفة المزيد لتدبر آيات القرآن. ¶ وبعد فإني أدعوك الآن إلى أن تراجع معي بعض أسباب النزول المدعاه، إني أقول لك إنها مضحكة مبكية، وإنها تجعل القرآن خاليا من البيان بالكلية؛ لأضرب لك مثلا: قيل أن سورة الكهف نزلت لتجيب على ثلاثة أسئلة نقلها القرشيون أو تلقاها القرشيون من يهود المدينة ليوجهوها إلى النبي لسبر صحة نبوته وصحة الوحي إليه، مع أني أشك في هذه المحاولة منهم؛ لأنهم مكذبون مع علمهم بصدقه، مكذبون استكبارا (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) وعلى أي حال هذه الثلاثة الأسئلة أو الثلاث المسائل هي بما معناه: ¶ 1- عن فتية في زمن غابر فارقوا قومهم فما كان من خبرهم. ¶ 2- عن رجل وصل إلى الشرق والغرب فمن هو وماذا عمل. ¶ 3- عن الروح أو ما هو الروح. ¶ وهكذا وعدهم الرسول بالإجابة على الأسئلة في اليوم التالي ولم يقل إن شاء الله. ¶ لكن الجواب لم يأتي إلا بعد شهر أو أكثر، ولهذا قيل له في السورة التي جاءت بالجواب: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) فكان التأخير عتابا للرسول مع أني أشك في هذا السلوك من الرسول وفي هذا التعامل معه من ربه؛ فالرسول ما كان يعمل شيئا إلا بإذن الله ولم يكن يجهل أنه مرسل من ربه، وأن أمره تحت مشيئة ربه، فكيف ينسى ذلك في خطابه من منكري الربوبية!!كلا، وعلى أي حال فقد أجابت السورة (سورة الكهف)، عن سؤالين اثنين فقط هما: الفتية وذي القرنين، أما الروح فلم تجب عليه ولم يأت الجواب عليه إلا في سورة الإسراء؛ لماذا؟ هل الله لا يعلم أن الأسئلة ثلاثة فنسي الجواب عن الثالث؟. تعالى الله عن ذلك. ¶ هل الله يقصر في البيان وهو يقول أن القرآن فيه البيان؟. ¶ تعالى الله عن ذلك. ¶ إذن فلماذا لم تأت الإجابات الثلاثة متوالية على الأسئلة الثلاثة؟. ¶ الجواب: أنه لم يكن هناك سؤال مباشر ولا وعد من الرسول بالإجابة ولكن الأسلوب القرآني والبياني يضع الأشياء الهامة في معرض السؤال والجواب لتنبيه القارئ إلى الموضوع ولتثير الخواطر حول ما يدور من الحوار، وما يتوالى من التذكير والإنذار. ¶ ثم إن الله رب العالمين يعلم ما يدور في خواطر الناس من تساؤلات، فهو يجيب عليها بدون سؤال مباشر ملفوظ، ولكن بشكل ملحوظ، أليس هو الذي يعطينا ما نسأله وما نحتاج؟، قبل أن نسأل وقبل أن نحتاج؟، وقبل أن نعلم بحاجتنا للشيء المعطى؟. ¶ إنه يعطيك الحركة والقدرة على الكلام قبل أن تتحرك أو تتكلم لكن محاولة الحركة ومحاولة الكلام سئوال، فهو يجيبه في الحال. ¶ وهكذا هو معنا في القرآن يجيب على التساؤلات، ويوردها بأسلوب جميل لتكون الآيات مبينات. ¶ ثم إن سورة الإسراء نزلت قبل سورة الكهف بسنتين، فكيف يأتي الجواب عن سؤال الروح فيها ولم يأت في سورة الكهف أن هذا دليل على أنه لا سؤال ولا أصل للحكاية من الأساس؟. ¶ ولكن سورة الكهف نزلت كما أنزل سواها للبيان، ولإنذار الإنسان، كما يقول الله في أولها هذا هو سبب الإنزال، إنه الإنذار والتبشير، والبيان للإنسان ليستنير، وهذا هو شأن إنزال بقية السور، وهذا هو سبب إنزال كل القرآن، ¶ وحاشا أن يلجئه الناس إلى الإنزال بما يدور في حياتهم من الأفعال والأقوال، إنه الكبير المتعال. ثم إن دعوى أن إنزال السور كان للإجابة على الأسئلة الثلاثة المذكورة يلغي صفة القرآن بأنه بيان وبرهان، وبصائر للإنسان؛ لأن الإجابة عن السؤال الثالث - وهو الروح - تخلفت ولم يكتمل البيان، ونحن بهذا ننسب العجز إلى الرحمن، سبحانه سبحان؛ إذ لو كان السبب هو الأسئلة الثلاثة لما تخلف البيان عن الكمال؛ لأن المجيب هو الله ذو الجلال، المنزه عن التقصير، والذي هو على كل شيء قدير. ¶ وقبل أن نغادر الموضوع لا بد أن أدعوكم إلى أن نقرأ معا هذا الوصف للقرآن الذي ورد في سورة الإسراء، إنه يدل على أن القرآن كامل بلا مراء:(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) [الإسراء: 88]. إن هذا دليل على أن الإنزال لآيات القرآن كان متواصلا كامل البيان، تبدأ السورة ولا تتوقف حتى تنتهي؛ ولهذا سميت الآيات والسور قرآنا؛ لأنه مقرون بعضه ببعض بأسلوب مبين، لا بأسلوب المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين. ¶ ولعل هؤلاء المقتسمين مشمولين بما يقوله الله رب العالمين: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا)[الإسراء: 89]. (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) [الكهف: 54]. ¶ إن الجدل حول إنزال القرآن عضين، وحول أسباب نزول الذكر المبين، جدال عقيم لا يعني إلا الإساءة إلى الله العليم، والاستهزاء بالقرآن الكريم، والعبث بآيات الذكر الحكيم، فسبحان الله عما يصفون. إنهم لا يقدرون الله حق قدره، ويجعلونه غير خبير إلا بغيره، ومستعينا بهم في تدبير أمره، سبحانه سبحانه الذي لا يخفى عليه ذرة. ¶ وكيف لا وهو يقول: (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) [سورة طه:4-7]. بل إنه يخاطب رسوله بقوله: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا)[الكهف: 27]. ¶ إن المتلو هو كتاب وهو آيات متوالية، وبينات غير خافية، والتلاوة لا تكون إلا لآيات تفصح بالبينات. لعل هذا يكفي في الاستدلال، وإن أردتم المزيد فلنغادر الجدال إلى البحث السديد، ولنحاول فهم الكلام بقلب رشيد. ¶ لن آخذكم إلى خارج القرآن ولكني سأطوف بكم في سوره من جديد، فلنعلم أن السور كلها مسميات، فكل سورة لها اسم به تعرف عند نزولها بلا تريث، فالسورة الثانية من القرآن اسمها البقرة. أليست كذلك؟ ¶ بلى، لكن أين ورد اسم البقرة أو ذكرها؟. ¶ لم يرد إلا في الآيات 67 وما يليها من السورة إلى 71. ¶ فهل يمكن أن نبني على أساسكم القائل أن السورة نزلت مقطعة؟. هل يمكن مع هذا أن تسمى السورة بهذا الاسم قبل نزول الآيات التي تذكر فيها البقرة؟. كلا. إذن فكيف سميت السورة بهذا الاسم من البداية!! ¶ لم تسم بهذا الإسم إلا لأنها نزلت كاملة متواصلة حتى النهاية، ولها صح أن يطلق عليها هذا الاسم وبه تسمى وإلا كان الاسم عبثا وإبهاما، وهذا لا يجوز على الله العليم. وكذلك تقول في سورة آل عمران، بل إن سورة المائدة لم تذكر فيها المائدة إلا في أواخرها، فكيف سميت بهذا الاسم من بدايتها؟!. ¶ ومثل ذلك تقول في الأنعام ويونس وإبراهيم والحجر والنمل والشعراء والأحقاف والعنكبوت وسواها. وإذن فإن تسمية السور منذ البداية حتى النهاية، ولهذا فإن تسميتها تصبح قضية غير خافية، وإلا كان الأمر إبهاما وتعمية. ¶ ثم لماذا تسلمون أن قصار السور كانت تنزل كاملة متواصلة ولا تسلمون أن كبارها كذلك؟. هل أنتم في ريب من قدرة الرحمن على ذلك؟. ألم يتحدى الناس في كبار السور بأن باتوا بسورة أو بعشر سور؟، أليس هذا دليلا على الإنزال الكامل لكل سورة، ودفعا لمن يقول أن آيات السور تنزلت مبتورة؟.كلا إنكم لم تقدروا الله حق قدره، ولهذا فالله يقول لكم: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) [الأنعام: 91]. ¶ بل إنه يؤكد لكم أنه أنزل الكتاب المبارك فقال: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون) [الأنعام: 92]. ¶ إن من يدعي أسباب للنزول ويجعل القرآن مقتسما بلا ترتيل ينطبق عليه ما الله يقول: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون..) [الأنعام: 93].وكيف لا وهؤلاء يضيفون إلى الوحي المنزل بترتيل، أسبابا للتنزيل، وينسبون إلى الله أحوالا لا تليق بمقامه الجليل، فهو يثار بالأفعال، وينبه بما يقال، وينتظر الهدى للناس حتى يأتيه السؤال. ¶ كلا إن هذا باطل لا يرضاه ذو الجلال، وهذا افتراء وكذاب، يأباه أولوا الألباب، الراسخون في علم الكتاب. إن الله حين يتحدث عن القرآن لا يصفه إلا بأنه كتاب وبأنه آيات وبأنه مرتل ترتيلا، وهذه أوصاف تدل على الاتصال والتوالي، وأنه أنزل كتاتب متكاملة، وأرتالا متواصلة، وآيات تتلى، وبينات تترى، ليست مبتورة بترا. ¶ إن من يقول بالآيات المبتورة إنما هو مبتور، فالله قد سمى القرآن الكوثر، وهو وصف يدل على التوالي الذي يتواتر، ومن ادعى غير ذلك فإنه للبيان وللآيات ينحر، وهو شانئ للبيان الأنور، وهو لا شك الأبتر: (إنا أعطيناك الكوثر(1)فصل لربك وانحر(2)إن شانئك هو الأبتر(3)) [سورة الكوثر]. بهذا أختتم المقال، شاكرا لله ذي الجلال، شانئا لمن حاول الجدال، وأعتمد على أسباب الإنزال.
هل أهل الكتاب من أهل الجنة؟؟
قد يسأل سائل: هل أهل الكتاب من اليهود والنصارى يدخلون الجنة؟ وهو سؤال يتردد على ألسنة الكثير من المسلمين، بل إن بعضهم لا يسأل نفسه هذا السؤال، بل يقطع أنهم لا يدخلون الجنة ويؤيد ذلك بأنهم كفروا بالرسول الأخير محمد خاتم النبيين، ولم يؤمنوا بالقرآن وهو كتاب منزل مصدق لما معهم من الكتاب ومهيمن عليه، وتلك حجة صحيحة والقرآن يؤكدها ويقطع بأن الذين يفرقون بين الله ورسله ويؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض هم الكافرون حقا، ولهذا فإن الله يتوعدهم بقوله: (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) [النساء:151].
لكن السؤال الذي أوردته مبني على حالة أخرى هي: هل أهل الكتاب المؤمنون بكل الرسل والمؤمنون بكل الكتب والموقنون بأن القرآن كتاب منزل مصدق لما معهم هل هؤلاء يدخلون الجنة؟
والجواب عندي: أن هذا الفريق فريق صالح مؤمن بار وأن الجنة لهم فيها نصيب ومسكن ودار. وكيف لا والله يقول مخاطبا لهم: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار..) فهو وعد أكيد مؤكد بالقسم من الله الأكرم، لكنه يختم الآية بقوله: (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) [المائدة:12].
وهذا هو ما يحتج به منكر دخولهم الجنة وهو صحيح؛ لأن هذا الفريق لم يستقم على العهد الذي بينهم وبين الله، وعليه فمن استقام عليه والتزم فإن الجنة له مقام محتم، ولو استمر على تسمية نفسه باليهودي أو النصراني ما دام يؤمن بأن الرسل كلهم صادقون وأن الكتب كلها منزلة، ولهذا فإن الله يقول إن المؤمنين منهم لا بد أن يكونوا صالحين:
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [المائدة: 69]. ولا معنى لقوله: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) إلا دخول الجنة بما كانوا يعملون. وكيف لا والله يقول في آية أخرى بعد إهباط آدم من الجنة: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 35].
والمتبع الهدى من الله ينطبق على المسلم وعلى من سواه من أهل الكتاب؛ لأن كل الكتب فيها هدى الله. ألم يقل الله: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) [المائدة:44]. وقال: (وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان..) [آل عمران:3-4]. وعليه: فإن أهل الكتاب المؤمنين بما أنزل إليهم بلا تحريف والملتزمين بهدى الله المقيمين للتوراة والإنجيل هم من أهل الجنة بلا ريب؛ لأنهم بلا شك من المتقين؛ ولهذا يقول الله: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم)[المائدة:65]. نعم إنهم موعودون من الله ربهم الكريم بجنات النعيم ، فما داموا أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم فهم بلا شك على صراط مستقيم. ولكن أولئك الذين ليسوا كذلك من أهل الكتاب فهم في سبيل معوج أثيم.
إذن فأهل الكتاب فريقان: (منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) [المائدة: 66]. وهذا ما يؤكده الله في آل عمران بقوله: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون(113)يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين(114)وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين(115)).
إنها شهادة من الله فلا ريب فيها فهو أعظم شهادة، لقد وصف بعضا من أهل الكتاب بأنهم صالحون وهي صفة إبراهيم الخليل (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) ووصفهم بالمتقين والجنة أعدت للمتقين، أليس كذلك؟. وهكذا فإن أهل الكتاب الذين لهم هذه الصفات في السلوك وهذه الأعمال في الدنيا لهم الجنة في الأخرى وعدا من الله ومن أصدق من الله قيلا.
نقول هذا لنؤكد للعالمين أن المسلمين هم أمة الدعوة إلى الله وأن الإسلام هو دين كل الأنبياء والمرسلين ؛ لأنه الدين الذي اختاره الله للعالمين وارتضاه دينا لكل المؤمنين الذين يؤمنون به وباليوم الآخر ويؤمنون بكل الكتب والرسل بلا تفريق. وعليه: فمن هذه صفته من أهل الكتاب فهو جدير بأن تكون الجنة له المآب حتى ولو كانوا يسمون باسمهم الذي عرفوا به، فاليهودية أو النصرانية اسمان أقرهما الله لهما في القرآن كما أن اسم المسلمين المعروف في القرآن هم (الذين أمنوا) فاليهود هم الذين هادوا إلى الله أي أسلموا وتابوا والنصارى هم الذين قالوا (نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون).
ثم إن الذين قالوا إنا نصارى هم أقرب مودة للمؤمنين وأرق قلوبا أمام الحق المبين. (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) [المائدة: 82]. ولأنهم لا يستكبرون فإن النتيجة هي الاستجابة للحق المبين: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين(83)وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين(84)) [سورة المائدة].
إنهم يعتبرون القرآن قد جاءهم بالحق وأنهم يطمعون أن يكونوا مع الصالحين الذين يؤمنون بالحق، وكيف لا وهو لما عندهم قد صدق!! ولهذا فإن جزاءهم الجنة وعد محقق. يعلنه الله فيقول: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) [المائدة:85]. هذا الفريق المحسن هو الفريق المستحق للجنة والموعود بالنعيم، وأما الفريق الآخر فهو كما يقول الله: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) [المائدة: 86].
ألا ترون أن الأولين قد أثابهم الله الجنة بما قالوا، فالقول منهم كفاهم لينالوا ما به الله أثابهم. وهكذا فإن مجرد الإعلان بأن الحق قد جاء في القرآن مصدقا لما سبقه من الكتب المتضمنة للحق. هذا هو السبيل إلى الصلاح والإحسان، ثم إلى نيل جنات النعيم فذلك وعد لكل إنسان. سواء في ذلك من يسمى مسلما أو يهوديا أو نصرانيا إلا أي اسم آخر من الملل باطنة الدين المخلص لرب العالمين. هذا ما نفهمه من الآيات والذكر الحكيم، وهي آيات واضحة البيان، ظاهرة البرهان، لمن يتدبر القرآن بقلب سليم.
قد يسأل سائل: هل نحكم بهذا لهم حتى ولو لم يؤمنوا برسول الله محمد ولم يصلوا بالصلاة التي يصليها المسلمون والتي أوضحها خاتم النبيين؟؟. وأقول: هذا سؤال غير صحيح وغير متناسب مع ما قدمناه، ذلك أن من يؤمن بما أنزل الله من الكتاب ويتلوه حق تلاوته فإنه في محمد خاتم النبيين لا يرتاب وإلا فهو لا يتلو بصدق آيات الله ولا يؤمن بما أنزل الله بل هو كافر كذاب. وعليه: فإني حين أقول أن لهم الجنة إنما أنطلق من حقيقة أكدها القرآن وهي أن المؤمن بالله لا بد أن يؤمن بكل رسل الله وبكل ما أنزل الله وهذا هو الميزان الحق لكل عباد الله، وإذن فإن السؤال لا يورده إلا من لا يفهم القرآن ولا يعرف مراد الله.
أما قضية الصلاة فإن المراد بها الطاعة والالتزام بما أمر الله والإقامة على سبيله وما سبيله إلا العمل الصالح والمسارعة في الخيرات بيقين وتقوى وبابتغاء أجر الله لا سوى والاستقامة على ذكره في ما يتلى. وما الصلاة إلا شكل من أشكال العمل الصالح بل ما الصلاة إلا دعوة ولهذا يقول الله: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) [العنكبوت: 45]. فإذا لم تكن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم يكن المصلي ذاكرا لله في كل حال ومنه يحذر؛ فإنه لم يقم الصلاة لأن كل سعي الإنسان يجب أن يكون صالحا يبتغي وجه الله وهذه هي حقيقة الصلاة، ولهذا ختمت الآية بقوله: (والله يعلم ما تصنعون).
ومعنى هذا أن الإنسان مسؤول عن كل حركة وسكون وعن كل قول وسكوت وعن كل عمل ووقوف وعن كل سعي ومراد، والله لكل ذلك بالمرصاد. فإذا لم يعمل الإنسان الصالحات فهو لا يعرف معنى الصلوات ولا يقيمها. وعليه: فشكل الصلاة وهيئتها لا تهم عند الله، فليصل كل الإنسان كما هي صلاته في ملته، وكل حسب وجهته، المهم أن يكون الله هو المقصود في صلاته وفي مهماته، فالبر هو العمل الذي يعني أن الله أكبر لا العمل الذي لا يهتم إلا بالمظهر.
ولتأكيد أن الله لا يهمه المظاهر، ولكن المعول عليه لديه هو المخبر؛ يقول: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) [البقرة:177].
ألا تلاحظوا أن بذل المال كان هو الأهم في هذه الأعمال، وأن السمو الأكبر للإنسان والوفاء بالعهود هو الإحسان، وأن الصبر في البأساء والضراء هو الصدق والتقوى. فالصلاة إنما وردت في وسط الأعمال الصالحة وكأنها إن لم تشع بالنور في كل الأعمال فإن المصلي غافل عن صلاته ساهي، وليس من الأبرار ولا من الصادقين ولا من المتقين، مع العلم أن الأبرار والصادقين والمتقين هم أصحاب الجنة. فإذا لم تكن بصلاتك من هؤلاء فإن عملك هباء.
وهكذا فإن كل آيات القرآن التي تعد الناس بالجنة والفوز في الآخرة تجعل العمل الصالح هو المعراج إلى ذلك، ولست بحاجة إلى إيراد الآيات فهي كلها بلا استثناء فلنقرأها أنت لتجد الحقيقة جلية بلا خفاء. وعليه: فإن العمل الصالح في الدنيا هو السبيل لكل فائز مفلح في الأخرى، وليس هذا خاصا بالمسلمين بل لكل إنسان على الدين ولو كان يهوديا أو نصرانيا أو على ملة من الملل الأخرى التي تؤمن بالله ولا تشرك، اقرأ إذا شئت قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة:62]. وهذه الآية التي وردت في البقرة تكررت بالنص في سورة أخرى، مما يؤكد أن الميزان عند الله هو التقوى والصلاح وذلك يتحقق بالإيمان بالله واليوم الآخر وهذا هو خلاصة وأساس كل رسالة ومهمة كل رسول، وواجب من اتبعهم بلا تفضيل.
إن الله يريد الصلاح في الأرض وإن الله يريد لمن يسكن الأرض أن يعمل الصالحات وأن يلتزم بالسعي المعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر. فالمؤمن بذلك لا يمكن إلا أن يصلح في الباطن والظاهر. وبالتالي فلا خوف عليه ولا حزن بل لا يأتي منه ضرر لنفسه ولا للآخر. والأمن من الخوف والنجاة من الحزن والبعد عن الضرر هو مبتغى كل البشر، ولكن الناس لا يهتدون إلى طريقه الصحيح، يبحثون عنه في العدوان والطغيان، ويظنون أن ذلك هو الأمان، مع جهلهم أن ذلك هو الخسران، وأن الطريق إلى الأمان هو الإيمان بما أنزل الرحمن، وعدم الشرك به وهذا هو الاطمئنان.
وليصل الإنسان بالشكل الذي يعرفه في ملته وبالأسلوب الذي توارثه في أمته، أما التمسك بشكلها الخاص عند المسلمين فهذا فهم غير صحيح ولا يليق بأهل الإيمان. وعليه فالصلاة ليست إلا هيئة خاصة ولحظات مخلصة يقف فيها العبد ليعلن عهدا أمام الله أن يستمر على سبيله يعمل العمل الصالح الذي يرضاه ويميل عن الفساد في الأرض الذي لا يحبه الله، وهذا هو اللب الحقيقي للدين، هو المعنى الصحيح لصلاة المؤمنين في كل مكان وحين، وفي الأولين والآخرين.
إن الناس مأمورون عبر الأنبياء أن يعبدوا الله ويؤمنوا باليوم الآخر، ولنستمع إلى رب العالمين وهو يوحي إلى موسى خلاصة رسالته وأساس مهمته وهو وحي يتلقاه في أول لحظة من نبوته: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى(13)إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري(14)). هذا أولا ثم ماذا؟ (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى(15)فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى(16)) [سورة طه: 13-16].
فالصلاة إنما أقامها للاستقامة على ذكر الله في كل حين والدوام على طاعته مقرونا هذا باليقين بالساعة وبالجزاء على كل ما يسعى الإنسان، فإن ذلك هو صمام الأمان، للاستقامة على التقوى، وعدم اتباع الهوى.فإذا نسيها الإنسان فإنه يفسد في الأرض وفي اللظى يتردى، وهكذا فإن العمل الصالح هو النتيجة لذكر الله، وهو الثمار للصلاة، كما أن حارس العمل الصالح هو الإيمان بالأخرى. فإذا تحقق ذلك فقد أصبح الناس في أمان فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وهذا هو المطلب الأسمى لكل الناس المؤمنين بل للناس أجمعين.
ولكن الغافلين عن ذكر الله يحيدون عنه ويبحثون عن الأمان في الخوف والحزن واتباع الهوى، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يعلمون أن هذا هو الخسران وهو الخوف والحزن الدائم في الدنيا والأخرى. إن الصلاح والعدل في الأرض يصلح الدنيا والأخرى؛ لكن الفساد والظلم يفسد الدنيا والأخرى.
ولهذا فإن مهمة كل رسول هي إصلاح سلوك الناس في كل فعل وقول وصمت ونطق وإصلاح علاقاتهم بالحب والتعاون فلا ظلم ولا بغضاء، ولا يعبد بعضهم بعضا، وما الشعائر الدينية إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية النبيلة. فلتقم الشعائر بأي الصور ما دامت تؤدي إلى النهي عن الفحشاء والمنكر، وتؤمن الناس من الخوف والحزن والضرر، هذا هو الأساس المعتبر، في كل رسالة ولكل رسول تقدم أو تأخر.
أما لو تمسكنا بالأشكال والمظهر فإن هذا سيؤدي حتما إلى أن نقول أن نوحا وهودا وصالحا وشعيبا ومن بعدهم من الرسل والأنبياء ، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وداوود وسليمان وعيسى كل هؤلاء أعمالهم باطلة وإيمانهم ناقص وسلوكهم غير صحيح وغير صالح؛ لأنهم كانوا لا يصلون الصلاة التي يصليها الآن المسلمون ولا يقرؤنها بالشكل الذي عرفناه من الرسول محمد خاتم النبيين، وهذا قول خطير، وإثم كبير، كيف لا والله يقول في سورة الأنعام بعد أن أورد أسماء هؤلاء الأنبياء، يقول لرسوله الخاتم: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام:90]. ويقول عن إبراهيم: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [البقرة:130]. ويقول للمدعين من أهل الكتاب أنهم على ملة إبراهيم: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [البقرة:135]. ثم يدعوهم إلى اتباعها مع المسلمين ويقول لهم جميعا: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) [البقرة:136].
وهكذا تتواصل التأكيدات على أن ملة الأنبياء واحدة، وأن عملهم الصالح هو الأساس في الفلاح في الدنيا والآخرة، ويعلن أن كل أحد مسئول عن عمله وبه يرتفع، فالأنساب لا تنفع بدون اتباع ، فلا ينفع اليهود أنهم من نسل إبراهيم: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) [البقرة:141]. ولست بحاجة إلى إيراد الآيات المماثلة لهذه المؤكدة أن العبرة بالعمل الصالح والإخلاص فذلك واضح لمن تدبر الآيات ببصيرة. لكني أختمها بقوله تعالى مخاطبا رسوله محمد خاتم النبيين: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [النحل: 123]. وما ملة إبراهيم إلا أنه لا يشرك بربه أحدا، ويتبرأ من قومه وأبيه أبدا، ما داموا لله أعداء.
لعل الكلام قد طال في الجواب على السؤال؛ ولكن الموضوع هام، والبيان واجب على من أراد إيضاح المراد والمرام، وما هو المرام وما هو المراد؟ إن المراد هو أن أهل الكتاب الصالحين المؤمنين بالله وباليوم الآخر والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمسارعين في الخيرات هم عند الله من الصالحين المتقين وهم من الأبرار الخيرين: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) وهو وعد جميل.. لماذا؟ لأن الله يعلم بمن ضل ومن اتقى، ولا يظلم ربك أحدا، ولهذا ختم الآية بقوله: (والله عليم بالمتقين) [آل عمران:115]. بل إن الله يعد هؤلاء المتميزين من أهل الكتاب بأجر عظيم ويقول: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) [النساء: 162].
بهذا أكتفي في القضية ويكفي أن أقول في الختام أن على المسلم أن لا يعلن لكل مخالف له الخصام بل يتبين حتى يفصل بين الناس بما يليق بأهل الإسلام.
إن المسلمين دعاة للحق لا طغاة وهم يدعون بالحكمة لا بالخصومة وبالموعظة الحسنة لا بالاستهزاء والسخرية؛ لأن هذا يشعل الخصام (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [يونس:25].هل أهل الكتاب من أهل الجنة؟؟ ¶ قد يسأل سائل: هل أهل الكتاب من اليهود والنصارى يدخلون الجنة؟ وهو سؤال يتردد على ألسنة الكثير من المسلمين، بل إن بعضهم لا يسأل نفسه هذا السؤال، بل يقطع أنهم لا يدخلون الجنة ويؤيد ذلك بأنهم كفروا بالرسول الأخير محمد خاتم النبيين، ولم يؤمنوا بالقرآن وهو كتاب منزل مصدق لما معهم من الكتاب ومهيمن عليه، وتلك حجة صحيحة والقرآن يؤكدها ويقطع بأن الذين يفرقون بين الله ورسله ويؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض هم الكافرون حقا، ولهذا فإن الله يتوعدهم بقوله: (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) [النساء:151]. ¶ لكن السؤال الذي أوردته مبني على حالة أخرى هي: هل أهل الكتاب المؤمنون بكل الرسل والمؤمنون بكل الكتب والموقنون بأن القرآن كتاب منزل مصدق لما معهم هل هؤلاء يدخلون الجنة؟ ¶ والجواب عندي: أن هذا الفريق فريق صالح مؤمن بار وأن الجنة لهم فيها نصيب ومسكن ودار. وكيف لا والله يقول مخاطبا لهم: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار..) فهو وعد أكيد مؤكد بالقسم من الله الأكرم، لكنه يختم الآية بقوله: (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) [المائدة:12]. ¶ وهذا هو ما يحتج به منكر دخولهم الجنة وهو صحيح؛ لأن هذا الفريق لم يستقم على العهد الذي بينهم وبين الله، وعليه فمن استقام عليه والتزم فإن الجنة له مقام محتم، ولو استمر على تسمية نفسه باليهودي أو النصراني ما دام يؤمن بأن الرسل كلهم صادقون وأن الكتب كلها منزلة، ولهذا فإن الله يقول إن المؤمنين منهم لا بد أن يكونوا صالحين: ¶ (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [المائدة: 69]. ولا معنى لقوله: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) إلا دخول الجنة بما كانوا يعملون. وكيف لا والله يقول في آية أخرى بعد إهباط آدم من الجنة: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 35]. ¶ والمتبع الهدى من الله ينطبق على المسلم وعلى من سواه من أهل الكتاب ؛ لأن كل الكتب فيها هدى الله. ألم يقل الله: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) [المائدة:44]. وقال: (وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان..) [آل عمران:3-4]. وعليه: فإن أهل الكتاب المؤمنين بما أنزل إليهم بلا تحريف والملتزمين بهدى الله المقيمين للتوراة والإنجيل هم من أهل الجنة بلا ريب؛ لأنهم بلا شك من المتقين؛ ولهذا يقول الله: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم)[المائدة:65]. نعم إنهم موعودون من الله ربهم الكريم بجنات النعيم ، فما داموا أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم فهم بلا شك على صراط مستقيم. ولكن أولئك الذين ليسوا كذلك من أهل الكتاب فهم في سبيل معوج أثيم. ¶ إذن فأهل الكتاب فريقان: (منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) [المائدة: 66]. وهذا ما يؤكده الله في آل عمران بقوله: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون(113)يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين(114)وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين(115)). ¶ إنها شهادة من الله فلا ريب فيها فهو أعظم شهادة، لقد وصف بعضا من أهل الكتاب بأنهم صالحون وهي صفة إبراهيم الخليل (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) ووصفهم بالمتقين والجنة أعدت للمتقين، أليس كذلك؟. وهكذا فإن أهل الكتاب الذين لهم هذه الصفات في السلوك وهذه الأعمال في الدنيا لهم الجنة في الأخرى وعدا من الله ومن أصدق من الله قيلا. ¶ نقول هذا لنؤكد للعالمين أن المسلمين هم أمة الدعوة إلى الله وأن الإسلام هو دين كل الأنبياء والمرسلين ؛ لأنه الدين الذي اختاره الله للعالمين وارتضاه دينا لكل المؤمنين الذين يؤمنون به وباليوم الآخر ويؤمنون بكل الكتب والرسل بلا تفريق. وعليه: فمن هذه صفته من أهل الكتاب فهو جدير بأن تكون الجنة له المآب حتى ولو كانوا يسمون باسمهم الذي عرفوا به، فاليهودية أو النصرانية اسمان أقرهما الله لهما في القرآن كما أن اسم المسلمين المعروف في القرآن هم (الذين أمنوا) فاليهود هم الذين هادوا إلى الله أي أسلموا وتابوا والنصارى هم الذين قالوا (نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون). ¶ ثم إن الذين قالوا إنا نصارى هم أقرب مودة للمؤمنين وأرق قلوبا أمام الحق المبين. (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) [المائدة: 82]. ولأنهم لا يستكبرون فإن النتيجة هي الاستجابة للحق المبين: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين(83)وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين(84)) [سورة المائدة]. ¶ إنهم يعتبرون القرآن قد جاءهم بالحق وأنهم يطمعون أن يكونوا مع الصالحين الذين يؤمنون بالحق، وكيف لا وهو لما عندهم قد صدق!! ولهذا فإن جزاءهم الجنة وعد محقق. يعلنه الله فيقول: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) [المائدة:85]. هذا الفريق المحسن هو الفريق المستحق للجنة والموعود بالنعيم، وأما الفريق الآخر فهو كما يقول الله: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) [المائدة: 86]. ¶ ألا ترون أن الأولين قد أثابهم الله الجنة بما قالوا، فالقول منهم كفاهم لينالوا ما به الله أثابهم. وهكذا فإن مجرد الإعلان بأن الحق قد جاء في القرآن مصدقا لما سبقه من الكتب المتضمنة للحق. هذا هو السبيل إلى الصلاح والإحسان، ثم إلى نيل جنات النعيم فذلك وعد لكل إنسان. سواء في ذلك من يسمى مسلما أو يهوديا أو نصرانيا إلا أي اسم آخر من الملل باطنة الدين المخلص لرب العالمين. هذا ما نفهمه من الآيات والذكر الحكيم، وهي آيات واضحة البيان، ظاهرة البرهان، لمن يتدبر القرآن بقلب سليم. ¶ قد يسأل سائل: هل نحكم بهذا لهم حتى ولو لم يؤمنوا برسول الله محمد ولم يصلوا بالصلاة التي يصليها المسلمون والتي أوضحها خاتم النبيين؟؟. وأقول: هذا سؤال غير صحيح وغير متناسب مع ما قدمناه، ذلك أن من يؤمن بما أنزل الله من الكتاب ويتلوه حق تلاوته فإنه في محمد خاتم النبيين لا يرتاب وإلا فهو لا يتلو بصدق آيات الله ولا يؤمن بما أنزل الله بل هو كافر كذاب. وعليه: فإني حين أقول أن لهم الجنة إنما أنطلق من حقيقة أكدها القرآن وهي أن المؤمن بالله لا بد أن يؤمن بكل رسل الله وبكل ما أنزل الله وهذا هو الميزان الحق لكل عباد الله، وإذن فإن السؤال لا يورده إلا من لا يفهم القرآن ولا يعرف مراد الله. ¶ أما قضية الصلاة فإن المراد بها الطاعة والالتزام بما أمر الله والإقامة على سبيله وما سبيله إلا العمل الصالح والمسارعة في الخيرات بيقين وتقوى وبابتغاء أجر الله لا سوى والاستقامة على ذكره في ما يتلى. وما الصلاة إلا شكل من أشكال العمل الصالح بل ما الصلاة إلا دعوة ولهذا يقول الله: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) [العنكبوت: 45]. فإذا لم تكن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم يكن المصلي ذاكرا لله في كل حال ومنه يحذر؛ فإنه لم يقم الصلاة لأن كل سعي الإنسان يجب أن يكون صالحا يبتغي وجه الله وهذه هي حقيقة الصلاة، ولهذا ختمت الآية بقوله: (والله يعلم ما تصنعون). ¶ ومعنى هذا أن الإنسان مسؤول عن كل حركة وسكون وعن كل قول وسكوت وعن كل عمل ووقوف وعن كل سعي ومراد، والله لكل ذلك بالمرصاد. فإذا لم يعمل الإنسان الصالحات فهو لا يعرف معنى الصلوات ولا يقيمها. وعليه: فشكل الصلاة وهيئتها لا تهم عند الله، فليصل كل الإنسان كما هي صلاته في ملته، وكل حسب وجهته، المهم أن يكون الله هو المقصود في صلاته وفي مهماته، فالبر هو العمل الذي يعني أن الله أكبر لا العمل الذي لا يهتم إلا بالمظهر. ¶ ولتأكيد أن الله لا يهمه المظاهر، ولكن المعول عليه لديه هو المخبر؛ يقول: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) [البقرة:177]. ¶ ألا تلاحظوا أن بذل المال كان هو الأهم في هذه الأعمال، وأن السمو الأكبر للإنسان والوفاء بالعهود هو الإحسان، وأن الصبر في البأساء والضراء هو الصدق والتقوى. فالصلاة إنما وردت في وسط الأعمال الصالحة وكأنها إن لم تشع بالنور في كل الأعمال فإن المصلي غافل عن صلاته ساهي، وليس من الأبرار ولا من الصادقين ولا من المتقين، مع العلم أن الأبرار والصادقين والمتقين هم أصحاب الجنة. فإذا لم تكن بصلاتك من هؤلاء فإن عملك هباء. ¶ وهكذا فإن كل آيات القرآن التي تعد الناس بالجنة والفوز في الآخرة تجعل العمل الصالح هو المعراج إلى ذلك، ولست بحاجة إلى إيراد الآيات فهي كلها بلا استثناء فلنقرأها أنت لتجد الحقيقة جلية بلا خفاء. وعليه: فإن العمل الصالح في الدنيا هو السبيل لكل فائز مفلح في الأخرى، وليس هذا خاصا بالمسلمين بل لكل إنسان على الدين ولو كان يهوديا أو نصرانيا أو على ملة من الملل الأخرى التي تؤمن بالله ولا تشرك، اقرأ إذا شئت قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة:62]. وهذه الآية التي وردت في البقرة تكررت بالنص في سورة أخرى، مما يؤكد أن الميزان عند الله هو التقوى والصلاح وذلك يتحقق بالإيمان بالله واليوم الآخر وهذا هو خلاصة وأساس كل رسالة ومهمة كل رسول، وواجب من اتبعهم بلا تفضيل. ¶ إن الله يريد الصلاح في الأرض وإن الله يريد لمن يسكن الأرض أن يعمل الصالحات وأن يلتزم بالسعي المعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر. فالمؤمن بذلك لا يمكن إلا أن يصلح في الباطن والظاهر. وبالتالي فلا خوف عليه ولا حزن بل لا يأتي منه ضرر لنفسه ولا للآخر. والأمن من الخوف والنجاة من الحزن والبعد عن الضرر هو مبتغى كل البشر، ولكن الناس لا يهتدون إلى طريقه الصحيح، يبحثون عنه في العدوان والطغيان، ويظنون أن ذلك هو الأمان، مع جهلهم أن ذلك هو الخسران، وأن الطريق إلى الأمان هو الإيمان بما أنزل الرحمن، وعدم الشرك به وهذا هو الاطمئنان. ¶ وليصل الإنسان بالشكل الذي يعرفه في ملته وبالأسلوب الذي توارثه في أمته، أما التمسك بشكلها الخاص عند المسلمين فهذا فهم غير صحيح ولا يليق بأهل الإيمان. وعليه فالصلاة ليست إلا هيئة خاصة ولحظات مخلصة يقف فيها العبد ليعلن عهدا أمام الله أن يستمر على سبيله يعمل العمل الصالح الذي يرضاه ويميل عن الفساد في الأرض الذي لا يحبه الله، وهذا هو اللب الحقيقي للدين، هو المعنى الصحيح لصلاة المؤمنين في كل مكان وحين، وفي الأولين والآخرين. ¶ إن الناس مأمورون عبر الأنبياء أن يعبدوا الله ويؤمنوا باليوم الآخر، ولنستمع إلى رب العالمين وهو يوحي إلى موسى خلاصة رسالته وأساس مهمته وهو وحي يتلقاه في أول لحظة من نبوته: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى(13)إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري(14)). هذا أولا ثم ماذا؟ (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى(15)فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى(16)) [سورة طه: 13-16]. ¶ فالصلاة إنما أقامها للاستقامة على ذكر الله في كل حين والدوام على طاعته مقرونا هذا باليقين بالساعة وبالجزاء على كل ما يسعى الإنسان، فإن ذلك هو صمام الأمان، للاستقامة على التقوى، وعدم اتباع الهوى.فإذا نسيها الإنسان فإنه يفسد في الأرض وفي اللظى يتردى، وهكذا فإن العمل الصالح هو النتيجة لذكر الله، وهو الثمار للصلاة، كما أن حارس العمل الصالح هو الإيمان بالأخرى. فإذا تحقق ذلك فقد أصبح الناس في أمان فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وهذا هو المطلب الأسمى لكل الناس المؤمنين بل للناس أجمعين. ¶ ولكن الغافلين عن ذكر الله يحيدون عنه ويبحثون عن الأمان في الخوف والحزن واتباع الهوى، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يعلمون أن هذا هو الخسران وهو الخوف والحزن الدائم في الدنيا والأخرى. إن الصلاح والعدل في الأرض يصلح الدنيا والأخرى؛ لكن الفساد والظلم يفسد الدنيا والأخرى. ¶ ولهذا فإن مهمة كل رسول هي إصلاح سلوك الناس في كل فعل وقول وصمت ونطق وإصلاح علاقاتهم بالحب والتعاون فلا ظلم ولا بغضاء، ولا يعبد بعضهم بعضا، وما الشعائر الدينية إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية النبيلة. فلتقم الشعائر بأي الصور ما دامت تؤدي إلى النهي عن الفحشاء والمنكر، وتؤمن الناس من الخوف والحزن والضرر، هذا هو الأساس المعتبر، في كل رسالة ولكل رسول تقدم أو تأخر. ¶ أما لو تمسكنا بالأشكال والمظهر فإن هذا سيؤدي حتما إلى أن نقول أن نوحا وهودا وصالحا وشعيبا ومن بعدهم من الرسل والأنبياء ، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وداوود وسليمان وعيسى كل هؤلاء أعمالهم باطلة وإيمانهم ناقص وسلوكهم غير صحيح وغير صالح؛ لأنهم كانوا لا يصلون الصلاة التي يصليها الآن المسلمون ولا يقرؤنها بالشكل الذي عرفناه من الرسول محمد خاتم النبيين، وهذا قول خطير، وإثم كبير، كيف لا والله يقول في سورة الأنعام بعد أن أورد أسماء هؤلاء الأنبياء، يقول لرسوله الخاتم: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام:90]. ويقول عن إبراهيم: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [البقرة:130]. ويقول للمدعين من أهل الكتاب أنهم على ملة إبراهيم: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [البقرة:135]. ثم يدعوهم إلى اتباعها مع المسلمين ويقول لهم جميعا: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) [البقرة:136]. ¶ وهكذا تتواصل التأكيدات على أن ملة الأنبياء واحدة، وأن عملهم الصالح هو الأساس في الفلاح في الدنيا والآخرة، ويعلن أن كل أحد مسئول عن عمله وبه يرتفع، فالأنساب لا تنفع بدون اتباع، فلا ينفع اليهود أنهم من نسل إبراهيم: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) [البقرة:141]. ولست بحاجة إلى إيراد الآيات المماثلة لهذه المؤكدة أن العبرة بالعمل الصالح والإخلاص فذلك واضح لمن تدبر الآيات ببصيرة. لكني أختمها بقوله تعالى مخاطبا رسوله محمد خاتم النبيين: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [النحل: 123]. وما ملة إبراهيم إلا أنه لا يشرك بربه أحدا، ويتبرأ من قومه وأبيه أبدا، ما داموا لله أعداء. ¶ لعل الكلام قد طال في الجواب على السؤال؛ ولكن الموضوع هام، والبيان واجب على من أراد إيضاح المراد والمرام، وما هو المرام وما هو المراد؟ إن المراد هو أن أهل الكتاب الصالحين المؤمنين بالله وباليوم الآخر والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمسارعين في الخيرات هم عند الله من الصالحين المتقين وهم من الأبرار الخيرين: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) وهو وعد جميل.. لماذا؟ لأن الله يعلم بمن ضل ومن اتقى، ولا يظلم ربك أحدا، ولهذا ختم الآية بقوله: (والله عليم بالمتقين) [آل عمران:115]. بل إن الله يعد هؤلاء المتميزين من أهل الكتاب بأجر عظيم ويقول: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) [النساء: 162]. ¶ بهذا أكتفي في القضية ويكفي أن أقول في الختام أن على المسلم أن لا يعلن لكل مخالف له الخصام بل يتبين حتى يفصل بين الناس بما يليق بأهل الإسلام. ¶ إن المسلمين دعاة للحق لا طغاة وهم يدعون بالحكمة لا بالخصومة وبالموعظة الحسنة لا بالاستهزاء والسخرية؛ لأن هذا يشعل الخصام (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [يونس:25].
المعوذتان حرز القرآن وأهل القرآن
كثير من الناس لا يلتفت في صلاته ولا في حياته لقراءة سورتين هامتين من سور القرآن، فهما في التلاوة والحياة شبه مهملتان، وهذا غفول من الناس، وعزوف عن كنز من ألماس، بل أغلى مما في أيدي الناس.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت السورتان ما معناه: [لقد نزلت علي اليوم سورتان هما من خير ما نزل]، ولقد كان يقرأهما في أواخر صلاة الليل وأول صلاة النهار، وكان يقرأهما في الوتر، بل كان يقرأهما ثلاث مرات قبل نومه فيختم بها جهاد يومه، ويقرأهما عند صحوه فيبدأ بهما سعي يومه، وهذا لأنه يدرك أن السورتين هامتان.
وإن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسورتين لا يأتي من معنى عادي، ولا ينطلق من المعنى الذي قيل عنهما "أنها نزلت عليه عندما أصابه سحر اليهود" فهذا بهتان لا يليق بالرسول المرصود بحراسة ربه المعبود، فلقد قال الله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا(26)إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا(27)ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا(28)) [سورة الجن].
وعليه فإن اهتمام الرسول بالسورتين لمعنى أهم وأعمق يتعلق بالقرآن المبين. لن أطيل عليكم المقدمات، ولن أستطرد في الخواطر، ولكني سأدخل في الموضوع بشكل مباشر.
السورتان لهما أهمية رائعة عظيمة، ودلالات واسعة حكيمة، ومنافع جامعة مستديمة، لكل من قرأ القرآن وتمسك بآياته الكريمة. إنهما ختام يحمي الآيات وحاملها من كل سوء خارج قلبه، ومن كل وسواس داخل صدره. وهما يحميان حامل القرآن من عوامل الانحراف والغفول عن ربه، وتقيانه من الانسلاخ عن آيات ربه. فالقرآن نزل ليعلم الإنسان كيف يعبد الله ربه، ويدله على طريق السعادة والسلام في دنياه وأخراه، ويفتح له أبواب الرحمة من ربه الذي سواه، ولكن المؤمن قد يتعرض للشرور والفتنة من الكفار، وقد يتعرض للمكر والكيد من المنافقين الأشرار. بل وقد يتعرض المجتمع المؤمن للدسائس النفاثات في عقود العهود والعلاقات ومفاصل اللقاء والتعارف والتعاون بين الجماعات، فنتفرط العرى، وتنتقض العهود والقوى. وقد يشتغل الحسد في قلوب المحرومين من الإيمان فيطلقون الشائعات والأقاويل بالتهاون حسدا من عند أنفسهم التي يدمرها الخسران.
نعم هذا ما يتعرض له المؤمن منفردا والمؤمنون مجتمعين من مكائد الكفر والجحود ومن دسائس النفث والحسود، وبالتالي فإن المؤمن قد تتراخى صلته بالقرآن، وقد يتأثر بالأذى الذي يأتيه من أهل النفاق والخسران، فينسى الآيات، ويتخلى عن البينات، ويميل إلى الإدهان مع أولي البغي والتكذيب، أو يظن أن الإدهان لهم قد يجنبه البغي المريب. وعليه فإن المؤمن يحب أن يستقيم ويستعيذ، ولا معيذ له من ذلك إلا الاستعاذة بربه الخلاق العليم ولا عاصم له إلا الاعتصام بربه العزيز الحكيم. وهذا ما تضمنه له السورتان وتعلنه بأوضح البيان أمام كل ذي لب وفهم لآيات القرآن، ولنعد إلى السورتين ليتضح لنا ولكم ما نريد أن نقول ولينفلق لنا النور المبين من مشكاة الجليل.
لقد فسر المفسرون الآيات بتفاسير لا تليق بجلال الله العلي العظيم فقالوا إن (تفسير النفاثات) مثلا هي العجائز التي تنفث في عقد الخيوط المفتولة ليصاب الناس بالسحر وبالآفات المرذولة، وهذا وهم واهن، وظن للقرآن بائن، وجهل بجلال الله العليم القدير، الذي هو عليم بذات الصدور وهو اللطيف الخبير، وهو الذي أنزل القرآن ليبصر الناس بنوره وهداه . فلنتجاوز تلك التفاسير، ولنصعد إلى التفسير الذي به الله جدير، وهو الذي يليق بالعليم القدير.
لقد عرفنا أن السورتين حلتا في نهاية القرآن، وهذا الترتيب الذي احتلته السورتان ليس صدفة وليس من عمل الإنسان، بل توقيفي وهو من اختيار الرحمن، إذن فالسورتان حلتا هذا المحل لأمر جلل، ولعمل عظيم أراده الله الأجل.
إن الإنسان الذي يقرأ القرآن ويجعله خلقه في حياته ودليله إلى السعادة في حياته ومماته لا بد أن يجد في القرآن حياة مترفقة، وطمأنينة ونورا يقربه من ربه، ويضيء له خفايا دربه. وعليه أن يتمسك بهذه الحياة المترفقة، وبهذه الأنوار المشرقة، ولا يتخلى عنها في أي لحظة ضعف مخفقة، ولا يستطيع ذلك إلا بالاعتصام برب الحياة والنور، والاستعاذة بربه الخلاق العليم، وهنا يأتيه الدليل إلى المعيذ الحق، تحمله إليه سورة الفلق، تدله بمن يلوذ ومن هو الذي به يستعيذ. وتختار له الصفة المناسبة من صفات ربه المعيذ، فماذا اختارت له من صفات ربه؟.
لنقرأ: (قل أعوذ برب الفلق) إنه الله رب الفلق، ماذا يعني الفلق؟ لو عدنا إلى القرآن لعرفنا المعنى الأصدق، فالله يقول (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنا تؤفكون(95)فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم(96) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون(97)وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون(98)) [سورة الأنعام].
وتستمر الآيات تصف الله الفالق فماذا تقول (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم(101)ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل(102) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير(103)).
إذن فرب الفلق يعني رب الحياة ورب النور، وهكذا فإنك يا أيها الحي المستنير بالقرآن الحكيم تستعيذ برب الحياة والنور، الخالق لكل شيء وهو به عليم. الحياة والنور التي نفخها فيك القرآن وبه يكتب الله في قلبك الإيمان، ويؤيدك بروح منه مدى الزمان، وكيف لا يؤيدك الله ويعيذك مما تخشاه وأنت قد استعذت بالمنبع الأصيل، والمصدر الجليل، والخالق الحق والمبدع الجميل، الذي من استعاذ به أمن من كل أمر وبيل، واستقام على الصراط المستقيم، فقل مؤمنا قل موقنا قل مطمئنا (أعوذ برب الفلق)؛ تجد رب الفلق معك يحميك ويصون، فلا يعجزه شيء وهو آخذ بناصية كل حي، فأنت أيها المؤمن المستعيذ بقوته أنت الأجدر والأحق برعايته، فكن مطمئنا بأنه المعيذ الأقوى والنصير الأوفى، وهداه هو الهدى، فمن اهتدي به اهتدى، ومن استعاذ به نال ما تمنى، وعاش في أمان من كل أذى.
وبعد فمن ما تستعيذ برب الفلق؟ وماذا تريد من رب الحياة والنور أن يحقق ؟ إن السورة تبدأ بأهم أعداء القرآن، وأشد أعداء الحياة والكارهين للنور الفارين من ضياه، ولهذا فإنهم يوضعون في أول القائمة وذلك هو قوله (من شر ما خلق).. ما هو هذا الشر ومن هم أصحابه ومن هم مصدره ومن ذا الذي يتصف به من خلق الله؟ إن الله يوضحه بلا لبس ولا خفاء، فيقول: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) [الأنفال:55]. فهم من الدواب التي لا تعقل بل هم أكثر شرا منها، بل إنها لا شر فيها ولكن الشر مجسد في هؤلاء؛ لأنهم لا يؤمنون ومن لا يؤمن فهو لا يعقل، ومن لا يعقل فهو أضل من الدواب، وهو مصدر الشر والخراب، والشر مجسد فيه بلا ارتياب؛ ولهذا يقول الله موضحا هذه الحقيقة: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون(22)ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون(23)) [سورة الأنفال].
وهكذا فإن هؤلاء هم شر ما خلق الله رب الفلق، هو الله عليم بهم فهو يعلم أن لا خير فيهم، بل الشر مجسد فيهم فهم معرضون في كل حال عن كلما يهد الله نافرون عن كل ما يحييهم، إنهم جرثومة عفنة تدمر الحياة، وتنشر الفساد والأوبئة في كل اتجاه. ولهذا فإن الله يؤكد شرهم بشكل أوسع، ويجعلهم أكثر شرا من كل ما خلق الله وبرأه فيقول:
(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) [البينة: 6].
إنهم مشار إليهم بأولئك لوضوح خطرهم وشرهم على الحياة؛ وكيف لا وهم قد كفروا بما أنزل الله من الآيات، وتعاموا عن البينات فكانوا هم أشد شرا من المخلوقات. إن كل ما برى الله وسواه في الأرض والسماوات، وما لا نعلمه من البرايا كله خير، لكن هؤلاء هم وحدهم الشر الذي لا يخفى، والخطر الذي ينشر وينفث الوباء، ويذر الحياة والأحياء، ويشوه الجمال ويطفئ الضياء، فهم أعداء الهدى، وهم خطر على من آمن واهتدى.
فإذن فالاستعاذة منهم برب الفلق هو الحق، وهو الطريق الأبلق، وهو الذي بالمؤمن أليق، فقل أيها المؤمن، قل وأنت مؤمن موقن: (قل أعوذ برب الفلق* من شر ما خلق) فإن ذلك هو الطريق الحق لحماية القرآن في قلبك، ولاستقامتك على صراط ربك، فالكافرون هم الشر الذي لا يحب الخير أبدا، وهم للحياة والنور ألد الأعداء.
فإذا أردت أن تستمر عاقلا مستنيرا بالقرآن، فاستعذ برب الفلق، من شر هذا النوع البشري الذي يكره الحق ويكره الفلق، ويكره النور والحياة، ويهوى الظلام والظلمات، ويرتدي لباس الموت والأموات، فهو خطر على الحياة والأحياء، وهو عدوها الذي لا يقبل الحق ولا بأهله يرضى، بل يعرض ويأبى، ويريد أن يطفئ النور المبين (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)، فاستعذ به تكن من المؤمنين الآمنين، في الدنيا ويوم الدين.
نعم إن كل فرد مؤمن بهذا القرآن، وكل أمة تؤمن بهذا القرآن وتعمل به وتتخذه خلقها ودليلها الحق، يجب أن تستعيذ برب الفلق، من الكفر والكافرين؛ فإنهم كما قال الله وصدق (شر ما خلق).هم شر ما خلق في ذاتهم، وفي ذرات أجسادهم؛ لأنهم بلا عقول وإذا تجرد الإنسان من عقله فلا يمكن أن تستفيد منه الحياة بل تتضرر، إنهم جرثومة مدمرة، وجمرة مستعرة، في جسد الحياة المزهرة، فلا معيذ منهم إلا الذي فلق الحياة والنور والحق، فالق الحب والنوى في أعماق الثرى، فالق الإصباح والضياء في آفاق الفضاء، فالق الهدى في قلوب المؤمنين الأتقياء.
وكما أن أولئك الكافرين هم شر ما خلق الله في ذواتهم، فإنهم شر ما خلق الله في أعمالهم وسعيهم، فهم ضالون ويحسبون أنهم يحسنون، وهم فاسدون مفسدون، ويزعمون أنهم مصلحون، وهم جاهلون غافلون، ويظنون أنهم علماء مبدعون، وهم ضرر على الحياة ويتوهمون أنهم أصحاب الحياة، فهم مغرورون بالدنيا، مستكبرون عن الهدى؛ ولهذا فهم يتآمرون على الحياة، ويرمون الشر في ظلمات الدجى ضد من اهتدى، ويدلسون الشرور الماحقة، تحت جناح الظلمات والليالي الغاسقة؛ على حياة الناس الذين قلوبهم للنور عاشقة.
ولهذا جاء بعد ذلك عنهم ما يوضح هذه الحقيقة فيقول الله: (ومن شر غاسق إذا وقب). إن الغاسق هو الذي يختبئ في الظلام ، ويختفي في الغسق ليدبر الضرر بالمؤمنين والحق، ولينصر الباطل بإصرار أحمق، وينشر الشر في كل مجال ومرفق. فاسق إنه فاسق، يترقب كل ظلام غاسق؛ ليغير فيه على كل نور مشرق، وليطفئ فيه كل ضياء متألق. إنه للحق محارب، ولهدمه واقب، ولكل صالح ناقب، ولكل سليم ثاقب، يغير على الخير ليمنعه، ويثب إلى الشر ليشيعه، وهو بالشر والباطل يسعى، ويحسب أنه يحسن صنعا، فهو في ضلال وخسران، وهو عدو للحياة والنور والإيمان، وهو مخاصم للجمال والإحسان.
إن الخلق العظيم هو خلق القرآن الحكيم، والجاهل محارب لكل عقل سليم، ويكره الوئام، وينصر الخصام، ويتآمر على حياة السلام، وهذا هو عدو القرآن وأهل القرآن، وهو يفرق من الفرقان، ويهوى الظلام والطغيان، فالاستعاذة من شره واجب على كل ذي لب، فأهل الألباب هم المستهدفون لكل واقب مرتاب، فالكافر غاسق خطر، يحبذ الشر المستطر، ضد أهل التذكر والتفكر، لآيات القرآن والذكر المنير، وضد كل من تدبر آيات الله العليم القدير.
فيا لهذا النوع من البشر، كم يحملون من شر وخطر، لكل من تذكر آيات الله وتدبر، فلتستعذ منهم برب الفلق، فهو بهم أبصر وأخبر، وهو عليهم أقدر، فهو الذي خلق وهو الذي صور، وهو الملجأ والمستنصر، إن الخلق العظيم هو خلق القرآن الحكيم، ومن جهل العلم والخلق السليم؛ فإنه يعاديه ويفر من صراطه المستقيم، ولا غرو فإن من كذب بالقرآن المبين، فإن سلوكه مشين، كما يصفه رب العالمين: (ولا تطع كل حلاف مهين(10) هماز مشاء بنميم(11)مناع للخير معتد أثيم(12)عتل بعد ذلك زنيم(13)أن كان ذا مال وبنين(14)إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين(15)) [سورة القلم].
هذا هو خلق أعداء القرآن المكذبين بالحق والبيان، فالبعد عنهم والاستعاذة منهم مسلك كل المؤمنين، ولا معيذ منهم إلا رب العالمين، فهم يتآمرون في الظلام الغاسق، بشكل لازب، وكل واحد منهم على الخير واقب، وللنور مغالب، لكنه هو المغلوب بالله الغلاب، المعيذ الناصر لأولي الألباب، فبه نستعيذ من كل غاسق إذا وقب، ولو استعرضنا القرآن لوجدنا هذا النوع من الناس موجودون في كل زمان؛ فلقد تآمروا على الرسول صالح (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون(48)قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون(49)) [سورة النمل]. لكن الله كان معيذا لرسوله ولمن معه من المؤمنين من مكر الماكرين (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون(50)فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين(51)) [سورة النمل].
ولقد تآمروا على المسيح: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين(54)إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا.. ) إلى آخر الآيات من 54 إلى 56 [سورة آل عمران]. ولقد تآمروا على موسى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) [الأعراف:127].
ولقد تآمروا على محمد والمؤمنين معه: (وإذ قالت طائفة منهم ياأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) [الأحزاب:13]. (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) [المنافقون:7]. هذا بعض تآمر المنافقين على القرآن وأهل القرآن، أما اليهود فقد تآمروا بجهل مشين على الرسول ومن معه من المؤمنين وظنوا أن الله لا يعلم ما يعملون مع أنهم أهل كتاب يعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) [البقرة:77]. نعم لقد جاء قبل ذلك عن هؤلاء اليهود: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) [البقرة:76]. ويتواصل التامر بينهم:(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) [آل عمران: 72]. كأنهم يظنون أن الله لا يعلم هذا العمل الفاسق والتآمر الغاسق، ولهذا فهم يواصلون الأقوال والله يسمع: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا) [آل عمران:181]. (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) [المائدة:64].
نعم إنهم مفسدون، ولهذا استحقوا الغضب واللعن من الله، وإن الله لا يحبهم، وكيف لا وهم يتآمرون على الحق ورسول الحق، ويكرهون الهدى ورب الهدى، فهم لا يحبون إلا الهوى؛ (يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [المائدة:41].
هذه بعض إشارات من الآيات التي تتناول تآمر الكفر والكافرين على أهل القرآن من المؤمنين. إنها تجسد معنى العمل في الظلام الغاسق في قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب). ولو استسقينا الآيات لطال المقال، ولكن إذا كنت أيها القارئ لهذا المقال ممن تفهم القرآن وتحب أهل القرآن فارجع إلى السور التالية لتجد القضية واضحة وغير خافية؛ إنها البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات. ومع كل هذه السور فإن الجزء الثامن والعشرون من القرآن الذي يبدأ بسورة المجادلة وينتهي بالتحريم مكرس لتسجيل هذا النوع من التآمر المشين اللئيم من قبل الكافرين والمنافقين ضد حملة القرآن من المؤمنين ، وضد الرسول الأمين. وكلها تدور في الغسق المظلم، وتظن أن الفاسق إذا وقب سيطفئ النور الذي في صدور المؤمنين وبه يذهب؛ (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
وإذا عرفنا أن الغاسق هو هذا النوع الكافر المنافق من الناس، وتأكد لنا ذلك بدون إلباس؛ فإن من الغريب أن الزمخشري يورد في كشافه رواية فقال: "وعن عائشة رضي الله عنها: [أخذ رسول الله بيدي فأشار إلى القمر فقال تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب]. هكذا وردت. لا شك أن هذا من روايات المنافقين الغاسقين الواقبين، الذين جعلوا القرآن عضين، وحولوه عن قصده المبين إلى الخرافات والبهتان المبين، فسبحان الله رب العالمين؛ أنى يراد بالغاسق هذا المخلوق الجميل والآية الجليلة ؟.
وكم من الروايات المظلمة التي تحول القرآن إلى حكايا مبكية؛ ولعل من المفيد أن لا نشغل أنفسنا بهذه التخرصات التي تقلق، وأن نعود إلى آيات سورة الفلق، فلقد جاء بعد ذلك قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد). لنعد إلى الزمخشري لنرى ماذا يحشر في التفسير من مفهوم بشري لا يليق بالله العلي العظيم: "قال: النفاثات: النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين" ثم قال: "والنفث : النفخ مع ريق". إن هذا التفسير سقوط بالقرآن إلى أدنى دركات جهل الإشارة، وإساءة إلى الرحمن الذي خلق الإنسان، علمه البيان. ولو سردنا إضافة إلى ذلك من التخرصات؛ لاشتركنا معه في تحريف الآيات، ولكنا نحاول أن نفهم معنى الآية الكريمة كما يريده الله، وبما يتسق مع ما قدمناه.
فالنفث هو فعلا كما قال الزمخشري: النفخ مع ريق، ولكن لا يراد به هنا النفخ الحقيقي والريق الحقيقي، ولكنه معنى ينبثق مما سبقه وينطلق من ظلمة الغاسق الواقب، ومن شر الكافرين الذين هم شر ما خلق الله رب العالمين.فالأشرار يتآمرون في الغسق ضد الأبرار، ويقبون في خفاء ومكر مشين ضد أهل القرآن المؤمنين، وإذا لم يستطيعوا التأثير بشرورهم وفسادهم وكفرهم، انتقلوا إلى التآمر الغاسق، وإلى الأسلوب الماكر المنافق، فإذا لم يتضرر المؤمنون بهذا العمل الفاسق، ولم يتفرقوا عن الهدى بهذا الوقب الغاسق انتقل الأشرار إلى النفث في مفاصل الإخاء، وفي عقد اللقاء، عسى أن ينفرط عقد الإيمان الأقوى، وأن تتراخى العروة الوثقى، وينتقض عهد الوفاء بين الله وبين هؤلاء الأتقياء.
فالأشرار يلجأون إلى النفث الخفي في عقد التلاقي بين المؤمنين ليفكوا هذا العقد الوثيقة، ويدمروا هذه العهود الصادقة. إن هؤلاء الأشرار يكرهون كل جمال وخصب وأثمار، ويخافون الفلق والأنوار، ويحاربون الحياة الحرة الطاهرة، ويقلقهم نمو المجتمعات الحية الناضرة، والأمم المؤمنة المتضافرة؛ التي برضوان ربها ظافرة، فهم ضدها بالنفث في العقد الخفية والظاهرة، ليدمروا هذه البنية النامية المتآزرة.وكيف لا والحياة كلها تقوم على العقد والمفاصل، بل إن العقد هي سر الحياة والحركة والتواصل. فالأشجار لا ينبثق منها غصن إلا من عقدة متدفقة وافرة، ولا يبسم فيها زهر ولا ينجم منها ثمر إلا من عقدة مخضرة، ولا ينتشر لها ظل إلا من عقد ظاهرة ومضمرة. فإذا يبست هذه العقد وجفت هذه المفاصل فصلت منافذ العطاء والجمال، وسقطت الثمار وانكمش الظلال، وتقطع معين الاتصال، وتعطل منبع الاخضلال، فإذا الحياة قاع عاطل قاحل، ولظى لاهب وجسم ناحل متآكل، والموت عليه حوام صائل، والجو مكفهر الإصباح والأصايل، فيا لها من حياة معطلة العقد، نفخها الريح الصرصر، وبدد ونفث فيها القر بأنيابه وشدد، وهكذا كل عناصر الحياة المعطية الرخية، الأرضية والسماوية؛ لها عقد هي سر حركاتها وتفاعلها وعطائها ومحط التقائها وافتراقها في مسيرة العطاء والجمال المتدفق منها، والإنسان له عقد في جسمه وفي علاقاته مع أبناء جنسه، فلولا مفاصل الكعوب في الأقدام، وعقد الركب بين الساق والأفخاذ؛ لما استطاع أن يسير ولا يتحرك إلى خلف وإلى الأمام، ولولا عقد الخصر والقوام لما انحرف ولا التفت لعمل ولا رهام، ولولا فقرات العنق وفقرات العمود الفقري في الظهر التي تعمل بانسجام؛ لما استطاع أن يقوم ولا أن ينام، ولا أن يجلس ولا ينهض بسلاسة وسهولة على الدوام.
إن العقد في جسمه وسيلة لنموه، وحركته وسعيه لما يهمه؛ ولولا ذلك لتصلبت الحركة وتيبست الحياة وأصبح كالصخرة الصماء؛ (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) [يس:67]. فالعقد هي سر الحياة والنمو في الأجسام وهي منابع التفوق ومناجم القوة التي تيسر ما يشق. نعم لقد خلق الإنسان في كبد؛ ثم هو يظن أن لن يقدر عليه أحد، وينسى أنه معاذ بالله الأحد، فبه يستعين ويحمد، لكنه رغم ذلك ألحد، وها هو ينفث في العقد. نعم إن للمجتمعات كذلك عقدا منها تنطلق الحركة وتنشط. إن اختلاف اللغات والبلدان، والأعمال والألوان، والشعوب والقبائل والأوطان؛ يجب أن يكون وسيلة للتعاون والتعارف بين الإنسان. فالاختلاف ينفلق منه الإبداع، واستمرار الحياة وتدفق النماء ينطلق من تنوع الطباع ووفرة الغلات والثمار، وتواصل الخبرات والخيرات منبعه تعدد الشعوب والبقاع، وتعدد الألوان والأنواع .بهذه العقد المتلافية المتفارقة تكون الحياة الرغدة غدقة؛ لكن شر ما خلق الله من البشر هم الذين يحاولون تعطيل هذه النقاط والمفاصل المثمرة، وتدمير هذه العقد المخضرة المتحضرة، وتحويلها إلى نقاط متنافرة متناحرة، وإلى عقد متشاجرة، إن الأشرار الفاسقين في كل بلد ينفثون في العقد ويريدون أن يفرقوا بين الجماعات والأمم، وأن يدمروا ما بينها من أسباب اللقاء المؤمن المحترم.
إنهم ينفخون في كل عقد الأمان والإيمان، ويحاولون أن ينفثوا السموم في قلوب وعقول حملة القرآن ليتفرق الناس ويتحول التعاون إلى عدوان، والتعارف إلى خصام وطعان، واللقاء السليم الودود، إلى جفاء عنود، والسلام بين الأمم، إلى حروب تشتعل وتضرم، وتدمر كل جمال، وتبكي كل عين وتطفئ كل اخضلال، فلا نجاة من النفاثات في العقد، إلا الاستعاذة بالله الصمد، ولا خلاص من النفاثات في منابع الحياة التي تتدفق، إلا بالاستعاذة برب الفلق، وهذا هو سبيل حامل القرآن، الذي يريد الخير والسلام للإنسان، ويدعو إلى الله ذي الجلال والإكرام، على بصيرة وعلى طريق نعمة الإسلام.
إذن فالنفاثات في العقد هي التي تدمر بالأقوال الكاذبة، علامات القلوب المتحابة، وتفكك بالتخرصات الواهمة، عرى العلاقات المسلمة السالمة، وتنفث في نقاط اللقاء الإنساني، أحقاد الخفاء العدواني، وتبدد بالأقوال الضالة الكافرة، الحياة المؤمنة المزدهرة، وتحول حياة الأحياء البررة، إلى قبور مبعثرة، وعلاقات مدمرة. فنعوذ بالله الأحد من شر النفاثات في العقد. ولو عدنا إلى آيات القرآن لوجدنا هذا النوع من النفث الحقود موجودا في كل العهود، ومع كل نبي ورسول يدعو الناس إلى الله الودود، ليكون لهم الرب المعبود، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء موجود، وما عنده لا ينفد وليس له حدود. ولا نستطيع أن نوردها الآن، ولكن الذين يقرأون القرآن يستطيعون معرفة ذلك بوضوح وبيان. ولهذا فإنا سننتقل بهم إلى الآية الأخيرة من السورة، وهي قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد).
نعم إن الكافرين الذين هم شر ما خلق رب الفلق، يبدأون في حرب أهل القرآن بالشر الواضح المحارب، فإذا فشلوا عدلوا إلى الفسق الواقب، وإلى التآمر في الظلام والغياهب، فإذا لم يؤثر هذا في أهل الإيمان ولم يضرهم؛ لجأ الأشرار إلى النفث في أسباب اللقاء والإخاء عسى أن يمكنهم من أغراضهم؛ فإذا رجعوا بغيظهم ولم ينالوا خيرا من نفثهم؛ انطووا على شرهم وظلامهم ونفثهم في لظى الحسد واصطلوا مع شرهم وغسقهم وحقدهم بنار حسدهم المحرق فأكلهم ومحق؛ لأن المؤمنين مستعيذون برب الفلق. فكيف للحسد المحترق المتأكل في لظى الماحق، أن يؤثر في المؤمن المستعيذ برب الفلق!! كلا إن المؤمن هو المنتصر؛ لأنه صاحب الحق، وإن الحاسد هو الخاسر لأنه لنفسه أرهق فوقب وأخفى التآمر في الغسق، ونفث حاقدا بالباطل في العقد، الصالحة فانسحق، وهلك بما أنفق وبغيظه تمزق، وبحسده احترق؛ لأن الإيمان المحسود محروس برب الفلق.
إن هذا الحسد لمستمر من أهل الكفر لأهل الإيمان، ومن حملة الجهل لحملة القرآن؛ ذلك أن العاطل من الأمان والطمأنينة، الفاقد الطهر والسكينة؛ يحسد الآمن المطمئن، ويحاول أن يخرج الناس من الطهر والسكينة؛ ليكونوا معه ومثله في حقد وضغينة. ولقد أكد الله ذلك بآيات مبينة؛ فلقد خاطب المؤمنين بقوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [البقرة:105]. بل لقد صرح بالحسد وأوضح بقوله للمؤمنين: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) [البقرة:109].
إن أمر الله لقادم بلا تأخير؛ لأنه على كل شيء قدير، وإنه لينصر الحق؛ لأنه رب الفلق، فلتستعذ به حتى يأتي أمره الذي يدمر من كذب وفسق. بل إن الكافرين والمنافقين يحسدون المؤمنين على كل نصر وغنيمة، ويتمنون أن ينالوا ذلك بلا جهاد ولا عزيمة. فالله يقول عن هؤلاء مخاطبا المؤمنين: (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا(72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما(73)) [سورة النساء]. (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا).إنهم يتهمون المؤمنين بأنهم يحسدونهم؛ لكن الواقع أن الحسد إنما هو منهم للمؤمنين؛ لأن الله يرعاهم وينصرهم في كل حين؛ ولهذا يختم الله الآية بقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) [الفتح:15].
ولأن الحسد يعمي البصائر والأبصار؛ فأهل الكتاب يشهدون زورا للكافرين الأشرار؛ (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا(51)أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا(52)أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا(53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما(54)فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا(55)) [سورة النساء].
وهكذا فإن الحسد يشتعل في قلب كل أثيم، عدو للحق مليم.إن القلب السقيم، يحسد القلب السليم.وإن الوجه القبيح، لا بد أن يحسد الوجه الصحيح.وإن كل قلب قلق مضطغن، يتقد غيظا على كل قلب مؤمن مطمئن. وهذا هو شأن الكافرين والمنافقين في كل زمان. إنهم حساد لأهل الحق وحملة القرآن، ولا غرو فالأضداد لا تتفق؛ فالكافرون هم من شر ما خلق الله، والمؤمنون هم من خير ما خلق الله. وأولئك هم شر البرية والمؤمنون هم خير البرية. فكيف يلتقي الضدان!! وكيف يلتقي العلم والإيمان مع الجهل والكفران!!
وكيف يلتقي الهوى والشيطان مع الهدى والقرآن!!كلا إن الحسد للكافرين يحرق، ولكن المؤمنين مستعيذون برب الفلق.
وبعد فلقد أدركنا من هذا التحليل أن السورة الأولى من المعوذتين تعلم أهل الإيمان وحملة القرآن أن يستعيذوا برب الفلق؛ من كل أعداء الحق، وبرب النور والحياة، من كل أعداء النور والحياة، وبرب الخلق والبركات، من كل من يريد خنق الخلق وحبس البركات، وتدمير الخير في الإنسان وقطع العلاقات، وهؤلاء هم شر ما خلق، فمنهم نستعيذ برب الفلق.
إن السورة تحصي أعداء حامل القرآن؛ الذين هم خارج نفس الإنسان وحوله في كل زمان ومكان، وتدله على الاستعاذة من هؤلاء برب الفلق ومنبع الحياة ومبدع الخلق، إنه الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وهو المعيذ لكل من اتبع هداه، وهو الناصر لكل من تدبر القرآن وعمل بما تلاه. فلتستعذ برب الفلق، من شر ما خلق، وما شر ما خلق إلا الكافرون أعداء الحق، فالله يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق، وهو الله يدافع عن المؤمن الصادق.
وما دامت السورة الأولى تعلمنا الاستعاذة برب الفلق من المخاطر التي تحيط بنا من خارج أنفسنا، فإن السورة الثانية وهي سورة الناس تعلمنا الاستعاذة برب الناس، من أهم خطر وأقوى مدبر لنفس الإنسان وهو الوسواس. فلاحظوا معي كيف يتأكد هذا الخطر الذي يهدد النفوس الإنسانية!! وكيف يتجسد هذا العدو الذي يدمر النبتة الإيمانية يتجسد من خلال اسم السورة!!
فهي سورة (الناس)، كأن الناس هم الهدف الأول والأهم للقرآن، وكأن صدور الناس هي المنبت الأساسي والأكرم لثمار الإيمان، وكأن نفوس الناس هي المهبط الأزكى والأسمى لآيات القرآن. وهكذا فلأجل حماية الناس من نسيان القرآن؛ ولأجل صيانة الصدور من وسواس الشيطان وعصيان الرحمن؛ولأجل تزكية النفوس من طاعة الهوى ومفارقة الهدى؛ لا بد من الاستعاذة بالمعيذ الأقوى. ولأن الخطر النفسي أشد على الإنسان وأرهب؛ فلا بد من الاستعاذة بالمعيذ الأقوى والأقرب، وهو الرب، الذي يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وهو أقرب إليه من حبل الوريد.
ومع أن السورة تبدأ بهذه الصفة الهامة من صفات الله فهي لا تكتفي بهذه الصفة ، بل تضيف إليها صفتين أقوى وأسمى، وهما: "ملك الناس"، "إله الناس". إذن فالأمر خطير، أخطر من كل شر خارجي على الإنسان.إنه خطر داخلي يتغلغل في النفوس، ويعيث في الصدور. إنه خطر لا مناص منه ولا فرار؛ لأنه ملازم للإنسان في كل حال وقرار، ومعه في كل مكان ودار. إنه الوسواس الخناس، الذي يصاحب الصحو والمنام والنعاس، ويجري مع الدم في الشرايين ويتسابق مع الأنفاس. فلا خلاص منه ولا مناص، إلا بمعيذ قادر يفوق كل قوة، ويتميز على كل من سواه. بل وله من الصفات ما يقهر بها كل خطر ملموس أو غير محسوس؛ إنه الله. ولقد اختار للإنسان المؤمن أن يستعيذ في هذه الحال، بصفات ربه ذي الجلال، وأقربها إلى النفوس وأقواها أثرا في كل الأحوال.
فلنقرأ كيف هي البداية في السورة؛ لتتضح الصورة؛ (قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس). إنها صفات ثلاث متضافرة في المهمة. والمهمة هي نفوس الناس في كل زمان وفي كل أمة، ولهذا تكررت كلمة الناس ثلاث مرات مع كل صفة تعاد بصفة مستقلة، وكأن كل صفة من صفات الله الحسنى والعظمى، مركزة متفرغة لهذه المهمة الكبرى؛ التي اختيرت لها في الناس هؤلاء. أليس الهدف من إنزال القرآن هو الناس؟ إذن فليكن الرب والملك والإله معهم ومعيذهم من شرور نفوسهم. وهكذا يكون الناس هم الهدف الأسمى للقرآن المنزل للناس هدى، (ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)). فهو العليم بكل شيء، والمدبر لكل شيء في الأرض والسماء وتحت الثرى، والإنسان أين هو من هذا العلم وهذا العطاء!! ها هو يبرز بجلاء في قوله تعالى موجها الخطاب إلى الإنسان: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)).
فالقرآن يبدأ بإسم الله الرحمن الرحيم، وينتهي بكلمة الناس. نعم إن آخر كلمة فيه هي كلمة الناس، فكأن الناس هم الهدف والأساس. وإذن فليحتموا بالرب الملك الإله من شر الوسواس الذي يدمر كل بناء من الأساس، وهكذا فإن السورة تعلمنا أن نستعيذ من الوسواس المدمر لكل النفوس بصفات ثلاث من صفات الله القدوس. إنه خطر واحد نفسي يستعاذ له بثلاث صفات قدسية؛ بينما تعلمنا السورة السابقة أن نستعيذ من أخطار أربعة خارج النفوس بصفة واحدة من صفات الله هي "رب الفلق".
وبهذا يتأكد أن الخطر الداخلي أخطر على الناس وأشق؛ فلا بد له من صفات يستعاذ بها تساوي قوته ومعه تتفق، (رب الناس* ملك الناس* إله الناس) فانظروا كيف اتسمت السورة بهذه الصفات الهامة!! وكيف انسجمت مع المهمة!! إن الإنسان مكرم عند الله الكريم، وهو مخلوق له شأن عظيم، وكيف لا وقد علمنا أنه سجدت له الملائكة بأمر الله العليم، وعلمه الله من علمه ما لم يعلمه حتى الملائكة في الملإ الأعلى وفضله على كثير من خلقه تفضيلا.
فكيف لا يكون القرآن له هاديا ودليلا؛ إلى المقام الذي أعده الله له وهيأه للسمو إليه، ووعده بالوصول إليه؛ ذلك هو القرب من رب العالمين مع عباده السابقين المقربين، ومع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وما دام شأن الإنسان مع القرآن هو هذا الشأن؛ فليتبع هدى الله فيه ليكون من المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولوتبع هدى الله يرتفع به إلى المقام الأسمى، ويرتقي فلا يضل الطريق إليه ولا يشقى. فالناس والقرآن متلازمان على طريق السعادة والخلود. والناس والقرآن إذا افترقا حلت بالناس الحياة النكداء وعيش الكنود، وكانت النهاية هي الهلاك والسقوط في النار ذات الوقود.
وإذن فلا بد أن يتمسك الإنسان بهذا الحبل الجميل؛ الذي يصله بربه الجليل، ويرتقي به إلى الكمال، ويستعيذ برب الناس ملك الناس إله الناس؛ من كل معيق يعيقه عن هذا السمو والارتفاع في مقام الأمان والجمال، ولا معيق للإنسان عن هذا الطريق إلا طاعة نفسه لهواه؛ إنه الخطر الذي به يحيق، والذي لا يراه ولا له يطيق. فهو بالاستعاذة بربه الملك خليق، وهو له مجيب ومعيذ وبه شفيق.
إذا استعاذ الناس بربهم وملكهم وإلههم من شرور أنفسهم وشر وسواسهم فإنه معيذهم لا سواه، وهو المجيب لمن دعاه، وهذا هو سيبل الفوز والنجاة، وإلا فهو الهلاك والضلال في المتاه؛ فالوسواس هو الذي أخرج آدم من الجنة وأزله وأغواه. والوسواس هو الذي طوع لابن آدم قتل أخيه فأرداه. إن الوسواس قد طوع له القتل وسهل له الجريمة ودله على الوسيلة القاتلة، ولكنه أعماه عن وسيلة تدفن وتواري الجريمة الماثلة، وتغطي الفعلة الفاشلة، وتصون الجثة المتآكلة. ولا يزال هذا هو شأن الإنسان يخترع وسائل الدمار الشامل، ويتراجع أمام إنفاق درهم لإنتاج علاج نافع، أو إنقاذ إنسان جائع، فيا له من غافل هلوع ، للخير منوع، ولن يخرجه من هذا السرداب المظلم؛ إلا القرآن المنزل من ربه الأكرم، فبه فليعمل، وعليه فليرتفع إلى المقام الأجمل، وبربه فليستعذ من (الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس).
إنه يوسوس باستمرار، لكنه يخنس من الصدور بالذكر لله القهار. وإنه يتحين فترات الغفلة في الناس ليخنس إلى الصدور بالوسواس؛ فإذا ذكر الله أصابه الإبلاس. فهو خناس شرير، وهو يدمر الانشراح في الصدور ويتسلل إليها بكر وتكرير؛ ليعمي القلب البصير، ولكن التقي بذكر الله ينتصر، فإذا هو مبصر، وسواء كان هذا المتقي من الجن أو من الإنس فكلهم يتعرض للوسواس الخناس ويصاب بشره، في أعماق صدره؛ فإذا ذكر الله ربه الغفار، واعتصم بربه الملك الجبار. وإذا استعاذ بربه الإله القهار اندحر كيد الأشرار، وخنس الوسواس بانكسار وانشرح الصدر واطمأن القلب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
فعلى من يؤمن بالقرآن من الإنس والجان؛ أن يستعيذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس؛ ليبقى على اتصال بالقرآن، وعلى طريق ربه الرحمن الذي أنزل القرآن (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان). إن الوسواس الشرير هو الذي جرأ الناس على تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وهو الذي صرف الناس عن هدى ربهم، وهو الذي أشعل الحروب والخصام بينهم، وهو الذي إلى الحياة التعيسة ساقهم ، وعلى نار القلق والضيق ألقى بهم، وهو الذي إلى نار الجحيم سيرديهم. إنهم لو استمروا على وسواسهم ولم يستعيذوا منه بربهم وملكهم وإلههم ولم يستجيبوا لهداه الذي أنزله إليهم في القرآن ؛ فإنهم إلى الهلاك سائرون، وإلى سوء المصير قادمون، ولن ينفعهم مال ولا بنون، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فلنستعذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، في كل حال من شر الوسواس؛ لننال الخير والسلام وحسن المآل.المعوذتان حرز القرآن وأهل القرآن ¶ كثير من الناس لا يلتفت في صلاته ولا في حياته لقراءة سورتين هامتين من سور القرآن، فهما في التلاوة والحياة شبه مهملتان، وهذا غفول من الناس، وعزوف عن كنز من ألماس، بل أغلى مما في أيدي الناس. ¶ لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت السورتان ما معناه: [لقد نزلت علي اليوم سورتان هما من خير ما نزل]، ولقد كان يقرأهما في أواخر صلاة الليل وأول صلاة النهار، وكان يقرأهما في الوتر، بل كان يقرأهما ثلاث مرات قبل نومه فيختم بها جهاد يومه، ويقرأهما عند صحوه فيبدأ بهما سعي يومه، وهذا لأنه يدرك أن السورتين هامتان. ¶ وإن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسورتين لا يأتي من معنى عادي، ولا ينطلق من المعنى الذي قيل عنهما "أنها نزلت عليه عندما أصابه سحر اليهود" فهذا بهتان لا يليق بالرسول المرصود بحراسة ربه المعبود، فلقد قال الله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا(26)إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا(27)ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا(28)) [سورة الجن]. ¶ وعليه فإن اهتمام الرسول بالسورتين لمعنى أهم وأعمق يتعلق بالقرآن المبين. لن أطيل عليكم المقدمات، ولن أستطرد في الخواطر، ولكني سأدخل في الموضوع بشكل مباشر. ¶ السورتان لهما أهمية رائعة عظيمة، ودلالات واسعة حكيمة، ومنافع جامعة مستديمة، لكل من قرأ القرآن وتمسك بآياته الكريمة. إنهما ختام يحمي الآيات وحاملها من كل سوء خارج قلبه، ومن كل وسواس داخل صدره. وهما يحميان حامل القرآن من عوامل الانحراف والغفول عن ربه، وتقيانه من الانسلاخ عن آيات ربه. فالقرآن نزل ليعلم الإنسان كيف يعبد الله ربه، ويدله على طريق السعادة والسلام في دنياه وأخراه، ويفتح له أبواب الرحمة من ربه الذي سواه، ولكن المؤمن قد يتعرض للشرور والفتنة من الكفار، وقد يتعرض للمكر والكيد من المنافقين الأشرار. بل وقد يتعرض المجتمع المؤمن للدسائس النفاثات في عقود العهود والعلاقات ومفاصل اللقاء والتعارف والتعاون بين الجماعات، فنتفرط العرى، وتنتقض العهود والقوى. وقد يشتغل الحسد في قلوب المحرومين من الإيمان فيطلقون الشائعات والأقاويل بالتهاون حسدا من عند أنفسهم التي يدمرها الخسران. ¶ نعم هذا ما يتعرض له المؤمن منفردا والمؤمنون مجتمعين من مكائد الكفر والجحود ومن دسائس النفث والحسود، وبالتالي فإن المؤمن قد تتراخى صلته بالقرآن، وقد يتأثر بالأذى الذي يأتيه من أهل النفاق والخسران، فينسى الآيات، ويتخلى عن البينات، ويميل إلى الإدهان مع أولي البغي والتكذيب، أو يظن أن الإدهان لهم قد يجنبه البغي المريب. وعليه فإن المؤمن يحب أن يستقيم ويستعيذ، ولا معيذ له من ذلك إلا الاستعاذة بربه الخلاق العليم ولا عاصم له إلا الاعتصام بربه العزيز الحكيم. وهذا ما تضمنه له السورتان وتعلنه بأوضح البيان أمام كل ذي لب وفهم لآيات القرآن، ولنعد إلى السورتين ليتضح لنا ولكم ما نريد أن نقول ولينفلق لنا النور المبين من مشكاة الجليل. ¶ لقد فسر المفسرون الآيات بتفاسير لا تليق بجلال الله العلي العظيم فقالوا إن (تفسير النفاثات) مثلا هي العجائز التي تنفث في عقد الخيوط المفتولة ليصاب الناس بالسحر وبالآفات المرذولة، وهذا وهم واهن، وظن للقرآن بائن، وجهل بجلال الله العليم القدير، الذي هو عليم بذات الصدور وهو اللطيف الخبير، وهو الذي أنزل القرآن ليبصر الناس بنوره وهداه . فلنتجاوز تلك التفاسير، ولنصعد إلى التفسير الذي به الله جدير، وهو الذي يليق بالعليم القدير. ¶ لقد عرفنا أن السورتين حلتا في نهاية القرآن، وهذا الترتيب الذي احتلته السورتان ليس صدفة وليس من عمل الإنسان، بل توقيفي وهو من اختيار الرحمن، إذن فالسورتان حلتا هذا المحل لأمر جلل، ولعمل عظيم أراده الله الأجل. ¶ إن الإنسان الذي يقرأ القرآن ويجعله خلقه في حياته ودليله إلى السعادة في حياته ومماته لا بد أن يجد في القرآن حياة مترفقة، وطمأنينة ونورا يقربه من ربه، ويضيء له خفايا دربه. وعليه أن يتمسك بهذه الحياة المترفقة، وبهذه الأنوار المشرقة، ولا يتخلى عنها في أي لحظة ضعف مخفقة، ولا يستطيع ذلك إلا بالاعتصام برب الحياة والنور، والاستعاذة بربه الخلاق العليم، وهنا يأتيه الدليل إلى المعيذ الحق، تحمله إليه سورة الفلق، تدله بمن يلوذ ومن هو الذي به يستعيذ. وتختار له الصفة المناسبة من صفات ربه المعيذ، فماذا اختارت له من صفات ربه؟. ¶ لنقرأ: (قل أعوذ برب الفلق) إنه الله رب الفلق، ماذا يعني الفلق؟ لو عدنا إلى القرآن لعرفنا المعنى الأصدق، فالله يقول (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنا تؤفكون(95)فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم(96) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون(97)وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون(98)) [سورة الأنعام]. ¶ وتستمر الآيات تصف الله الفالق فماذا تقول (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم(101)ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل(102) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير(103)). ¶ إذن فرب الفلق يعني رب الحياة ورب النور، وهكذا فإنك يا أيها الحي المستنير بالقرآن الحكيم تستعيذ برب الحياة والنور، الخالق لكل شيء وهو به عليم. الحياة والنور التي نفخها فيك القرآن وبه يكتب الله في قلبك الإيمان، ويؤيدك بروح منه مدى الزمان، وكيف لا يؤيدك الله ويعيذك مما تخشاه وأنت قد استعذت بالمنبع الأصيل، والمصدر الجليل ، والخالق الحق والمبدع الجميل، الذي من استعاذ به أمن من كل أمر وبيل، واستقام على الصراط المستقيم، فقل مؤمنا قل موقنا قل مطمئنا (أعوذ برب الفلق)؛ تجد رب الفلق معك يحميك ويصون، فلا يعجزه شيء وهو آخذ بناصية كل حي، فأنت أيها المؤمن المستعيذ بقوته أنت الأجدر والأحق برعايته، فكن مطمئنا بأنه المعيذ الأقوى والنصير الأوفى، وهداه هو الهدى، فمن اهتدي به اهتدى، ومن استعاذ به نال ما تمنى، وعاش في أمان من كل أذى. ¶ وبعد فمن ما تستعيذ برب الفلق؟ وماذا تريد من رب الحياة والنور أن يحقق؟ إن السورة تبدأ بأهم أعداء القرآن، وأشد أعداء الحياة والكارهين للنور الفارين من ضياه، ولهذا فإنهم يوضعون في أول القائمة وذلك هو قوله (من شر ما خلق).. ما هو هذا الشر ومن هم أصحابه ومن هم مصدره ومن ذا الذي يتصف به من خلق الله؟ إن الله يوضحه بلا لبس ولا خفاء، فيقول: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) [الأنفال:55]. فهم من الدواب التي لا تعقل بل هم أكثر شرا منها، بل إنها لا شر فيها ولكن الشر مجسد في هؤلاء؛ لأنهم لا يؤمنون ومن لا يؤمن فهو لا يعقل، ومن لا يعقل فهو أضل من الدواب، وهو مصدر الشر والخراب، والشر مجسد فيه بلا ارتياب؛ ولهذا يقول الله موضحا هذه الحقيقة: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون(22)ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون(23)) [سورة الأنفال]. ¶ وهكذا فإن هؤلاء هم شر ما خلق الله رب الفلق، هو الله عليم بهم فهو يعلم أن لا خير فيهم، بل الشر مجسد فيهم فهم معرضون في كل حال عن كلما يهد الله نافرون عن كل ما يحييهم، إنهم جرثومة عفنة تدمر الحياة، وتنشر الفساد والأوبئة في كل اتجاه. ولهذا فإن الله يؤكد شرهم بشكل أوسع، ويجعلهم أكثر شرا من كل ما خلق الله وبرأه فيقول: ¶ (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) [البينة: 6]. ¶ إنهم مشار إليهم بأولئك لوضوح خطرهم وشرهم على الحياة؛ وكيف لا وهم قد كفروا بما أنزل الله من الآيات، وتعاموا عن البينات فكانوا هم أشد شرا من المخلوقات. إن كل ما برى الله وسواه في الأرض والسماوات، وما لا نعلمه من البرايا كله خير، لكن هؤلاء هم وحدهم الشر الذي لا يخفى، والخطر الذي ينشر وينفث الوباء، ويذر الحياة والأحياء، ويشوه الجمال ويطفئ الضياء، فهم أعداء الهدى، وهم خطر على من آمن واهتدى. ¶ فإذن فالاستعاذة منهم برب الفلق هو الحق، وهو الطريق الأبلق، وهو الذي بالمؤمن أليق، فقل أيها المؤمن، قل وأنت مؤمن موقن: (قل أعوذ برب الفلق* من شر ما خلق) فإن ذلك هو الطريق الحق لحماية القرآن في قلبك، ولاستقامتك على صراط ربك، فالكافرون هم الشر الذي لا يحب الخير أبدا، وهم للحياة والنور ألد الأعداء. ¶ فإذا أردت أن تستمر عاقلا مستنيرا بالقرآن، فاستعذ برب الفلق، من شر هذا النوع البشري الذي يكره الحق ويكره الفلق، ويكره النور والحياة، ويهوى الظلام والظلمات، ويرتدي لباس الموت والأموات، فهو خطر على الحياة والأحياء، وهو عدوها الذي لا يقبل الحق ولا بأهله يرضى، بل يعرض ويأبى، ويريد أن يطفئ النور المبين (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)، فاستعذ به تكن من المؤمنين الآمنين، في الدنيا ويوم الدين. ¶ نعم إن كل فرد مؤمن بهذا القرآن، وكل أمة تؤمن بهذا القرآن وتعمل به وتتخذه خلقها ودليلها الحق، يجب أن تستعيذ برب الفلق، من الكفر والكافرين؛ فإنهم كما قال الله وصدق (شر ما خلق).هم شر ما خلق في ذاتهم، وفي ذرات أجسادهم؛ لأنهم بلا عقول وإذا تجرد الإنسان من عقله فلا يمكن أن تستفيد منه الحياة بل تتضرر، إنهم جرثومة مدمرة، وجمرة مستعرة، في جسد الحياة المزهرة، فلا معيذ منهم إلا الذي فلق الحياة والنور والحق، فالق الحب والنوى في أعماق الثرى، فالق الإصباح والضياء في آفاق الفضاء، فالق الهدى في قلوب المؤمنين الأتقياء. ¶ وكما أن أولئك الكافرين هم شر ما خلق الله في ذواتهم، فإنهم شر ما خلق الله في أعمالهم وسعيهم، فهم ضالون ويحسبون أنهم يحسنون، وهم فاسدون مفسدون، ويزعمون أنهم مصلحون، وهم جاهلون غافلون، ويظنون أنهم علماء مبدعون، وهم ضرر على الحياة ويتوهمون أنهم أصحاب الحياة، فهم مغرورون بالدنيا، مستكبرون عن الهدى؛ ولهذا فهم يتآمرون على الحياة، ويرمون الشر في ظلمات الدجى ضد من اهتدى، ويدلسون الشرور الماحقة، تحت جناح الظلمات والليالي الغاسقة؛ على حياة الناس الذين قلوبهم للنور عاشقة. ¶ ولهذا جاء بعد ذلك عنهم ما يوضح هذه الحقيقة فيقول الله: (ومن شر غاسق إذا وقب). إن الغاسق هو الذي يختبئ في الظلام ، ويختفي في الغسق ليدبر الضرر بالمؤمنين والحق، ولينصر الباطل بإصرار أحمق، وينشر الشر في كل مجال ومرفق. فاسق إنه فاسق، يترقب كل ظلام غاسق؛ ليغير فيه على كل نور مشرق، وليطفئ فيه كل ضياء متألق. إنه للحق محارب، ولهدمه واقب، ولكل صالح ناقب، ولكل سليم ثاقب، يغير على الخير ليمنعه، ويثب إلى الشر ليشيعه، وهو بالشر والباطل يسعى، ويحسب أنه يحسن صنعا، فهو في ضلال وخسران، وهو عدو للحياة والنور والإيمان، وهو مخاصم للجمال والإحسان. ¶ إن الخلق العظيم هو خلق القرآن الحكيم، والجاهل محارب لكل عقل سليم، ويكره الوئام، وينصر الخصام، ويتآمر على حياة السلام، وهذا هو عدو القرآن وأهل القرآن، وهو يفرق من الفرقان، ويهوى الظلام والطغيان، فالاستعاذة من شره واجب على كل ذي لب، فأهل الألباب هم المستهدفون لكل واقب مرتاب، فالكافر غاسق خطر، يحبذ الشر المستطر، ضد أهل التذكر والتفكر، لآيات القرآن والذكر المنير، وضد كل من تدبر آيات الله العليم القدير. ¶ فيا لهذا النوع من البشر، كم يحملون من شر وخطر، لكل من تذكر آيات الله وتدبر، فلتستعذ منهم برب الفلق، فهو بهم أبصر وأخبر، وهو عليهم أقدر، فهو الذي خلق وهو الذي صور، وهو الملجأ والمستنصر، إن الخلق العظيم هو خلق القرآن الحكيم، ومن جهل العلم والخلق السليم ؛ فإنه يعاديه ويفر من صراطه المستقيم، ولا غرو فإن من كذب بالقرآن المبين، فإن سلوكه مشين، كما يصفه رب العالمين: (ولا تطع كل حلاف مهين(10) هماز مشاء بنميم(11)مناع للخير معتد أثيم(12)عتل بعد ذلك زنيم(13)أن كان ذا مال وبنين(14)إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين(15)) [سورة القلم]. ¶ هذا هو خلق أعداء القرآن المكذبين بالحق والبيان، فالبعد عنهم والاستعاذة منهم مسلك كل المؤمنين، ولا معيذ منهم إلا رب العالمين، فهم يتآمرون في الظلام الغاسق، بشكل لازب، وكل واحد منهم على الخير واقب، وللنور مغالب، لكنه هو المغلوب بالله الغلاب، المعيذ الناصر لأولي الألباب، فبه نستعيذ من كل غاسق إذا وقب، ولو استعرضنا القرآن لوجدنا هذا النوع من الناس موجودون في كل زمان؛ فلقد تآمروا على الرسول صالح (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون(48)قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون(49)) [سورة النمل]. لكن الله كان معيذا لرسوله ولمن معه من المؤمنين من مكر الماكرين (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون(50)فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين(51)) [سورة النمل]. ¶ ولقد تآمروا على المسيح: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين(54)إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا.. ) إلى آخر الآيات من 54 إلى 56 [سورة آل عمران]. ولقد تآمروا على موسى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) [الأعراف:127]. ¶ ولقد تآمروا على محمد والمؤمنين معه: (وإذ قالت طائفة منهم ياأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) [الأحزاب:13]. (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) [المنافقون:7]. هذا بعض تآمر المنافقين على القرآن وأهل القرآن، أما اليهود فقد تآمروا بجهل مشين على الرسول ومن معه من المؤمنين وظنوا أن الله لا يعلم ما يعملون مع أنهم أهل كتاب يعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) [البقرة:77]. نعم لقد جاء قبل ذلك عن هؤلاء اليهود: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) [البقرة:76]. ويتواصل التامر بينهم:(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) [آل عمران: 72]. كأنهم يظنون أن الله لا يعلم هذا العمل الفاسق والتآمر الغاسق، ولهذا فهم يواصلون الأقوال والله يسمع: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا) [آل عمران:181]. (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) [المائدة:64]. ¶ نعم إنهم مفسدون، ولهذا استحقوا الغضب واللعن من الله، وإن الله لا يحبهم، وكيف لا وهم يتآمرون على الحق ورسول الحق، ويكرهون الهدى ورب الهدى، فهم لا يحبون إلا الهوى؛ (يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [المائدة:41]. ¶ هذه بعض إشارات من الآيات التي تتناول تآمر الكفر والكافرين على أهل القرآن من المؤمنين. إنها تجسد معنى العمل في الظلام الغاسق في قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب). ولو استسقينا الآيات لطال المقال، ولكن إذا كنت أيها القارئ لهذا المقال ممن تفهم القرآن وتحب أهل القرآن فارجع إلى السور التالية لتجد القضية واضحة وغير خافية؛ إنها البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات. ومع كل هذه السور فإن الجزء الثامن والعشرون من القرآن الذي يبدأ بسورة المجادلة وينتهي بالتحريم مكرس لتسجيل هذا النوع من التآمر المشين اللئيم من قبل الكافرين والمنافقين ضد حملة القرآن من المؤمنين ، وضد الرسول الأمين. وكلها تدور في الغسق المظلم، وتظن أن الفاسق إذا وقب سيطفئ النور الذي في صدور المؤمنين وبه يذهب؛ (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). ¶ وإذا عرفنا أن الغاسق هو هذا النوع الكافر المنافق من الناس، وتأكد لنا ذلك بدون إلباس؛ فإن من الغريب أن الزمخشري يورد في كشافه رواية فقال: "وعن عائشة رضي الله عنها: [أخذ رسول الله بيدي فأشار إلى القمر فقال تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب]. هكذا وردت. لا شك أن هذا من روايات المنافقين الغاسقين الواقبين، الذين جعلوا القرآن عضين، وحولوه عن قصده المبين إلى الخرافات والبهتان المبين، فسبحان الله رب العالمين؛ أنى يراد بالغاسق هذا المخلوق الجميل والآية الجليلة ؟. ¶ وكم من الروايات المظلمة التي تحول القرآن إلى حكايا مبكية؛ ولعل من المفيد أن لا نشغل أنفسنا بهذه التخرصات التي تقلق، وأن نعود إلى آيات سورة الفلق، فلقد جاء بعد ذلك قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد). لنعد إلى الزمخشري لنرى ماذا يحشر في التفسير من مفهوم بشري لا يليق بالله العلي العظيم: "قال: النفاثات: النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين" ثم قال: "والنفث : النفخ مع ريق". إن هذا التفسير سقوط بالقرآن إلى أدنى دركات جهل الإشارة، وإساءة إلى الرحمن الذي خلق الإنسان، علمه البيان. ولو سردنا إضافة إلى ذلك من التخرصات؛ لاشتركنا معه في تحريف الآيات، ولكنا نحاول أن نفهم معنى الآية الكريمة كما يريده الله، وبما يتسق مع ما قدمناه. ¶ فالنفث هو فعلا كما قال الزمخشري: النفخ مع ريق، ولكن لا يراد به هنا النفخ الحقيقي والريق الحقيقي، ولكنه معنى ينبثق مما سبقه وينطلق من ظلمة الغاسق الواقب، ومن شر الكافرين الذين هم شر ما خلق الله رب العالمين.فالأشرار يتآمرون في الغسق ضد الأبرار، ويقبون في خفاء ومكر مشين ضد أهل القرآن المؤمنين، وإذا لم يستطيعوا التأثير بشرورهم وفسادهم وكفرهم، انتقلوا إلى التآمر الغاسق، وإلى الأسلوب الماكر المنافق، فإذا لم يتضرر المؤمنون بهذا العمل الفاسق، ولم يتفرقوا عن الهدى بهذا الوقب الغاسق انتقل الأشرار إلى النفث في مفاصل الإخاء، وفي عقد اللقاء، عسى أن ينفرط عقد الإيمان الأقوى، وأن تتراخى العروة الوثقى، وينتقض عهد الوفاء بين الله وبين هؤلاء الأتقياء. ¶ فالأشرار يلجأون إلى النفث الخفي في عقد التلاقي بين المؤمنين ليفكوا هذا العقد الوثيقة، ويدمروا هذه العهود الصادقة. إن هؤلاء الأشرار يكرهون كل جمال وخصب وأثمار، ويخافون الفلق والأنوار، ويحاربون الحياة الحرة الطاهرة، ويقلقهم نمو المجتمعات الحية الناضرة، والأمم المؤمنة المتضافرة؛ التي برضوان ربها ظافرة، فهم ضدها بالنفث في العقد الخفية والظاهرة، ليدمروا هذه البنية النامية المتآزرة.وكيف لا والحياة كلها تقوم على العقد والمفاصل، بل إن العقد هي سر الحياة والحركة والتواصل. فالأشجار لا ينبثق منها غصن إلا من عقدة متدفقة وافرة، ولا يبسم فيها زهر ولا ينجم منها ثمر إلا من عقدة مخضرة، ولا ينتشر لها ظل إلا من عقد ظاهرة ومضمرة. فإذا يبست هذه العقد وجفت هذه المفاصل فصلت منافذ العطاء والجمال، وسقطت الثمار وانكمش الظلال، وتقطع معين الاتصال، وتعطل منبع الاخضلال، فإذا الحياة قاع عاطل قاحل، ولظى لاهب وجسم ناحل متآكل، والموت عليه حوام صائل، والجو مكفهر الإصباح والأصايل، فيا لها من حياة معطلة العقد، نفخها الريح الصرصر، وبدد ونفث فيها القر بأنيابه وشدد، وهكذا كل عناصر الحياة المعطية الرخية، الأرضية والسماوية؛ لها عقد هي سر حركاتها وتفاعلها وعطائها ومحط التقائها وافتراقها في مسيرة العطاء والجمال المتدفق منها، والإنسان له عقد في جسمه وفي علاقاته مع أبناء جنسه، فلولا مفاصل الكعوب في الأقدام، وعقد الركب بين الساق والأفخاذ؛ لما استطاع أن يسير ولا يتحرك إلى خلف وإلى الأمام، ولولا عقد الخصر والقوام لما انحرف ولا التفت لعمل ولا رهام، ولولا فقرات العنق وفقرات العمود الفقري في الظهر التي تعمل بانسجام؛ لما استطاع أن يقوم ولا أن ينام، ولا أن يجلس ولا ينهض بسلاسة وسهولة على الدوام. ¶ إن العقد في جسمه وسيلة لنموه، وحركته وسعيه لما يهمه؛ ولولا ذلك لتصلبت الحركة وتيبست الحياة وأصبح كالصخرة الصماء؛ (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) [يس:67]. فالعقد هي سر الحياة والنمو في الأجسام وهي منابع التفوق ومناجم القوة التي تيسر ما يشق. نعم لقد خلق الإنسان في كبد؛ ثم هو يظن أن لن يقدر عليه أحد، وينسى أنه معاذ بالله الأحد، فبه يستعين ويحمد، لكنه رغم ذلك ألحد، وها هو ينفث في العقد. نعم إن للمجتمعات كذلك عقدا منها تنطلق الحركة وتنشط. إن اختلاف اللغات والبلدان، والأعمال والألوان، والشعوب والقبائل والأوطان؛ يجب أن يكون وسيلة للتعاون والتعارف بين الإنسان. فالاختلاف ينفلق منه الإبداع، واستمرار الحياة وتدفق النماء ينطلق من تنوع الطباع ووفرة الغلات والثمار، وتواصل الخبرات والخيرات منبعه تعدد الشعوب والبقاع، وتعدد الألوان والأنواع .بهذه العقد المتلافية المتفارقة تكون الحياة الرغدة غدقة؛ لكن شر ما خلق الله من البشر هم الذين يحاولون تعطيل هذه النقاط والمفاصل المثمرة، وتدمير هذه العقد المخضرة المتحضرة، وتحويلها إلى نقاط متنافرة متناحرة، وإلى عقد متشاجرة، إن الأشرار الفاسقين في كل بلد ينفثون في العقد ويريدون أن يفرقوا بين الجماعات والأمم، وأن يدمروا ما بينها من أسباب اللقاء المؤمن المحترم. ¶ إنهم ينفخون في كل عقد الأمان والإيمان، ويحاولون أن ينفثوا السموم في قلوب وعقول حملة القرآن ليتفرق الناس ويتحول التعاون إلى عدوان، والتعارف إلى خصام وطعان، واللقاء السليم الودود، إلى جفاء عنود، والسلام بين الأمم، إلى حروب تشتعل وتضرم، وتدمر كل جمال، وتبكي كل عين وتطفئ كل اخضلال، فلا نجاة من النفاثات في العقد، إلا الاستعاذة بالله الصمد، ولا خلاص من النفاثات في منابع الحياة التي تتدفق، إلا بالاستعاذة برب الفلق، وهذا هو سبيل حامل القرآن، الذي يريد الخير والسلام للإنسان، ويدعو إلى الله ذي الجلال والإكرام، على بصيرة وعلى طريق نعمة الإسلام. ¶ إذن فالنفاثات في العقد هي التي تدمر بالأقوال الكاذبة، علامات القلوب المتحابة، وتفكك بالتخرصات الواهمة، عرى العلاقات المسلمة السالمة، وتنفث في نقاط اللقاء الإنساني، أحقاد الخفاء العدواني، وتبدد بالأقوال الضالة الكافرة، الحياة المؤمنة المزدهرة، وتحول حياة الأحياء البررة، إلى قبور مبعثرة، وعلاقات مدمرة. فنعوذ بالله الأحد من شر النفاثات في العقد. ولو عدنا إلى آيات القرآن لوجدنا هذا النوع من النفث الحقود موجودا في كل العهود، ومع كل نبي ورسول يدعو الناس إلى الله الودود، ليكون لهم الرب المعبود، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء موجود، وما عنده لا ينفد وليس له حدود. ولا نستطيع أن نوردها الآن، ولكن الذين يقرأون القرآن يستطيعون معرفة ذلك بوضوح وبيان. ولهذا فإنا سننتقل بهم إلى الآية الأخيرة من السورة، وهي قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد). ¶ نعم إن الكافرين الذين هم شر ما خلق رب الفلق، يبدأون في حرب أهل القرآن بالشر الواضح المحارب، فإذا فشلوا عدلوا إلى الفسق الواقب، وإلى التآمر في الظلام والغياهب، فإذا لم يؤثر هذا في أهل الإيمان ولم يضرهم؛ لجأ الأشرار إلى النفث في أسباب اللقاء والإخاء عسى أن يمكنهم من أغراضهم؛ فإذا رجعوا بغيظهم ولم ينالوا خيرا من نفثهم؛ انطووا على شرهم وظلامهم ونفثهم في لظى الحسد واصطلوا مع شرهم وغسقهم وحقدهم بنار حسدهم المحرق فأكلهم ومحق؛ لأن المؤمنين مستعيذون برب الفلق. فكيف للحسد المحترق المتأكل في لظى الماحق، أن يؤثر في المؤمن المستعيذ برب الفلق!! كلا إن المؤمن هو المنتصر؛ لأنه صاحب الحق، وإن الحاسد هو الخاسر لأنه لنفسه أرهق فوقب وأخفى التآمر في الغسق، ونفث حاقدا بالباطل في العقد، الصالحة فانسحق، وهلك بما أنفق وبغيظه تمزق، وبحسده احترق؛ لأن الإيمان المحسود محروس برب الفلق. ¶ إن هذا الحسد لمستمر من أهل الكفر لأهل الإيمان، ومن حملة الجهل لحملة القرآن؛ ذلك أن العاطل من الأمان والطمأنينة، الفاقد الطهر والسكينة؛ يحسد الآمن المطمئن، ويحاول أن يخرج الناس من الطهر والسكينة؛ ليكونوا معه ومثله في حقد وضغينة. ولقد أكد الله ذلك بآيات مبينة؛ فلقد خاطب المؤمنين بقوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [البقرة:105]. بل لقد صرح بالحسد وأوضح بقوله للمؤمنين: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) [البقرة:109]. ¶ إن أمر الله لقادم بلا تأخير؛ لأنه على كل شيء قدير، وإنه لينصر الحق؛ لأنه رب الفلق، فلتستعذ به حتى يأتي أمره الذي يدمر من كذب وفسق. بل إن الكافرين والمنافقين يحسدون المؤمنين على كل نصر وغنيمة، ويتمنون أن ينالوا ذلك بلا جهاد ولا عزيمة. فالله يقول عن هؤلاء مخاطبا المؤمنين: (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا(72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما(73)) [سورة النساء]. (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا).إنهم يتهمون المؤمنين بأنهم يحسدونهم؛ لكن الواقع أن الحسد إنما هو منهم للمؤمنين؛ لأن الله يرعاهم وينصرهم في كل حين؛ ولهذا يختم الله الآية بقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) [الفتح:15]. ¶ ولأن الحسد يعمي البصائر والأبصار؛ فأهل الكتاب يشهدون زورا للكافرين الأشرار؛ (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا(51)أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا(52)أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا(53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما(54)فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا(55)) [سورة النساء]. ¶ وهكذا فإن الحسد يشتعل في قلب كل أثيم ، عدو للحق مليم.إن القلب السقيم، يحسد القلب السليم.وإن الوجه القبيح، لا بد أن يحسد الوجه الصحيح.وإن كل قلب قلق مضطغن، يتقد غيظا على كل قلب مؤمن مطمئن. وهذا هو شأن الكافرين والمنافقين في كل زمان. إنهم حساد لأهل الحق وحملة القرآن، ولا غرو فالأضداد لا تتفق؛ فالكافرون هم من شر ما خلق الله، والمؤمنون هم من خير ما خلق الله. وأولئك هم شر البرية والمؤمنون هم خير البرية. فكيف يلتقي الضدان!! وكيف يلتقي العلم والإيمان مع الجهل والكفران!! ¶ وكيف يلتقي الهوى والشيطان مع الهدى والقرآن!!كلا إن الحسد للكافرين يحرق، ولكن المؤمنين مستعيذون برب الفلق. ¶ وبعد فلقد أدركنا من هذا التحليل أن السورة الأولى من المعوذتين تعلم أهل الإيمان وحملة القرآن أن يستعيذوا برب الفلق؛ من كل أعداء الحق، وبرب النور والحياة، من كل أعداء النور والحياة، وبرب الخلق والبركات، من كل من يريد خنق الخلق وحبس البركات، وتدمير الخير في الإنسان وقطع العلاقات، وهؤلاء هم شر ما خلق، فمنهم نستعيذ برب الفلق. ¶ إن السورة تحصي أعداء حامل القرآن؛ الذين هم خارج نفس الإنسان وحوله في كل زمان ومكان، وتدله على الاستعاذة من هؤلاء برب الفلق ومنبع الحياة ومبدع الخلق، إنه الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وهو المعيذ لكل من اتبع هداه، وهو الناصر لكل من تدبر القرآن وعمل بما تلاه. فلتستعذ برب الفلق، من شر ما خلق، وما شر ما خلق إلا الكافرون أعداء الحق، فالله يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق، وهو الله يدافع عن المؤمن الصادق. ¶ وما دامت السورة الأولى تعلمنا الاستعاذة برب الفلق من المخاطر التي تحيط بنا من خارج أنفسنا، فإن السورة الثانية وهي سورة الناس تعلمنا الاستعاذة برب الناس، من أهم خطر وأقوى مدبر لنفس الإنسان وهو الوسواس. فلاحظوا معي كيف يتأكد هذا الخطر الذي يهدد النفوس الإنسانية!! وكيف يتجسد هذا العدو الذي يدمر النبتة الإيمانية يتجسد من خلال اسم السورة!! ¶ فهي سورة (الناس)، كأن الناس هم الهدف الأول والأهم للقرآن، وكأن صدور الناس هي المنبت الأساسي والأكرم لثمار الإيمان، وكأن نفوس الناس هي المهبط الأزكى والأسمى لآيات القرآن. وهكذا فلأجل حماية الناس من نسيان القرآن؛ ولأجل صيانة الصدور من وسواس الشيطان وعصيان الرحمن؛ولأجل تزكية النفوس من طاعة الهوى ومفارقة الهدى؛ لا بد من الاستعاذة بالمعيذ الأقوى. ولأن الخطر النفسي أشد على الإنسان وأرهب؛ فلا بد من الاستعاذة بالمعيذ الأقوى والأقرب، وهو الرب، الذي يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وهو أقرب إليه من حبل الوريد. ¶ ومع أن السورة تبدأ بهذه الصفة الهامة من صفات الله فهي لا تكتفي بهذه الصفة ، بل تضيف إليها صفتين أقوى وأسمى، وهما: "ملك الناس"، "إله الناس". إذن فالأمر خطير، أخطر من كل شر خارجي على الإنسان.إنه خطر داخلي يتغلغل في النفوس، ويعيث في الصدور. إنه خطر لا مناص منه ولا فرار؛ لأنه ملازم للإنسان في كل حال وقرار، ومعه في كل مكان ودار. إنه الوسواس الخناس، الذي يصاحب الصحو والمنام والنعاس، ويجري مع الدم في الشرايين ويتسابق مع الأنفاس. فلا خلاص منه ولا مناص، إلا بمعيذ قادر يفوق كل قوة، ويتميز على كل من سواه. بل وله من الصفات ما يقهر بها كل خطر ملموس أو غير محسوس؛ إنه الله. ولقد اختار للإنسان المؤمن أن يستعيذ في هذه الحال، بصفات ربه ذي الجلال، وأقربها إلى النفوس وأقواها أثرا في كل الأحوال. ¶ فلنقرأ كيف هي البداية في السورة؛ لتتضح الصورة؛ (قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس). إنها صفات ثلاث متضافرة في المهمة. والمهمة هي نفوس الناس في كل زمان وفي كل أمة، ولهذا تكررت كلمة الناس ثلاث مرات مع كل صفة تعاد بصفة مستقلة، وكأن كل صفة من صفات الله الحسنى والعظمى، مركزة متفرغة لهذه المهمة الكبرى؛ التي اختيرت لها في الناس هؤلاء. أليس الهدف من إنزال القرآن هو الناس؟ إذن فليكن الرب والملك والإله معهم ومعيذهم من شرور نفوسهم. وهكذا يكون الناس هم الهدف الأسمى للقرآن المنزل للناس هدى، (ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)). فهو العليم بكل شيء، والمدبر لكل شيء في الأرض والسماء وتحت الثرى، والإنسان أين هو من هذا العلم وهذا العطاء!! ها هو يبرز بجلاء في قوله تعالى موجها الخطاب إلى الإنسان: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)). ¶ فالقرآن يبدأ بإسم الله الرحمن الرحيم، وينتهي بكلمة الناس. نعم إن آخر كلمة فيه هي كلمة الناس، فكأن الناس هم الهدف والأساس. وإذن فليحتموا بالرب الملك الإله من شر الوسواس الذي يدمر كل بناء من الأساس، وهكذا فإن السورة تعلمنا أن نستعيذ من الوسواس المدمر لكل النفوس بصفات ثلاث من صفات الله القدوس. إنه خطر واحد نفسي يستعاذ له بثلاث صفات قدسية؛ بينما تعلمنا السورة السابقة أن نستعيذ من أخطار أربعة خارج النفوس بصفة واحدة من صفات الله هي "رب الفلق". ¶ وبهذا يتأكد أن الخطر الداخلي أخطر على الناس وأشق؛ فلا بد له من صفات يستعاذ بها تساوي قوته ومعه تتفق، (رب الناس* ملك الناس* إله الناس) فانظروا كيف اتسمت السورة بهذه الصفات الهامة!! وكيف انسجمت مع المهمة!! إن الإنسان مكرم عند الله الكريم، وهو مخلوق له شأن عظيم، وكيف لا وقد علمنا أنه سجدت له الملائكة بأمر الله العليم، وعلمه الله من علمه ما لم يعلمه حتى الملائكة في الملإ الأعلى وفضله على كثير من خلقه تفضيلا. ¶ فكيف لا يكون القرآن له هاديا ودليلا؛ إلى المقام الذي أعده الله له وهيأه للسمو إليه، ووعده بالوصول إليه؛ ذلك هو القرب من رب العالمين مع عباده السابقين المقربين، ومع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وما دام شأن الإنسان مع القرآن هو هذا الشأن؛ فليتبع هدى الله فيه ليكون من المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولوتبع هدى الله يرتفع به إلى المقام الأسمى، ويرتقي فلا يضل الطريق إليه ولا يشقى. فالناس والقرآن متلازمان على طريق السعادة والخلود. والناس والقرآن إذا افترقا حلت بالناس الحياة النكداء وعيش الكنود، وكانت النهاية هي الهلاك والسقوط في النار ذات الوقود. ¶ وإذن فلا بد أن يتمسك الإنسان بهذا الحبل الجميل؛ الذي يصله بربه الجليل، ويرتقي به إلى الكمال، ويستعيذ برب الناس ملك الناس إله الناس؛ من كل معيق يعيقه عن هذا السمو والارتفاع في مقام الأمان والجمال، ولا معيق للإنسان عن هذا الطريق إلا طاعة نفسه لهواه؛ إنه الخطر الذي به يحيق، والذي لا يراه ولا له يطيق. فهو بالاستعاذة بربه الملك خليق، وهو له مجيب ومعيذ وبه شفيق. ¶ إذا استعاذ الناس بربهم وملكهم وإلههم من شرور أنفسهم وشر وسواسهم فإنه معيذهم لا سواه، وهو المجيب لمن دعاه، وهذا هو سيبل الفوز والنجاة، وإلا فهو الهلاك والضلال في المتاه؛ فالوسواس هو الذي أخرج آدم من الجنة وأزله وأغواه. والوسواس هو الذي طوع لابن آدم قتل أخيه فأرداه. إن الوسواس قد طوع له القتل وسهل له الجريمة ودله على الوسيلة القاتلة، ولكنه أعماه عن وسيلة تدفن وتواري الجريمة الماثلة، وتغطي الفعلة الفاشلة، وتصون الجثة المتآكلة. ولا يزال هذا هو شأن الإنسان يخترع وسائل الدمار الشامل، ويتراجع أمام إنفاق درهم لإنتاج علاج نافع، أو إنقاذ إنسان جائع، فيا له من غافل هلوع ، للخير منوع، ولن يخرجه من هذا السرداب المظلم؛ إلا القرآن المنزل من ربه الأكرم، فبه فليعمل، وعليه فليرتفع إلى المقام الأجمل، وبربه فليستعذ من (الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس). ¶ إنه يوسوس باستمرار، لكنه يخنس من الصدور بالذكر لله القهار. وإنه يتحين فترات الغفلة في الناس ليخنس إلى الصدور بالوسواس؛ فإذا ذكر الله أصابه الإبلاس. فهو خناس شرير، وهو يدمر الانشراح في الصدور ويتسلل إليها بكر وتكرير؛ ليعمي القلب البصير، ولكن التقي بذكر الله ينتصر، فإذا هو مبصر، وسواء كان هذا المتقي من الجن أو من الإنس فكلهم يتعرض للوسواس الخناس ويصاب بشره، في أعماق صدره؛ فإذا ذكر الله ربه الغفار، واعتصم بربه الملك الجبار. وإذا استعاذ بربه الإله القهار اندحر كيد الأشرار، وخنس الوسواس بانكسار وانشرح الصدر واطمأن القلب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). ¶ فعلى من يؤمن بالقرآن من الإنس والجان؛ أن يستعيذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس؛ ليبقى على اتصال بالقرآن، وعلى طريق ربه الرحمن الذي أنزل القرآن (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان). إن الوسواس الشرير هو الذي جرأ الناس على تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وهو الذي صرف الناس عن هدى ربهم، وهو الذي أشعل الحروب والخصام بينهم، وهو الذي إلى الحياة التعيسة ساقهم، وعلى نار القلق والضيق ألقى بهم، وهو الذي إلى نار الجحيم سيرديهم. إنهم لو استمروا على وسواسهم ولم يستعيذوا منه بربهم وملكهم وإلههم ولم يستجيبوا لهداه الذي أنزله إليهم في القرآن ؛ فإنهم إلى الهلاك سائرون، وإلى سوء المصير قادمون، ولن ينفعهم مال ولا بنون، يوم يقوم الناس لرب العالمين. ¶ فلنستعذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، في كل حال من شر الوسواس؛ لننال الخير والسلام وحسن المآل.
هل الشفاعة واقعة ،، أم هي أماني ضائعة؟؟
إنه سؤال هام ، بل هو استفهام يجب أن يعم الأنام ، فكم من أمم وأقوام على هذا الحلم اطمئن ونام ، لكن جواب السؤال في الختام ، يمكن أن يوقظ النوام ، ويهتك سجف الأحلام ، ويمزق دجى الظلام ، ويصحح خاطئ الأفهام ، ويفتح العيون والأبصار ، على طريق السلام ، ويسمو بنا إلى مقام ربنا العلام الذي لا يشرك في حكمه أحدا ، ولا يتوسط احد إليه أبدا ، ولا يحول بينه وبين عبيده أحد من البشر ولا يعلم احد عن عبيده منه أكثر ، بل هو العليم والأخبر ، وهو الذي يعلم السر مثلما ظهر ، إنه هو الذي يحول بين المرء وقلبه ، وهو الذي خلق الإنسان وهو أعلم به ، وكيف لا وهو يقول (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق 16 فهل بعد هذا العلم من مزيد ، وهل هناك شيء أقرب إليك من ربك المجيد ، كلا بل هو اللطيف الخبير والقريب البصير ، وهو العليم بذات الصدور.
وعلى هذا الأساس فلنناقش الشفاعة وعلى هذا الفهم لرب العالمين ، فلنفرد آيات القرآن المبين ، ومن هذا المنطلق الثابت المقدر لله حق قدره ننطلق ثابتين على حكمه وأمره ، ونقترب من الشفاعة مبصرين ، ونناقشها مؤمنين ، ولله مستسلمين وله مقدرين معطين ، وبعلمه المحيط معترفين ، وبجهل سواه موقنين ، فلا نجعل له أندادا ، ولا نسوي به عبادا،فإن فعلنا فإننا إذا من الظالمين ، وإن سوينا به سواه كنا مشركين.
قد تفاجئون إذا قلت لكم إن الاطمئنان إلى شفاعة الشافعين ، إنما هو شرك واضح مبين ، بل هو ضلال سواء كان هؤلاء الشفعاء من الملائكه أو من النبيين ، وسواء كان الشفيع كما تظن من المقربين أو من الشهداء والصديقين ، وكيف لا وكلهم لا يعلمون عن العباد شيئا ، بل لا يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فكيف يكون لهم العلم المحيط بما اختفى ، إن هذا هو ما اختص به الله دون سواه قال تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ?6? وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ?7? الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ?8?) طه 6-8.
إذا كان ما قلته قد أفزعكم ، إذا كان ما صرحت به قد أزعجكم فلنعد إلى الموضوع بهدوء معكم ، ولنبدأ من حيث نستطيع أن نصل إلى الحقيقة المصيبة ونستكشف المعاني العميقة في هذه القضية،، لنبدأ من معرفة معنى كلمة (شفيع) في اللغة ، إنه اسم بمعنى السبب الذي يتوصل به إلى سواه من الأحداث التي تراد أو هو الوسيلة التي تتخذ وسيطة بين المريد والمراد،، فأنت قد تتوسل إلى الماء ، لتشرب بالدلو إن كان في بئر ، أو بكاس إن كان في قدر ، أو بيدك إن كان في الأرض أو بشفتيك إن كان على يدك ، وتريد أن تشرب، ألا ترى كم توسلت إلى أسباب لتشرب ، كل هؤلاء شفعاء لك عند ربك ليصل الماء إلى فمك ، ثم أن الماء بحد ذاته سبب للارتواء الذي تريد ، فهو شفيع لك عند ربك لترتوي ، إذا شاء ربك لك الارتواء. إذا لكل تلك الأسباب المتوالية أن تؤدي مهمتها من البداية حتى يصل الماء إلى فمك ، هل تظن أن الأمر انتهى هنا ، كلا بل لابد أن يأذن الله للسانك أن يذوق الماء ، ويطعم ويشم الماء ثم يستسيغ الماء ، ثم يأذن للبلعوم أن يبلع الماء ، إلى ما ورائه من الأعضاء ، ثم يأذن للمعدة أن تهضم وتقبل الماء ، ثم يأذن للأمعاء وبقية أجزاء الهضم أن تنشر الماء إلى الجسد المتتابع الظامئ ، ثم يأذن للجسد الظامئ أن يقبل ويتفاعل وأن ينتفع بالماء ، ثم يأذن لأجهزة الشعور والإدراك المحيطة أن تشعر أن الجسم قد ارتوى ، وأن تدرك أن الماء قد أدى المهمة التي شرب لها ،وعند ذلك يكون الماء قد أصبح السبب الظاهر الذي أرواك ، وهو الشفيع الظاهر الواصل إلى المشاعر والإدراك. لكن قل لي هل الماء أنت أنزلته ، هل أنت أجريته على الأرض معينا ، هل أنت حفظته في الأرض ينابيع ، ثم هل البئر هي التي أهدته إليك ، وهل الدلو هو الذي رفعه ، وهل يدك هي التي أوصلته إلى فمك ، وهل فمك هو الذي ذاق وهضم ، وهل بقية أعضائك المتداولة للماء ، عملت ذلك الإرواء والاكتفاء ، والشعور الجميل بالهناء هل هي التي عملت ذلك بعلم منها ، وهل هي التي أشعرتك بالارتواء وهل كان ذلك بقدرتها ، كلا بل كل ذلك لم يتم إلا بإذن الله لكل الأسباب المتوالية مجتمعة ، وهو الذي دبر الأمر من البداية ، حتى وصل إليك بصورة ممتعة ، فكل الأسباب عملت بإذنه وعلمه ، وكل الوسائل تيسرت وتدبرت بقوته وحكمه ، وكل النتائج توفرت برحمته ، وكل المنافع تأكدت بإذنه وتدبيره ونعمته ، فهو السبب الأول والأخير ، وهو السبب الظاهر والباطن ، وهو الشفيع الحق بلا جدال ، وهكذا ندرك أن كل الشفعاء ، ما كانوا مؤثرين لولا الإذن من ذي الجلال ،، وهكذا فلندرك ما معنى الشفيع فهو السبب ، والأسباب كثيرة لا تحصى . بل أن الشفيع أو السبب متنوع الأنواع والأجناس في الظاهر والخفاء فكل الأشياء من حولنا شفعاء وأسباب لحياتنا ،وكل الأجرام والأحياء في الأرض والسماء أسباب لقيام حياتنا ، ولكن بإذن الله ربنا فهو الذي يسخر ، وهو الذي يدبر ، ولو شاء لما أذن وأمر (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ) القصص 71 .
وإذا كانت كل الأسباب أسبابا للإنسان ، فإن الإنسان بحد ذاته سبب وشفيع لسواه من الأشياء والأجناس وهو لا يدري ، بل شفيع لبعضه البعض ، ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) الزخرف 32 . وعلى هذا فإن الإنسان قد يكون شفيعا لسواه باختياره وقد يكون بدون اختياره ، وهو في الحالة الثانية مسخر ومسير وهو في الأولى مختار لكنه مع ذلك مختبر ، وهو في حالة الإحسان والإساءة يثاب ويؤجر بما يستحق وبما اختاره الله وقدر، وهكذا فإن الإنسان يكون سببا لأخيه الإنسان ، فينال مع أخيه نصيبا من الإحسان ، الذي ناله أخوه بسببه ، وينال حظا من الإساءة التي وصلت إلى أخيه بسببه ، وإن شفاعته مطلوبة محسوبة ، وهي بأمر الله مقدرة مكتوبة ، ولهذا قال تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا) النساء 85 .وإذا عرفنا أن معنى كلمة مقيت في آخر الآية هو الحفيظ أو المقتدر أو الشهيد ، فإن الختام يعني أن كل شفاعة من إنسان لإنسان لا تعني أن الإنسان هو الذي أجراها ، ولكن الله هو الذي دبرها ويسرها وهو على فعله شهيد ، فهو حفيظ محيط ، فلا يفوته ولا يغيب عنه بل يسجله ويعلمه ويكتبه ويحكمه ، فلا قدرة للإنسان أن يعمل شيئا دون إذن الله وأقداره ، وكيفلا وهو كما يقول (وكان الله على كل شيء مقيتا) أي مقتدر ، فهو الذي أقدرك يا شفيع الحسنه ، وهو الذي أقدرك يا شفيع السيئة ، وهو عليكما الشهيد والحفيظ ، وإذا فالفعل فعل الله والشفيع هو الله ، والشفاعة منه ، وإذا كان هذا هو علم الإنسان أمام أخيه الإنسان ، وأمام اتخاذه أسبابا ، ليتوصل بها إلى أي شأن فإن هذا يعني أن لا فعل لأحد ، إلا الله ولا سبب يفيد أو يضرإلا بإذن الله وتيسيره ، وأن الشفاعة لا تعني إلا سببا هيئه الله وأذن به وأن الله يجعل الإنسان سببا للعمل والتأثير ،
ولكن المؤثر والعامل هو الله وعليه فإن كل صناعة وزراعة ، وبناء وهدم ، إنما قام به الإنسان كسبب ، هيئه الله ، وبهذا يقول تعالى (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ?41? وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ?42?) يس 41/42 فلقد أسند الخلق إليه ، مع أن صناعة الفلك والسفن ، هي بيد الإنسان وقال على لسان إبراهيم عليه السلام ، مخاطبا قومه الذين يعبدون الأصنام (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا )العنكبوت 17 فسمى نحتهم للأصنام خلقا ، وأسنده إليهم ، لكنه في آية أخرى يقول في نفس الموضوع (قال أتعبدون ما تنحتون ?95? والله خلقكم وما تعملون ?96?) الصافات 95/96
ولو تأملنا كثيرا في الآيات ، لوجدنا أن الله ينسب الفعل إلى الناس ولكنه في نفس الوقت يعيد الفعل إليه وحده ، فلتقرأ ما فعلة فرعون حين خرج موسى مع قومه من مصر (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ?53? إن هؤلاء لشرذمة قليلون ?54? وإنهم لنا لغائظون ?55? وإنا لجميع حاذرون) الشعراء 53-55 فها هنا الله ينسب حشر الناس إلى فرعون ، ولكنه عقب ذلك بقوله (فأخرجناهم من جنات وعيون?57? وكنوز ومقام كريم?58?) الشعراء 57/58 إن الله يسند الإخراج إليه وحده ، وما كان حشر فرعون للناس ، إلا سببا وشفيعا لتنفيذ إرادة الله ، وتحقيق فعله ، فهو الفاعل الحقيقي ، والشفيع الحق ، حتى مع المسلمين يقول الله عنهم وعلى لسانهم (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) التوبة 52 فالمعذب هو الله ولكن الأسباب متعددة ، لأنه هو المسير والمدبر لها والشفيع المنفذ ، بل ويقول في نفس القول وفي أية قالها موجها الخطاب للمسلمين ، يأمرهم بقتال الناقضين للعهود من الكفار (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) التوبة 14 فالعذاب هو عذاب الله ، والمعذب هو الله ، ولكن المسلمين يد القدرة وسبب الإرادة ، وهكذا يريد الله أن يكون أمام الأعين لكل فعل سببا ظاهريا ، ولكن السبب الحقيقي هو الله فلا تقل أنا انتصرت أو نصرت ولا عذبت ولا شفيت أحدا ، ولا أخزيت فلانا ، أو صنعت حلا،، فالناصر والمعذب والشافي والمخزي هو الله لا سواه ، ولو استعرضنا الآيات لطال المقال ، ولكني سأدخل إلى عمق الموضوع وسيتضح لكم أن الله هو الشفيع ، ولكي يتجلى لنا الأمر بوضوح ولكي نصل إلى الهدف الصحيح ، تعالوا نقسم آيات الشفاعة إلى قسمين رتيبين في القرآن.
القسم الأول
الشفاعة في الحياة الدنيا
القسم الأول من الآيات هو الذي يتحدث عن الشفاعة في الحياة الدنيا إنها التي يوضح لنا الله فيها أن كل ما تتوهمه سببا أو شفيعا هو وهم وظن لا يغني عن الحق شيئا ، وأن الشفيع الحق والسبب الأصل هو الله الذي يدبر الأشياء ، وأمام هذا الوهم الساذج والظن الساذج توجه الناس إلى الأسباب ليعبدوها ، فمنهم من عبد الشمس والنجوم ومنهم من عبد الليل والبحر ، ومنهم من عبد الملائكة والجن ومنهم من عبد البقر أو بعض الحيوانات الضارة أو النافعة .المهم أن الناس توجهوا إلى الأسباب ليعبدوها كالأرباب ، فما ظنوه ينفع عبدوه لنيل نفعه ، وما ظنوه يضر عبدوه ليجنبهم ضرره وما ظنوه مقرب إلى الله كالملائكة عبدوه ، لنيل وساطته وشفاعته وبهذا الوهم نقرأ في أسماء آلهة قوم نوح نفس المعاني التي يوضحها كبارهم لصغارهم ، وينصحونهم بالاستحسان بها ،
لأن لديها ما يطمحون من الأمان (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا) فهذا هو الله الذي يمنحهم الود والأمان والحنان ( ولا سواعا ) وهذا هو الإله الذي يبادلهم ويساويهم المنافع ، فهم يعبدونه ، ليستفيد منهم العبادة ويستفيدوا منه الإفادة ( ولا يغوث ) وهذا هو الإله الذي يغيثهم بما يحتاجون ويرفع عنهم ما يشكون ، ومع هذا فإن لهم إلها يعيق عنهم ما يتوقعون من الشر، ولكنه لا يعطي شيئا ، وهو قولهم ( ويعوق ) وأخيرا (ونسرا) وهو إله القوه والعلو ، فهو يمنحهم القوة والسمو ويجلب لهم العلم بما يغيب ، ويكشف لهم أسرار الغد البعيد والقريب ، فهم في عبادته في أمان مما يفاجئهم ، وفي منعة مما يخيفهم ، وفي علو على ما يحيط بهم؟.
وعلى هذا الأساس انطلق الملأ من قوم محمد ينصحون أصحابهم بالتمسك بالآلهة التي تحمي وتصون وعدم الاعتماد على الإله الذي يدعو إليه محمد الأمين (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد) ص 6 وقبلها قالوا (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) الأية: 5]إن هذا هو الوهم الذي سقط فيه الإنسان ، واستمسك به ، ونسى ربه الوهاب ، بل إنهم إذا رأوا الرسول يشعرون بالذعر لأنه يدعوهم إلى التخلي عما يظنونه يحمي ويصون (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ?41? إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) الفرقان 41/42 لكن الله يؤكد لهم أن هذا هو الضلال الحقيقي فيقول في ختام الآية (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) الأية: 42 (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ?43? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) الفرقان 43/44.
وهكذا كان موقف قوم هود ، وهو الاستغراب ، ثم الذعر من ترك عبادة الآلهة المدعاة (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) الأعراف 70
إن العذاب لديهم أهول ، من ترك آلهتهم ، بل أنهم في موقع آخر يتهمون هود بأنه مصاب من الآلهة (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) هود 54 لكن هود يدعوهم إلى الله ويتحدى ويقول
(قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ?54? من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) هود 54/55 لماذا هذا التحدي ، ولماذا هذا الصمود؟ لأنه يوقن أن الله هو الضار والنافع ، وهو الملجأ والمقصد ، والرب المعبود المحمود (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) هود 56 فهو الشفيع ، والمسبب النافع ، وهو الرب القريب العليم ، المدبر الواسع وهكذا كان موقف نوح (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) يونس 71 .
ولن نطيل الاستعراض لموقف الموهمين ، ومواقف الفاهمين ،ولن نزيد من أدلة ضلال المستشفعين بالأسباب ، وأدلة كمال المستشفعين بالله مسبب الأسباب ، فذلك واضح لأولى الألباب ، لكنا سنعود إلى الأساس الذي سقنا له هذا المقال ، فنقول أن المنخدعين بالأسباب قد أشركوا بلا ارتياب ، لقد جعلوا لله شركاء باتخاذ الشفعاء وادعوا أن الله لا يعلم من الأعمال والأقوال شيئا ، فتوسلوا إليه بهؤلاء لينبئوه بما يجهل وليعلموه بما نعمل ، "تعالى الله وجل" . نعم إن من اتخذ شفيعا إلى الله ، حتى ولو كان هذا الشفيع ملكا أو رسولا أو نجما مضيئا ، أو قمرا منيرا ، أو شمسا ، أو كوكبا كبيرا
فإنما جعل لله شريكا في علمه بالخلق ، وتدبيره للأرض والسماء أو ظنه بعيدا عن الخلق ، غافلا عما يجري في الأرض والسماء وهذا لا يليق بالله الذي يعلم السر والخفاء ، والذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أكبر ولا أدنى ، كلا بل هو محيط بكل شيء ، بل هو الذي بين الإنسان وقلبه ، وهو الذي يعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، فكيف يحتاج إلي شفيع ينبئه بما يجري في الأرض وما يعمله العبيد وكيف يحتاج إلى من يقرب الناس إليه زلفى ، لأنه كما يتوهمون بعيد كلا إنه على كل شيء شهيد ها هو يخاطبنا ، يؤكد لنا قربه وعلمه بكل خفي وظاهر قال تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور?13? ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) الملك 13/14 ويقول قال تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء?5? هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ?6?) آل عمران 5/6 وإذا كان الأمر كذلك ، فهو الذي يدعى بلا واسطه ولا شفيع فهو القريب السميع ، وهو الذي يرجى بلا شيء يقربنا إليه زلفى فهو الذي يعلم ما يخفى ، وهو الذي يعتمد عليه ويتوكل عليه ،وهو الولي والمولى ، ومن اتخذ دونه وليا وتقرب إليه بسواه فقد غوى ، لأنه الرب القريب المجيب ، السميع العليم وله وحده يتوجه العبد ، ذو القلب السليم (لا إله إلا هو العزيز الحكيم ?6?) وهكذا يختم الآية ، ليؤكد لنا أنه هو الإله الحق ، الغني عن الخلق الحكيم فيما يديره ويقضيه ، وكيفلا وهو يقول في سورة طه (الرحمن على العرش استوى ?5? له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ?6? وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ?7?
الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ?8?) طه 5-8.وعلى هذه الحقيقة الناصعة في حق الله ، وعلى هذا المقام الرفيع لله الرفيع الدرجات ، فإن من ظن أنه يحتاج إلى شفيع ، ينقل علم الأرض والناس إليه ، فقد ظن في الله ظن الجاهلية ، وجعل لله شريكا في أمره وما قدر الله حق قدره (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) .
وبعد أيها الأخوة ، فإننا على هذا النور المبين ، وعلى هذا الفهم المستنير نتقدم إلى الآيات التي تتحدث عن الشفاعة ، أو بالأصح نستقرأ الآيات التي وردت فيها كلمة شفاعة ، أو شافعين أو شفعاء ، ليتضح لنا الأمر بجلاء ، ولنكون على بينة من أمرنا ، وأنا هنا لا ادعوكم لتسلموا ولكن لتفكروا ، ولا ادعوكم لتجادلوا في الله ، ولكن لتقدروا الله حق قدره ولا ادعوكم بلا دليل ولكني أقدم الدليل ، ولا أعدكم بالدليل الذي من أقوال الناس ، ولكن من قول الجليل ، فهل بعد هذا من إنصاف قد تسألون كيف أن هناك شفاعة في الحياة الدنيا وشفاعة في الحياة الأخرى ونحن لا نعرف إلا أن الشفاعة في الأخرى فقط ، وأنا أقول لكم هذا هو الغلط فالموضوع يبدأ من هنا من الدنيا ، لأن هناك من عبد غير الله جاعلا له شفيعا إليه ، وهناك من اعتمد على أسباب الحياة وظنها هي سر الحياة ، فاعتقد أن المال والرجال تحمي وتقي وتعز وتبقي ، ونسي أن الله هو الذي له البقاء وكل شي هالك فاني ، وأن الله هو المؤثر الفعال ، وكل شي عاجز ضعيف فقير ، فالاعتماد على غير الله من المتكأ والملتحد الذي لا يملك من نقير والتوكل على غير الله ، إنما هو اتكاء على ما لا يملك من فطير ، وإن السير على طريق المعتمدين على الوسطاء ، والمستشفعين إلى الله بالشفعاء والمتخذين أولياء ليقربوهم إلا الله زلفى ،
فإن السير على هذا الطريق هو المسير المدمر الخطير ، ولهذا فإن أول الآيات التي سنستقرأها الآن تطرح في وجوه هؤلاء الغافلين ، وتصفهم بالمشركين ، وتنزه الله عما يصفون.
فلنقرأ (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) يونس 18 يا للهول المهيل ، ويا للجهل والغفول ، هل الله بعيد ، هل هو لا يعلم حال العبيد ، بل هو العليم ، وبكل شيء محيط ، وبهذا يرد عليهم منبئا ومستنكرا (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) يونس 18 إنه سؤال مهم ، فهل الله لا يعلم بما يجري ، وهل الله يجهل ما يحدث كلا إنه منزه عن هذا الوهم ، فيقول عن هذا الظن المظلم (سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18 إن وهم التوسط بين الله وعبيده ، جهل وغفول مظلم ، وإن اتخاذ الوسطاء له ، شرك وظلال عظيم ،
فهل الشفعاء يعلمون من حال العباد ما لا يعلمه الله الخلاق العظيم ،"سبحانه وتعالى"، عن هذا الجهل والشرك العظيم ، إنه يعلم كل ما في السماوات والأرض وبكل شيء محيط ، ومن ادعى أن الشفعاء يعلمون ما لا يعلم وينبئونه بما لا يعلم ، فقد جعلوا لله شركاء في علمه وتدبيره ، وحكمه وتقديره وجعلوا له أندادا في رحمته وحكمته ، وفي أرضه وسماواته "تعالى عن ذلك علوا كبيرا"
أفهمتم أيها الناس ماذا تعني كلمة شفعاء عند الله ، إنه سب لله الجليل وإنه عدوان وظلم وويل ، وإنه لشرك وضلال جهول إذا صح أن الشفعاء يوصلون إلى الله ما لا يعلم من شؤون الخلق
فقد ادعى الناس ما يهدم الخلق ، ويمحو الحق لقد جئتم شيئا إدا،، (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) مريم 90 وكيفلا وها هو يقول (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم 93 فالكل محتاج إليه فقير ، والكل لا يعلم من الخلق قدر قمطير ولا يدري من الأمر قدر نقير ، فكيف يكون شيء من الخلق ندا للعليم القدير ، وكيف يكون شريكا للطيف الخبير إن هذا هو الضلال الكبير.
والآن لنعد إلى بداية سورة يونس ، فإن فيها التأييد الأقوى الموضح لكم أمر الشفاعة في الدنيا يقول تعالى(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) يونس 3
بماذا استوى ، وما هو الإستواء ، ها هو البيان (يدبر الأمر) إنه المدبر لا سواه ، لكل أمر ، وهو المقدر وحده ، لكل شأن وهو المسير لا غيره لكل الأشياء ، ولا شريك له ولا ند أبدا وهذا هو معنى قوله (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) إن هذه الجملة تأتي جواب لسؤال كان أحد الغافلين يسأل هل تدبير الأمر كامل شامل ، وهل الشفعاء ليس لهم طائل مع أن لنا إليهم وبهم إليه الوسائل ، فجاء الجواب قاطف كل شيء باطل (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) فإذا ظننت أن مالا ينفع ، أو جبلا يمنع ، أو دواء ينفع ، أو طعاما يشبع أو ماء يروي ، أو شمسا تضيء ، أو سحابا تهمي ، أو رجلا أو حزبا يقي أو ملكا أو رئيسا يجدي ، أو يشفع مما يؤذي إذا ظننت هذا فأنت غافل ، وأنت بربك جاهل بعيد عن الحق في مراحل وفي ظلمات من الباطل ، إن الله هو المدبر بلا ند ولا شريك ، وهو ذو العرش المجيد ، الفعال لما يريد ، وكل شيء سواه مقهور ضعيف ، وهو الواحد القهار ، إذا فهو الرب الذي يفيد ، في كل أمر وشأن وهو الولي الذي يستنصر ، في كل زمان ومكان ، وهو القريب لمن دعاه في كل حال ، وهو المجيب للسؤال ، القدير على الوفاء بلا مطال فاتخذه وليا بلا جدال ، ولتتجه إليه بالآمال ، ولهذا قال في ختام الآية (ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) يونس 3 هكذا إذا يوجهنا الله ، إن كل الشفعاء والأسباب محكومه منه مسيرة بإذنه ، مقدره بقدرته ، مدبره بتدبيره ، فلا شأن ولا أمر يجري إلا بعلمه وتدبيره ، ولا حال يكون إلا بإذنه وتقديره ، فهو الله الرب الذي يعبد ويحمد ويرجى ويدعى ويطاع ويخشى ، وإليه تتوجه الوجوه وبحكمة ترضى ، وله تستسلم القلوب وبذكره تطمئن ، وبه تزكو النفوس وبطاعته تأمن ، وله تنشرح الصدور وتستنير ، وعلى حكمه كل شيء يسير ، وبعلمه يستقيم المسير ، وبغيره يضل ويبور ،فلنكن من المتذكرين ، إنما يذكر أولوا الألباب ، ولنكن له عابدين لننال عطائه الأرحب ، ولنكن له محببين لنكون ممن أحب ،ولنعتمد عليه بلا شفعاء ، لنكون عنده من المقربين السعداء ، ولنقدره حق قدره لنسموا في مقام الأنبياء ، ولنكن على يقين بأن إلية الرجعى ليجزي كل نفس بما تسعى ، فإن له الأولى والأخرى ، (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) يونس 4 .
ولأنه يدبر الأمر في السماء والأرض ، وفي قلب الإنسان وفي قلب الأكوان ، فإنه يقول : (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) يونس 5 أليس هذا التقدير والتدبير دليل ، على أن كل شفيع إليه يعود ، فها هي الشمس المعبودة مسيرة ، وها هو القمر المعبود مقدر ، فكيف غفل الناس عن هذا الرب الأقدر ، كيف جهلوا قربه من كل صغير وكبير ، ومن كل ذرة في الأرض أو في السماء ، وعلمه محيط بكل شيء في أعماق الحجار ، وعروق الأشجار وظلمات البحار وفي بروج النجوم والأقمار ، فهو الرب المدبر والمسير ، بلا ند ولا شريك ، ولا ولي ولا عضد ابدا (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) الكهف 26 أسمعتم آخر الآية! بل وأولها (ما لهم من دونه من ولي)
فهو الولي الذي يرجى ويدعى ويستنصر ويخشى وهو الذي يدبر ويسير ، وهو الذي يحكم ويقدر ، ويعلم بما حكم وقدر ويستمر متابعا فيما حكم به ، وكلا فلا يشترك أحد معه في التقدير والتدبير ، ولا في الحكم ، ولهذا قال (ولا يشرك في حكمه أحدا) فمن ذا الذي يتطاول أو يقدر أو يتكبر أو يدبر دون الله المدبر المتكبر ومن ذا الذي يشفع وينفع ويدفع سوى الله الذي يعلم كل خفي ويسمع
ولا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ، ولا يعزب عنه ولا يعجزه شيء ، ولا يفوته ولا يسبقه حي أو شيء ، الكل له عايدون عبيدا والكل له محتاج فقير (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?93? لقد أحصاهم وعدهم عدا) مريم 93/94.
والآن وقد عرفنا معنى الشفيع ، وتأكد لنا أنه السبب ، وعلمنا أن الأسباب لا تنفع ولا تدفع ولا تشفع ، إلا بإذن الله المدبر المقدر ، وحتى ولو كان هذا السبب إنسانا نبيا من الأنبياء ، أو ملكا من الملائكة ، فإنه لا ينفع ولا يقطع ، إلا بإذن ربه.إذا عرفنا وعلمنا ذلك بلا خفاء ولا غموض ، فإن من المناسب أن ننتقل إلى آية أخرى تؤكد ذلك الأمر ، وتلك الحقيقة ، وتدعم اليقين بأن الله هو الشفيع الحق ، والولي الفعال ، (الم ?1? تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ?2? أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) السجدة 1-3 إنه رب العالمين ، فهو يعلم كل شيء في الأرض والسماء ، ويعلم ما يعمله الناس في كل حال وحين ، ولهذا فإن تنزيل الكتاب منه بلا ريب لأنه وحده الذي يعلم الغيب ، وكيف لا وهو رب العالمين ولأنه يعلم كل شيء فإنه يدري أن الناس غافلين ، يقولون أن القرآن مفترى لأنهم يظنون أن الله بعيد في السماء ، لا يعلم ما يجري في الأرض ولا يدري ما جرى ، ولكن الله يقول (بل هو الحق من ربك) فالله هو الحق وهو الرب الحق ، ولهذا لا بد أن يدعو إلى الحق ويهدي إليه عباده ولأجل هذا أرسل الرسول إليهم وأنزل الكتاب عليهم (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) أليس أن الله يعلم أن هؤلاء القوم لم ينذروا من قبل هذا الرسول ولهذا أرسله رحمة بهم (لعلهم يهتدون) نعم لعلهم فإن الهدى هو الرخاء ، الذي يجب أن يسعى إليه الإنسان فإذا اهتدى فقد نجى ، وقد نال الخير والحب من ربه الأعلى الذي يعلم السر واخفى ، ويعلم ما يحتاجه الإنسان من عطاء ، ولأن الإنسان الغافل قد يستغرب ويقول كيف يمكن أن يرسل الله العلي العظيم رسولا ، وكيف يمكن أن يدنو الله إلى هذا الرجل ويؤتيه بالعلم ، ويوحي إليه بالذكر والهدى ، وهو بشر مثل الناس الذين يعيشون في الأرض بعيدين عن الله الساكن في السماء وحوله الملائكة والملأ الأعلى ، وهم بالإرسال الأولى ، فلماذا يرسل الله رجلا ، ولماذا يبعث بشرا رسولا ، وحوله الملائكة وهم من الله الأقرب والأدنى ، هكذا يفكر الغافلون وهكذا يتصور الله الجاهلون ، وهكذا له يجسدون ويتصورون (ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ?74? الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ?75?) الحج 74/75 لعل هذه الآيات تفصح عن قدرة الله وعزته وعلمه وقدرته وقربه من كل الخلق بعلمه ورحمته ، وأن إليه وحده ترجع الأمور ، وله وحده الاختيار لما يشاء ، وكيفلا وهو الله السميع البصير.
لا تلوموني على هذا الإستقراء ، ولكن قولوا إذا كان هذا هو شأن الله ،، لنقرأ معا كيف يوضح لنا علمه المحيط ، وتدبيره الذي بلا وسيط وليس فيه شريك ، ولا ند ولا عضد ، فيما يريد كلا بل هو الولي والشفيع الذي يعلم كل قريب وبعيد ، ما لي أسرح وأسبح وأطلق العنان لقلمي ولساني ، ولماذا أتقدم وأستبق البيان الرباني ، فاعذروني أيها القراء ، وها هي الآيات أمامكم يا إخواني (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) السجدة 4 هكذا يبدأ البيان لمن جهل ربه ، من بني الإنسان فهو الخالق السماوات والأرض ، والخالق ما بينهما من كل نراه ، وما لا نراه ، ثم هو المدبر لكل ذلك ، ويعلم حاجة كل شيء ، وما سأله يؤتاه وهذا هو معنى (ثم استوى على العرش) إن كلمة ثم لا تعني التراخي الزمني كما هو شأنها في حروف العطف ، ولكن تعني أن الخلق كان بعض الشأن وأن الإستواء على العرش شأن أهم وأسمى ، لأنه يعني التدبير والتسيير لكل الخلق في الأرض والسماء ، ولكل نجم وقمر ، وكل نملة وحبة تبذر ، وكل شمس تضيء وتشع ، وكل ثمر ينفع ، وكل كوكب سبح ، وكل عطر نفح ، وكل زهر تفتح ، وكل فكرة تسير وكل خاطرة تدور ، وكل ما في أعماق الأقمار والشموس ، وكلما في خفايا النفوس وكلما في السحاب ، من ماء وبروق ، وكل دم في العروق ، وكلما في الأجواء يتقلب من ليل ونهار ، وزمن يدور ، وكلما تفكر به القلوب التي في الصدور ، نعم هكذا هو المعنى الأعم ، وهذا هو الاستواء على العرش ،
ولهذا قال بعد ذلك موجها خطابه إلينا لنعلم أننا في الخلق مدبرون ومسيرون ، وأننا عليه معتمدون ، فإذا قال استمعوا وعوا (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) السجدة 4 أسمعتم ليس هناك أحد إلا الله ، وليس هناك معتمد ومتكل سواه فلنكن على علم بذلك ولنتجه إليه بانتباه (أفلا تتذكرون) السجده 4 فلتكن من المتذكرين فذلك هو شأن الإنسان العاقل (إنما يتذكر أولوا الألباب) الرعد 19إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) فاطر 28 ولكي يؤكد الله لنا ما أعلن من أنه الشفيع والولي في السر والعلن أردف الآية بآية أخرى ، فيها البيان الأوفى فقال (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) السجدة 5 فهو المدبر لا سواه ، في السماء وفي الأرض ، وهو الذي يرجع إليه الأمر ويعرج فلا يفوته شيء ، ولا يعزب عنه شيء ، مهما تمادى به الزمن وطال ، ومهما تقدم به في الماضي ، أو كان في الاستقبال ، فكل شيء وحال ، يدبره الله ذو الجلال ، ولذلك أعقب الآية بما يقطع الجدال فقال(ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) السجدة 6 فهو عالم كل غيب ، وهو عالم كل شهادة ، وهو الرحيم الوهاب وهو الغني الغلاب ، فأين ومن أين يمكن أن يكون من دونه لنا شفيع أو ولي ،.. كلا فلا شيء ، ولا حي ، يعلم الغيب إلا الله العليم القوي ،،
إن الشفيع يعني كما أسلفنا أن هناك من يعلم ما لا يعلمه الله ، وأن ينبئ الله بما أحاط به من دون الله تماما كما جاء الهدهد إلى سليمان (فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين) النمل 22 وفعلا فلقد أحاط الهدهد بما لم يعلم به سليمان ، فهل هذا يجوز على الرحمن ،.كلا كلا إن هذا هو البهتان ، ولكي نقطع أوهام الشيطان ونمحو عن عقولنا الظنون ، فلنستمر مع آيات السجدة ساجدين فالله بعد أن أكد أنه (عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) أراد أن يوضح لنا نتائج العلو والعزة ، وأن يدلنا على آثار رحمته وحكمتة فقال مبينا المعنى بأسلوب أدق(الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ?7? ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ?8?) السجدة 7/8 فها هو ينتقل بعقل الإنسان ، من خلق السماوات والأرض إلى أقرب شيء من الإنسان ، وهي خلقه هو ، وإلى أخص شيء به وهو وجوده وأصله ، فالله هو المحسن لكل ما خلق ومن إحسانه وإتقانه وعزته ورحمته وعلمه وحكمته ، بدأ خلق الإنسان من طين ثم نقله من حال إلى حال أرقى وأزكى ، وأسهل للتوالد والبقاء ، وهو (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) فبهذه السلسلة المائية تتم الزوجية وبهذه الزوجية وفيها يبذر الإنسان ويتوالد في الأرض ، وينشر بشرا رجالا ونساء كثيرا ، فسبحان المحسن المتقن ، البديع الجميل ، وبهذا الإبداع والجمال أكمل الخلق للإنسان ، وسواه على أحسن صورة ومثال فقال (ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) السجدة 9 إنه تكريم للإنسان ، وتفضيل وتصوير ، في أجمل تمثيل ، وتقويم في أحسن تقويم ، وكيف لا وهو الله العليم القدير ، الذي يعلم الغيب والشهادة وهو السميع البصير ، وبهذا سوى الإنسان ، ونفخ فيه من روحه وعلمه من علمه ، وجعل له السمع والأبصار والأفئدة ، وأهله وكرمه ليكون لعطاء ربه سميعا بصيرا ، ثم ليكون لربة شكورا ، ولا معنى للشكر إلا أن يفي لربه بما وهب له ، وما أعطى ويقدره حق قدرة وينزهه من الشريك في ملكه ، ومن الشريك في علمه ، ومن الشريك في حكمه ، ولكن الإنسان بقي دون ذلك ، فكان بعض الناس كما وصفه الله أنه (قليلا ما تشكرون) ومن لم يشكر بذلك المعنى السامي التام فهذا هو الضلال المبين ، والسقوط المهين ، عن مقام الشاكرين فالشاكرون في الناس قليلون ،وهم الذين لا يظنون سوى الله شفيعا ولا يتخذون من دونه وليا ، ولا يستنصرون بما لا يبصر ولا يسمع شيئا بل الله ربهم هو الشفيع ، النافع والقدير ، المانع والعليم ، الواسع والقريب النافع المجيب ، لمن دعا بقلب خاشع. فهو المدعو والمرجو والمعبود ، وهو الملجأ والمراد والمقصود وهو المعطي والوهاب المحمود ، إنهم على الله يتوكلون ويعتمدون ، وبه هم يقدرون ، وبه لا يشركون ، وهم له بإخلاص شاكرون.أما غير هؤلاء الشاكرين ، فإنهم في ظلمات الضلال تائهون وفي مهاوي الهوان هاوون ، وفي سحيق الجهل ساقطون يا حسرة على العباد يتخذون ، دون الله الأنداد لا تنجي ولا تؤذي وأمام هذا الجهل المظلم ، الذي سقط فيه الإنسان المكرم ، فإن الآيات تؤكد للإنسان ، أن يرتفع ويسمو إلى المقام ، الذي شاءه له الله عالم الغيب والشهادة ، وأن يزكو ويتذكر ، كما يريد له ربه رب العالمين الذي أنزل الكتاب لعلهم يهتدون ، وأن يكون على علم أن الله لا سواه هو المدبر العظيم ، والعزيز الحكيم ، والولي الرحيم والشفيع العليم ، فلا اعتماد ولا ركون ولا توكل إلا عليه ، ولا توجه ولا إلتجاء إلا إليه ، ولا عبادة ولا حمد ولا سجود إلا له ، ولا شكر ولا تسليم إلا له ، فهذا هو التذكر والإيمان ، وهذا هو التقى والإحسان وهو السلام والأمان ، وسوى ذلك هو الضلال والهوان ، والخوف والأحزان والندامة والخسران، في الدنيا والآخرة ، وفي كل حال وآن فيا حسرة على العباد ، الذين يتخذون لله الأنداد ، التي لا تضر أو تنفع بل ضرها أقرب من نفعها ، فبئس من تولاها واستشفعها .
وهكذا ندرك ما يعنيه الشكر من الشاكرين ، ونعرف علو شأن الرجل الشاكر في سورة يس ، وسر جدارته بمقام المكرمين (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ?20? اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ?21?) يس 20/21 لقد أعلم قومه أجمعين ، أن الرسل هم الذين يجب أن يتبعوا لأنهم يهدون إلى الله رب العالمين ، واليه يدعون ، وله وحده يعبدون
فاتباعهم إنما هو بعبادة الله ، أحسن الخالقين ، ولهذا أعلنها الرجل بلسان مبين فقال (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) يس 22 إن صفات الله التي وردت في كلام هذا الرجل ، تختصر أهم صفات ربه العظيم ، فالذي فطر السماء ، هو الذي يعلم كل خفي ومعلن ويحيط بكل شيء علما ، ويدبر كل شيء رحمة وحكما ، وأنه الذي إليه وحده يرجع الناس أجمعون ، هو الذي له الملك في ذلك اليوم الموعود وله العلم والحكم في ذلك المقام المشهود ، فلا يخفى عليه شيء من خفايا العباد ، ولا يند عنه أحد من الأمم والأفراد ، فهو المتصرف يوم المعاد وكلهم آتيه مستسلما عبدا ، وكلهم آتيه مستجيبا فردا ، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وهو الذي يتصرف في العباد وله التدبير فلا يشاركه أحد في حكمه ، وهو الذي وسع كل شيء رحمة وعلما (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17 وهكذا استطاع الرجل أن يصف ربه بما يستحقه وبما يليق به إذا فهو المعبود والمحمود والمقصود وهو الملجأ ، وإليه المئاب والمرجع في اليوم الموعود ، ثم انطلق يوضح للناس خطر الشرك بالله والاستشفاع بسواه ، فقال مستنكرا مستغربا مستعجبا مستفهما (أأتخذ من دونه آلهة) سؤال مهم ، وإن الجواب عليه لا بد أن يوضح لمن لا يفهم ، ولقد جاء الجواب بأسلوب الشرط الأهم (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) هكذا استبان له أن ربه هو المدبر النافع ، والمتصرف والشافع فلا يشفع سواه شيء ولا ينفع ، ولا يضر ولا يدفع ، فكل شيء أمام ربه الرحمن عاجز ، مسير ضعيف ، وبه مستجير ، وكل شيء لربه مستسلم واليه فقير ، فإذا أراد الرحمن شيئا فلا راد لما أراد ، وهو الحامي والفاطر للعباد ، وهو الذي عنده ينال الأمل والمراد ، وهو الذي أخذ لكل دابه بالقياد ، وهي له مستسلمة الانقياد ، فمن استشفع بسواه فقد ظل وخاب ما اراد ، وما أمل وسقط في ظلمات الجهل والخبل ،
فلا شفاعة القوى السماوية والأرضية تغني ولا تدفع عن الإنسان ما يضره ولا ثني، لأن الرحمن هو المدبر القوي وهو الوهاب الوفي ، وهو الوافي والحامي ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، وهو الذي تسير الأمور إليه ، وكل شيء وكل حي رزقه لديه ، فالاعتماد على سواه من الخلق أجمعين سواء الملائكة أو النبيين ، أو الطغاة الأشرار ، أو الأفلاك والنجوم والأقمار ، إنما هو ضلال مبين ، وهوان مهين ، فكل شيء تراه ينفع أو يفيد ، فهو وهم وجهل شديد ، وكل شيء تظنه منك قريب ، فهو بعيد بعيد ، لا يبدي ولا يعيد ، والله هو وحدة النافع المفيد ، والقريب المجيب للعبيد (إنه هو يبدئ ويعيد ?13? وهو الغفور الودود ?14? ذو العرش المجيد ?15? فعال لما يريد ?16?) البروج 13-16 فإن لم تلجأ إليه وتستشفع به فأنت في هاوية سحيقة الأغوار وأنت في ظلام وبوار ، وهذا هو ما عبر عنه الرجل في الختام ، فقال (إني إذا لفي ضلال مبين) نعم هكذا هو الحال لكل الذين يعدلون برب العالمين ، ويشركون بالله عبادة العاجزين ، ولهذا أردف الرجل كلامه بما يؤكد التوحيد الأكبر ، واليقين بربه الودود ، فأعلنها مدوية أمام الجمع والحشود (إني آمنت بربكم فاسمعون) فماذا يعني قوله آمنت بربكم؟.. أولا أنه أثبت أنه ربهم الذي خلقهم فيجب أن يؤمنوا كما آمن به ، ثم أنه يعني أنه آمن بربه وبربهم الذي يعلم ويقدر ، ويشفع وينفع ويضر ، ويحكم ويدبر ولكل شيء يسير ، وهو الذي يحاسب الناس ، ويعذب ويغفر فهو الذي يطاع ويخشى ويستغفر ، لأنه هو الذي يعلم ما نخفي وما نظهر ، وما نبدي وما نضمر ، وهو الذي إليه الرجع والمصير وإليه ترجع الأمور ، فليسمع الناس هذا الإيمان العميق البيان وليتبعوه ليفوزوا بالأمان ، وليسمعوا هذا البيان الهام ، فإنه طريق السلام.
إن هذا هو ما أعلنه إبراهيم ، فلقد أعلنها أمام قومه وأبيه ببيان واضح وإيمان راسخ (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) الأنبياء 56 وهذا هو الذي أعلنه أصحاب الكهف على الملأ ، والفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدى (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا)الكهف 14
وهذا هو ما أعلنه مؤمن آل فرعون أمام الملأ (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) غافر 28 وهذا هو ما أعلنه محمد خاتم النبيين أمام الملأ المكذبين قال تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) الرعد 30 (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا) الجن 20 (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين) الأنعام 14 وهكذا فإن الربوبية هي أهم صفات الله ، وأن الإيمان به هو الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ?161? قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ?162?
لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ?163? قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ?164?) الأنعام 161-164 (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) آل عمران 51 (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) الزخرف 64 بل وهذا هو ما جاء به موسى وهارون ، وأعلناه أمام فرعون ولأمر الله مبلغين ، وبه معتصمين ، وهو معهما يحفظ ويعين (قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ?15? فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ?16?) الشعراء 15/16 ولهذا فإن السؤال الذي وجه إليهما من فرعون هو عن هذه الربوبية (قال فرعون وما رب العالمين) الشعراء 23 ولقد كان الجواب من موسى بالتوالي هكذا (قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ?24? قال لمن حوله ألا تستمعون ?25? قال ربكم ورب آبائكم الأولين ?26? قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ?27? قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) الشعراء 24-28 وهذا هو ما سأل عنه فرعون في سورة طه ، ولكنه هنا سأل (قال فمن ربكما يا موسى ?49? قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ?50?) طه 49/50 غير أنه في سورة الشعراء ، سأل عن ماهية الرب ، وهنا سأل عن من هو الرب ، لكن الجواب في الحالين كان عن من هو الرب لا عن الماهية ، فهو الرب الذي خلق كل شيء ، وليس كمثله شيء فلا يوصف كما توصف الماهيات. وعلى أي حال فإن الربوبية هي التي جاءت لتأكيدها الرسالات والنبوات وهو التي تؤكد عليها الآيات البينات ، وتدعو الناس إليها في كل الأمكنة والأزمنة ، بصفة ثابتة (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فصلت 30 (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) الأعراف 54 ثم قال (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) الأعراف 55 (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) غافر 60 إلى أن يقول (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) غافر 62 وقال في الأنعام بعد أن أورد عددا من صفاته وقدراته ، وتدبره للأمر (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ?102? لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ?103?) الأنعام 102/103 .
وعلى هذا الأساس ، وعلى هذه الحقيقة ، يتضح أنه الله هو الشفيع وهو الولي وهو المولى ، وهو الذي يدعى ويرجى ، وهو القادر على كل شيء ، فلا يغفل ولا ينسى ، وهو المدبر لكل أمر وشأن
في كل حال وزمان ، ولا يتم شيء أو شأن ، إلى بإذنه وعلمه وبتقديره وحكمه ، ولكي يتضح الموضوع أكثر ، وعلى بر الأمان نرسي ، لنقرأ معا آية الكرسي ، فإن فيها النبأ اليقين. إن كثيرا من الناس يظنون أنها تتحدث عن الشفاعة في الأخرى وليس الأمر كذلك ، بل هي تتحدث عن الشفاعة في الدنيا ، وتؤكد أن كلما يجري لا يتم إلا بإذن الله ، وعلمه بلا مراء (الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) فهو الحي وحده ، وكل حياة منه ، وهو الذي لا يموت وكل شيء يفنى ويموت ، وهو القيوم الذي لا يغفل ولا يعزب عنه شيء في السماء والأرض ، ولا يعجزه شيء ولا يفوته ، بل كل شيء به يقوم ، وهو القيوم ، وكل شيء ينوم ويغفل وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، وإن من هذه صفاته ، وذلك شأنه فإنه الجدير بأن يحيط علما بكل ما في السموات والأرض وأن يدبرهما وما بينهما ، وأن يحكم ويتصرف بما يشاء ، وكل سبب إنما هو بإذنه لا سواه (له ما في السماوات وما في الأرض) يعني إن له تدبيرها بلا عون ولا شريك ، وكل شيء بأمره وإذنه يتحرك ، وكل سبب بعلمه يؤثر (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) فإذا كان السبب أو الشفيع أثر ، فالله هو الذي أذن له ويسر وهو الذي قضى وقدر ، وإذا تنفذ ما أمر ، بواسطة هذا الشفيع أو السبب فإن الله يعلم البداية والنهاية ، والأثر والغاية ، والمبتدا والعقبى والظاهر والباطن فيما جرى ، وكيفلا وهو يقول (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) فكل سبب سواء كان سببا عاقلا ، كالملائكة أو البشر أو الجن أو سببا غير عاقلا ، كالشمس والكواكب والأقمار ، والليل والنهار والأحجار والأشجار ، بل وكل مخلوق سواها ، كل هؤلاء الأسباب لا يخفى على الله من أعمالها وآثارها وأفعالها شيء ، ولا يخفى على الله من عقبى آثارها شيء أبدا ، ثم أنها لا تعلم ما يريده الله ، ولا ندري ما يقدره إلا بالقدر ، الذي يشاء وبه يرضى ، فكل شيء جاهل غافل مسير ، والله هو الحي القيوم المدبر والمسير ، والعليم بكل ما يخفى ويظهر ، ويتقدم ويتأخر ، لأنه وسع كل شيء علما (وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم) فعلمه وسع كلما يجري ويتحرك ، وهو الحافظ لذلك ، وبه مدرك وهو الممسك ، وكل شيء به متمسك ، ولا يثقل ذلك عليه أبدا ، بل هو المعتمد أبدا ، وهو مع ذلك علي على كل شيء ، والرفيع الدرجات الذي ليس كمثله شيء ،
وكل مخلوق ضعيف صغير حقير ، إليه فقير وهو الله العظيم ، الذي لا يحتاج إلى أحد ، ولا إلى شيء والغني عن العالمين ، والذي يخشاه الخلق أجمعون ، وهم من خشيته مشفقون ، وله مسبحون ساجدون ، لا يفترون ولا ينامون ولا يتسحرون (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ?17? وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ?18?) الروم 17/18 (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) الإسراء 44 (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) الرعد 15 (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) الحديد 1 (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) الجمعة 1 (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ?1? هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ?2? خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ?3? يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ?4?) التغابن 1- 4 إن هذه الآيات تفصح بجلاء ، عن علم الله الذي يحيط بكل الأشياء وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء ،وأنه عليم بما نعلمه نحن وما نسره على السواء ، وكيفلا وهو العليم بذات الصدور ، وبما نعمله بصير ، وهو الذي إليه المصير ، ليجازي كل إنسان بما عمل بلا ظلم ، فسبحانه العلي الكبير ، حتى إذا حان موعد النشور ، جمعها وأحيا ، وأعادها كما بدا ، حتى ولو كانت حجارة أو حديدا لأنه يعلم أين توزعت ، وكيف تحولت ، وأين استقرت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) سبأ 3 .
وإذا فإن المتفكر يوقن بأن ربه هو المدبر وهو الذي يحيي ويميت ويحفظ ويقيت ، وهو العليم بحالك ، والمسير لشانك في اليقظة والمبيت والمقدر ذلك بلا تفويت ، وعليه فهو الذي يدعى ويرجى ويطاع ويخشى ويحمد ويعبد ، ويشكر ويقصد ، بلا واسطه ولا شريك ، ولا ند ولا شفيع ولا ولد ، فهو الله الواحد الأحد ، ولا يشركه في حكمه من أحد ولا يتخذ في ملكه وليا ولا عضد ، وكما اتضح لنا علمه بما نخفي وما نعلن على السواء ، وتدبيره لكل ما نعمله ونسعى له ، فإن الله يوضح لنا علمه بما يجري عليها من تغير الأحوال ، وأنه المدبر لما يطرأ علينا ، من نوم ويقظة ، وطفولة وكهولة ، وشباب وشيخوخة وموت وحياة ، فيقول في سورة الزمر (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر 42 هكذا يدعونا للتفكر ، فيما يحدث علينا من تغير ، لنعلم أنه هو المدبر فإن المتفكر في هذا ، يوقن أن الله هو الرب ، الذي يحمي ويقي ويميت ويحيي ، ويحفظ الأنفس في النوم ، ثم يطلقها لأجل مسمى في حفظه وتدبيره ، حتى ينقضي أجلها المسمى ، في هذه الدنيا ثم يتوفاها بالموت الذي ينقلها للحياة الأخرى ، ثم يحفظ عظامها وأجزائها في كتاب علمه وتدبيره ، فلا يخفى عليه شيء من الجزيئات ، ولا يفوته شيء من أصغر الذرات ، وعلى هذا الأساس وبناء على هذه المقدمة التي أوضحتها الآية الكريمة في سورة الزمر ، تأتي الآيات التالية لتسأل الناس فتقول (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) الزمر 43 إنه سؤال تقدير ، ولكنه يطوى الاستنكار ، فلقد اتخذ الناس فعلا من دون الله شفعاء ، وظنوا أن هؤلاء الأرباب وهذه الأسباب تجديهم نفعا ، أو تملك للضر دفعا ، أو تعلم عن الناس ما يحتاجون فتجيب أو تدري بما يضمرون فتحكم ، كلا بل كل هذه الأسباب والأرباب لا تنفع ولا تضر ، ولا تحكم ولا تدري ولا تعلم ، ولهذا عقب السؤال بسؤال أهم ، لمن يفهم ، وهو قوله تعالى (قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) الزمر 43 أي كيف تتخذون من دون الله شفعاء ، يدعون أنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، فهل هم يعلمون ما لا يعلم ، وهو العليم بما تعلنون وبالسر واخفى أما هؤلاء الوسطاء والشفعاء ، المتخذون من دون الله فهم إما لا يعلمون شيئا إن كانوا يعقلون كالملائكة والأنبياء ، وسواهم في الناس كالطغاة الضالين، وإما لا يعقلون إن كانوا من الكواكب والنجوم ، أو الشمس والقمر ، أو سواهما مما عبده الناس بلا علم ولا هدى ، فكيف تتخذون من لا يعلم ولا يعقل شفيعا ، عند من يعلم ،وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ولا يفوته حال ولا شأن ، في كل حال وزمان ، وفي كل حين ومكان وفي ماضي الزمان ، وقادمها ، حتى بعث الناس وقيامها ، إذا فهو الذي يتخذ شفيعا ومرجعا ، وهو الذي يدفع به الضر ، ويجلب به النفع ولهذا فإن الله يفند قول وفعل المتخذين شفعاء سواه ، ويصوب لهم الطريق ، الذي فيه الحق والنجاة ، فيقول (قل لله الشفاعة جميعا) الزمر 44
نعم له كل الأسباب ، وله كل التدبير ، وإليه تتجه القلوب والحياة ولله يقصد العالمون التقاة ، لأنهم يعلمون بأنه العليم بكل حال ، كما قال (له ملك السماوات والأرض) فهو المدبر والحاكم ،
وهو المسير العالم وهو المقدر لكل شيء بشكل دائم ، ثم ماذا بعد أن الذي يعلم ويدبر هو الذي يحكم ، وللجزاء يقرر ، ولهذا قال (ثم إليه ترجعون) الزمر 44 نعم إليه وحده مرجع الجميع ، فمن أين يكون بينه وبين خلقه شفيع وكيف للشفيع أن يعلم ما لا يعلمه وأنى يستطيع ،، إن هذا الذي يتخذ الشفعاء واهم غلطان ، يتبع الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا ، ويخبط في ظلمات ظلماء ، خبط دابة عشواء ، ولهذا فإنه يتمسك بالهباء ، ويطمئن إلى الهراء والافتراء ، ويفزع من ربه الحق الذي خلق وسوى ، والذي قدر فهدى ، والذي يعلم السر واخفى وهذا من عجيب السلوك ، وأفضح العناد ، وهذا ما أنزله الله على هؤلاء الأغبياء فيقول (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) الزمر 45
فيا لغفلة المعتمد على غير ربه العلام ، والمستشفع بالظنون والأوهام إنه يطمئن إلى المخلوقات ، ويشمئز من الخلاق ، ويستبشر بالمظنونات ويقلق أمام ربه الحق ، إنه سلوك أحمق ، وهنا يتجه الخطاب إلى الرسول وإلى كل ذي عقل وفؤاد ، ليعلن لهم أن الحكم لله وحده بين العباد لأنه هو الخالق البديع ، وكل شيء إليه يعاد (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46 أتفهمون كيف التعبير (أنت تحكم بين عبادك) إنه حصر وقصر للحكم على الله وحده ، وله وحده الحكم بين عباده ، وكيفلا وهو عالم الغيب والشهادة ، وهو مناط كل شيء وعليه وحده اعتماده ، فالحكم له وحده ، وكل شفيع جاهل ، وغير عاقل ، لا يعلم من أمر العباد شيئا فكيف يتخذونهم شفعاء ، إنه الجهل والغباء ، والضلال الذي يردي إلى اللظى.
وهكذا نصل مع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الشفاعة الدنيوية ، وتؤكد أن الشفاعة والشفعاء ، لا ينفعون ولا يعلمون شيئا ولا يدفعون ضرا ، ولا يسمعون دعاء. إن كل سبب لا يؤثر ، إلا بإذن ربه المدبر المقدر ، وكل سبب لا يفيد بل الله وحده هو الولي المقصود ، والرب المعبود ، والرقيب المجيب لمن سأل ، والسميع الدعاء ، والمعطي كل مخلوق ما سأل ، والعليم بحاجته قبل أن يسأل
(يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) الرحمن 29 فكل شيء له حال ، يسأل به ربه فينال ، وكل حي له شأن ، يسأل به ربه ويستدعي عطائه ، والله ربه يلبيه به في كل حال وآن ،
حتى قبل أن يظهر عليه الاحتياج ، فالله ربه يعلم حاجته ، قبل أن يدعو لها فيأتيه بها ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإن على الناس أن يسألوه وحده فإنه المجيب القريب ، وأن يقصدوه وحده ، فهو الرب الذي يعلم ويحكم ويدبر (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) فإذا كان يرعى العشب في الوديان ، والتلال والسهول والجبال وإذا كان يرزق الأحياء ، في أعماق البحار ، ويصور النطف الإنسانية والحيوانية ، في ظلمات الأرحام ، ويلون الثمار والأزهار ويمنحها العطر في الأكمام ، فكيف لا يرعى ويحمي ويعطي ويهدي ويطعم ويسقي ويصور ، ويشفي هذا الإنسان ، وهو أكرم مخلوق وأسما حالا ولقد فضله الله على كثير من الخلق تفضيلا ، إنه ربه الحبيب القريب المجيب الحسيب ، وإليه يجب أن يتجه الإنسان ، وعليه يتوكل ، وله يجب أن يخضع ويطيع ، ولوجهة يعمل ، ليجد ربه معه في كل حال يهدي ، ويرفعه الأنعال ، ويفتح له البركات والرحمة ، ويسبغ عليه الخير والنعمة ، متاعا حسنا ، حتى ينتهي أجله الذي سماه ، ومن ثم يستقبله بالمغفرة والرضوان حين يلقاه، وهذا هو الفوز العظيم ، والفلاح الذي يرجوه كل ذوي قلب سليم ، لعله قد حان موعد الانتقال لفهم الشفاعة في الآخرة لكني قبل أن أنقلكم إلى الآخرة ، أسألكم ونحن لا نزال في الدنيا إذا كانت الدنيا هي دار الأسباب ، وهي دار الفتنة والابتلاء ، والناس فيها يرون الأسباب هي الفاعلة ظاهريا ، فلماذا الله سبحانه وتعالى استنكر في الآيات التي أوردناها من اتخذوا الأسباب شفعاء من دون الله ولماذا أكد أن الشفاعة لله جميعا ، وأكد أن اتخاذ ما لا يضر ولا ينفع شفعاء شرك بالله.
إن هذا هو الدليل على أن الشفاعة مستحيلة ، وغير واردة إطلاقا في الآخرة ، لأنها الدار التي تنقطع فيها الأسباب ويتضح فيها الحق الذي خفي على الناس وغاب ، ويتضح للناس أن ربهم الحق هو الله ، وأنه الولي لا سواه ، وأنه هو المدبر لكل شيء يراه ، وعلى أي حال فإن هذا مجرد مقدمة ، لتدخلوا إلى الآخرة وقبل الدخول ، لا بد لي أن أذكركم بآيات سورة الزمر ، التي تؤكد أن الشفاعة في الدنيا لله ، فلقد قال (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ?43? قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون ) الزمر 43/44
إن تقديم كلمة الله في قوله (قل لله الشفاعة جميعا) يعني أن الشفاعة محصورة على الله ، مقصورة عليه ، ثم إن قوله (له ملك السماوات والأرض) فبتقديم الجار والمجرور ، يعني كذلك أن له وحده علم السموات والأرض ، ومن يعلم فهو الذي يحكم وله الأمر في كل شأن وحال ، ثم إن قوله (ثم إليه ترجعون) بتقديم الجار والمجرور يعني أن الرجوع إليه وحده ، وهو الملك والمتصرف في يوم الدين
وأن الذي يبقي الناس كلهم عند قيامهم هو ربهم ، وإليه مآبهم ، وعليه حسابهم (إلى ربك يومئذ المساق) (إلى ربك يومئذ المستقر) القيامة 30+12 ثم إني أذكركم بقوله تعالى في آيات سابقة أوردناها (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) إن اشتراط الإذن في أثر الشفاعة والشفيع ، يعني أن كل سبب لا يفيد إلا بإذن الله ورضاه ، وكل سبب عاجز لولاه ، ولنضرب لكم مثلا فيما نلمسه ونراه ، فالشمس مثلا لا تضيء ، ولا تبعث الدفء والحرارة إلا بإذنه وإلا لم تقدر ولم تصل ، والماء لا يمكن أن يروي ويحيي الأرض إلا بإذنه ، وإلا لما أثر وروى ، والهواء لا يمكن أن ينعش الأحياء ويحرك الأشياء ، إلا بإذنه وإلا لما كانت هناك حياة وهكذا هكذا سائر الأشياء والأسباب ، ولهذا قال لرسوله محمد وهو من أولى العقل (وداعيا إلى الله بإذنه) الأحزاب 46 وقال (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) إبراهيم 1 وقال عن المسيح وهو يتحدث عن رسالته وآياته (وأبريء الأكمه والابرص وأحي الموتى باذن الله) آل عمران49 وإذا كان هذا هو شأن المسيح ، الرسول المؤيد بروح القدس ، فان من المهم أن نقول وهكذا سائر الأدوية والمداوين ، في حياة العالمين حتى الملائكة لا تؤثر إلى بإذن الله ، يقول الله عن جبريل
(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) البقرة 97 ويقول عن الملائكة أجمعين (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) مريم 64 فهم لا يتحركون ولا يعملون ولا يؤثرون ، إلا بإذن الله وأمره ، وهو يعلم عنهم كل شيء وحال.
إذا فكل سبب لا يعمل ولا يؤثر ولا يضر ولا ينفع إلا بإذن الله ، لأن الله العليم لمن أذن وبماذا أذن ، ولا يخفى عليه شيء من الأسباب والآثار ولا ما قبل الأثر ولا ما بعده ولا ما بين ذلك ، بل هو المدبر لكل ذلك ، باستمرار ولهذا قال (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) بعد قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)في آية الكرسي وقال في آية في سورة يونس (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) بعد قوله (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)وقال في آية في سورة الزمر (له ملك السماوات) بعد قوله (قل لله الشفاعة جميعا) وفي آية السجدة قال(ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) بعد قوله (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)إذا فهو العليم المدبر ، والمحيط علما بما تقدم وتأخر ، والمطلع على كل أثر ، وعلى كل سبب وشفيع ومؤثر ، حتى الملائكة لا أثر لهم إلا بما أذن وبما أمر ، وكيفلا والله يقول في سورة الحديد (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ?1? له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ?2? هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ?3? هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ?4? له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ?5? يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ) الحديد1-6 إن كل هذه الصفات ، وكل هذه البينات ، الدالة على علم الله بكل شيء وحي ، تقطع الريب في القلوب ، وتقطع الشك في النفوس ، فكيف كيف بعد هذا نظن لله شريكا في علمه يشفع ، أو نتوهم لله عضدا في حكمة ينفع أو تحسب لله ندا في قدرته يدفع.كلا بل هو الشافع والنافع والدافع ، وهو ذو العلم المحيط الواسع وكل شيء له فقير ، وبه مسير ، وكل شيء إليه محتاج مضطر وكل حي وعاقل من جن أو بشر ، لا يعلم شيئا إلى ما علمه الله ، وكل نبي أو رسول ، لا علم له من ربه الخبير ، إلا مهمة له إلى الإنذار والتبشير وكل ملك في السماء والأرض ، لا عمل له ولا أثر ، إلا ما أمر به ربه ولا قدرة له على شيء ، إلا ما مكنه فيه ربه ،
وهنا نصل بكم إلى الآيات التي تتحدث عن الملائكة ، وتوضح مهمتهم في هذه الدنيا ونبين مدى شفاعتهم ومتى فلنقرأ الآيات التي تتحدث عن شفاعتهم ولنبدأ من أول تلك الآيات الواردة في سورة الأنبياء (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ?26? لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ?27? يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ?28? ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ?29?) الأنبياء 26-29 تأملوا الآيات وتدبروها ، تجدوها تسلب عن الملائكة الفعل والقول ابتداء وارتجالا ، وتبته لهم اتباعا لله وامتثالا ، ثم إذا كلفهم أن يعملوا شيئا ، فإنه معهم (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) وعليه فإن ما يجرونه من قول وعمل ، فهو عن أمر الله الأجل ولا يمكن أن يشفعوا ولا ينفعوا ، ولا يمكن أن ينال أحد منهم نفعا ولا يستفيد عبد منهم دفعا ، إلا إذا كان الله ربه رضى بذلك ، وقضى به له ، وأمرهم بأن يعملوا له ما ارتضاه ربه له ، وهم يعملون ذلك العمل الذي ارتضاه الله لعبده ، وهم في حال من الوجل الدائم ، والإجلال لربهم العالم ، وهم من خشيته مشفقون ، ثم أن الملائكة عباد مكرمون ولا يمكن أن يفرطوا في كرامتهم ، فيدعوا أن أفعالهم من ذات أنفسهم وبدون علم ربهم ، كلا فإذا فعلوا ما لا يرضاه الله ، وزعموا أنهم شركاء في ملكه وحكمه ، وأنهم يحكمون في الخلق من دونه ، وهو لا يعلم فهذا ظلم جزائه جهنم ، لأن فاعله قد تجاوز الحد الذي حدده الله الأعلم الأعظم ، وسبقه في ما قضى وحكم ، وصار مع من أشرك بربه وظلم فما جزائه إلا جهنم ، وهذا هو حكم الله في كل من ظلم ولتأكيد هذا الحكم ، فإن الله قد ختم الآيات بقوله (كذلك نجزي الظالمين) وهذه الآيات هي تأكيد لما سبق ، والتي تنفي عن الله الشركاء وتقول في وضوح عن الموضوع (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ?22? لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ?23?) الأنبياء 22/23 وهكذا يتضح أن الملائكة في الدنيا لا يشفعون ولا ينفعون ، إلا بما ارتضاه الله من حكم ، ولا يناله أحد من العباد ، إلا من ارتضاه الله له وكل العباد خاضعون (وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ?19? يسبحون الليل والنهار لا يفترون ?20?) الأنبياء 19/20
وإذا كانت آيات الأنبياء قد أفصحت عن هذا الأمر بجلاء فإني أدعوكم إلى سواها لنتدبرها سواء لنبدأ من سورة البقرة ، فلقد وردت فيها أربعة آيات ذكرت فيها الشفاعة فآية الكرسي التي أوردناها سابقا، خاصة بالشفاعة في الدنيا والقران فيها دالة على ذلك فهو بقوله تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض) وبقوله (وسع كرسيه السماوات والأرض) إذا فالحديث عن الحال والأثر في الحياة الدنيا ، فلا يشفع فيها شيء ولا ينفع إلا بإذنه أما الثلاث الآيات الأخرى ، فهي عن الشفاعة في الأخرى ، وهي تبدأ بقوله تعالى لبني إسرائيل (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ?47? واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ?48?) البقرة 48 إن الله يحذرهم من الابتعاد ، عن تقوى يوم المعاد ، فإنه يوم لا ينفع فيه إلا العمل ، وليس للإنسان فيه إلا ما سعى ، وكيفلا وقد أكد هذا بقوله (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) لننطلق إلى سورة سبأ ، فإن الآيات فيها تتوالى واضحة البيان ، بأن الله هو المدبر للعالمين ، وتفند دعوى من أدعى أن لله بنات وبنين ، فلنقرأ الآيات متدبرين (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) سبأ 22 يا من يزعم أن لله شفعاء ، ويا من يدعي أنه له شركاء في حكمه في الدنيا في الأرض أو في السماء ، ها هو الله يأتيك بالنبأ ألا تتدبر هذا البيان ، ألا تصغي إلى هذا البرهان ، إن الله يتحداك أن تدعوا هذا الشفيع المزعوم ، الذي تركن إليه من دون الله ، إنك إن فعلت ، فقد اعتمدت على الهباء ، وخبطت في ظلمة ظلماء وجهالة عمياء ، وكيفلا وكل من تزعمهم شفعاء (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض أي لا يعلمون مثقال ذرة في هذا الخلق الواسع الكبير ، وهذا السكون الرائع البديع ، فكيف يستطيعون أن يفعلوا شيئا مما تزعمون
هل شاركوا الله في خلق السموات والأرض شيئا ، كلا بل هم محكومون (وما لهم فيهما من شرك) هل استعان الله بهم في الخلق واتخذهم عضدا ، كلا بل هم عاجزون محتاجون ، فقراء لمن الله
(وما له منهم من ظهير) وإذا فأنى يشفعون ، وهم لا يعلمون شيئا ولم يخلقوا شيئا من الأشياء ، بل ولا اتخذهم الله أعوانا فيما يشاء كلا إن هذا لافتراء ، وما هي إلا أوهام وظنون ، لا تغني عن الحق شيئا ولهذا فإن الله يتبع هذا البيان ، بنفي الشفعاء في كل حال وأثر ، وفي كل أمر وشان فيقول(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) سبأ 23 ماذا تعني هذه الآية ، إنها تعني بوضوح وجلاء أن كل سبب متوقف في خشوع ، مستشرف للتكليف بقلب مفزوع متوجه إلى ربه في حال وجل وهطوع وذل وخضوع فهو لا يعلم شيئا ، مما سيقضي به الله ويأمر ولا يدري ما يقدره الله ويدبر ، بل هو في فزع وتحفز ، لأمر الله منتظر هذا هو حال كل الأسباب ، سواء العقلاء أولوا الألباب ، أو الجمادات من الأسباب ، الكل في فزع وارتقاب ، لأمر الله الواحد القهار الغلاب فلا حركة ولا سكون ، في انتظار أمر الله ، الذي يقول للشيء كن فيكون ثم ماذا (حتى إذا فزع عن قلوبهم) أي كشف الفزع عن قلوبهم وانتهى زمن الارتقاب ، وجاء الأمر الصواب ، وسمعوا من ربهم الخطاب هنا يعلمون أنه قد أذن بما يشاء ، وأطلق الإذن للعمل ، فإذا بهم يسأل بعضهم بعضا ، قالوا (ماذا قال ربكم) وهو مجرد تصور للاستماع والامتثال ، والإصغاء لذي الجلال ، لكن الكل يدرك أن ما أمر به الله وقال ، هو الحق بلا جدال ، ولهذا جاء الجواب من الجميع بلسان واحد (قالوا الحق) هكذا هو حال كل سبب ، وهو حال عجيب ، فنطلق السبب أو الشفيع نافعا ، ويصبح ما قضى الله به واقعا ، فهو ينطلق ولا يبقى أمامه مانعا ، وكيفلا والله القدير قد قضى به وأمر ، وإذن به وقدر فلابد أن ينفذ في لمح البصر ، فليطع الأمر بلا تأخير ، فالله له الأمر والتدبير ، وقوله الحق وله وحده التقدير ، وهذا ما يعبر عنه السؤال (قالوا ماذا قال ربكم) إنه سؤال الطاعة والامتثال ، ولهذا يقول الجميع في الحال ، بعد أن سمعوا أمر ذي الجلال (قالوا الحق وهو العلي الكبير) وإذن فالتنفيذ والمباشرة لما قال الله ، هو العمل الحق لا سواه ، وكل سبب يمضي إلى ما كلف به ، بحرص وانتباه ، فالله من خلفه ومن بين يديه ، يعلم بما يعمل ، وهو العلي الذي يقهر كل عبد ، ويدبر ما يفعل وهو الكبير الذي يحيط علما ، بكل شيء ولا يجهل ، فكل سبب بأمره يعمل ، في خضوع ، ولما يقوله يسمع ويطيع ، فلا شفيع ينصح عنده وفي ملكه ، إلا وهو عبد ربه يعمل في خضوع ،
فلنكن على يقين أن الشفاعة لا تنفع عنده ، وفي ملكه إلا بإذنه وعلمه ، لأن التدبير تدبيره والتقدير تقديره ، وأنه يعلم لمن إذن ، وبماذا إذن ، ويعلم كيف تنفذ الأمر ، ومتى وإلى متى ، وأين المبتدئ وأين المنتهى ، فهو محيط بكل ذرة علما ، وبكل حركة لها ، وهو المقدر دورها ، والميسر أمرها وهو المسير لها ، في دربها ، والمحدد مستقرها وأنت أيها الإنسان ألا تعي أنك كذلك ، وأن أمرك بيد ربك إن كنت لا تعي ، فها هي الآيات ، توضح لك الأمر بجلاء ، فيقول الله بعد تلك الآيات ، موجها إليك الخطاب ، على لسان رسوله ، ومرددا إليك السؤال بطريقة جميله ، فاستمع وأجب بنفس مسئوله (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) أسمعت السؤال ، فلماذا أنت ساكت بلا جواب ، هل أنت على ارتياب إن كنت كذلك ، فهذا أمر لا يليق بأولى الألباب ، ولكن مع هذا فإن الله يتولى بنفسه الجواب ، ويلقن رسوله الصواب ، فيقول (قل الله) نعم إنه الله الرازق لا سواه ، فهو الذي يبسط الرزق ، ويفتح أبوابه من السموات والأرض للملأ ، وإلا فمن ذا الذي يأتيك بالضياء والهواء والماء والغذاء ، ومن يمنحك الحركة والسكون ، في الليل والنهار ويمكنك من السعي باقتدار ، هل تقول إن هناك سوى الله شفيعا يوقضك كل يوم ، أو يرسل إليك النوم ، هل تدعي أن الهواء يأتيك
من منفاخ صنعته أنت أو سواك ، هل تزعم أن الماء يأتيك من نبع ابدعته أنت بقواك ، هل تحسب أن قوتك وخبرتك هي التي تأتيك بالرزق والمال والأمان ، وإن حيلتك هي التي جلبت إليك الجاه والسلطان ، كلا بل كل ذلك مقدر لك ، من ربك ذي الجلال ، وهو بها يبتليك ، يرى هل تهتدي إليه ، أم تبقى عنه في ضلال ، ولهذا ختم الآية موجها الخطاب للإنسان ، في كل أحواله على لسان رسوله ، فقال (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سبأ 24 فماذا تبقى أيها الإنسان ، المخاطب بهذا المقال ، وماذا تريد أيها الإنسان الموجه إليك السؤال ، إنك مخير وحر الخيار ، هل توقن أن الله هو الشافع والنافع ، والرازق والخالق ، والمدبر والمسير ، والعليم بكل جهر وسر ، والرب لكل شيء ، فتكون من المهتدين ، وعلى هدى من الله رب العالمين ، أم تدعي سواه شفعاء ، ومعه شركاء ، وله أندادا في الحكم والتدبير ، والنفع والضر والتقدير ، فتكون في ضلال مبين ، لا شك أن أولى الألباب يختارون الفريق الأول بلا تردد ولا ارتياب .
ثم أن هذا المقام لله رب العالمين ، مقام العالم المحيط بكل شي يتجلى بوضوح ، ويتوالى بأسلوب فصيح ، من أول سورة سبأ إلى آخرها فكلها تفصح عن علمه والتدبير ، وحكمته في التقدير (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) سبأ 1 فالحمد لله وحده ، وكل الحمد له في الأولى والآخرة ، وكيفلا وهو الذي له تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وهو يدبر ذلك بحكمه وخبرته وبعلمه وقدرته ، ولهذا ختم الآية بقوله وهو الحكيم الخبير ، ولتأكيد هذا بصورة أوضح يقول (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) سبأ 2 فعلمه مستمر بكل حركة وسكون ، وكل صعود وهبوط وكل خفاء وظهور ، وكل نمو وضمور ، وكلما لا نعلمه ولا نحصيه وهو مع ذلك الرحيم الغفور ، فرحمته وسعت كل شيء ، وهو الذي يفتحها متى يشاء ، ويمكنها لمن يشاء ، وهو الذي يغفر لمن يشاء فالأمر له وحده ، والعطاء والخلق له وحده ، والإنشاء له وإليه المرجع والمأوى ، وله الأولى والأخرى ، وهو المحمود فيهما بلا مراء ولهذا فإن الممارين في الساعة جهلاء ، ولا يقدرون الله حق قدره بل يجعلون له شركاء ، ويتخذون من دونه شفعاء ، وهذا هو الغفلة والغباء ، لأن الله يعلم كل غائب ومشهود على السواء (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) لماذا هذا القسم وهذا التأكيد ، وما هو الدليل على الساعة الأكيد إن الله يحسب بلا إمهال ، وبها وضح المقال (عالم الغيب) كيف هذا العلم وما مداه ؟؟ اسمع الجواب (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) سبأ 30 هل بعد هذا يظن ظان ، أن له شفعاء أو تنفع الشفاعة عند الله أو يدعي أحد ، أن للأسباب أثرا في ملك الله واستقلالا عن أمر الله أو فعلا دون إذن الله ، كلا كلا .. بل هو العزيز الجبار ، والواحد القهار وله الخلق والأمر وحده ، وله التدبير والتقدير لا سواه ، ولا يشركه في حكمه أحد ، ولا ينفع سواه ، ولا يشفع أبدا ، حتى الملائكة ، ولهذا قال من عبدوا الملائكة متوهمين ، أن لهم النفع أو الدفع ، أو الشفاعة فيما يضر أو ينفع ، يجدون من الله التنكير ، ومن الملائكة الاستنكار ، في آخر السورة فيقول (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ?40? قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ?41?) سبأ 40/41 أسمعتم.. حتى الملائكة لا يشفعون ولا ينفعون ، فإذا هم في الدنيا قد عبدوا ضلالا ، فإنهم في الأخرى يسبحون الله ، وينكرون على المستشفعين هذا الضلال ، ويؤكدون أن الله وحده وليهم ، وأنهم عبيد له فمن استشفع بهم وعبد ، فإنما اتبع هواه ، واتبع الشيطان فأغواه وأضله عن ربه ومولاه ، فلا ينفعه شيء هنا ، لا الملائكة ولا الجن الغواه فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا ولا ضرا ، ونقول للذين ظلموا (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) سبأ 42 أرأيتم كيف أن الحكم لله وحده ، وأن الشفاعة في الدنيا والأخرى له وحده حتى الملائكة الكرام ، عباد لا يعملون إلا بما حكم ولا يعلمون شيئا مما يقضي ويحكم ، حتى إذا جاءهم الإذن انطلقوا للمهمات ، وهو بهم جميعا وبما يعملون يعلم ، فسبحانه الله عما يشركون ، وتعالى علوا كبيرا عما يصفون ، والحمد لله رب العالمين.
وبعد فإن من عبدوا الملائكة قد أبطل دعواهم في سورة سبأ التي نغادرها الآن إلى سورة أخرى ، فما هي السورة التي سنسير إليها إنها سورة لا تخفى ، فإنها فضيه كالنجم الثاقب ، وتدعونا لتلاوة آيات التنديد فيها ، بكل مشرك كاذب ، ولنتدبر آيات الكشف والتشفيع ، لكل مدع للشفاعة بلا علم ولا دليل ولا بيان ، ولكن بالوهم والظنون ، التي يتبعها الجاهلون ، فلنمض إلى سورة على نور الله ، ولنقرأ ما يقوله الله. إن السورة تخبرنا أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ، لا ينطق عن الهوى ، قد أوحي إليه القرآن فهو ينطق بما أوحي إليه ، ولا يتعداه ومستحيل أن يقول أن ما يملي عليه هواه ، كلا وكيف يمكن ذلك (إن هو إلا وحي يوحى ?4? علمه شديد القوى ?5? ذو مرة فاستوى ?6? وهو بالأفق الأعلى ?7? ثم دنا فتدلى ?8? فكان قاب قوسين أو أدنى ?9?) النجم 4-9
هذا هو حال جبريل عليه السلام ، فهو عبد من عباد الله ينزل بأمره وبإذنه لما يشاء ربه من المهام ، فيؤديها باهتمام ، والله يعلم ما يقوله وما يفعل ، والله عن كل شيء لا يغفل ، فماذا عمل جبريل في هذا التدلي والدنو الأدنى ، لقد أدى مهمته محدده من ربه الأعلى ، وذلك في قوله تعالى (فأوحى إلى عبده ما أوحى) النجم 10 لقد أتى جبريل ليوحي إلى محمد من ربه ، بما شاء الله به أن يوحي تلك هي المهمة لا سوى ، إذن فالاثنان جبريل الرسول الملائكي ومحمد الرسول البشري ، كلاهما عبد من عباد الله ، لا يعملان إلا بإذنه ولا يعلمان شيئا من علمه إلا بما شاء ، فإذا قضى بشيء ، فلا راد لما قضى ، وإذا أوحى بأمر ، أو علم لمن يشاء ، فلقد أصبح حقا بلا مراء ولهذا قال الله مؤكدا بعد ذلك (ما كذب الفؤاد ما رأى ?11? أفتمارونه على ما يرى ?12?) النجم 11/12 لقد أصبح ما أوحى الله به وأرشد ، وما نزل به جبريل إلى محمد لقد أصبح هذا في فؤاد محمد صدقا فمن ذا يماريه ، على علم لا يرتاب فيه ، كلا بل هو الحق من ربه تلقاه بيقين ولم يكن ذلك حلما أو وهما ، من أضعاف الواهمين ، بل لقد تكرر اللقاء والاتقاء ، وتأكد الوحي واليقين ، مرة أخرى ،ليعلم محمد أن الذي يتلقاه هو الحق ، الذي لا يمارى (ولقد رآه نزلة أخرى ?13? عند سدرة المنتهى ?14? عندها جنة المأوى ?15? إذ يغشى السدرة ما يغشى ?16? ما زاغ البصر وما طغى ?17? لقد رأى من آيات ربه الكبرى ?18?)النجم 13-18 إذن فالوحي حق ويقين ، وهو النور والهدى ، ولقد أكده الله بالقسم في المبتدأ (والنجم إذا هوى ?1? ما ضل صاحبكم وما غوى ?2? وما ينطق عن الهوى ?3? إن هو إلا وحي يوحى ?4?) النجم 1-4 وهكذا أصبح الرسول محمدا موقنا بما أوحي إليه من ربه وأصبح جبريل الرسول والشفيع ، الذي إذن الله له أن ينزل بوحيه إلى رسوله محمد ، وكلاهما مؤتمن على ما أوحي ، وكلاهما محكوم معلوم الخطوات والعمل ، ومراقب ومرصود البلاغ بلا خلل ، وكلاهما على يقين بأن ما يحمله من علم هو من علم ربه الأجل ، فهو به موقن وهو به شديد القوى ، لا يزل ولا يتزلزل ، وكيفلا وعلمه محيط به في كل حال ، وأينما تحول ، وأينما كان ، وكل مداركه وأحاسيسه محروسة عن الزيغان ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فلا يضل ولا يغوى (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) النجم 18 ما هي الآيات ، ماذا رأى ماذا علم منها ، لا ندري والمهم أنه رأى ما يزيده اطمئنانا في القلب ، ورسوخا في العلم ، فهو بما رأى واثق الخطى ، وهو موقن بما علم ، أولم يؤكد الله هذا بالقسم مرة أخرى فقال (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) النجم 18
وإذن فهو عبد صادق ، واثق موقن ، وهو عبد مسلم موحد ، لا يشرك بالله شيئا ، وهو عبد مخلص مؤمن ، لا يجعل لله وسيطا ولا شفيعا بل يتجه إليه خاشعا مطيعا ، ويعبده موقنا أنه الواحد القهار ، الذي يدبر كل شيء باقتدار ، وله يسأل كل من في السموات والأرض ، وهو يجيبهم بما يحتاجون ، في كل حال ، بل يؤتيهم من كل ما يسألون قبل السؤال ، وكيفلا وهو علام الغيوب وذو الجلال ، وهكذا فإن عبده الصادق ، هو من دعاه ، وهو بالإجابة واثق ، لأنه يعلم أن الله هو الخالق ، ومن خلق فهو المعطي والرازق ، وإليه كل خير ينسب ويعزى ، فمن دعاه فقد علم ووعى ،
من أشرك به فقد جهل وغوى ولهذا يوجه الله السؤال ، إلى من دعى سواه من الجهلاء ، فقال سائلا باستهزاء (أفرأيتم اللات والعزى ?19? ومناة الثالثة الأخرى ?20? ألكم الذكر وله الأنثى?21? تلك إذا قسمة ضيزى?22?) النجم 19-22 هؤلاء هم الذين اعتمدوا على الأحجار ، وجهلوا قدر الواحد القهار واستشفعوا بالملائكة ، وسموهم بنات الله ، وغفلوا أن كل شيء عبد لله فهم لا يعلمون شيئا ، ويقسمون الوهم وقسمة ضيزى ، فتبا لهم ونقما لقد اعتمدوا على الهباء ، واتبعوا الهوى وظنوا الوهم حقا ، والدعوى علما ، فبئس ما فعلوا وسحقا (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) النجم 23 هل بعد هذا الضلال من ضلال ، الهدى يأتيهم من ربهم العليم بكل شيء والبصير بكل شيء وحي ، والخبير بما نبدي ونخفي ، وما مضى وما يأتي ، الهدى يأتيهم من ربهم هذا العليم العظيم ، وهم يعرضون عنه إلى وهم آبائهم الجاهلين ، وإلى ظنون أهواءهم الغافلين ، فلا علم لديهم ولا سلطان ، وهذا هو سبيل الشيطان ، الذي بينهم ويعدهم بالسلام والأمان ، وما يعدهم إلا بالخسران (أم للإنسان ما تمنى) النجم 24 هل يناله بمجرد التمني؟ مستحيل لكن المنى تنال ، من العليم الحكيم الملك القدوس ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، وإليه مصير كل حي فليطلب المنى ، من لديه لا سوى (فلله الآخرة والأولى) النجم 25 وإذا كان هذا حاله ، فإن الفلاح للإنسان في الدنيا والآخرة في عبادته وإذا كان أناس يبحثون جهلا عن الدنيا ، فلتكن الوجهة إليه وإذا كان أناس يتنافسون على الأخرى ، وهو التنافس الحق فإن السبيل إليها هو هدى الله ، وإن الفوز بها ، هو بالاتجاه إلى الله لا سواه فلا نبي ينفع ، ولا ملك يشفع ، ولا مقرب يدفع ، ولا شيء سوى الله ولهؤلاء الذي يرجون سوى الله ، ويظنونهم يقربونهم إلى الله زلفى ويستشفعون بالملائكة ليكونوا لهم عند الله وسطاء ، أو يظنونهم يدفعون عنهم الضراء ، في الدنيا ويجلبون السراء ، إلى هؤلاء يقول الله جل وعلا (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم 26 إن الآية تؤكد ما أكدته سورة سبأ ، في أن الملائكة عباد الله ، لا يعلمون ما يريد الله ، ولكنهم يعملون ما يإذن به الله ، ولمن يشاء ويرضى فإن حركتهم إلى شيء يريده الله ، لا تكون إلا من بعد أن يإذن ولا يمكن بل يستحيل أن تكون الحركة ابتداء من لديهم ، وبدون إذن ربهم ، كلا وكيف وهو (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) طه 110 وهم (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) النحل 50 إذا فشفاعتهم لمن يظنها ويتوهمها ، لا تغني بل لا تتحقق أبدا إلا إذا تم إذن لهم من ربهم ، وبذلك ارتضى ، فما بال هؤلاء الجهلاء يدعونهم ويرجونهم ، وقع البلاء في الدين ، إن هذا هو الغباء والوهم والظنون العمياء ، وخيالات المنى (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) النجم 27 فهم يبحثون عن أسباب للسراء ، في الدنيا فيسلطون الملائكة ويسمونهم تسمية الأنثى ، عساهم يرقون لهم ويستجيبون لأطماعهم ، في تسهيل متاع الدنيا وهذا هو الإخلاد إلى الأرض ، واتباع الهوى ، وهو الحب الأعمى للدنيا ، مع التعلق بأسباب لا تغني شيئا ، وهذا هو الجهل الذي يظن غير شيء شيئا ، وأن غير الله يمكن أن يجدي نفعا ، وأن بإمكانه أن يفعل ما لا يرضاه (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) النجم 28 وإذا فليترك هؤلاء الأوهام والظنون ، فسوف يعلمون غدا أنهم الخاسرون ، وأن علمهم باطل ، أو ردهم إلى ما لا يشتهون (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا?29? ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى?30?) النجم 30 وهكذا فإن الاستشفاع بالملائكة جهل ، أو أوهم إليه حبهم للدين ووهمهم بالضلال أبدا ، فهم لا يهتدون ولا علم لهم بالهوى ، بل مرادهم هو الدنيا ، لا سوى وهذا هو الضلال وإذا فإن المهتدي الحق ، هو الذي يتجه إلى الله بلا شفيع ، ويدعوه هو بلا وسيط ، فهو القريب المجيب ، وهو الغفور لمن تاب
(إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) النجم 32 إليه الاتجاه وعليه الاعتماد ، فهو العليم بمن اهتدى ، وبمن اتقى (ولله ما في السماوات وما في الأرض) ولديه الجزاء، فلنعلم أنه يعلم السر واخفى ، ولنعمل الصالحات ولنوقن أبدا ، إنه لا يظلم الناس شيئا (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى?40? ثم يجزاه الجزاء الأوفى ?41? وأن إلى ربك المنتهى ?42? وأنه هو أضحك وأبكى ?43? وأنه هو أمات وأحيا ?44? وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ?45? من نطفة إذا تمنى ?46? وأن عليه النشأة الأخرى ?47?) النجم 39-47 أفبعد هذه الصفات والأسماء الحسنى ، لربنا الأعلى ، يمكن أن يدور بخاطر انسان ، شفيع يشفع ، أو ملك مقرب يقرب إليه زلفى ، وللشر يدفع ، كلا كلا.. فيا أيها الإنسان اعتمد على ربك ، واتخذه وليا ، وأيقن بآلائه وقدرته ، التي تكون في كل شيء ولا تخفى ، وتدل على أنه هو المدبر والمقدر ، والمسير لكلما في الأرض ، وفي السموات والعلى وما يظهر وما يخفى (فبأي آلاء ربك تتمارى) النجم 55 وبأي حديث سوى حديث الله يأتيك الهدى ، فالله وحده هو أصدق حديثا ، وأصدق قيلا (أفمن هذا الحديث تعجبون ?59? وتضحكون ولا تبكون ?60? وأنتم سامدون ?61?) النجم 59-61 إن هذا العجب منكم ، هو الذي يجب أن يتعجب منه المتعجبون ، وإن هذا الضحك منكم والارتياب ، هو الذي يدعو للضحك عليكم بل والبكاء عليكم ، فما بالكم لا تبكون على أنفسكم لأنكم عددتم الخلق بربكم ، وتركتم من يخلق ، أو ركنتم إلى من لا يخلق فمن السمود فاستيقظوا ، وللشفعاء ارفضوا ، وإذا رفضتم وقررتم أن تهتدوا (فاسجدوا لله واعبدوا) النجم 62 وله احمدوا ، ووحدوا لتأمنوا ، في الدنيا والأخرى وتسعدوا.
القسم الثاني
الشفاعة في الأخرى - الجزء الأول
لقد عرفنا مما عرضنا ، أن المراد بالشفاعة هي الأسباب ، وأن الشفيع هو السبب ،
فلا شفيع ينفع ولا يضر ، إلا بإذن الله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)
وعليه فإن ما أوردناه من الآيات السابقة المحتوية على كلمة شفاعة أو شفيع أو يشفع ، أو كلمة مصرفه من مادة الشفاعة ،
إن ما أوردناه إنما هو متعلق بالشفاعة في الدنيا وكل الآيات تؤكد أن الأسباب المتخذة كشفعاء في الدنيا ، لا ينفعون ولا يدفعون ، وإنما هم عبيد مسيرون بالله أبدا ،
وإذا كان هناك شفيع يشفع أو سبب يسبب ، فإنما هو بإذن الله الذي هو المدبر والرب ، وهو العليم بكل خلقه والله الأقرب ، فكيف يكون سواه مؤثرا ، وهو المدبر ،
وكيف يكون غيره نافعا ، وهو المسير والمقدر ، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فمن اتخذ سواه شفيعا إليه ، فقد جعل لله شريكا في علمه ،
بل لقد جعل الله يجهل ما يجري في خلقة ، لا يعلم ما يدور في السماء والأرض وما بينهما ، وهذا افتراء على الله ، وشرك لا يرضاه
(قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18
هذه هي خلاصة ما عرضناه في القسم السابق من الآيات المتعلقة بالشفاعة في الدنيا.
وها نحن ذا ، ننتقل بكم إلى الشفاعة في الأخرى ، وهو القضية التي سقنها هذا البحث لها ، ومن أجلها ، فلقد ضل فيها الناس ، ولقد جعلوا القضية هي الأساس ،
فالشفاعة عندهم هي القائمة في الأخرى ، وهي التي تنقذ الخاطئين من اللظى ، وهي تحمي المسلمين من السعير ، ولو عملوا السيئات والخطاء الكبير ،
وهذا وهم لا بد أن نتنبه إليه ، حتى لا يركن الناس عليه ، ويتساهلوا في الأمر الذي هم مقدمون عليه ، إنه يوم عسير ، على الكافرين غير يسير ، بل هو يوم موصوف بأنه
(يوم لا ينفع مال ولا بنون?88? إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء 88/89
(يوم يفر المرء من أخيه ?34? وأمه وأبيه ?35? وصاحبته وبنيه ?36? لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ?37?) عبس 34-37
من خلال هذه الآيات فلنعد سريعا إلى آيات سورة الشعراء ، لنستكمل بقية الحكاية في هذا اليوم العجيب ، يقول الله بعد ذلك
(وأزلفت الجنة للمتقين ?90? وبرزت الجحيم للغاوين ?91? وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون ?92? من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون?93?) الشعراء 90-93
قف هنا....... من هم هؤلاء الذي يسأل عنهم الغاوون أنهم كانوا يعبدونهم ، إنهم الشفعاء ، الذين اتخذوهم إلى الله وسطاء ، وظنوا أنهم ينصرونهم ، في الدنيا والأخرى ،
ها هم اليوم لا يجدونهم كما توهموا فلا هم ينصرون أنفسهم ، ولا هم ينصرون الغاوين ، الذين عبدوهم واتخذوهم شفعاء إلى ربهم العليم ، رب العالمين ،
ظنا منهم أنه غير عليم بما يعملون ، فكانوا بذلك الظن من الخاسرين ، ثم تعالوا نواصل الآيات لنرى ما سيحدث
(فكبكبوا فيها هم والغاوون ?94? وجنود إبليس أجمعون) الشعراء 94/95
هاهم مع المعبودين في الجحيم ، الغاوون والذين غووا بهم ، إنهم وجنود ابليس الذين سولوا لهم وهمهم ، كل هؤلاء في الحميم ، مكبكبون متراكمون بعضهم على بعض ،
وهكذا في جهنم أولئك هم الخاسرون ، ومع الخسران ها هم يتقاولون
(قالوا وهم فيها يختصمون ?96? تالله إن كنا لفي ضلال مبين ?97? إذ نسويكم برب العالمين ?98? وما أضلنا إلا المجرمون) الشعراء 96-99
هكذا يتذكر الغاوي ، إنما المغوي قد أوهمه ، أنه يشفع وينفع ويمنع ويدفع ، وأنه ينصر ويضر ، فإن توهمه قد تبخر ، وأصبح الندم هو المظهر في الحشر.
لقد ظن الضال القوي ، أن الغاوي هو القوي ، وأنه له قدرة الله رب العالمين ، فإذا به يراه الآن في أول الخاسرين ، وفي مقدمة العاجزين إن الضلال المبين ، يتضح له الآن وقد أصبح في اللظى ، والتذكر يفيض اليوم في ذهنه ، وأنى له الذكرى ، إنه يتلفت ليبحث عن الشفعاء الذين فيهم توهم ، فلا يجدهم بل لا يجد إلا الحسرة والندم
(فما لنا من شافعين ?100? ولا صديق حميم ?101?) الشعراء 100/101
ولما لم يعد يلجأ إلى الأحلام والامتنان ، قالوا لنا كرة نكون من المؤمنين ،إنه حلم محال ، وأمنية مستحيلة ، ولكن هذه الأمنية
التي يرجوا فيها الرجوع إلى الدنيا كرة ثانية ، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ، بأن الشفاعة في ذلك مستحيلة ، كما أن الرجوع إلى الدنيا كرة أخرى مستحيل ،
فهو يفر من المستحيل إلى المستحيل ، وذلك هو الضلال الوبيل ، وذلك هو الوهم الغفول ، في أن الشفيع سيكون أمامه عند الوصول ، وأنه له بالنجاة من النار الكفيل ،
وهذا اعتداء على الله الجليل ، وافتراء على رب العالمين ، ولكي تستزيد يقينا أن الشفاعة
مستحيلة يوم الدين ، نغادر هذه الآيات في سورة الشعراء ، إلى سورة البقرة ، لنبدأ الحكاية من أول الكتاب ، ونواصل استقصاء الآيات على التوالي في السور التي تلي سورة البقرة ،
حتى نصل إلى السورة الأخيرة ، والآية الأخيرة التي تحتوي على كلمة شفاعة وشفعاء في الآخرة ، يقول الله في سورة البقرة في ظن بني إسرائيل ،
وهم الذين يظنون أن لهم من الأكرام ، ما يخرجهم من النار ، بعد عدة أيام
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ?47?
واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ?48?) البقرة 47/48
ولقد تكررت الآيتان ، في نهاية الحوار مع بني إسرائيل ، مع تعديل بسيط في الثانية ، وهو قوله تعالى
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين?122?
واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) البقرة 122/123
وبما أن الآيتين تذكير لهم ، بفضل الله ونعمته فإنه تحذير لهم ، من عذابه ونقمته وتوضيح لهم ، أن اليوم عسير ،
وأن الأسباب المتوفرة في الدنيا لا تتوفر هناك ، فلا سبب إلا العمل ، وسواه لا يقبل
فلا المال يقبل ، ولا يدفع ، ولا ملك ولا ولي ولا نصير ، يستطيع أن ينصر سواه ، أو يدفع شفاعته ، أو يمنحه شيئا ، فالكل إلى الله فقير
والكل لا يملك سواه من فطير ، وعنت الوجوه للحي القيوم ، وقد خاب من عمل ظلالا (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16
إذا فليكن لك معلوما ، يا أخي القارئ بعد تلاوة الآيتين ، أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، هكذا قرر علماء البيان واللغة بشكل محسوم
ولقد وردت كلمة نفس في الآيتين ، نكره في سياق النفي ، ومعنى هذا أن كل نفس مهما كانت مقربه من الله ، أو كان لها مقام محمود لديه فإنها لا تجزي ولا تملك لنفس سواها شيئا ،
فالحكم في ذلك اليوم لله وحده ، ولقد تأكد هذا المعنى في آية أخرى من سورة الإنفطار
(وما أدراك ما يوم الدين ?17? ثم ما أدراك ما يوم الدين) الإنفطار 17/18
إنهما آيتان ، تريد أن ترسخ في الأذهان ، حقيقة هذا اليوم فتصدرها الاستفهام ، بشكل متكرر ليصل إلى الأذهان ، بأسلوب لا ينسى ولا ينكر ، ثم يأتي الجواب ، الذي يثبت المعنى ويقرر
(يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) الإنفطار 19
هل بعد هذا البيان الواضح ، والتأكيد الأقوى المبين ، يبحث الواهمون عن شفعاء في يوم الدين ، كلا فالأمر والحكم والملك في ذلك اليوم لله رب العالمين لا سوى ،
ومن شاء أن يستشفع إليه بسواه ، فقد جعل له شريكا في ملكه ، وجعل له نقصا في علمه ، وألصق إليه ظلما في حكمه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فهو العليم بكل شيء ،
وهو الحاكم الحق وهو أحكم الحاكمين، وبيده الملك وهو على كل شيء قدير ، فكيف تتوسط إليه ، بالذين لا يملكون شيئا ولا يقدرون ،
وكيف تستشفع إليه بمن لا يعلمون ، حتى ولو كانوا ملائكة أو أنبياء أو مرسلين
(يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109
(إنك أنت) هذا الضمير يسمى ضمير فصل ، وهو يفيد الحصر والقصر فهو العليم وحده ، وهو علام الغيوب لا سواه ، وهذا هو الحق
فهم كانوا أمواتا ، ولا يدرون من أعمال الناس بعد موتهم شيئا
فهم شهداء ، ما داموا أحياء ، فإذا ماتوا غاب عنهم العلم ، وبقي الله
هو الشهيد ، ولهذا يقول عيسى يوم القيامة لربه
(وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) المائدة 117
وهنا يتكرر الحصر والقصر ، بضمير الفصل (كنت أنت الرقيب عليهم) فهو الله الرقيب ، وهو على كل شيء شهيد، العلم له وحده وكل الناس خاشعون عنده ،
وكلهم عبيد يأتون ، فأنى يجد من يشفع له وهو أمام ربه ، الذي يعلم السر واخفى (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)
فهل يستطيع أحد ، أن ينصرف ليبحث عن شفيع ، وهو أمام الله الرفيع الدرجات ، إنها الأوهام ، التي تردي الناس في الندم والحسرات
(قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46
وإذا كان لنا أن ننتقل إلى آية أخرى ، تتحدث عن الشفاعة في الأخرى فلن نغادر سورة البقرة ، حتى نجد فيها الآية المحكمة المبصرة
التي تردع كل الأوهام والظنون المندحرة إن الله سبحانه ينادي المؤمنين فيها ، بالصفة التي أحبوها ، وكأنه يذكرهم بها ، ليستمروا على ما تعنيه ، وليستقيموا عليه ،
فالإيمان يعني اليقين ، بأن الله هو القهار ، الذي لا شريك له في الدنيا ، ولا في يوم الدين ، فلنصغ إلى الآية ، فإن فيها النبأ اليقين
(ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) البقرة 254
إن النداء يعقبه الأمر بالإنفاق ، ثم التحذير من يوم لا ينفع فيه ثراء
ولا مال ولا صديق ، ولا خلال ولا شفيع ، ولا شفاعة فيتوصل بها للآمال ،
كلا فالكل مقطوع ممنوع ، منفي بحرف لا ، الدال على نفي الجنس ، فلا وجود هناك لبيع ، يمكن أن يتوسل به لشراء ، ما تفقده من الحاجات ،
ولا خلة يمكن أن تحميك من الخطر ، أو تتستر عليك في بعض الخطيئات ، أو تشهد لك بما تريده في الخصومات
كلا ولا شفاعة تتوسل بها ، وتجعلها سببا للنجاة ، مما يحيط بك من الأخطاء والمهديات ،
لا شيء من هذه الثلاث الخصال ، موجود بل منفي نفي جحود ، ونفي تأكيد وتأبيد ، فهل بعد هذا البيان ، تتوهم في شفاعة توجد هناك ، أو شفيع يفيد ،
هل بعد هذا اليقين ، يلوح لك ظن في خلاف ذلك يا مجنون. إن الأماني والارتياب ، لا تسد عنك الباب ولا تصد العذاب ، فكن على يقين من قول الله ، فهو أصدق قيلا
وأقلع عن أوهام الشفاعة والشفيع ، تكن معقولا ، وإنما إذا لم تقلع ولم تقنع ، فستكون رجلا ضالا ، وستغطي على الحقيقة بالأوهام والكذب ، وثم تجد نفسك أمام ظل كاذب ،
لا ظليل ولا يغني من اللهب فاستيقظ من الآن ، قبل أن يوقظك الخسران ، وأعمل لغدك بإخلاص قبل أن تقع في اللظى ، ولاحت حيث مناص
إن الآية تنفي الشفاعة ، ولقد جاءت الكلمة منكرة ، لتؤكد أن النكرة في سياق النفي ، تفيد العموم ، وتفيد نفي الجنس ،
إنها آية محكمة البيان وساطعة البرهان ، تنبه الإنسان ، من الغفلة وتخرجه من الأوهام
وتشد عزيمته للعمل ، الذي به الله يرضى ، فإن له الآخرة والأولى
ولقد قال ، وقوله الحق بلا مراء (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى ?40? ثم يجزاه الجزاء الأوفى ?41? وأن إلى ربك المنتهى)النجم 39-42
وقال (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) النساء 40
إليه المنتهى وحده ، ثم لا يظلم مثقال ذرة ، فابحث بعد هذا عن شفيع يعلم ما لا يعلم الله عنك ، أو عن عملك ، أو ابحث عن مستقر تنتهي إليه دون ربك ، أو ابحث عن معط هو أكرم من الله ، ويضاعف أكثر منه في عطائك ، كلا كلا كل ذلك محال ، فاقتنع بأن إليه المآل ، وأن أوهام الشفاعة أماني ، وضلال وظنون وخيال ، بل خيال خيال.
لنودع سورة البقرة ، بآياتها المحكمة المبصرة ، ولننطلق على جناح الإمعان ، إلى سورة الأنعام ، فنجد الآيات أمامنا بالمرصاد ، لكل أولى الأوهام ،
ها هي الآية الأولى تحوي الخطاب ، من رب العالمين إلى عبده محمد ، الرسول الأمين ، يأمره بأن ينذر بالقرآن ، من يخاف الحشر من المؤمنين
(وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) الأنعام 51
لعل هذه الآية تقطع الشك باليقين ، وتخرس المرتابين ، لأن هناك من يقول لنا نعم ، ليس هناك شفاعة للكافرين الظالمين ، وهناك شفاعة للمؤمنين المتقين ،
لكن الآية توجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله سلم بأن يوجه الإنذار ، إلى الفتيه المؤمنة ، وهم الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم
وهذه هي صفة العلماء أولى الألباب ، الذين يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وهم الذين يقبلون الإنذار ، ويسمعون القرآن ، ويتدبرون البيان ،
أما الكافرون (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)
إذا فهؤلاء الناس الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم الله ، يخبرهم بلسان رسوله وينبئهم بلسان نبيه ، الذي نستند إليه الشفاعة ، ونحمله بلا بينه ،
ينبههم الله بلسان هذا الرسول ، ولهم يقول (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) أي من دون ربهم ، الذين يخافون الحشر إليه ،
ليس لهم من دونه ولي ينصر ، ولا يشفع ولا يدفع ولا ينفع بل هو الله الولي الذي ينصر ، وهو الشفيع النافع الضار ، وإليه المستقر
لماذا ينبههم بهذا الخبر اليقين ، ولما يخبرهم بهذا الحق المبين إن الجواب هو (لعلهم يتقون)
فليكن تقواهم هو المقرب لهم إلى ربهم ، وهو الشفيع لهم عند ربهم ، وهو السلم لقربهم إلى ربهم ، وهو الواقي لهم من عذاب جهنم ، ومن غضب ربهم ،
فلا شفيع يصونهم ويبعد عنهم العذاب ، ولا شفاعة توصد عنهم من النار الأبواب
بل التقوى هو الباب ، لعطاء الوهاب ، والتقوى هي المعراج ، إلى الفوز بالجنة المعدة للمتقين ، وبرضوان من الله رب العالمين ، وذلك هو الفوز العظيم.
فهل اتضح لكم الآن ، أن الشفاعة حتى للمؤمنين غير ممكنه ، بل أن التقوى والعمل الصالح هي مفتاح الجنة ، فاعتمدوا على العمل ، ودعوا الأوهام والكسل ، وتخلوا عن الأماني والأمل
فيما لا يرضاه الله ، ولا به يقبل ، فإن القياس عنده هو العمل ، وهو السلم ، إلى الفوز بكل أمل.
ثم تعالوا إلى آية أخرى ، تخرس الأوهام تزفها إلينا سورة الأنعام ، وهي آية فيها يتوجه الخطاب المبين فيها مرة أخرى ، إلى رسول الله الأمين ، فيقول له الله رب العالمين
(وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا)
أي ذر هؤلاء ولا تخاطبهم ، فهم لا يسمعون ولا يعون ، لأن الدنيا غرتهم وأعمتهم وأصمتهم ، فالإنذار وعدمه سواء عليهم ، ذر هؤلاء وتوجه بالقرآن ، وأنذر به وذكر سواهم
(وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها)
هكذا هو الأمر إذا ، وهكذا هو الواقع لا ولي ولا شفيع إلى الله ، بل ولا ينفع عنده مال ولا يجدي ، وإن تعدل بكل عدل لا يقبل ، ولا يؤخذ ، ولا لصاحبه يفدى ،
فليحذر كل متذكر لأولى الألباب ، ويعمل عملا يقبل عند الله ، وينجيه من سوء الحساب ويدفع عن صاحبه العذاب ،
إن الغافل هو الذي كان ممن اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وركنوا على الشفعاء
(أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) الأنعام 70
أسمعتم ، أقرأتم الختام في الآية (بما كانوا يكفرون) لقد سمى من ركن إلى الدنيا ، وغرتهم زينتها ، ومن اتخذوا الدين لعبا ولهوا ، قد سماهم كافرين ،
وهم حقا كافرون ، لأنهم نسوا الله رب العالمين ، واعتمدوا على الأوهام والظنون ، وحسبوا أن المال يدفع وينفع في الدنيا ويوم الدين ، وأن الوساطات تقبل ، عند أحكم الحاكمين ،
كلا كلا هو الولي القريب ، والشفيع المجيب ، والنافع الرقيب ، والدافع الحسيب ، فله وحده يجب أن نستجيب ،
وإليه وحده فليتوجه كل قلب منيب ، وإلى لقائه فليستبق بالعمل الصالح ، كل عبد صالح ، يحب لقاء ربه الحبيب ولهذا جاءت الآيات التالية ، تؤكد هذا التوجه الحق
(قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا
قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ?71? وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ?72?) الأنعام 71/72
إن أول الآيتين يدعم آخرهما ، فالله هو النافع والضار ، ولا يدعى سواه ثم هو وحده ، الذي إليه يحشر الناس ،
فإن وجود الضمير (هو ) وتقديم الجار والمجرور (إليه ) يؤكد بأن الحشر إليه وحده ويحصره عليه ، وليس هذا فقط ،
بل أن الآية التالية (73) تدعم هذا الحصر ، وتعمقه في أسلوب جميل قوي ، وتعممه على كل شيء
(وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق) فهو الخالق لكل شيء ، وهو الآمر وحده ، بالبعث لكل حي ،
فإن الخلق بالحق ، والبعث بالحق وللحق ، وقوله وحده هو الحق ، ثم نواصل القراءة ، لنجد الحصر والقصر يترصدنا في كل منعطف ، فاستمع وانظر؟
(وله الملك يوم ينفخ في الصور) نعم له وحده الملك والتدبير والعلم والتقدير ، والحكم والتقرير ، يوم ينفخ في الصور ، ويبعث ما في القبور ، ويجمع الناس في مقام واحد منظور ،
وكلهم لحسابه وكتابه يسير ، في هذا اليوم لله وحده العلم ، وله وحده الحكم ،
وكيفلا وهو وحده الذي يتفرد بصفات الجلال والكمال ، ولهذا قال موضحا ومبينا للإجمال (عالم الغيب والشهادة)
فإذا كان هو عالم الغيب ، وهو عالم الشهادة ، فمن ذا يستطيع في مقامه ، أن يعترض على أحكامه
أو يشفع أمامه ، كلا كلا هذا محال ، فمن ذا الذي أعلم وأرحم ، من الله ذي الجلال ، ولهذا ختم الآية بقوله (وهو الحكيم الخبير) الأنعام 73
ربي هو وحده الحكيم الذي يقول الحق ، وهو الخبير بأعمال الخلق وبالظاهر والخفي بلا فرق ، فله الحكم وحده ، وقوله الحق ،
وهكذا كما بدأنا نعود في الخلق ، بدأنا بالحق ونعود الآن إلى اليوم الحق
وحكمه فيه هو الحق ، فأين الشفعاء أيها الغافل عن الآيات ، وهل هناك غير الله يحكم في الدارين ،
وهل هناك أرباب سواه ، تشترك في حكمه كلا فهو الله الحاكم الحق (ولا يشرك في حكمه أحدا)
وعلى هذا الأساس وبهذا اليقين ، كان موقف إبراهيم عليه السلام
أمام أبيه وقومه الغافلين ، فإذا به يعلن بعد التأمل والتفكير ، فيما يراه وبعد التفحص في الأرباب الآفلة ، يعلن
(إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) الأنعام 79
ولولا خوف الإطالة ، لسردنا آيات تأمل إبراهيم ، لكنها في الحقيقة تتجه في نفس الاتجاه العام للسورة ، بل وللقرآن ، وهي نفي الشفعاء والوسطاء ، بين العبد وربه الرحمن ،
وتؤكد أن الاتجاه إلى الله بلا واسطة هو الأمان ، وهو الهدى الذي يرفع الإنسان ، إلى حباب الرحمن (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام82
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) 83
لن أحاول أن أستقرأ الآيات بالتفصيل ، فذلك قد يتهمني بأني أطيل ولكني أقفز بكم عشر آيات من الآيتين 82/83 التي اتهنا هنا عندها إلى الآيتين 93/94 وما تلاها
ها هم الظالمون المشركون بالله رب العالمين ، في مشهد مهين ،، فماذا يحدث ، لتشاهدوا هذا الموقف
(ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملآئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) الأنعام 93
إن هؤلاء الآن قد ماتوا وانقلبوا إلى ربهم ، وهم على غفلتهم وافترائهم فيا سوء المتقلب ، ويا خيبة الأرب.
ها هو الواقع أمامهم في يوم اللقاء ، وها هم الملائكة وكل الملأ الأعلى بل هو الله ذو العلا ، يقول لهؤلاء قولا يدفع كل ادعاء ،ويدفع كل افتراء
(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) الأنعام 94
لقد عاد الجميع إلى ربهم الحق ، وعرفوا إنه هو المدبر للخلق ، وأن كل سبب سواه ، وكل شفيع مدعي ، لا يغني عن الله شيئا ،
وأن الله هو رب الأولى والأخرى ، وله الملك في الأولى والأخرى ، وهو علام الغيوب لا يعزب عنه شيء ، ولا يغيب ،
وكل ما يتمتع به الإنسان من مال ومتاع هو مسخر من الله ، وبأمره وهو المطاع.
إن كل ما خوله الله لهؤلاء المشركين ، من مال ومتاع ، قد تركوه ورائهم ، وورثه سواهم ، بأمر الله
وكل ما ظنوه يشفع ويقرب إلى الله قد غاب ، وكل ما توهموه مشاركا لله في التدبير ، ليس إلا وهما وثنيا
فالشفعاء الذي جعلهم المشركون شركاء لرب العالمين ، هؤلاء الشفعاء الموهومون ، أصبحوا غائبين بلا أثر
بل غير موجودين ، أصلا فما هي إلا ظنون ، وأوهام خبلاء ، فليتجه إليه الإنسان ، وإليه يرغب فأقرأ معي الآيات (من 95 إلى الآية 103) تجدوا أن الموضوع خطير
وأن الشفاعة عند الله عمل نكير ، إنها تبدأ بقوله
(إن الله فالق الحب والنوى) ثم يوضح هذا فيقول (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون)
وكما أنه يغلق الحب الصغير في التراب ، فهو يغلق الشيء الواضح في الآفاق ، فهو (فالق الإصباح)
وهكذا تتوالى الآيات ، من الأعلى إلى الأسفل ، ومن السماء إلى الثرى ومن الكبرى إلى الصغرى ، حتى يقول
(وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون) 100
وهؤلاء هم الشفعاء المدعاة ، في الأولى والآخرة ، فليكن الإنسان على علم ، بأن الله هو الذي إليه يرغب ، وأنه هو الذي ينشئ الإنسان وينضح الحب ،
لكن الله يرد عليهم ، ويصوب وهمهم ، فيقول
(بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) 101
لاحظوا (بكل شيء عليم) إذا فماذا ينفع الشفيع في خلق الله ، وهو العليم بكل شيء ، ثم يؤكد هذا أكثر فيقول
(ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) 102
إذا فهو المعبود والمقصود ، وهو العليم بكل حي وموجود ، وهو الوكيل وإليه الرجوع ، وإليه المصير
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) 103
لعلي أكتب هذا الكلام ، لمن يقرأ ويفهم القرآن ، ولهذا فلن أضطر إلى شرح الآيات ، لأن فصاحة القرآن ، تفصح عن المراد ، وبلاغته تبلغ الأفهام ،
وإذا فلا لا بد لي أن أودع سورة الأنعام ، المباركة لأنتقل إلى سورة الأعراف ، لنعرف ما فيها من الآيات ، التي تحتوي على كلمة الشفاعة ، وما يشتق منها ،
لكني لن أغادر الأنعام ، حتى أعرج على آية فيها قبل الختام ، يقول الله فيها لرسوله محمد ، ويلقنه هذا الكلام
(قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) الأنعام 164
هذا كلام يلجم كل الأوهام ، فالنبي يعلن أمام العالم ، ويقول بأمر ربه العلام ، أن ربه هو الله ، وهو الذي لا يبغى سواه ، لأنه رب كل شيء فكيف يطلب سواه ربا ،
إنه لو ابتغى غيره غوي ،، ثم إنه يعلن ذلك باطمئنان ، لأنه يعلم أن ربه يعلم كل ظاهر وخفي
فلا يضيع أجر من عمل وأخلص ، ولا يفوته عقاب من خان وتملص
(ولا تكسب كل نفس إلا عليها) ثم أنه لا يمكن أن يختلط إلى وعلى ربه الذي هو رب كل شيء ،
ولا يتصور أن ينال أحد عنده ، من أجر أحد أو يحمل عند أحد ، وزر أحد (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
فالله يحصي كل شيء عددا ، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ، وعنده كتاب ينطق بالحق (ثم إلى ربكم مرجعكم)
إنه حصر وقصر ، أن رجوع الناس كلهم إلى ربهم وحده ، هكذا يعلن الرسول ، فكيف يدعي بعد ذلك أنه سيشفع أو ينفع ،
إنها دعوى ألصقت به ، وهو منها بريء ، فهو لا يتدخل في حكم ربه ، ولا يشترك معه في حكمه ، بل هو رسول ،
وهو مع الناس منتظر لحكم ربه الجليل ، وسيسأل مع كل عبد ، ومع كل مسئول ، يوم يسأل الذين أرسل إليهم ، ويسأل المرسلون ،
ولهذا فإن الآية تختم بقول (ثم إلى ربكم مرجعكم) لماذا الرجوع يكون إلى ربنا لا سواه ، لأنه العليم بما أبداه العبد وأخفاه ، ولهذا فهو قال
(فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) فالله ربنا هو الذي ينبئ ويخبر كل عبد وكل نبي ، بأعمال العباد ، والظاهر والخفي ، وهو له الحكم ، وهو الذي له الملك ،
وسيلقى كل عبد جزائه المحتوم ، فلا مظلوم ولا مهضوم (إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) وكما أنه سريع العقاب ، فهو سريع الحساب ، وهو بكل شيء عليم.
وهكذا ينتهي غرضنا من سورة الأنعام.
فهيا معا إلى الأعراف ، لنعرف ماذا تعنيه الشفاعة في آياتها ، لن نجد الكلمة إلا في آية واحده ... فلنقرأ
(ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) الأعراف 52
إن الكتاب هو القرآن ، وفيه تفصل كل شيء ، وكيفلا وهو مفصل علما من الله العليم ، وهذا العلم مهمته أن يهدي الناس ، إلى الطريق الحق والصراط المستقيم ،
وبذلك ينالون الرحمة من الرحيم ، وهذا فضل لا يناله إلا القوم الذين يؤمنون ، فليبادروا إليه ، وليفرحوا بفضل الله ورحمته ،
فهو خير من كل ما يجمعه الإنسان لشهوته ، فما ينتظر الإنسان بعد هذا العطاء العظيم ، وهذا العلم السليم ، والهدى إلى صراط مستقيم ،
ماذا ينتظر بعد كتاب الله ، الذي يهدي إلى الحق وينذرنا باليوم الحق ، ويدعونا إلى الله الحق ، ماذا ينتظر الخلق
سؤال هام ، ولكن الجواب عليه يأتي من العلام ، في الآية التالية
(هل ينظرون إلا تأويله) 53 لا ينظر الناس إلا تحقق ما وعد به الكتاب
من الثواب والعقاب ، ومن الوقوف للحساب ، ومن افتراق الناس
إلى أشقياء وسعداء ، وذلك يوم كلنا إليه على اقتراب ، فلنستمع
(يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) 53
هذه الكلمة التي وردت في الآية ، إنما هي تعبير عن الحسرة ، إنه سؤال عن الشفعاء ، واستفهام هل يمكن أن يشفعوا ،
لكن الجواب هو الصمت والعدم ، هو الخسرة والندم ، هو الفراغ الأصم الأبكم ، فأين الشفعاء ، الذين ظنوهم في الأرض لله شركاء ،
لا أحد هنا يجيب ، بل لا يرى ، وهنا يلتفت الغافلون ، الناسون للكتاب المبين ، فلا يجدون شيئا ، ولا أحدا من الشفعاء الموهومين ،
ولما لا يلوح لهم أمل في الموقف المهين ، يلجئون إلى الأمنيات المستحيلة ، التي لا تتحقق أبدا هذه الأمنيات هي قولهم (أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل)
إن هذه الأمنية التي تطلب الرجوع إلى الدنيا ، للعمل تؤكد لنا ، أن الفلاح في يوم الدين ، لا يتم إلا بالعمل في الدنيا ، وأن الفوز والنجاة
لا تمهد إلا بالتقوى في الدنيا ، فلا ينفع شفيع يوم الحساب ، بل لا يظهر له أثر ولا جواب ، وكيف يستطيع أحد مهما نال من المكانة أن يشارك الله في حكمه ،
لقد أعطى الله العباد الفرصة في الدنيا وعمرهم عمرا يتذكرون فيه ويقدمون لأنفسهم ، ولقد جائهم بكتاب فصله على علم هدى ورحمة لهم ، ليؤمنوا بأنهم ملاقوا ربهم
فلماذا نسوه واتبعوا أمانيهم ، إنها الأماني التي خدعوا بها أنفسهم في الدنيا بالشفاعة والشافع ، وها هم لا يجدون أحدا نافع أو دافع
ولهذا فإنهم يلجئون إلى الأماني من جديد ، ويتمنون أن كل واحد منهم إلى الدنيا مردود ، ليعمل عملا ينفعه في هذا الموقف المشهود
لكن الأماني تتبخر وتذهب سدا ، وتصبح كل افتراءاتهم هباء منبثا وأفئدتهم وهواء ، ولهذا فإن الله يختم الآية بإعلان ، يقطع الأمل
ويسكت من ضل ، ويخرس من تقول (قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)
وهكذا يكون ختام الآية 53 من الأعراف بإعلان واضح بالخسران ، وإخبار لكل افتراء بالضلال ،
فلا يظن الناس أن الافتراء على الله ، يجدي بل يردي ، ولا يظنوا أن الأماني تنجي بل تخسي ،
ولا يستمروا في الأوهام والترهات ، بل عليهم الانتباه إلى العمل قبل الفوات ، وإلى اغتنام الفرصة قبل الممات ،
فمن مات فقد وصل إلى ما وعد به الله من العاد ، فإما أن يشقى ، أو ينال الإسعاد فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ،
فالكل عائد إلى ربه ، وسيرى ما يسيء أو يسر ، فماذا تريد أيها الإنسان من الحالين ، إن أردت إلا السيئات ، فابقى عليها ، فإنك إلى ربك آت ، وإن ابتغيت المسرات
فإن ربك عالم بكل الخفيات ، فاعمل لتجد عنده الحسنات مضاعفات لأنه الرب الذي خلق كل شيء ، ولا يخفى عليه شيء ولا حي
وهو المدبر والمسير ، لكل عالم علوي وسفلي ، وكل عاقل وغافل
وكل نجم وصخر ، وكل كوكب وحجر ، وكل ملك وجن وبشر
وهو بهم أعلم وأخبر ، وإليه المرجع لكل من تقدم أو تأخر ، وكل إنسان يعرف ما قدم وما أخر ، وقد فاز من قال ربي الله ،واستقام واستمر
فلنكن إليه متجهين ، وعليه متوكلين ومعتمدين ، ولا نجعل من الشفعاء له شركاء ، فإن فعلنا كنا مشركين ،
ولنستمع إلى قوله المبين (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)
ما هو الاستواء ، إن البيان هو قوله (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره)
هكذا إذا هو المدبر والمسخر والمسير لكل ضوء وظلام ، وكل حركة وسكون ، وكل جسم أينما يكون
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) الأعراف 54
إنها كلمات موجزة معجزة ، تؤكد أن الله رب كل شيء ، ولقد أحاط الله بكل شيء علما وتدبيرا وله وسع ، ولا يشترك مع أحد ولا يشفع
فهو الذي خلق ويخلق ، وهو الذي له الأمر وأمره الحق ، وهو في خلقه وأمره لا يعجز ولا يسبق ، وهو المبارك المعطاء ، والمبارك المنعم (تبارك الله رب العالمين)
إنه رب كل ما تحرك وسكن ، وبدى واختفى وسفل وعلا ، وكل سابق ولاحق ، وماض وآت وحاضر ،
وهو القريب لكل صامت وناطق ، ولكل ما هو خالق ، فليدعه المخلوق ليجد الجواب وينصلح عمله ، ليجد الرحمة مفتوحة الأبواب ، قريبة للمحسنين ولأولى الألباب
(ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ?55? ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين ?56?) الأعراف 55/56
ولكي يؤكد لنا أن تدبيره يشمل السماء والأرض ، والنجوم والإنسان يواصل الآيات التي تدل على قربه وتدبيره ، لكل شأن وكل ما يهم الإنسان والحيوان ،
فيقول (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) الأعراف 57
تأمل معي الآية... الإرسال منه ، وهو المرسل ، سوق السحاب عليه ، إنزال الماء هو الذي يتولاه ، إخراج الثمرات هو الذي يقدره
ويفلق الحب والنوى ، ويكسو الثمرات باللون والطعم واليناع والشذى ثم هو كما يفعل هذا أمامنا ، كل يوم وحين ، هو الذي يخرج الموتى يوم الدين ،
فمالنا لا نكون من المتذكرين ، إن المتذكرين هم الطيبون في الدنيا ، أما الغافلون فهم كالصخور ، التي لا تثمر ، ولقد ضرب الله للفريقين المثل ،
فقال (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه)
وهؤلاء هم المتذكرون ، أولوا الألباب ثم ماذا (والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) وهؤلاء هم الغافلون الأغبياء
(كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون) الأعراف 58
فلنكن من الشاكرين لا المشركين ، ومن المتذكرين لا المنكرين
ومن الطيبين لا الخبيثين ، ومن المنبئين لا المنبئين ، ومن المثمرين في كل حين رغدا ، لا من الذين لا يخرجون إلا نكدا.
وبعد فلنغادر سورة الأعراف ، إلى سورة أخرى ، لنبحث عن الشفاعة لا تلوموني على التطويل ،
فقد أردت أن أوضح للغاوي ماذا تعني كلمة الشفاعة ومشتقاتها في القرآن ، وأن أبينها بالتفصيل ، وأستقصي مواقعها مع التحليل ،
وعليه فأنا أنقلكم الآن نقلة واسعة ، إلى النصف الثاني من القرآن ، فلن نجد الكلمة مرة أخرى إلا هناك ، بل لن نلقى الكلمة إلا عند الحديث عن يوم الحشر ، فإلى هناك
يقول الله تعالى (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ?85? ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ?86? لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) مريم 85-87
هاهم المتقون يحشرون إلى الرحمن وفدا ، فهل من ينال مثل هذا التكريم ويحشر إلى هذا المقام ، يحتاج إلى شفيع ، أو وسيط لدى ربه العلام
كلا فهم إلى الرحمن ، قد حشروا ، وهم في رعايته وولايته ، قد حضروا فهو وليهم ، وهم في جناته التي أعدت للمتقين (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) مريم 63
فلا يحتاج المؤمن التقي ، إلى شفيع به يتوصل ، وبشفاعته يرتقي إلى الرحمن ، فلا شريك للرحمن في حكمه ، ولا وسيط لديه في ملكه
(يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16
والملك هنا المراد به العلم ، فهو الذي يعلم حال كل عبد ، ولا يخفى عليه من عمله شيء ، وهو يجزي كلا بما عمل وكسب (لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17
وعلى ضوء هذا الملك والعلم ، ننتقل إلى الفريق الثاني المقابل للمتقين وهم المجرمون ،
فانظروا كيف حالهم ، فالله يقول (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) مريم 86
إنهم يساقون كالأنعام ، فأنهم كانوا أضل منها وفي ظلام ، وهم يردون جهنم كالأغنام ،
لأنهم كانوا يردون الشهوات باهتمام ، ويرتئون عن الهدى على الدوام ، فليس لهم سبيل ولا وسيلة للنجاة من جهنم ،
وليس لهم سبب ولا حيلة لصرف العذاب عنهم ، ولهذا قال الله عقب ذلك (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) مريم 87
فماذا يعني هذا؟.. إنه التأكيد على يأسهم من النجاح ، وفقرهم من أي سبب للفلاح ،
وكيفلا وهم نقضوا العهود مع الرحمن ، واتبعوا الشيطان إذا فلا يجد له أحد سببا للنجاح ، ولا يفوز أحد بالفلاح ، إلا من اتخذ لنفسه في الدنيا عهدا عند الرحمن ،
وهو الوفاء بما عاهد عليه الله من الإيمان ، والعمل بما آمن بصدق وإحسان.
هذا الفريق هو الذي كان عنده علم بأسباب النجاة في الدنيا ، فعمل بها ثم جاء بها مشفوعا إلى ربه ، أي أن الوفاء بالعهد للرحمن رفيقه في دربه ،
أما المجرمون لا يملكون الشفاعة ، وهي الأسباب ولا يعلمونها فهم في عمى واضطراب ، وهم في ضلال وتباب ، ذلك أنهم لم يكونوا يعيرون أسباب النجاة ، في حياتهم الدنيا أي اهتمام ،
بل كانوا يصرفونها ويولون عنهم مدبرين نفارا ، ويستهزئون بها استكبارا ،
فمن أين لهم اليوم أن يملكوا الشفاعة والأسباب في الأخرى ، وقد أهملوها وقطعوها في الدنيا ، ولم يحفظوا لله هدى ، ولم يتخذوا عنده عهدا ،
فهم اليوم في درك الإهمال والنسيان عمدا ، وهم يساقون إلى جهنم وردا
وما يغني عن أحد مال ، ولا وهم الشفيع ، وذلك جزاء من تعدى وادعى على الرحمن ما لم يأت به سلطان ، وافترى على ربه الكذب والبهتان (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) مريم 88
وهذا هو الشفيع المدعى ، وهذا هو الوسيط المفترى (لقد جئتم شيئا إدا) مريم 89
هكذا هو وصف ما ادعوه وافتروه ، أما أثره فهو قوله تعالى بعد ذلك
(تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ?90? أن دعوا للرحمن ولدا ?91?) مريم 90/91
أرأيتم ما هو الأثر ، إن معنى الشفيع والوسيط لدى الرحمن انفراط نظام الخلق ، وفساد الإتقان ،
فإن تصدع السماء وانشقاق الأرض وانهدام الجبال ، إنما هو كناية عن أن الدعوى ، والقول بأن الله اتخذ ولدا يلزم منها ،
أن الله عجز عن مسك السموات والأرض عن الزوال وغفل عن تدبير النظام والكمال ، فأصبح الانفلات والانهدام هو المآل وهذا صحيح ،
فلو ركن الله إلى شفيع في العلم ، أو اعتمد على ولي للملك ، أو كان له شريك في الحكم ، لكانت الفوضى هي المصير المحتم
أما الحق الثابت الذي يجب أن يعلم ، فهو أن الله خالق كل شيء ، وهوالواحد القهار ، ولا يشركه في حكمه أحد ، ولهذا أضاف
(وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ?92? إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?93? إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?94? وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ?95?) مريم 92-95
إن هناك حقيقة غفل عنها من دعى الشفاعة ، هي أن كل واحد سيأتي الله فردا ،
وإذا كان العبد سيأتي ربه يوم القيامة فردا ، فمن أين له شافع وأنى له نافع ، إنه في المحال طامع ، فليس أمامه من شفيع للنجاة ولا نافع للنجاح ، إلا العمل المنطلق من إيمان بالله ، وصلاح
هذا هو وحده طريق الفوز والفلاح ، وسواه وهم وضلال قراح ، كما أن افتراء شفعاء مع الله كفر وشرك بواح ، فاعملوا صالحا تجدوا الفلاح
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) مريم 96
إنه وعد مؤكد ، فلتكن بينك وبينه موده وأنس ، خير لك من الاستيحاش والتزلف بشياطين الجن والإنس.
ولتوف بعهدك مع الله ، تجد لديه يوم القيامة النجاه ، ولتتخذ إليه سبيلا ليكن لقائك مسرورا جذولا ،
ولتكفر بالشركاء والشفعاء ، لتنال لديه الدرجات (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) طه 76
وما دمنا قد استشهدنا بهذه الآية من سورة طه ، فلنواصل السير على نور الآية ، للبحث عن كلمة الشفاعة في السورة ، سنجدها كذلك في الحديث عن الآخرة.
فإلى هناك ، لنرى ماذا تعني هذه الكلمة في اليوم ذاك ، يقول الله
(يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) طه 108
فالجو معين ، والجموع في خشوع رهيب ، والرحمن هو المتولي للأمر والحكم لا سواه ، والكل ينتظر ما حكم به الرحمن وقضاه ،
وكيفلا وهو يقضي بالحق ، وهو العليم بأعلم الخلق ، فمن عمل صالحا فاز ، ومن أفسد أخفق (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) طه 109
كيف تفسرون هذه الآية ، تظنون أن الإذن يصدر من الله لأحد من خلقة المقربين ليشفع في المذنبين ، أو ان الإذن يصدر لغير صاحب العمل من الحاضرين ..
كلا بل المراد أن كل الأسباب هناك لا تنفع ولا تجدي وأن من توهم سببا من أسباب الدنيا المالية والأخوية أو العشائرية تنفع فقد ظل وغوى.
لا ينفع هناك إلا سبب واحد ، وشافع واحد ، هو العمل الذي رضيه الله وارتضاه لصاحبة في الدنيا ، لأنه عمل بما أمر الله ، فرضى الله عنه وأرضاه ،
ولأنه عمل بإيمان وصلاح وإحسان ، وقال ربي الله ثم استقام فرضى الله له هذا القول الصادق في الدنيا ، وهيأ له أسباب الفوز في الأخرى ،
وأتاح له أن يكون عمله مشفوعا به يراه فيرضى ، وأنه للحق الذي نعلمه من القرآن
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى) النجم 39/40
ولماذا نذهب بعيدا فلنواصل السير مع آيات سورة طه ، بعد أن قرر الله أن الشفاعة لا تنفع ولا تهدي أحدا ،
لكن من أذن له الرحمن في الهدى ورضى له قوله في الدنيا ، فإنه الفائز في الأخرى ، بعد هذا يؤكد هذا القرار ، ويوضح أسباب الفوز للأبرار ،
فيقول (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) طه 110
إن الآية جواب عن سؤال ، هو كيف يا رب لا يفوز إلا من أذنت له وإلا من رضيت له قولا ،
وأنى يتميز هذا في المقام المستنير ، فجاء الجواب بأن علم الله محيط بكل خفي وظاهر ،
وبكل متقدم ومتأخر فكل الخلق عنده بارز وظاهر (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)
هذا هو شأن الله ، أما شأنهم فهم لا يحيطون به علما ولا يستطيعون وكيف وهو رب العالمين ، وكلهم إليه مضطرون مسائلون ،
وهو المجيب المعطي ما يسألون ، لا يشغله أحد عن أحد ، ولا شأن عن شأن ولا ماذا كان عما يكون ،
فكل العالمين يديه ، وهو الذي له الحكم فيما يعملون ، والذي يفهم بما لا يعلمون ، وبما نسوه من عمل مهما يكون وعليه فهل يمكن أن يشاركه في علمه أحد ،
وهل يمكن أن يشاركه في حكمه أحد ، كلا بل ولا يعزب عزا به أحد ، فالناس أمام ربهم في خشوع ، وقوله لا يرد (وعنت الوجوه للحي القيوم) طه 111
فلا نبي ولا ملك ولا شهيد ، ولا صديق ولا بار ، ليتطاول في موقف الواحد القهار ، ولا يعلم أحد سواه ما عمله الأبرار ، وما اقترفه الأشرار
وهو الذي أعلم بما فعلوه وعليه القرار ، فالكل لا يعلمون حتى ولا كانوا مقربين ، أما الظالمون فهم كما يقول الله في ختام الآية
(وقد خاب من حمل ظلما) طه 111
كل من حمل وجاء به فقد خاب في الفلاح ، ودحر إلى جهنم ليكن هناك فريق آخر يتولى الله أمره بعدل وكرم (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) طه 112
هكذا هو شأنه ، إذا فما فائدة الشفيع والشفاعة لدى الله العليم بكل شأن والذي لا يظلم أحدا
(إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها)
فمن هو من الله أعظم ، ومن هو أكرم ، ومن هو أعلم ، ومن هو أحكم في هذا المقام الأعظم ، لا أحد كلهم لا يعلم ،
فكيف يمكن أن يشفع أو باعتراض يتقدم ،نعم كيف يتقدم ، من ليس بأعمال العباد يعلم
بل ليس له اطلاع حتى على اعمال ، من عاصره من النساء والرجال فكيف يعلم أعمال من جاء بعده من الناس عبر آلاف الأعوام والقرون والأجيال ،
كل المرسلين لا يستطيعون ذلك ، ولا يعلمون بل يعترفون ، أما ربهم ذي الجلال ، بعدم العلم على الإطلاق
(يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109
فهل يستطيع أحد منهم بعد هذا أن يشفع أو ينفع ، وهو عار من العلم بأعمال من بلغهم وعاصرهم ،
فكيف يمكن أن يعلم بأعمال من لم يعاصرهم ولم يرهم ، إن هذا هو الحال ، الذي يؤكد أن الحكم والعلم في ذلك اليوم إنما هو لذي الجلال.
إنما المرسلون على اختلاف مراتبهم وعصورهم ومقاماتهم منذرون للناس بذلك اليوم الذي به يوعدون به،
من ربهم رفيع الدرجات ذو العرش (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) غافر15
هذه هي مهمة الرسل ، إنها إنذار العباد ، بيوم اللقاء بربهم
(يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16
فهو الذي بيده الملك لا سواه ، وله العلم وحده ، وكيفلا وهو الواحد القهار ، بل (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) الحشر 23
وهو قبل ذلك (عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم) الحشر 22
فمن ذا الذي يتطاول إلى هذا المقام السامي ، ومن يجاري في العلم والحكم ، ربه الله الخالق ، كلا بل هو وحده أعلم
(وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير) الأنعام 73
وإذا كان الأمر كذلك ، فهو الذي تعرض عليه الأعمال ، وهو الذي ينبئ العبد بكل عمل وقال ، ثم يقضي بالحق له أو عليه بلا جدال
ولهذا فهو يقول (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17
وما دمنا من سورة غافر قد أوردنا هذه الآيات ، فلنواصل الترتيل والتدبير ، عسى أن نجد فيها كلمة شفيع ، فلننظر ما تفيد
إن الآية السابقة متلوة بقوله تعالى مخاطبا رسوله محمد
(وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) غافر 18
إن ذكر الشفيع والحميم هنا لا يعني وجوده ، بل يعني نفي وجوده
فإذا انتفى الوجود للشفيع ، فبالأولى أن ينفى كونه يطاع ، بل وعلى فرض أن الشفيع والحميم موجود ، فإن من المحال أن يطاع أو يسمع لماذا؟
إن الجواب يأتي في الآية التالية ليسد الطريق أمام الأوهام
فلنقرأ باهتمام ، قول العلام (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) غافر 19
أسمعتم انه هوحده العليم بخائنة الأعين ، وهو وحده المطلع على ما تخفي الصدور ، فمن ذا الذي يشفع عنده في هذا المقام الخطير
ومن ذا الذي يشاركه في الحكم ، وهو الحكيم الخبير ، فمن ركن إلى سواه ، أو اعتمد على غيره ، فقد جعل شريكا لربه الكبير
الذي يقول عن نفسه (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء)
لماذا لا يقضون ، ولماذا لا يستطيعون ، لأنهم لا يعلمون ولا يطلعون على أعمال الآخرين ، كما يعلمها الله رب العالمين ،
ولهذا يختم الآية بقوله (إن الله هو السميع البصير) غافر 20
فهل بعد هذا تدعي لنفسك شفيعا حميما ، وتنسى ربك العليما
هل تعلم له سميا ، فيكف تجعل لك من دونه وليا ، وكيف تشرك في حكمه عبدا ، وهو الولي الحاكم أبدا
(ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا)
وبعد لعلنا قد استقصينا كل الآيات التي وردت فيها كلمة شفاعة
أو مشتقاتها ولقد أردنا من استقصائها ، قصم الأوهام المتعلقة بها
فلنكن على علم أن الشفاعة لله كلها ، وإذا لم نصدق ونوقن بكلامه المفهوم ، فلنعزز ذلك بآيات من سورة الروم ، فلعلها لم ترد في هذا البحث المرقوم ، يقول الله الحي القيوم
(الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) الروم 11
إليه وحده الرجوع ، لأن تقديم الجار والمجرور ، يفيد أن الرجوع
إليه مقصور ، ثم ماذا؟.. ثم لننظر كيف يكون الحال ، لمن يعلق بالشفعاء الآمال
(ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) الروم 12
لماذا يبلسون ، لأنهم نسوا الله واعتمدوا على المفترين ، وجعلوهم لله مشاركين ، ولكنهم اليوم غير موجودين (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) الروم 13
نعم إن الشركاء الموهومين ، من المحال أن يوجدوا يوم الدين
فهو اليوم الحق ، فكيف يكونون شافعين ، ثم إن وجدوا وأحضروا فأنهم يعلنون أمام الله ، أنهم متبرئون ممن جعلهم شركاء لله ،
بل يقولون (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) القصص 63
وهنا ماذا يكون مصير الواهمين ، إنه الندم ثم العذاب
(وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) القصص 64
قد يقول قائل أن هذا من أشرك بالله ، وعبد الطغاة والأحجار
أو الشمس والنجوم والأقمار ، نقول لكن من اعتمد على نبي
أنه يشارك الله في ، حكمه ويشفع في خلقه ، ويرد على الله علمه
فقد جعل لله شريكا وعليه اعتمد ، ونسى الله الواحد الأحد ، وهو الذي لا يرسل الرسل إلا مبشرين ومنذرين ، وتلك مهمتهم للناس أجمعين
وأمر الناس لربهم رب العالمين ، وها هو يقول لرسوله محمد خاتم النبيين (وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) الرعد 40
أتفهمون أساليب الحصر والقصر ، هنا جاء بأسلوبين ...
التقديم للجار والمجرور ، وهو (عليك - وعلينا) وقبلها جاء بكلمة إنما التي تفيد الحصر المؤكد
ويقول (إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) هود 12
ويقول (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) يونس 46
ويقول (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) هود 123
وإذا كان إليه وحده ، يرجع الأمر كله ، فهل يمكن أن يدعي محمد
النبي الأمين ، أنه شريك لربه في حكمه في يوم الدين ، كلا بل شأنه
هو كما حدده الله (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) يونس 109
ويقول (يسألونك عن الساعة أيان مرساها ?42? فيم أنت من ذكراها ?43? إلى ربك منتهاها ?44? إنما أنت منذر من يخشاها) النازعات42-45
ويقول (وما أدراك ما يوم الدين ?17? ثم ما أدراك ما يوم الدين ?18? يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ?19?) الإنفطار 17-19
هناك قاعدة نقولها ، وننسى تطبيقها ، وهي
"النكرة في سياق النفي تفيد العموم"
وها هي كلمة نفس في الآية وردت نكرة مسبوقة بالنفي ، ومعنى هذا
أن كل نفس من البشر كلهم ، والأنبياء معهم ، لا يملك أحدهم لأحد شيئا بل الأمر كله لله وحده ،
فهل بعد هذا يدعي محمد الإشتراك مع الله الأحد كلا كلا إنه أعقل وأجل ، من أن يجهل كلام ربه ، وهو الذي تلا القرآن ورتل ، وبلغه وأكمل ،
فلا يمكن أن يدعي لنفسه ما ليس إليه يوكل لقد سماه الله هكذا (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ?45? وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ?46?) الأحزاب 45/46
وسماه رسول الله وخاتم النبيين وقال له (إنك لمن المرسلين ?3? على صراط مستقيم ?4? تنزيل العزيز الرحيم ?5? لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ?6?) يس 3-6
(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) البقرة 252
نعم إن محمدا من المرسلين كما وصفه الله ، وإنه خاتم النبيين كما سماه الله ، وإنه نذير وبشير. كما أن كل المرسلين مبشرين ومنذرين
فهو مكمل لمهمتهم ، وهو ماضي على طريقتهم ، ومنظم لأمتهم ومؤتم لملتهم ، ومقتد بهم ، بطريقتهم في الصبر والعزم والتوكل
والحزم والثبات على الحق ، والإلتزام بالصدق ، إذا فهو منهم وليس سيدهم كما نصفه ، وهو مثلهم وليس أشرفهم كما نسميه
وهو عبد الله ورسوله الأمين ، وليس شريكه في حكمه وعلمه
بل أن محمدا نفسه ، لا يرضى لنفسه هذا الإدعاء ،
وحاشا أن يجعل نفسه شفيعا عند ربه ، الذي إليه دعى ، وبعلمه هدى ،
وله خشع ولبى وعليه توكل وله ترجى ، واستقام له عابدا ومحتاجا مستجيرا
وبه مستعينا مستنصرا ، وعليه متوكلا وإليه فقيرا.
إني لا استهين بالنبي ، ولا أحط من مقامه العلي ، ولا أتجرأ على دوره الوضاء ،
ولكني أصفه كما وصفه ربه ، وأسميه بما سماه ، وأحدد مهمته كما حددها ربه الذي اصطفاه ،
وهكذا يجب أن يكون موقعنا وفهمنا ، فلا نزيد له ما ليس له ، ولماذا نمنحه من الصفات والأسماء ما لم يأذن به الله.
إننا إذا أفرطنا ، واستمر إفراطنا في هذا الإدعاء ، فقد نسقط فيما سقط فيه النصارى ، إذ جعلوا المسيح شريك الله ، وسموه إبن الله ،
بل قالوا أن الله هو عيسى بن مريم ، وبهذا جعلوه يعلم ما ليس به الله يعلم وليشارك ربه فيما يقضي ويحكم ،
فكانوا مشركين وكانوا كافرين برب العالمين ، ولقد توعدهم المسيح بن مريم بالعذاب المهين وأكد لهم أنه عبد لرب العالمين
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) المائدة 72
(لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) المائدة 73
بل أن الله يوضح لنا ولهم ، أن المسيح بشر لا ينفع ولا يشفع ، ومحتاج إلى ربه وإليه متضرع ، وحدد مهمته وبين حقيقته ، فقال
(ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة)
نعم إذا كانت الرسل قد خلت من قبله ، فهو قد خلا معهم ومات
وهذا شأن البشر ، ثم أن الله يوضح أنه مولود من أم مؤمنه ، وليس مولودا لله كما يزعمون ،
ولتأكيد عجزهما وتجردهما من صفات الألوهيه ، قال مضيفا عن المسيح وأمه (كانا يأكلان الطعام)
إن من يأكل الطعام ، محتاج مضطر ، وفاني مثل غيره من البشر فكيف يعبد البشر ، بأولى البشر
(انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) المائدة 75
إذا فهو الإفك والبهتان ، والكفر بالرحمن ، ولقد تجرد عن القلب السليم من عبد غير الله العليم
(قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) المائدة 76
إن السميع العليم هو الذي ، يعبد ويدعى ويقصد ويرجى
وسواه عاجز لا يملك لغيرة ولا لنفسه شيئا ، فأنى يكون شافعا عند الله وهو لا يعلم من أعمال العباد شيئا ،
وكيف يشارك الله في حكمه عبد مستسلم لحكمه ، بل ومسئول عن مهمته التي كلفه بها ربه ، مدعو إلى الحساب مع قومه
(يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109
وهذه آية تجمع فيها كل الرسل ، ولا تخصص ولا مخصص لها
فكيف تفرد محمدا بالعلم دونهم ، ولماذا نفعل كما فعل النصارى في إفكهم ، ولماذا نكون مثلهم ، وقد سمعنا ما قال الله عنهم.
إن هذا هو الغفول والافتراء ، والسهو عن آيات الله ، بل الاستهزاء بها وكيفلا ، وقد كرر الله قصة المسيح في القرآن ، أكثر من مرة
وأوضح فيها أن ما افتراه النصارى فيه ، إن هو إلا ظلم وشرك مبين ، وأكد لنا أن المسيح كغيره من المرسلين ، يدعو إلى عبادة ربه رب العالمين
بل واستبعد أن يدعي رسول ما يخالف مهمته ، وينقض رسالته ، فقال
(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ?79?
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ?80?) آل عمران 79-80
بل أن الله سبحانه يؤكد ، والتحذير للمسلمين ، ولكل المؤمنين من اتخاذ النبيين أربابا ، من خلال عرض موقف مهيب في يوم الدين فإذا المسيح يسأل أمام العالمين
(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) المائدة 116
إنه التأكيد على أن الأنبياء لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يقولون إلا الحق الذي قال لهم الله ، ولهذا أضاف قائلا
(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) المائدة 117
وهكذا فهو بلغ ما أمر به ، ولم يزد عليه شيئا ، وهو لا يعلم من أعمال الناس المبلغين شيئا ، فلقد مات وبقى الله وحده ،
هو الرقيب والشهيد وكيفلا وهو الله وحده على كل شيء شهيد ، وما دام الأمر كذلك ، فإن الله هو الحاكم القاضي ، يوم الدين
ولا شفيع لديه ، ولا شريك في حكمه من الأنبياء والمرسلين ، لأنهم لا يعلمون ، ولم يعلموا شيئا ظاهرا من أعمال العباد المعاصرين ،
فكيف يعلمون الأعمال الخفية الباطنة ، في كل العصور من بعد موته ، إن هذا من المحال ، فيكف ننسب إليهم المحال ، ونسند إليهم مالا يستطيعون من الأعمال ،
إن العلم بالغيب حصر على الله ذي الجلال.
وإني أنبه أن الشفاعة تعتمد على العلم الحق ، ولا يمكن أن تتحقق ، إلا إذا قام بها من يعلم من حال المشفوع له ، أكثر مما يعلم عنه المشفوع عنده
وبعبارة أكثر إيضاحا ،... إن الشفاعة تعني أن أي نبي رسول ، أو نبي حين يشفع لفلان من الناس عند الله ،
فإن هذا يعني أن النبي يعلم عن أعمال هذا المشفوع له ، أكثر وأدق مما يعلمه الله عن هذا المشفوع له وهذا محال ،
وهذا المقال لا يليق بذي الجلال ، بل هو شرك بلا جدال
(قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18
وإذا كانت الشفاعة تعني ما ذكرنا ، فليكن معلوما أن الأنبياء والمرسلين غير مؤهلين لهذا العمل ،
ولا يرضون لأنفسهم إدعاء هذا الشرك الوبيل لأنهم لا يعلمون ، ولأنهم لربهم يقدرون ، وله يوحدون ، ولا يشركون به شيئا
(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الأنعام 88
هكذا يقول الله عنهم ، ويقول لرسوله الخاتم محمد
(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) الزمر 65
ومع علمهم بربهم ، وتقديره حق قدره ، فإنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم ، وإن الله ليؤكد لنا هذا عمليا ، ويعلنها علينا في القصص والآيات ،
فها هو نوح عليه السلام ، وهو قدوة الرسل وهدف أولى العزم وهو العبد الشكور الصبور ، ها هو لا يعلم من عمل ابنه شيئا
وهو أخص وأقرب الناس إليه ، ومعاصر له ، بل وساكن معه في بيته وكذلك لا يعلم من أعمال امرأته شيئا ، وهي أقرب إليه من ابنه ، كما هو شأن المرأة مع زوجها ،
فبعد أن أطبق الماء على قوم نوح وحال بينه الموج وبين ابنه ، يقول الله
(ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) هود 45
إنه كان لا يعلم إن ابنه فيمن سبق عليهم القول ، ولهذا فإن ربه العليم يرد عليه ، ويعلمه ما يجب عليه
(قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) هود46
وهكذا ينتبه نوح ويستغفر ، ويستعيذ ويعتذر
(قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) هود 47
ولو أردنا أمثلة أخرى عن بقية الأنبياء ، لأوردناها وكلنا نخاف الإطالة ولكني سأنقلكم ، من أولهم إلى خاتمهم ، الرسول النبي الأمي الأمين المرسل للعالمين ،
فهذه صفاته وهذه مهمته ، لكنه لا يعلم من أعمال الناس المعاصرين له ظاهرا ، فكيف يعلم من أعمال من خلفهم سرا والدليل على قولي ، هو قوله تعالى مخاطبا لرسوله
(وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) التوبة 101
واقرءوا بعدها من الآيات ، تجدوا أخبارا تأتي من الله لرسوله لا يعلمها الرسول إلا من ربه
(وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) التوبة 102
(وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) التوبة 106
لقد ختم الآية بقوله (والله عليم حكيم) ليؤكد أن هذا لا يعلمه الرسول إلا من ربه العليم ،وكذلك يختم الآيات التي تليها والتي تخص
(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين) التوبة 107
وتستمر الآيات حتى يقول مخبرا ، بما لا يعلمه أحد إلا هو الله
(لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) التوبة 110
وهكذا تتوالى الآيات ، وتتضح وتفصح ، عن عدم علم الرسول بأعمال من حوله ومن معه ، من أهله وقومه ، وأصحابه المخلصين وأصحابه المنافقين ،
وهي حالات تحويها السور المدنية ، وبالذات سورة التوبة وسورة محمد وسورة الأنفال والبقرة وآل عمران
ومن هذا حاله ، كيف يمكن أن يشفع لشخص وهو يجهل أعماله
إن هذا أمر محاط بالاستحالة ، ولا يرضاه النبي بل لا يتفق مع الرسالة لأن مهمة الرسول هي البلاغ ، أما الحساب فعلى الله
(وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) الرعد 40
(إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) هود 12
(فذكر إنما أنت مذكر ?21? لست عليهم بمصيطر ?22? إلا من تولى وكفر ?23? فيعذبه الله العذاب الأكبر ?24? إن إلينا إيابهم ?25? ثم إن علينا حسابهم ?26?) الغاشية 21-26
ألا تلاحظون الحصر والقصر
(فإنما عليك البلاغ) (إنما أنت مذكر) (إنما أنت نذير)
إن الحصر هنا مضاعف التوكيد والقوة ، لأنه مؤيد بإنما
وبالتقديم للظرف والخبر (عليك) (أنت)
كما أن الحصر في جانب الله أوضح
(وعلينا الحساب) (إن إلينا إيابهم) (علينا حسابهم)
وكل الآيات التي تتحدث عن القيامة والبعث والحساب ، وكل الآيات التي تتحدث عن الدنيا ، تحصر وتقصر مهمتهم في الإنذار ، وتخص الله بالحساب والقرار
(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)
وهذه تتكرر في عدد من السور والمواقع القرآنية ، وبأساليب حصر وقصر متنوعة ، فهل بعد هذا يجادل مجادل ،
أن للأنبياء والمرسلين جميعا ، أو لبعضهم دورا ، في يوم الحساب ، ينقذ من العقاب ... كلا بل الله يخاطب رسوله محمدا ، مؤكدا له اختصاص ربه بالحساب والعقاب ، فيقول
(أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار) الزمر 19
ويقول له عن أصحابه المؤمنين (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) الأنعام 52
بل ويجعله يبلغ الناس ، أن ربه هو الحاكم بين العباد ، ومعنى هذا هو أن محمدا لا يشارك ربه في يوم المعاد
(قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46
فما دام هو الله الفاطر ، وهو عالم الغيب والشهادة ، ثم بأعمال عباده لأن من خلق فهو الذي يعلم ويحكم ،
أما المخلوق فلا يعلم شيئا إلا ما به الله علم ، إن وصف الله بأنه عالم الغيب والشهادة ، هو المقدمة التي تؤدي إلا النتيجة المنطقية ،
وهي أنه هو الذي يحكم بين العباد ، كما أنه الفيصل وحده فيما كانوا فيه يختلفون ، لأنه يعلم ما يبدون وما يخفون.
ثم تأمل مشهد الناس يوم القيامة ، سنجد الجميع أمام ربهم ، وكلهم ينتظرون حكم الله فيهم ، فهو المتصرف فيهم ، وفي كلما يحيط بهم
(وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) الزمر 67
وما دام هو القابض والباسط ، والبادي والطاوي ، للأرض والسموات فكيف لا يكون هو المتصرف فيما عليها من المخلوقات ،
فهو الملك الحق ، ولا شريك له في الأمر والخلق ، ومن ادعى مشاركته فقد فسق ولهذا ختم الآية بقوله (سبحانه وتعالى عما يشركون) الزمر 67
ثم ماذا؟.. ها هم الخلق والناس مقبوضون كالأرض والسموات
(ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) الزمر 68
ثم ها هي الأرض تعد ليوم الفصل الموعود ، يوم جمع الآخر مع الأول في يوم مشهود
(وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون) الزمر 69
فالنبيون والشهداء لا يأتون ، أو لا يجاء بهم ، إلا وقد وضح الكتاب وانقضى الحساب ،
فكيف يشفعون في الأعمال والعباد ، والكتاب قد حوى الخافي والبادي ، فهو (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) الكهف 49
ومن المعروف أن الكتاب ينطق بالحق ، والله يقضي بالحق
فمن ذا الذي يستطيع بعد هذا البيان ، أن يتدخل في حكم الرحمن
أو يعلم أكثر من الله ، أو يتكلم عما كان ، وهو لا يعلم من أحوال نفسه شيئا ، فكيف يعلم أحوال سواه ، ثم
(إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) النساء 40
فمن ذا الذي يستطيع أن يزيد على عطاء الله ، أو ينقص من جزائه
وهو الله الكريم الأكرم ، وكل عبد عنده لا يظلم ، فإن أساء نال ما يستحق ، وإن أحسن زاده الله من العطاء العظيم ،
وكيفلا وهو الحكيم العليم ، ولهذا قال في الآية التالية من سورة الزمر
(ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) الزمر 70
وهكذا كانت الآية السبعون ، هي الفاصلة فيما يفعلون
فالله هو الأعلم بالعباد وأفعالهم ، وهو الذي يوفيهم بأعمالهم
فلا يخاف مسيئهم ظلما في العقاب ، ولا يخاف محسنهم هضما في الثواب فالكل أمام الله السريع الحساب ، وهكذا فإن الجميع في الختام
وبعد انقضاء الأحكام ، يتوجهون بالحمد والتسبيح لربهم العلام
(وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) الزمر 75
إن الحمد هنا يعني أن الله حكم بالحق ، الذي لا يرد ولا يسبق والذي يقبل به الكل بلا اعتراض ولا نكران ،
لأنه قضى بالعدل والميزان وهو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض
ولا أقل من ذلك من أعمال الإنسان فسبحانه الرحمن الرحيم ولا شريك له في الحكم
(أليس الله بأحكم الحاكمين) التين 8 ،،،،،،،هل الشفاعة واقعة ،، أم هي أماني ضائعة؟؟ ¶ إنه سؤال هام ، بل هو استفهام يجب أن يعم الأنام ، فكم من أمم وأقوام على هذا الحلم اطمئن ونام ، لكن جواب السؤال في الختام ، يمكن أن يوقظ النوام ، ويهتك سجف الأحلام ، ويمزق دجى الظلام ، ويصحح خاطئ الأفهام ، ويفتح العيون والأبصار ، على طريق السلام ، ويسمو بنا إلى مقام ربنا العلام الذي لا يشرك في حكمه أحدا ، ولا يتوسط احد إليه أبدا ، ولا يحول بينه وبين عبيده أحد من البشر ولا يعلم احد عن عبيده منه أكثر ، بل هو العليم والأخبر ، وهو الذي يعلم السر مثلما ظهر ، إنه هو الذي يحول بين المرء وقلبه ، وهو الذي خلق الإنسان وهو أعلم به ، وكيف لا وهو يقول (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق 16 فهل بعد هذا العلم من مزيد ، وهل هناك شيء أقرب إليك من ربك المجيد ، كلا بل هو اللطيف الخبير والقريب البصير ، وهو العليم بذات الصدور. ¶ وعلى هذا الأساس فلنناقش الشفاعة وعلى هذا الفهم لرب العالمين ، فلنفرد آيات القرآن المبين ، ومن هذا المنطلق الثابت المقدر لله حق قدره ننطلق ثابتين على حكمه وأمره ، ونقترب من الشفاعة مبصرين ، ونناقشها مؤمنين ، ولله مستسلمين وله مقدرين معطين ، وبعلمه المحيط معترفين ، وبجهل سواه موقنين ، فلا نجعل له أندادا ، ولا نسوي به عبادا،فإن فعلنا فإننا إذا من الظالمين ، وإن سوينا به سواه كنا مشركين. ¶ قد تفاجئون إذا قلت لكم إن الاطمئنان إلى شفاعة الشافعين ، إنما هو شرك واضح مبين ، بل هو ضلال سواء كان هؤلاء الشفعاء من الملائكه أو من النبيين ، وسواء كان الشفيع كما تظن من المقربين أو من الشهداء والصديقين ، وكيف لا وكلهم لا يعلمون عن العباد شيئا ، بل لا يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فكيف يكون لهم العلم المحيط بما اختفى ، إن هذا هو ما اختص به الله دون سواه قال تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ?6? وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ?7? الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ?8?) طه 6-8. ¶ إذا كان ما قلته قد أفزعكم ، إذا كان ما صرحت به قد أزعجكم فلنعد إلى الموضوع بهدوء معكم ، ولنبدأ من حيث نستطيع أن نصل إلى الحقيقة المصيبة ونستكشف المعاني العميقة في هذه القضية،، لنبدأ من معرفة معنى كلمة (شفيع) في اللغة ، إنه اسم بمعنى السبب الذي يتوصل به إلى سواه من الأحداث التي تراد أو هو الوسيلة التي تتخذ وسيطة بين المريد والمراد،، فأنت قد تتوسل إلى الماء ، لتشرب بالدلو إن كان في بئر ، أو بكاس إن كان في قدر ، أو بيدك إن كان في الأرض أو بشفتيك إن كان على يدك ، وتريد أن تشرب، ألا ترى كم توسلت إلى أسباب لتشرب ، كل هؤلاء شفعاء لك عند ربك ليصل الماء إلى فمك ، ثم أن الماء بحد ذاته سبب للارتواء الذي تريد ، فهو شفيع لك عند ربك لترتوي ، إذا شاء ربك لك الارتواء. إذا لكل تلك الأسباب المتوالية أن تؤدي مهمتها من البداية حتى يصل الماء إلى فمك ، هل تظن أن الأمر انتهى هنا ، كلا بل لابد أن يأذن الله للسانك أن يذوق الماء ، ويطعم ويشم الماء ثم يستسيغ الماء ، ثم يأذن للبلعوم أن يبلع الماء ، إلى ما ورائه من الأعضاء ، ثم يأذن للمعدة أن تهضم وتقبل الماء ، ثم يأذن للأمعاء وبقية أجزاء الهضم أن تنشر الماء إلى الجسد المتتابع الظامئ ، ثم يأذن للجسد الظامئ أن يقبل ويتفاعل وأن ينتفع بالماء ، ثم يأذن لأجهزة الشعور والإدراك المحيطة أن تشعر أن الجسم قد ارتوى ، وأن تدرك أن الماء قد أدى المهمة التي شرب لها ،وعند ذلك يكون الماء قد أصبح السبب الظاهر الذي أرواك ، وهو الشفيع الظاهر الواصل إلى المشاعر والإدراك. لكن قل لي هل الماء أنت أنزلته ، هل أنت أجريته على الأرض معينا ، هل أنت حفظته في الأرض ينابيع ، ثم هل البئر هي التي أهدته إليك ، وهل الدلو هو الذي رفعه ، وهل يدك هي التي أوصلته إلى فمك ، وهل فمك هو الذي ذاق وهضم ، وهل بقية أعضائك المتداولة للماء ، عملت ذلك الإرواء والاكتفاء ، والشعور الجميل بالهناء هل هي التي عملت ذلك بعلم منها ، وهل هي التي أشعرتك بالارتواء وهل كان ذلك بقدرتها ، كلا بل كل ذلك لم يتم إلا بإذن الله لكل الأسباب المتوالية مجتمعة ، وهو الذي دبر الأمر من البداية ، حتى وصل إليك بصورة ممتعة ، فكل الأسباب عملت بإذنه وعلمه ، وكل الوسائل تيسرت وتدبرت بقوته وحكمه ، وكل النتائج توفرت برحمته ، وكل المنافع تأكدت بإذنه وتدبيره ونعمته ، فهو السبب الأول والأخير ، وهو السبب الظاهر والباطن ، وهو الشفيع الحق بلا جدال ، وهكذا ندرك أن كل الشفعاء ، ما كانوا مؤثرين لولا الإذن من ذي الجلال ،، وهكذا فلندرك ما معنى الشفيع فهو السبب ، والأسباب كثيرة لا تحصى . بل أن الشفيع أو السبب متنوع الأنواع والأجناس في الظاهر والخفاء فكل الأشياء من حولنا شفعاء وأسباب لحياتنا ،وكل الأجرام والأحياء في الأرض والسماء أسباب لقيام حياتنا ، ولكن بإذن الله ربنا فهو الذي يسخر ، وهو الذي يدبر ، ولو شاء لما أذن وأمر (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ) القصص 71 . ¶ وإذا كانت كل الأسباب أسبابا للإنسان ، فإن الإنسان بحد ذاته سبب وشفيع لسواه من الأشياء والأجناس وهو لا يدري ، بل شفيع لبعضه البعض ، ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) الزخرف 32 . وعلى هذا فإن الإنسان قد يكون شفيعا لسواه باختياره وقد يكون بدون اختياره ، وهو في الحالة الثانية مسخر ومسير وهو في الأولى مختار لكنه مع ذلك مختبر ، وهو في حالة الإحسان والإساءة يثاب ويؤجر بما يستحق وبما اختاره الله وقدر، وهكذا فإن الإنسان يكون سببا لأخيه الإنسان ، فينال مع أخيه نصيبا من الإحسان ، الذي ناله أخوه بسببه ، وينال حظا من الإساءة التي وصلت إلى أخيه بسببه ، وإن شفاعته مطلوبة محسوبة ، وهي بأمر الله مقدرة مكتوبة ، ولهذا قال تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا) النساء 85 .وإذا عرفنا أن معنى كلمة مقيت في آخر الآية هو الحفيظ أو المقتدر أو الشهيد ، فإن الختام يعني أن كل شفاعة من إنسان لإنسان لا تعني أن الإنسان هو الذي أجراها ، ولكن الله هو الذي دبرها ويسرها وهو على فعله شهيد ، فهو حفيظ محيط ، فلا يفوته ولا يغيب عنه بل يسجله ويعلمه ويكتبه ويحكمه ، فلا قدرة للإنسان أن يعمل شيئا دون إذن الله وأقداره ، وكيفلا وهو كما يقول (وكان الله على كل شيء مقيتا) أي مقتدر ، فهو الذي أقدرك يا شفيع الحسنه ، وهو الذي أقدرك يا شفيع السيئة ، وهو عليكما الشهيد والحفيظ ، وإذا فالفعل فعل الله والشفيع هو الله ، والشفاعة منه ، وإذا كان هذا هو علم الإنسان أمام أخيه الإنسان ، وأمام اتخاذه أسبابا ، ليتوصل بها إلى أي شأن فإن هذا يعني أن لا فعل لأحد ، إلا الله ولا سبب يفيد أو يضرإلا بإذن الله وتيسيره ، وأن الشفاعة لا تعني إلا سببا هيئه الله وأذن به وأن الله يجعل الإنسان سببا للعمل والتأثير ، ¶ ولكن المؤثر والعامل هو الله وعليه فإن كل صناعة وزراعة ، وبناء وهدم ، إنما قام به الإنسان كسبب ، هيئه الله ، وبهذا يقول تعالى (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ?41? وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ?42?) يس 41/42 فلقد أسند الخلق إليه ، مع أن صناعة الفلك والسفن ، هي بيد الإنسان وقال على لسان إبراهيم عليه السلام ، مخاطبا قومه الذين يعبدون الأصنام (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا )العنكبوت 17 فسمى نحتهم للأصنام خلقا ، وأسنده إليهم ، لكنه في آية أخرى يقول في نفس الموضوع (قال أتعبدون ما تنحتون ?95? والله خلقكم وما تعملون ?96?) الصافات 95/96 ¶ ولو تأملنا كثيرا في الآيات ، لوجدنا أن الله ينسب الفعل إلى الناس ولكنه في نفس الوقت يعيد الفعل إليه وحده ، فلتقرأ ما فعلة فرعون حين خرج موسى مع قومه من مصر (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ?53? إن هؤلاء لشرذمة قليلون ?54? وإنهم لنا لغائظون ?55? وإنا لجميع حاذرون) الشعراء 53-55 فها هنا الله ينسب حشر الناس إلى فرعون ، ولكنه عقب ذلك بقوله (فأخرجناهم من جنات وعيون?57? وكنوز ومقام كريم?58?) الشعراء 57/58 إن الله يسند الإخراج إليه وحده ، وما كان حشر فرعون للناس ، إلا سببا وشفيعا لتنفيذ إرادة الله ، وتحقيق فعله ، فهو الفاعل الحقيقي ، والشفيع الحق ، حتى مع المسلمين يقول الله عنهم وعلى لسانهم (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) التوبة 52 فالمعذب هو الله ولكن الأسباب متعددة ، لأنه هو المسير والمدبر لها والشفيع المنفذ ، بل ويقول في نفس القول وفي أية قالها موجها الخطاب للمسلمين ، يأمرهم بقتال الناقضين للعهود من الكفار (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) التوبة 14 فالعذاب هو عذاب الله ، والمعذب هو الله ، ولكن المسلمين يد القدرة وسبب الإرادة ، وهكذا يريد الله أن يكون أمام الأعين لكل فعل سببا ظاهريا ، ولكن السبب الحقيقي هو الله فلا تقل أنا انتصرت أو نصرت ولا عذبت ولا شفيت أحدا ، ولا أخزيت فلانا ، أو صنعت حلا،، فالناصر والمعذب والشافي والمخزي هو الله لا سواه ، ولو استعرضنا الآيات لطال المقال ، ولكني سأدخل إلى عمق الموضوع وسيتضح لكم أن الله هو الشفيع ، ولكي يتجلى لنا الأمر بوضوح ولكي نصل إلى الهدف الصحيح ، تعالوا نقسم آيات الشفاعة إلى قسمين رتيبين في القرآن. ¶ القسم الأول ¶ الشفاعة في الحياة الدنيا ¶ القسم الأول من الآيات هو الذي يتحدث عن الشفاعة في الحياة الدنيا إنها التي يوضح لنا الله فيها أن كل ما تتوهمه سببا أو شفيعا هو وهم وظن لا يغني عن الحق شيئا ، وأن الشفيع الحق والسبب الأصل هو الله الذي يدبر الأشياء ، وأمام هذا الوهم الساذج والظن الساذج توجه الناس إلى الأسباب ليعبدوها ، فمنهم من عبد الشمس والنجوم ومنهم من عبد الليل والبحر ، ومنهم من عبد الملائكة والجن ومنهم من عبد البقر أو بعض الحيوانات الضارة أو النافعة .المهم أن الناس توجهوا إلى الأسباب ليعبدوها كالأرباب ، فما ظنوه ينفع عبدوه لنيل نفعه ، وما ظنوه يضر عبدوه ليجنبهم ضرره وما ظنوه مقرب إلى الله كالملائكة عبدوه ، لنيل وساطته وشفاعته وبهذا الوهم نقرأ في أسماء آلهة قوم نوح نفس المعاني التي يوضحها كبارهم لصغارهم ، وينصحونهم بالاستحسان بها ، ¶ لأن لديها ما يطمحون من الأمان (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا) فهذا هو الله الذي يمنحهم الود والأمان والحنان ( ولا سواعا ) وهذا هو الإله الذي يبادلهم ويساويهم المنافع ، فهم يعبدونه ، ليستفيد منهم العبادة ويستفيدوا منه الإفادة ( ولا يغوث ) وهذا هو الإله الذي يغيثهم بما يحتاجون ويرفع عنهم ما يشكون ، ومع هذا فإن لهم إلها يعيق عنهم ما يتوقعون من الشر، ولكنه لا يعطي شيئا ، وهو قولهم ( ويعوق ) وأخيرا (ونسرا) وهو إله القوه والعلو ، فهو يمنحهم القوة والسمو ويجلب لهم العلم بما يغيب ، ويكشف لهم أسرار الغد البعيد والقريب ، فهم في عبادته في أمان مما يفاجئهم ، وفي منعة مما يخيفهم ، وفي علو على ما يحيط بهم؟. ¶ وعلى هذا الأساس انطلق الملأ من قوم محمد ينصحون أصحابهم بالتمسك بالآلهة التي تحمي وتصون وعدم الاعتماد على الإله الذي يدعو إليه محمد الأمين (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد) ص 6 وقبلها قالوا (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) الأية: 5]إن هذا هو الوهم الذي سقط فيه الإنسان ، واستمسك به ، ونسى ربه الوهاب ، بل إنهم إذا رأوا الرسول يشعرون بالذعر لأنه يدعوهم إلى التخلي عما يظنونه يحمي ويصون (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ?41? إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) الفرقان 41/42 لكن الله يؤكد لهم أن هذا هو الضلال الحقيقي فيقول في ختام الآية (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) الأية: 42 (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ?43? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) الفرقان 43/44. ¶ وهكذا كان موقف قوم هود ، وهو الاستغراب ، ثم الذعر من ترك عبادة الآلهة المدعاة (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) الأعراف 70 ¶ إن العذاب لديهم أهول ، من ترك آلهتهم ، بل أنهم في موقع آخر يتهمون هود بأنه مصاب من الآلهة (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) هود 54 لكن هود يدعوهم إلى الله ويتحدى ويقول ¶ (قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ?54? من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) هود 54/55 لماذا هذا التحدي ، ولماذا هذا الصمود؟ لأنه يوقن أن الله هو الضار والنافع ، وهو الملجأ والمقصد ، والرب المعبود المحمود (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) هود 56 فهو الشفيع ، والمسبب النافع ، وهو الرب القريب العليم ، المدبر الواسع وهكذا كان موقف نوح (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) يونس 71 . ¶ ولن نطيل الاستعراض لموقف الموهمين ، ومواقف الفاهمين ،ولن نزيد من أدلة ضلال المستشفعين بالأسباب ، وأدلة كمال المستشفعين بالله مسبب الأسباب ، فذلك واضح لأولى الألباب ، لكنا سنعود إلى الأساس الذي سقنا له هذا المقال ، فنقول أن المنخدعين بالأسباب قد أشركوا بلا ارتياب ، لقد جعلوا لله شركاء باتخاذ الشفعاء وادعوا أن الله لا يعلم من الأعمال والأقوال شيئا ، فتوسلوا إليه بهؤلاء لينبئوه بما يجهل وليعلموه بما نعمل ، "تعالى الله وجل" . نعم إن من اتخذ شفيعا إلى الله ، حتى ولو كان هذا الشفيع ملكا أو رسولا أو نجما مضيئا ، أو قمرا منيرا ، أو شمسا ، أو كوكبا كبيرا ¶ فإنما جعل لله شريكا في علمه بالخلق ، وتدبيره للأرض والسماء أو ظنه بعيدا عن الخلق ، غافلا عما يجري في الأرض والسماء وهذا لا يليق بالله الذي يعلم السر والخفاء ، والذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أكبر ولا أدنى ، كلا بل هو محيط بكل شيء ، بل هو الذي بين الإنسان وقلبه ، وهو الذي يعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، فكيف يحتاج إلي شفيع ينبئه بما يجري في الأرض وما يعمله العبيد وكيف يحتاج إلى من يقرب الناس إليه زلفى ، لأنه كما يتوهمون بعيد كلا إنه على كل شيء شهيد ها هو يخاطبنا ، يؤكد لنا قربه وعلمه بكل خفي وظاهر قال تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور?13? ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) الملك 13/14 ويقول قال تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء?5? هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ?6?) آل عمران 5/6 وإذا كان الأمر كذلك ، فهو الذي يدعى بلا واسطه ولا شفيع فهو القريب السميع ، وهو الذي يرجى بلا شيء يقربنا إليه زلفى فهو الذي يعلم ما يخفى ، وهو الذي يعتمد عليه ويتوكل عليه ،وهو الولي والمولى ، ومن اتخذ دونه وليا وتقرب إليه بسواه فقد غوى ، لأنه الرب القريب المجيب ، السميع العليم وله وحده يتوجه العبد ، ذو القلب السليم (لا إله إلا هو العزيز الحكيم ?6?) وهكذا يختم الآية ، ليؤكد لنا أنه هو الإله الحق ، الغني عن الخلق الحكيم فيما يديره ويقضيه ، وكيفلا وهو يقول في سورة طه (الرحمن على العرش استوى ?5? له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ?6? وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ?7? ¶ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ?8?) طه 5-8.وعلى هذه الحقيقة الناصعة في حق الله ، وعلى هذا المقام الرفيع لله الرفيع الدرجات ، فإن من ظن أنه يحتاج إلى شفيع ، ينقل علم الأرض والناس إليه ، فقد ظن في الله ظن الجاهلية ، وجعل لله شريكا في أمره وما قدر الله حق قدره (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) . ¶ وبعد أيها الأخوة ، فإننا على هذا النور المبين ، وعلى هذا الفهم المستنير نتقدم إلى الآيات التي تتحدث عن الشفاعة ، أو بالأصح نستقرأ الآيات التي وردت فيها كلمة شفاعة ، أو شافعين أو شفعاء ، ليتضح لنا الأمر بجلاء ، ولنكون على بينة من أمرنا ، وأنا هنا لا ادعوكم لتسلموا ولكن لتفكروا ، ولا ادعوكم لتجادلوا في الله ، ولكن لتقدروا الله حق قدره ولا ادعوكم بلا دليل ولكني أقدم الدليل ، ولا أعدكم بالدليل الذي من أقوال الناس ، ولكن من قول الجليل ، فهل بعد هذا من إنصاف قد تسألون كيف أن هناك شفاعة في الحياة الدنيا وشفاعة في الحياة الأخرى ونحن لا نعرف إلا أن الشفاعة في الأخرى فقط ، وأنا أقول لكم هذا هو الغلط فالموضوع يبدأ من هنا من الدنيا ، لأن هناك من عبد غير الله جاعلا له شفيعا إليه ، وهناك من اعتمد على أسباب الحياة وظنها هي سر الحياة ، فاعتقد أن المال والرجال تحمي وتقي وتعز وتبقي ، ونسي أن الله هو الذي له البقاء وكل شي هالك فاني ، وأن الله هو المؤثر الفعال ، وكل شي عاجز ضعيف فقير ، فالاعتماد على غير الله من المتكأ والملتحد الذي لا يملك من نقير والتوكل على غير الله ، إنما هو اتكاء على ما لا يملك من فطير ، وإن السير على طريق المعتمدين على الوسطاء ، والمستشفعين إلى الله بالشفعاء والمتخذين أولياء ليقربوهم إلا الله زلفى ، ¶ فإن السير على هذا الطريق هو المسير المدمر الخطير ، ولهذا فإن أول الآيات التي سنستقرأها الآن تطرح في وجوه هؤلاء الغافلين ، وتصفهم بالمشركين ، وتنزه الله عما يصفون. ¶ فلنقرأ (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) يونس 18 يا للهول المهيل ، ويا للجهل والغفول ، هل الله بعيد ، هل هو لا يعلم حال العبيد ، بل هو العليم ، وبكل شيء محيط ، وبهذا يرد عليهم منبئا ومستنكرا (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) يونس 18 إنه سؤال مهم ، فهل الله لا يعلم بما يجري ، وهل الله يجهل ما يحدث كلا إنه منزه عن هذا الوهم ، فيقول عن هذا الظن المظلم (سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18 إن وهم التوسط بين الله وعبيده ، جهل وغفول مظلم ، وإن اتخاذ الوسطاء له ، شرك وظلال عظيم ، ¶ فهل الشفعاء يعلمون من حال العباد ما لا يعلمه الله الخلاق العظيم ،"سبحانه وتعالى"، عن هذا الجهل والشرك العظيم ، إنه يعلم كل ما في السماوات والأرض وبكل شيء محيط ، ومن ادعى أن الشفعاء يعلمون ما لا يعلم وينبئونه بما لا يعلم ، فقد جعلوا لله شركاء في علمه وتدبيره ، وحكمه وتقديره وجعلوا له أندادا في رحمته وحكمته ، وفي أرضه وسماواته "تعالى عن ذلك علوا كبيرا" ¶ أفهمتم أيها الناس ماذا تعني كلمة شفعاء عند الله ، إنه سب لله الجليل وإنه عدوان وظلم وويل ، وإنه لشرك وضلال جهول إذا صح أن الشفعاء يوصلون إلى الله ما لا يعلم من شؤون الخلق ¶ فقد ادعى الناس ما يهدم الخلق ، ويمحو الحق لقد جئتم شيئا إدا،، (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) مريم 90 وكيفلا وها هو يقول (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم 93 فالكل محتاج إليه فقير ، والكل لا يعلم من الخلق قدر قمطير ولا يدري من الأمر قدر نقير ، فكيف يكون شيء من الخلق ندا للعليم القدير ، وكيف يكون شريكا للطيف الخبير إن هذا هو الضلال الكبير. ¶ والآن لنعد إلى بداية سورة يونس ، فإن فيها التأييد الأقوى الموضح لكم أمر الشفاعة في الدنيا يقول تعالى(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) يونس 3 ¶ بماذا استوى ، وما هو الإستواء ، ها هو البيان (يدبر الأمر) إنه المدبر لا سواه ، لكل أمر ، وهو المقدر وحده ، لكل شأن وهو المسير لا غيره لكل الأشياء ، ولا شريك له ولا ند أبدا وهذا هو معنى قوله (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) إن هذه الجملة تأتي جواب لسؤال كان أحد الغافلين يسأل هل تدبير الأمر كامل شامل ، وهل الشفعاء ليس لهم طائل مع أن لنا إليهم وبهم إليه الوسائل ، فجاء الجواب قاطف كل شيء باطل (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) فإذا ظننت أن مالا ينفع ، أو جبلا يمنع ، أو دواء ينفع ، أو طعاما يشبع أو ماء يروي ، أو شمسا تضيء ، أو سحابا تهمي ، أو رجلا أو حزبا يقي أو ملكا أو رئيسا يجدي ، أو يشفع مما يؤذي إذا ظننت هذا فأنت غافل ، وأنت بربك جاهل بعيد عن الحق في مراحل وفي ظلمات من الباطل ، إن الله هو المدبر بلا ند ولا شريك ، وهو ذو العرش المجيد ، الفعال لما يريد ، وكل شيء سواه مقهور ضعيف ، وهو الواحد القهار ، إذا فهو الرب الذي يفيد ، في كل أمر وشأن وهو الولي الذي يستنصر ، في كل زمان ومكان ، وهو القريب لمن دعاه في كل حال ، وهو المجيب للسؤال ، القدير على الوفاء بلا مطال فاتخذه وليا بلا جدال ، ولتتجه إليه بالآمال ، ولهذا قال في ختام الآية (ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) يونس 3 هكذا إذا يوجهنا الله ، إن كل الشفعاء والأسباب محكومه منه مسيرة بإذنه ، مقدره بقدرته ، مدبره بتدبيره ، فلا شأن ولا أمر يجري إلا بعلمه وتدبيره ، ولا حال يكون إلا بإذنه وتقديره ، فهو الله الرب الذي يعبد ويحمد ويرجى ويدعى ويطاع ويخشى ، وإليه تتوجه الوجوه وبحكمة ترضى ، وله تستسلم القلوب وبذكره تطمئن ، وبه تزكو النفوس وبطاعته تأمن ، وله تنشرح الصدور وتستنير ، وعلى حكمه كل شيء يسير ، وبعلمه يستقيم المسير ، وبغيره يضل ويبور ،فلنكن من المتذكرين ، إنما يذكر أولوا الألباب ، ولنكن له عابدين لننال عطائه الأرحب ، ولنكن له محببين لنكون ممن أحب ،ولنعتمد عليه بلا شفعاء ، لنكون عنده من المقربين السعداء ، ولنقدره حق قدره لنسموا في مقام الأنبياء ، ولنكن على يقين بأن إلية الرجعى ليجزي كل نفس بما تسعى ، فإن له الأولى والأخرى ، (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) يونس 4 . ¶ ولأنه يدبر الأمر في السماء والأرض ، وفي قلب الإنسان وفي قلب الأكوان ، فإنه يقول : (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) يونس 5 أليس هذا التقدير والتدبير دليل ، على أن كل شفيع إليه يعود ، فها هي الشمس المعبودة مسيرة ، وها هو القمر المعبود مقدر ، فكيف غفل الناس عن هذا الرب الأقدر ، كيف جهلوا قربه من كل صغير وكبير ، ومن كل ذرة في الأرض أو في السماء ، وعلمه محيط بكل شيء في أعماق الحجار ، وعروق الأشجار وظلمات البحار وفي بروج النجوم والأقمار ، فهو الرب المدبر والمسير ، بلا ند ولا شريك ، ولا ولي ولا عضد ابدا (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) الكهف 26 أسمعتم آخر الآية! بل وأولها (ما لهم من دونه من ولي) ¶ فهو الولي الذي يرجى ويدعى ويستنصر ويخشى وهو الذي يدبر ويسير ، وهو الذي يحكم ويقدر ، ويعلم بما حكم وقدر ويستمر متابعا فيما حكم به ، وكلا فلا يشترك أحد معه في التقدير والتدبير ، ولا في الحكم ، ولهذا قال (ولا يشرك في حكمه أحدا) فمن ذا الذي يتطاول أو يقدر أو يتكبر أو يدبر دون الله المدبر المتكبر ومن ذا الذي يشفع وينفع ويدفع سوى الله الذي يعلم كل خفي ويسمع ¶ ولا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ، ولا يعزب عنه ولا يعجزه شيء ، ولا يفوته ولا يسبقه حي أو شيء ، الكل له عايدون عبيدا والكل له محتاج فقير (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?93? لقد أحصاهم وعدهم عدا) مريم 93/94. ¶ والآن وقد عرفنا معنى الشفيع ، وتأكد لنا أنه السبب ، وعلمنا أن الأسباب لا تنفع ولا تدفع ولا تشفع ، إلا بإذن الله المدبر المقدر ، وحتى ولو كان هذا السبب إنسانا نبيا من الأنبياء ، أو ملكا من الملائكة ، فإنه لا ينفع ولا يقطع ، إلا بإذن ربه.إذا عرفنا وعلمنا ذلك بلا خفاء ولا غموض ، فإن من المناسب أن ننتقل إلى آية أخرى تؤكد ذلك الأمر ، وتلك الحقيقة ، وتدعم اليقين بأن الله هو الشفيع الحق ، والولي الفعال ، (الم ?1? تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ?2? أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) السجدة 1-3 إنه رب العالمين ، فهو يعلم كل شيء في الأرض والسماء ، ويعلم ما يعمله الناس في كل حال وحين ، ولهذا فإن تنزيل الكتاب منه بلا ريب لأنه وحده الذي يعلم الغيب ، وكيف لا وهو رب العالمين ولأنه يعلم كل شيء فإنه يدري أن الناس غافلين ، يقولون أن القرآن مفترى لأنهم يظنون أن الله بعيد في السماء ، لا يعلم ما يجري في الأرض ولا يدري ما جرى ، ولكن الله يقول (بل هو الحق من ربك) فالله هو الحق وهو الرب الحق ، ولهذا لا بد أن يدعو إلى الحق ويهدي إليه عباده ولأجل هذا أرسل الرسول إليهم وأنزل الكتاب عليهم (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) أليس أن الله يعلم أن هؤلاء القوم لم ينذروا من قبل هذا الرسول ولهذا أرسله رحمة بهم (لعلهم يهتدون) نعم لعلهم فإن الهدى هو الرخاء ، الذي يجب أن يسعى إليه الإنسان فإذا اهتدى فقد نجى ، وقد نال الخير والحب من ربه الأعلى الذي يعلم السر واخفى ، ويعلم ما يحتاجه الإنسان من عطاء ، ولأن الإنسان الغافل قد يستغرب ويقول كيف يمكن أن يرسل الله العلي العظيم رسولا ، وكيف يمكن أن يدنو الله إلى هذا الرجل ويؤتيه بالعلم ، ويوحي إليه بالذكر والهدى ، وهو بشر مثل الناس الذين يعيشون في الأرض بعيدين عن الله الساكن في السماء وحوله الملائكة والملأ الأعلى ، وهم بالإرسال الأولى ، فلماذا يرسل الله رجلا ، ولماذا يبعث بشرا رسولا ، وحوله الملائكة وهم من الله الأقرب والأدنى ، هكذا يفكر الغافلون وهكذا يتصور الله الجاهلون ، وهكذا له يجسدون ويتصورون (ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ?74? الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ?75?) الحج 74/75 لعل هذه الآيات تفصح عن قدرة الله وعزته وعلمه وقدرته وقربه من كل الخلق بعلمه ورحمته ، وأن إليه وحده ترجع الأمور ، وله وحده الاختيار لما يشاء ، وكيفلا وهو الله السميع البصير. ¶ لا تلوموني على هذا الإستقراء ، ولكن قولوا إذا كان هذا هو شأن الله ،، لنقرأ معا كيف يوضح لنا علمه المحيط ، وتدبيره الذي بلا وسيط وليس فيه شريك ، ولا ند ولا عضد ، فيما يريد كلا بل هو الولي والشفيع الذي يعلم كل قريب وبعيد ، ما لي أسرح وأسبح وأطلق العنان لقلمي ولساني ، ولماذا أتقدم وأستبق البيان الرباني ، فاعذروني أيها القراء ، وها هي الآيات أمامكم يا إخواني (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) السجدة 4 هكذا يبدأ البيان لمن جهل ربه ، من بني الإنسان فهو الخالق السماوات والأرض ، والخالق ما بينهما من كل نراه ، وما لا نراه ، ثم هو المدبر لكل ذلك ، ويعلم حاجة كل شيء ، وما سأله يؤتاه وهذا هو معنى (ثم استوى على العرش) إن كلمة ثم لا تعني التراخي الزمني كما هو شأنها في حروف العطف ، ولكن تعني أن الخلق كان بعض الشأن وأن الإستواء على العرش شأن أهم وأسمى ، لأنه يعني التدبير والتسيير لكل الخلق في الأرض والسماء ، ولكل نجم وقمر ، وكل نملة وحبة تبذر ، وكل شمس تضيء وتشع ، وكل ثمر ينفع ، وكل كوكب سبح ، وكل عطر نفح ، وكل زهر تفتح ، وكل فكرة تسير وكل خاطرة تدور ، وكل ما في أعماق الأقمار والشموس ، وكلما في خفايا النفوس وكلما في السحاب ، من ماء وبروق ، وكل دم في العروق ، وكلما في الأجواء يتقلب من ليل ونهار ، وزمن يدور ، وكلما تفكر به القلوب التي في الصدور ، نعم هكذا هو المعنى الأعم ، وهذا هو الاستواء على العرش ، ¶ ولهذا قال بعد ذلك موجها خطابه إلينا لنعلم أننا في الخلق مدبرون ومسيرون ، وأننا عليه معتمدون ، فإذا قال استمعوا وعوا (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) السجدة 4 أسمعتم ليس هناك أحد إلا الله ، وليس هناك معتمد ومتكل سواه فلنكن على علم بذلك ولنتجه إليه بانتباه (أفلا تتذكرون) السجده 4 فلتكن من المتذكرين فذلك هو شأن الإنسان العاقل (إنما يتذكر أولوا الألباب) الرعد 19إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) فاطر 28 ولكي يؤكد الله لنا ما أعلن من أنه الشفيع والولي في السر والعلن أردف الآية بآية أخرى ، فيها البيان الأوفى فقال (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) السجدة 5 فهو المدبر لا سواه ، في السماء وفي الأرض ، وهو الذي يرجع إليه الأمر ويعرج فلا يفوته شيء ، ولا يعزب عنه شيء ، مهما تمادى به الزمن وطال ، ومهما تقدم به في الماضي ، أو كان في الاستقبال ، فكل شيء وحال ، يدبره الله ذو الجلال ، ولذلك أعقب الآية بما يقطع الجدال فقال(ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) السجدة 6 فهو عالم كل غيب ، وهو عالم كل شهادة ، وهو الرحيم الوهاب وهو الغني الغلاب ، فأين ومن أين يمكن أن يكون من دونه لنا شفيع أو ولي ،.. كلا فلا شيء ، ولا حي ، يعلم الغيب إلا الله العليم القوي ،، ¶ إن الشفيع يعني كما أسلفنا أن هناك من يعلم ما لا يعلمه الله ، وأن ينبئ الله بما أحاط به من دون الله تماما كما جاء الهدهد إلى سليمان (فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين) النمل 22 وفعلا فلقد أحاط الهدهد بما لم يعلم به سليمان ، فهل هذا يجوز على الرحمن ،.كلا كلا إن هذا هو البهتان ، ولكي نقطع أوهام الشيطان ونمحو عن عقولنا الظنون ، فلنستمر مع آيات السجدة ساجدين فالله بعد أن أكد أنه (عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) أراد أن يوضح لنا نتائج العلو والعزة ، وأن يدلنا على آثار رحمته وحكمتة فقال مبينا المعنى بأسلوب أدق(الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ?7? ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ?8?) السجدة 7/8 فها هو ينتقل بعقل الإنسان ، من خلق السماوات والأرض إلى أقرب شيء من الإنسان ، وهي خلقه هو ، وإلى أخص شيء به وهو وجوده وأصله ، فالله هو المحسن لكل ما خلق ومن إحسانه وإتقانه وعزته ورحمته وعلمه وحكمته ، بدأ خلق الإنسان من طين ثم نقله من حال إلى حال أرقى وأزكى ، وأسهل للتوالد والبقاء ، وهو (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) فبهذه السلسلة المائية تتم الزوجية وبهذه الزوجية وفيها يبذر الإنسان ويتوالد في الأرض ، وينشر بشرا رجالا ونساء كثيرا ، فسبحان المحسن المتقن ، البديع الجميل ، وبهذا الإبداع والجمال أكمل الخلق للإنسان ، وسواه على أحسن صورة ومثال فقال (ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) السجدة 9 إنه تكريم للإنسان ، وتفضيل وتصوير ، في أجمل تمثيل ، وتقويم في أحسن تقويم ، وكيف لا وهو الله العليم القدير ، الذي يعلم الغيب والشهادة وهو السميع البصير ، وبهذا سوى الإنسان ، ونفخ فيه من روحه وعلمه من علمه ، وجعل له السمع والأبصار والأفئدة ، وأهله وكرمه ليكون لعطاء ربه سميعا بصيرا ، ثم ليكون لربة شكورا ، ولا معنى للشكر إلا أن يفي لربه بما وهب له ، وما أعطى ويقدره حق قدرة وينزهه من الشريك في ملكه ، ومن الشريك في علمه ، ومن الشريك في حكمه ، ولكن الإنسان بقي دون ذلك ، فكان بعض الناس كما وصفه الله أنه (قليلا ما تشكرون) ومن لم يشكر بذلك المعنى السامي التام فهذا هو الضلال المبين ، والسقوط المهين ، عن مقام الشاكرين فالشاكرون في الناس قليلون ،وهم الذين لا يظنون سوى الله شفيعا ولا يتخذون من دونه وليا ، ولا يستنصرون بما لا يبصر ولا يسمع شيئا بل الله ربهم هو الشفيع ، النافع والقدير ، المانع والعليم ، الواسع والقريب النافع المجيب ، لمن دعا بقلب خاشع. فهو المدعو والمرجو والمعبود ، وهو الملجأ والمراد والمقصود وهو المعطي والوهاب المحمود ، إنهم على الله يتوكلون ويعتمدون ، وبه هم يقدرون ، وبه لا يشركون ، وهم له بإخلاص شاكرون.أما غير هؤلاء الشاكرين ، فإنهم في ظلمات الضلال تائهون وفي مهاوي الهوان هاوون ، وفي سحيق الجهل ساقطون يا حسرة على العباد يتخذون ، دون الله الأنداد لا تنجي ولا تؤذي وأمام هذا الجهل المظلم ، الذي سقط فيه الإنسان المكرم ، فإن الآيات تؤكد للإنسان ، أن يرتفع ويسمو إلى المقام ، الذي شاءه له الله عالم الغيب والشهادة ، وأن يزكو ويتذكر ، كما يريد له ربه رب العالمين الذي أنزل الكتاب لعلهم يهتدون ، وأن يكون على علم أن الله لا سواه هو المدبر العظيم ، والعزيز الحكيم ، والولي الرحيم والشفيع العليم ، فلا اعتماد ولا ركون ولا توكل إلا عليه ، ولا توجه ولا إلتجاء إلا إليه ، ولا عبادة ولا حمد ولا سجود إلا له ، ولا شكر ولا تسليم إلا له ، فهذا هو التذكر والإيمان ، وهذا هو التقى والإحسان وهو السلام والأمان ، وسوى ذلك هو الضلال والهوان ، والخوف والأحزان والندامة والخسران، في الدنيا والآخرة ، وفي كل حال وآن فيا حسرة على العباد ، الذين يتخذون لله الأنداد ، التي لا تضر أو تنفع بل ضرها أقرب من نفعها ، فبئس من تولاها واستشفعها . ¶ وهكذا ندرك ما يعنيه الشكر من الشاكرين ، ونعرف علو شأن الرجل الشاكر في سورة يس ، وسر جدارته بمقام المكرمين (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ?20? اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ?21?) يس 20/21 لقد أعلم قومه أجمعين ، أن الرسل هم الذين يجب أن يتبعوا لأنهم يهدون إلى الله رب العالمين ، واليه يدعون ، وله وحده يعبدون ¶ فاتباعهم إنما هو بعبادة الله ، أحسن الخالقين ، ولهذا أعلنها الرجل بلسان مبين فقال (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) يس 22 إن صفات الله التي وردت في كلام هذا الرجل ، تختصر أهم صفات ربه العظيم ، فالذي فطر السماء ، هو الذي يعلم كل خفي ومعلن ويحيط بكل شيء علما ، ويدبر كل شيء رحمة وحكما ، وأنه الذي إليه وحده يرجع الناس أجمعون ، هو الذي له الملك في ذلك اليوم الموعود وله العلم والحكم في ذلك المقام المشهود ، فلا يخفى عليه شيء من خفايا العباد ، ولا يند عنه أحد من الأمم والأفراد ، فهو المتصرف يوم المعاد وكلهم آتيه مستسلما عبدا ، وكلهم آتيه مستجيبا فردا ، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وهو الذي يتصرف في العباد وله التدبير فلا يشاركه أحد في حكمه ، وهو الذي وسع كل شيء رحمة وعلما (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17 وهكذا استطاع الرجل أن يصف ربه بما يستحقه وبما يليق به إذا فهو المعبود والمحمود والمقصود وهو الملجأ ، وإليه المئاب والمرجع في اليوم الموعود ، ثم انطلق يوضح للناس خطر الشرك بالله والاستشفاع بسواه ، فقال مستنكرا مستغربا مستعجبا مستفهما (أأتخذ من دونه آلهة) سؤال مهم ، وإن الجواب عليه لا بد أن يوضح لمن لا يفهم ، ولقد جاء الجواب بأسلوب الشرط الأهم (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) هكذا استبان له أن ربه هو المدبر النافع ، والمتصرف والشافع فلا يشفع سواه شيء ولا ينفع ، ولا يضر ولا يدفع ، فكل شيء أمام ربه الرحمن عاجز ، مسير ضعيف ، وبه مستجير ، وكل شيء لربه مستسلم واليه فقير ، فإذا أراد الرحمن شيئا فلا راد لما أراد ، وهو الحامي والفاطر للعباد ، وهو الذي عنده ينال الأمل والمراد ، وهو الذي أخذ لكل دابه بالقياد ، وهي له مستسلمة الانقياد ، فمن استشفع بسواه فقد ظل وخاب ما اراد ، وما أمل وسقط في ظلمات الجهل والخبل ، ¶ فلا شفاعة القوى السماوية والأرضية تغني ولا تدفع عن الإنسان ما يضره ولا ثني، لأن الرحمن هو المدبر القوي وهو الوهاب الوفي ، وهو الوافي والحامي ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، وهو الذي تسير الأمور إليه ، وكل شيء وكل حي رزقه لديه ، فالاعتماد على سواه من الخلق أجمعين سواء الملائكة أو النبيين ، أو الطغاة الأشرار ، أو الأفلاك والنجوم والأقمار ، إنما هو ضلال مبين ، وهوان مهين ، فكل شيء تراه ينفع أو يفيد ، فهو وهم وجهل شديد ، وكل شيء تظنه منك قريب ، فهو بعيد بعيد ، لا يبدي ولا يعيد ، والله هو وحدة النافع المفيد ، والقريب المجيب للعبيد (إنه هو يبدئ ويعيد ?13? وهو الغفور الودود ?14? ذو العرش المجيد ?15? فعال لما يريد ?16?) البروج 13-16 فإن لم تلجأ إليه وتستشفع به فأنت في هاوية سحيقة الأغوار وأنت في ظلام وبوار ، وهذا هو ما عبر عنه الرجل في الختام ، فقال (إني إذا لفي ضلال مبين) نعم هكذا هو الحال لكل الذين يعدلون برب العالمين ، ويشركون بالله عبادة العاجزين ، ولهذا أردف الرجل كلامه بما يؤكد التوحيد الأكبر ، واليقين بربه الودود ، فأعلنها مدوية أمام الجمع والحشود (إني آمنت بربكم فاسمعون) فماذا يعني قوله آمنت بربكم؟.. أولا أنه أثبت أنه ربهم الذي خلقهم فيجب أن يؤمنوا كما آمن به ، ثم أنه يعني أنه آمن بربه وبربهم الذي يعلم ويقدر ، ويشفع وينفع ويضر ، ويحكم ويدبر ولكل شيء يسير ، وهو الذي يحاسب الناس ، ويعذب ويغفر فهو الذي يطاع ويخشى ويستغفر ، لأنه هو الذي يعلم ما نخفي وما نظهر ، وما نبدي وما نضمر ، وهو الذي إليه الرجع والمصير وإليه ترجع الأمور ، فليسمع الناس هذا الإيمان العميق البيان وليتبعوه ليفوزوا بالأمان ، وليسمعوا هذا البيان الهام ، فإنه طريق السلام. ¶ إن هذا هو ما أعلنه إبراهيم ، فلقد أعلنها أمام قومه وأبيه ببيان واضح وإيمان راسخ (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) الأنبياء 56 وهذا هو الذي أعلنه أصحاب الكهف على الملأ ، والفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدى (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا)الكهف 14 ¶ وهذا هو ما أعلنه مؤمن آل فرعون أمام الملأ (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) غافر 28 وهذا هو ما أعلنه محمد خاتم النبيين أمام الملأ المكذبين قال تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) الرعد 30 (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا) الجن 20 (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين) الأنعام 14 وهكذا فإن الربوبية هي أهم صفات الله ، وأن الإيمان به هو الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ?161? قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ?162? ¶ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ?163? قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ?164?) الأنعام 161-164 (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) آل عمران 51 (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) الزخرف 64 بل وهذا هو ما جاء به موسى وهارون ، وأعلناه أمام فرعون ولأمر الله مبلغين ، وبه معتصمين ، وهو معهما يحفظ ويعين (قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ?15? فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ?16?) الشعراء 15/16 ولهذا فإن السؤال الذي وجه إليهما من فرعون هو عن هذه الربوبية (قال فرعون وما رب العالمين) الشعراء 23 ولقد كان الجواب من موسى بالتوالي هكذا (قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ?24? قال لمن حوله ألا تستمعون ?25? قال ربكم ورب آبائكم الأولين ?26? قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ?27? قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) الشعراء 24-28 وهذا هو ما سأل عنه فرعون في سورة طه ، ولكنه هنا سأل (قال فمن ربكما يا موسى ?49? قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ?50?) طه 49/50 غير أنه في سورة الشعراء ، سأل عن ماهية الرب ، وهنا سأل عن من هو الرب ، لكن الجواب في الحالين كان عن من هو الرب لا عن الماهية ، فهو الرب الذي خلق كل شيء ، وليس كمثله شيء فلا يوصف كما توصف الماهيات. وعلى أي حال فإن الربوبية هي التي جاءت لتأكيدها الرسالات والنبوات وهو التي تؤكد عليها الآيات البينات ، وتدعو الناس إليها في كل الأمكنة والأزمنة ، بصفة ثابتة (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فصلت 30 (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) الأعراف 54 ثم قال (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) الأعراف 55 (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) غافر 60 إلى أن يقول (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) غافر 62 وقال في الأنعام بعد أن أورد عددا من صفاته وقدراته ، وتدبره للأمر (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ?102? لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ?103?) الأنعام 102/103 . ¶ وعلى هذا الأساس ، وعلى هذه الحقيقة ، يتضح أنه الله هو الشفيع وهو الولي وهو المولى ، وهو الذي يدعى ويرجى ، وهو القادر على كل شيء ، فلا يغفل ولا ينسى ، وهو المدبر لكل أمر وشأن ¶ في كل حال وزمان ، ولا يتم شيء أو شأن ، إلى بإذنه وعلمه وبتقديره وحكمه ، ولكي يتضح الموضوع أكثر ، وعلى بر الأمان نرسي ، لنقرأ معا آية الكرسي ، فإن فيها النبأ اليقين. إن كثيرا من الناس يظنون أنها تتحدث عن الشفاعة في الأخرى وليس الأمر كذلك ، بل هي تتحدث عن الشفاعة في الدنيا ، وتؤكد أن كلما يجري لا يتم إلا بإذن الله ، وعلمه بلا مراء (الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) فهو الحي وحده ، وكل حياة منه ، وهو الذي لا يموت وكل شيء يفنى ويموت ، وهو القيوم الذي لا يغفل ولا يعزب عنه شيء في السماء والأرض ، ولا يعجزه شيء ولا يفوته ، بل كل شيء به يقوم ، وهو القيوم ، وكل شيء ينوم ويغفل وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، وإن من هذه صفاته ، وذلك شأنه فإنه الجدير بأن يحيط علما بكل ما في السموات والأرض وأن يدبرهما وما بينهما ، وأن يحكم ويتصرف بما يشاء ، وكل سبب إنما هو بإذنه لا سواه (له ما في السماوات وما في الأرض) يعني إن له تدبيرها بلا عون ولا شريك ، وكل شيء بأمره وإذنه يتحرك ، وكل سبب بعلمه يؤثر (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) فإذا كان السبب أو الشفيع أثر ، فالله هو الذي أذن له ويسر وهو الذي قضى وقدر ، وإذا تنفذ ما أمر ، بواسطة هذا الشفيع أو السبب فإن الله يعلم البداية والنهاية ، والأثر والغاية ، والمبتدا والعقبى والظاهر والباطن فيما جرى ، وكيفلا وهو يقول (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) فكل سبب سواء كان سببا عاقلا ، كالملائكة أو البشر أو الجن أو سببا غير عاقلا ، كالشمس والكواكب والأقمار ، والليل والنهار والأحجار والأشجار ، بل وكل مخلوق سواها ، كل هؤلاء الأسباب لا يخفى على الله من أعمالها وآثارها وأفعالها شيء ، ولا يخفى على الله من عقبى آثارها شيء أبدا ، ثم أنها لا تعلم ما يريده الله ، ولا ندري ما يقدره إلا بالقدر ، الذي يشاء وبه يرضى ، فكل شيء جاهل غافل مسير ، والله هو الحي القيوم المدبر والمسير ، والعليم بكل ما يخفى ويظهر ، ويتقدم ويتأخر ، لأنه وسع كل شيء علما (وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم) فعلمه وسع كلما يجري ويتحرك ، وهو الحافظ لذلك ، وبه مدرك وهو الممسك ، وكل شيء به متمسك ، ولا يثقل ذلك عليه أبدا ، بل هو المعتمد أبدا ، وهو مع ذلك علي على كل شيء ، والرفيع الدرجات الذي ليس كمثله شيء ، ¶ وكل مخلوق ضعيف صغير حقير ، إليه فقير وهو الله العظيم ، الذي لا يحتاج إلى أحد ، ولا إلى شيء والغني عن العالمين ، والذي يخشاه الخلق أجمعون ، وهم من خشيته مشفقون ، وله مسبحون ساجدون ، لا يفترون ولا ينامون ولا يتسحرون (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ?17? وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ?18?) الروم 17/18 (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) الإسراء 44 (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) الرعد 15 (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) الحديد 1 (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) الجمعة 1 (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ?1? هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ?2? خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ?3? يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ?4?) التغابن 1- 4 إن هذه الآيات تفصح بجلاء ، عن علم الله الذي يحيط بكل الأشياء وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء ،وأنه عليم بما نعلمه نحن وما نسره على السواء ، وكيفلا وهو العليم بذات الصدور ، وبما نعمله بصير ، وهو الذي إليه المصير ، ليجازي كل إنسان بما عمل بلا ظلم ، فسبحانه العلي الكبير ، حتى إذا حان موعد النشور ، جمعها وأحيا ، وأعادها كما بدا ، حتى ولو كانت حجارة أو حديدا لأنه يعلم أين توزعت ، وكيف تحولت ، وأين استقرت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) سبأ 3 . ¶ وإذا فإن المتفكر يوقن بأن ربه هو المدبر وهو الذي يحيي ويميت ويحفظ ويقيت ، وهو العليم بحالك ، والمسير لشانك في اليقظة والمبيت والمقدر ذلك بلا تفويت ، وعليه فهو الذي يدعى ويرجى ويطاع ويخشى ويحمد ويعبد ، ويشكر ويقصد ، بلا واسطه ولا شريك ، ولا ند ولا شفيع ولا ولد ، فهو الله الواحد الأحد ، ولا يشركه في حكمه من أحد ولا يتخذ في ملكه وليا ولا عضد ، وكما اتضح لنا علمه بما نخفي وما نعلن على السواء ، وتدبيره لكل ما نعمله ونسعى له ، فإن الله يوضح لنا علمه بما يجري عليها من تغير الأحوال ، وأنه المدبر لما يطرأ علينا ، من نوم ويقظة ، وطفولة وكهولة ، وشباب وشيخوخة وموت وحياة ، فيقول في سورة الزمر (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر 42 هكذا يدعونا للتفكر ، فيما يحدث علينا من تغير ، لنعلم أنه هو المدبر فإن المتفكر في هذا ، يوقن أن الله هو الرب ، الذي يحمي ويقي ويميت ويحيي ، ويحفظ الأنفس في النوم ، ثم يطلقها لأجل مسمى في حفظه وتدبيره ، حتى ينقضي أجلها المسمى ، في هذه الدنيا ثم يتوفاها بالموت الذي ينقلها للحياة الأخرى ، ثم يحفظ عظامها وأجزائها في كتاب علمه وتدبيره ، فلا يخفى عليه شيء من الجزيئات ، ولا يفوته شيء من أصغر الذرات ، وعلى هذا الأساس وبناء على هذه المقدمة التي أوضحتها الآية الكريمة في سورة الزمر ، تأتي الآيات التالية لتسأل الناس فتقول (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) الزمر 43 إنه سؤال تقدير ، ولكنه يطوى الاستنكار ، فلقد اتخذ الناس فعلا من دون الله شفعاء ، وظنوا أن هؤلاء الأرباب وهذه الأسباب تجديهم نفعا ، أو تملك للضر دفعا ، أو تعلم عن الناس ما يحتاجون فتجيب أو تدري بما يضمرون فتحكم ، كلا بل كل هذه الأسباب والأرباب لا تنفع ولا تضر ، ولا تحكم ولا تدري ولا تعلم ، ولهذا عقب السؤال بسؤال أهم ، لمن يفهم ، وهو قوله تعالى (قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) الزمر 43 أي كيف تتخذون من دون الله شفعاء ، يدعون أنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، فهل هم يعلمون ما لا يعلم ، وهو العليم بما تعلنون وبالسر واخفى أما هؤلاء الوسطاء والشفعاء ، المتخذون من دون الله فهم إما لا يعلمون شيئا إن كانوا يعقلون كالملائكة والأنبياء ، وسواهم في الناس كالطغاة الضالين، وإما لا يعقلون إن كانوا من الكواكب والنجوم ، أو الشمس والقمر ، أو سواهما مما عبده الناس بلا علم ولا هدى ، فكيف تتخذون من لا يعلم ولا يعقل شفيعا ، عند من يعلم ،وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ولا يفوته حال ولا شأن ، في كل حال وزمان ، وفي كل حين ومكان وفي ماضي الزمان ، وقادمها ، حتى بعث الناس وقيامها ، إذا فهو الذي يتخذ شفيعا ومرجعا ، وهو الذي يدفع به الضر ، ويجلب به النفع ولهذا فإن الله يفند قول وفعل المتخذين شفعاء سواه ، ويصوب لهم الطريق ، الذي فيه الحق والنجاة ، فيقول (قل لله الشفاعة جميعا) الزمر 44 ¶ نعم له كل الأسباب ، وله كل التدبير ، وإليه تتجه القلوب والحياة ولله يقصد العالمون التقاة ، لأنهم يعلمون بأنه العليم بكل حال ، كما قال (له ملك السماوات والأرض) فهو المدبر والحاكم ، ¶ وهو المسير العالم وهو المقدر لكل شيء بشكل دائم ، ثم ماذا بعد أن الذي يعلم ويدبر هو الذي يحكم ، وللجزاء يقرر ، ولهذا قال (ثم إليه ترجعون) الزمر 44 نعم إليه وحده مرجع الجميع ، فمن أين يكون بينه وبين خلقه شفيع وكيف للشفيع أن يعلم ما لا يعلمه وأنى يستطيع ،، إن هذا الذي يتخذ الشفعاء واهم غلطان ، يتبع الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا ، ويخبط في ظلمات ظلماء ، خبط دابة عشواء ، ولهذا فإنه يتمسك بالهباء ، ويطمئن إلى الهراء والافتراء ، ويفزع من ربه الحق الذي خلق وسوى ، والذي قدر فهدى ، والذي يعلم السر واخفى وهذا من عجيب السلوك ، وأفضح العناد ، وهذا ما أنزله الله على هؤلاء الأغبياء فيقول (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) الزمر 45 ¶ فيا لغفلة المعتمد على غير ربه العلام ، والمستشفع بالظنون والأوهام إنه يطمئن إلى المخلوقات ، ويشمئز من الخلاق ، ويستبشر بالمظنونات ويقلق أمام ربه الحق ، إنه سلوك أحمق ، وهنا يتجه الخطاب إلى الرسول وإلى كل ذي عقل وفؤاد ، ليعلن لهم أن الحكم لله وحده بين العباد لأنه هو الخالق البديع ، وكل شيء إليه يعاد (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46 أتفهمون كيف التعبير (أنت تحكم بين عبادك) إنه حصر وقصر للحكم على الله وحده ، وله وحده الحكم بين عباده ، وكيفلا وهو عالم الغيب والشهادة ، وهو مناط كل شيء وعليه وحده اعتماده ، فالحكم له وحده ، وكل شفيع جاهل ، وغير عاقل ، لا يعلم من أمر العباد شيئا فكيف يتخذونهم شفعاء ، إنه الجهل والغباء ، والضلال الذي يردي إلى اللظى. ¶ وهكذا نصل مع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الشفاعة الدنيوية ، وتؤكد أن الشفاعة والشفعاء ، لا ينفعون ولا يعلمون شيئا ولا يدفعون ضرا ، ولا يسمعون دعاء . إن كل سبب لا يؤثر ، إلا بإذن ربه المدبر المقدر ، وكل سبب لا يفيد بل الله وحده هو الولي المقصود ، والرب المعبود ، والرقيب المجيب لمن سأل ، والسميع الدعاء ، والمعطي كل مخلوق ما سأل ، والعليم بحاجته قبل أن يسأل ¶ (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) الرحمن 29 فكل شيء له حال ، يسأل به ربه فينال ، وكل حي له شأن ، يسأل به ربه ويستدعي عطائه ، والله ربه يلبيه به في كل حال وآن ، ¶ حتى قبل أن يظهر عليه الاحتياج ، فالله ربه يعلم حاجته ، قبل أن يدعو لها فيأتيه بها ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإن على الناس أن يسألوه وحده فإنه المجيب القريب ، وأن يقصدوه وحده ، فهو الرب الذي يعلم ويحكم ويدبر (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) فإذا كان يرعى العشب في الوديان ، والتلال والسهول والجبال وإذا كان يرزق الأحياء ، في أعماق البحار ، ويصور النطف الإنسانية والحيوانية ، في ظلمات الأرحام ، ويلون الثمار والأزهار ويمنحها العطر في الأكمام ، فكيف لا يرعى ويحمي ويعطي ويهدي ويطعم ويسقي ويصور ، ويشفي هذا الإنسان ، وهو أكرم مخلوق وأسما حالا ولقد فضله الله على كثير من الخلق تفضيلا ، إنه ربه الحبيب القريب المجيب الحسيب ، وإليه يجب أن يتجه الإنسان ، وعليه يتوكل ، وله يجب أن يخضع ويطيع ، ولوجهة يعمل ، ليجد ربه معه في كل حال يهدي ، ويرفعه الأنعال ، ويفتح له البركات والرحمة ، ويسبغ عليه الخير والنعمة ، متاعا حسنا ، حتى ينتهي أجله الذي سماه ، ومن ثم يستقبله بالمغفرة والرضوان حين يلقاه، وهذا هو الفوز العظيم ، والفلاح الذي يرجوه كل ذوي قلب سليم ، لعله قد حان موعد الانتقال لفهم الشفاعة في الآخرة لكني قبل أن أنقلكم إلى الآخرة ، أسألكم ونحن لا نزال في الدنيا إذا كانت الدنيا هي دار الأسباب ، وهي دار الفتنة والابتلاء ، والناس فيها يرون الأسباب هي الفاعلة ظاهريا ، فلماذا الله سبحانه وتعالى استنكر في الآيات التي أوردناها من اتخذوا الأسباب شفعاء من دون الله ولماذا أكد أن الشفاعة لله جميعا ، وأكد أن اتخاذ ما لا يضر ولا ينفع شفعاء شرك بالله. ¶ إن هذا هو الدليل على أن الشفاعة مستحيلة ، وغير واردة إطلاقا في الآخرة ، لأنها الدار التي تنقطع فيها الأسباب ويتضح فيها الحق الذي خفي على الناس وغاب ، ويتضح للناس أن ربهم الحق هو الله ، وأنه الولي لا سواه ، وأنه هو المدبر لكل شيء يراه ، وعلى أي حال فإن هذا مجرد مقدمة ، لتدخلوا إلى الآخرة وقبل الدخول ، لا بد لي أن أذكركم بآيات سورة الزمر ، التي تؤكد أن الشفاعة في الدنيا لله ، فلقد قال (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ?43? قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون) الزمر 43/44 ¶ إن تقديم كلمة الله في قوله (قل لله الشفاعة جميعا) يعني أن الشفاعة محصورة على الله ، مقصورة عليه ، ثم إن قوله (له ملك السماوات والأرض) فبتقديم الجار والمجرور ، يعني كذلك أن له وحده علم السموات والأرض ، ومن يعلم فهو الذي يحكم وله الأمر في كل شأن وحال ، ثم إن قوله (ثم إليه ترجعون) بتقديم الجار والمجرور يعني أن الرجوع إليه وحده ، وهو الملك والمتصرف في يوم الدين ¶ وأن الذي يبقي الناس كلهم عند قيامهم هو ربهم ، وإليه مآبهم ، وعليه حسابهم (إلى ربك يومئذ المساق) (إلى ربك يومئذ المستقر) القيامة 30+12 ثم إني أذكركم بقوله تعالى في آيات سابقة أوردناها (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) إن اشتراط الإذن في أثر الشفاعة والشفيع ، يعني أن كل سبب لا يفيد إلا بإذن الله ورضاه ، وكل سبب عاجز لولاه ، ولنضرب لكم مثلا فيما نلمسه ونراه ، فالشمس مثلا لا تضيء ، ولا تبعث الدفء والحرارة إلا بإذنه وإلا لم تقدر ولم تصل ، والماء لا يمكن أن يروي ويحيي الأرض إلا بإذنه ، وإلا لما أثر وروى ، والهواء لا يمكن أن ينعش الأحياء ويحرك الأشياء ، إلا بإذنه وإلا لما كانت هناك حياة وهكذا هكذا سائر الأشياء والأسباب ، ولهذا قال لرسوله محمد وهو من أولى العقل (وداعيا إلى الله بإذنه) الأحزاب 46 وقال (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) إبراهيم 1 وقال عن المسيح وهو يتحدث عن رسالته وآياته (وأبريء الأكمه والابرص وأحي الموتى باذن الله) آل عمران49 وإذا كان هذا هو شأن المسيح ، الرسول المؤيد بروح القدس ، فان من المهم أن نقول وهكذا سائر الأدوية والمداوين ، في حياة العالمين حتى الملائكة لا تؤثر إلى بإذن الله ، يقول الله عن جبريل ¶ (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) البقرة 97 ويقول عن الملائكة أجمعين (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) مريم 64 فهم لا يتحركون ولا يعملون ولا يؤثرون ، إلا بإذن الله وأمره ، وهو يعلم عنهم كل شيء وحال. ¶ إذا فكل سبب لا يعمل ولا يؤثر ولا يضر ولا ينفع إلا بإذن الله ، لأن الله العليم لمن أذن وبماذا أذن ، ولا يخفى عليه شيء من الأسباب والآثار ولا ما قبل الأثر ولا ما بعده ولا ما بين ذلك ، بل هو المدبر لكل ذلك ، باستمرار ولهذا قال (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) بعد قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)في آية الكرسي وقال في آية في سورة يونس (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) بعد قوله (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)وقال في آية في سورة الزمر (له ملك السماوات) بعد قوله (قل لله الشفاعة جميعا) وفي آية السجدة قال(ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) بعد قوله (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)إذا فهو العليم المدبر ، والمحيط علما بما تقدم وتأخر ، والمطلع على كل أثر ، وعلى كل سبب وشفيع ومؤثر ، حتى الملائكة لا أثر لهم إلا بما أذن وبما أمر ، وكيفلا والله يقول في سورة الحديد (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ?1? له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ?2? هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ?3? هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ?4? له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ?5? يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ) الحديد1-6 إن كل هذه الصفات ، وكل هذه البينات ، الدالة على علم الله بكل شيء وحي ، تقطع الريب في القلوب ، وتقطع الشك في النفوس ، فكيف كيف بعد هذا نظن لله شريكا في علمه يشفع ، أو نتوهم لله عضدا في حكمة ينفع أو تحسب لله ندا في قدرته يدفع.كلا بل هو الشافع والنافع والدافع ، وهو ذو العلم المحيط الواسع وكل شيء له فقير ، وبه مسير ، وكل شيء إليه محتاج مضطر وكل حي وعاقل من جن أو بشر ، لا يعلم شيئا إلى ما علمه الله ، وكل نبي أو رسول ، لا علم له من ربه الخبير ، إلا مهمة له إلى الإنذار والتبشير وكل ملك في السماء والأرض ، لا عمل له ولا أثر ، إلا ما أمر به ربه ولا قدرة له على شيء ، إلا ما مكنه فيه ربه ، ¶ وهنا نصل بكم إلى الآيات التي تتحدث عن الملائكة ، وتوضح مهمتهم في هذه الدنيا ونبين مدى شفاعتهم ومتى فلنقرأ الآيات التي تتحدث عن شفاعتهم ولنبدأ من أول تلك الآيات الواردة في سورة الأنبياء (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ?26? لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ?27? يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ?28? ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ?29?) الأنبياء 26-29 تأملوا الآيات وتدبروها ، تجدوها تسلب عن الملائكة الفعل والقول ابتداء وارتجالا ، وتبته لهم اتباعا لله وامتثالا ، ثم إذا كلفهم أن يعملوا شيئا ، فإنه معهم (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) وعليه فإن ما يجرونه من قول وعمل ، فهو عن أمر الله الأجل ولا يمكن أن يشفعوا ولا ينفعوا ، ولا يمكن أن ينال أحد منهم نفعا ولا يستفيد عبد منهم دفعا ، إلا إذا كان الله ربه رضى بذلك ، وقضى به له ، وأمرهم بأن يعملوا له ما ارتضاه ربه له ، وهم يعملون ذلك العمل الذي ارتضاه الله لعبده ، وهم في حال من الوجل الدائم ، والإجلال لربهم العالم ، وهم من خشيته مشفقون ، ثم أن الملائكة عباد مكرمون ولا يمكن أن يفرطوا في كرامتهم ، فيدعوا أن أفعالهم من ذات أنفسهم وبدون علم ربهم ، كلا فإذا فعلوا ما لا يرضاه الله ، وزعموا أنهم شركاء في ملكه وحكمه ، وأنهم يحكمون في الخلق من دونه ، وهو لا يعلم فهذا ظلم جزائه جهنم ، لأن فاعله قد تجاوز الحد الذي حدده الله الأعلم الأعظم ، وسبقه في ما قضى وحكم ، وصار مع من أشرك بربه وظلم فما جزائه إلا جهنم ، وهذا هو حكم الله في كل من ظلم ولتأكيد هذا الحكم ، فإن الله قد ختم الآيات بقوله (كذلك نجزي الظالمين) وهذه الآيات هي تأكيد لما سبق ، والتي تنفي عن الله الشركاء وتقول في وضوح عن الموضوع (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ?22? لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ?23?) الأنبياء 22/23 وهكذا يتضح أن الملائكة في الدنيا لا يشفعون ولا ينفعون ، إلا بما ارتضاه الله من حكم ، ولا يناله أحد من العباد ، إلا من ارتضاه الله له وكل العباد خاضعون (وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ?19? يسبحون الليل والنهار لا يفترون ?20?) الأنبياء 19/20 ¶ وإذا كانت آيات الأنبياء قد أفصحت عن هذا الأمر بجلاء فإني أدعوكم إلى سواها لنتدبرها سواء لنبدأ من سورة البقرة ، فلقد وردت فيها أربعة آيات ذكرت فيها الشفاعة فآية الكرسي التي أوردناها سابقا، خاصة بالشفاعة في الدنيا والقران فيها دالة على ذلك فهو بقوله تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض ) وبقوله (وسع كرسيه السماوات والأرض) إذا فالحديث عن الحال والأثر في الحياة الدنيا ، فلا يشفع فيها شيء ولا ينفع إلا بإذنه أما الثلاث الآيات الأخرى ، فهي عن الشفاعة في الأخرى ، وهي تبدأ بقوله تعالى لبني إسرائيل (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ?47? واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ?48?) البقرة 48 إن الله يحذرهم من الابتعاد ، عن تقوى يوم المعاد ، فإنه يوم لا ينفع فيه إلا العمل ، وليس للإنسان فيه إلا ما سعى ، وكيفلا وقد أكد هذا بقوله (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) لننطلق إلى سورة سبأ ، فإن الآيات فيها تتوالى واضحة البيان ، بأن الله هو المدبر للعالمين ، وتفند دعوى من أدعى أن لله بنات وبنين ، فلنقرأ الآيات متدبرين (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) سبأ 22 يا من يزعم أن لله شفعاء ، ويا من يدعي أنه له شركاء في حكمه في الدنيا في الأرض أو في السماء ، ها هو الله يأتيك بالنبأ ألا تتدبر هذا البيان ، ألا تصغي إلى هذا البرهان ، إن الله يتحداك أن تدعوا هذا الشفيع المزعوم ، الذي تركن إليه من دون الله ، إنك إن فعلت ، فقد اعتمدت على الهباء ، وخبطت في ظلمة ظلماء وجهالة عمياء ، وكيفلا وكل من تزعمهم شفعاء (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض أي لا يعلمون مثقال ذرة في هذا الخلق الواسع الكبير ، وهذا السكون الرائع البديع ، فكيف يستطيعون أن يفعلوا شيئا مما تزعمون ¶ هل شاركوا الله في خلق السموات والأرض شيئا ، كلا بل هم محكومون (وما لهم فيهما من شرك) هل استعان الله بهم في الخلق واتخذهم عضدا ، كلا بل هم عاجزون محتاجون ، فقراء لمن الله ¶ (وما له منهم من ظهير) وإذا فأنى يشفعون ، وهم لا يعلمون شيئا ولم يخلقوا شيئا من الأشياء ، بل ولا اتخذهم الله أعوانا فيما يشاء كلا إن هذا لافتراء ، وما هي إلا أوهام وظنون ، لا تغني عن الحق شيئا ولهذا فإن الله يتبع هذا البيان ، بنفي الشفعاء في كل حال وأثر ، وفي كل أمر وشان فيقول(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) سبأ 23 ماذا تعني هذه الآية ، إنها تعني بوضوح وجلاء أن كل سبب متوقف في خشوع ، مستشرف للتكليف بقلب مفزوع متوجه إلى ربه في حال وجل وهطوع وذل وخضوع فهو لا يعلم شيئا ، مما سيقضي به الله ويأمر ولا يدري ما يقدره الله ويدبر ، بل هو في فزع وتحفز ، لأمر الله منتظر هذا هو حال كل الأسباب ، سواء العقلاء أولوا الألباب ، أو الجمادات من الأسباب ، الكل في فزع وارتقاب ، لأمر الله الواحد القهار الغلاب فلا حركة ولا سكون ، في انتظار أمر الله ، الذي يقول للشيء كن فيكون ثم ماذا (حتى إذا فزع عن قلوبهم) أي كشف الفزع عن قلوبهم وانتهى زمن الارتقاب ، وجاء الأمر الصواب ، وسمعوا من ربهم الخطاب هنا يعلمون أنه قد أذن بما يشاء ، وأطلق الإذن للعمل ، فإذا بهم يسأل بعضهم بعضا ، قالوا (ماذا قال ربكم) وهو مجرد تصور للاستماع والامتثال ، والإصغاء لذي الجلال ، لكن الكل يدرك أن ما أمر به الله وقال ، هو الحق بلا جدال ، ولهذا جاء الجواب من الجميع بلسان واحد (قالوا الحق) هكذا هو حال كل سبب ، وهو حال عجيب ، فنطلق السبب أو الشفيع نافعا ، ويصبح ما قضى الله به واقعا ، فهو ينطلق ولا يبقى أمامه مانعا ، وكيفلا والله القدير قد قضى به وأمر ، وإذن به وقدر فلابد أن ينفذ في لمح البصر ، فليطع الأمر بلا تأخير ، فالله له الأمر والتدبير ، وقوله الحق وله وحده التقدير ، وهذا ما يعبر عنه السؤال (قالوا ماذا قال ربكم) إنه سؤال الطاعة والامتثال ، ولهذا يقول الجميع في الحال ، بعد أن سمعوا أمر ذي الجلال (قالوا الحق وهو العلي الكبير) وإذن فالتنفيذ والمباشرة لما قال الله ، هو العمل الحق لا سواه ، وكل سبب يمضي إلى ما كلف به ، بحرص وانتباه ، فالله من خلفه ومن بين يديه ، يعلم بما يعمل ، وهو العلي الذي يقهر كل عبد ، ويدبر ما يفعل وهو الكبير الذي يحيط علما ، بكل شيء ولا يجهل ، فكل سبب بأمره يعمل ، في خضوع ، ولما يقوله يسمع ويطيع ، فلا شفيع ينصح عنده وفي ملكه ، إلا وهو عبد ربه يعمل في خضوع ، ¶ فلنكن على يقين أن الشفاعة لا تنفع عنده ، وفي ملكه إلا بإذنه وعلمه ، لأن التدبير تدبيره والتقدير تقديره ، وأنه يعلم لمن إذن ، وبماذا إذن ، ويعلم كيف تنفذ الأمر ، ومتى وإلى متى ، وأين المبتدئ وأين المنتهى ، فهو محيط بكل ذرة علما ، وبكل حركة لها ، وهو المقدر دورها ، والميسر أمرها وهو المسير لها ، في دربها ، والمحدد مستقرها وأنت أيها الإنسان ألا تعي أنك كذلك ، وأن أمرك بيد ربك إن كنت لا تعي ، فها هي الآيات ، توضح لك الأمر بجلاء ، فيقول الله بعد تلك الآيات ، موجها إليك الخطاب ، على لسان رسوله ، ومرددا إليك السؤال بطريقة جميله ، فاستمع وأجب بنفس مسئوله (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) أسمعت السؤال ، فلماذا أنت ساكت بلا جواب ، هل أنت على ارتياب إن كنت كذلك ، فهذا أمر لا يليق بأولى الألباب ، ولكن مع هذا فإن الله يتولى بنفسه الجواب ، ويلقن رسوله الصواب ، فيقول (قل الله) نعم إنه الله الرازق لا سواه ، فهو الذي يبسط الرزق ، ويفتح أبوابه من السموات والأرض للملأ ، وإلا فمن ذا الذي يأتيك بالضياء والهواء والماء والغذاء ، ومن يمنحك الحركة والسكون ، في الليل والنهار ويمكنك من السعي باقتدار ، هل تقول إن هناك سوى الله شفيعا يوقضك كل يوم ، أو يرسل إليك النوم ، هل تدعي أن الهواء يأتيك ¶ من منفاخ صنعته أنت أو سواك ، هل تزعم أن الماء يأتيك من نبع ابدعته أنت بقواك ، هل تحسب أن قوتك وخبرتك هي التي تأتيك بالرزق والمال والأمان ، وإن حيلتك هي التي جلبت إليك الجاه والسلطان ، كلا بل كل ذلك مقدر لك ، من ربك ذي الجلال ، وهو بها يبتليك ، يرى هل تهتدي إليه ، أم تبقى عنه في ضلال ، ولهذا ختم الآية موجها الخطاب للإنسان ، في كل أحواله على لسان رسوله ، فقال (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سبأ 24 فماذا تبقى أيها الإنسان ، المخاطب بهذا المقال ، وماذا تريد أيها الإنسان الموجه إليك السؤال ، إنك مخير وحر الخيار ، هل توقن أن الله هو الشافع والنافع ، والرازق والخالق ، والمدبر والمسير ، والعليم بكل جهر وسر ، والرب لكل شيء ، فتكون من المهتدين ، وعلى هدى من الله رب العالمين ، أم تدعي سواه شفعاء ، ومعه شركاء ، وله أندادا في الحكم والتدبير ، والنفع والضر والتقدير ، فتكون في ضلال مبين ، لا شك أن أولى الألباب يختارون الفريق الأول بلا تردد ولا ارتياب . ¶ ثم أن هذا المقام لله رب العالمين ، مقام العالم المحيط بكل شي يتجلى بوضوح ، ويتوالى بأسلوب فصيح ، من أول سورة سبأ إلى آخرها فكلها تفصح عن علمه والتدبير ، وحكمته في التقدير (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) سبأ 1 فالحمد لله وحده ، وكل الحمد له في الأولى والآخرة ، وكيفلا وهو الذي له تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وهو يدبر ذلك بحكمه وخبرته وبعلمه وقدرته ، ولهذا ختم الآية بقوله وهو الحكيم الخبير ، ولتأكيد هذا بصورة أوضح يقول (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) سبأ 2 فعلمه مستمر بكل حركة وسكون ، وكل صعود وهبوط وكل خفاء وظهور ، وكل نمو وضمور ، وكلما لا نعلمه ولا نحصيه وهو مع ذلك الرحيم الغفور ، فرحمته وسعت كل شيء ، وهو الذي يفتحها متى يشاء ، ويمكنها لمن يشاء ، وهو الذي يغفر لمن يشاء فالأمر له وحده ، والعطاء والخلق له وحده ، والإنشاء له وإليه المرجع والمأوى ، وله الأولى والأخرى ، وهو المحمود فيهما بلا مراء ولهذا فإن الممارين في الساعة جهلاء ، ولا يقدرون الله حق قدره بل يجعلون له شركاء ، ويتخذون من دونه شفعاء ، وهذا هو الغفلة والغباء ، لأن الله يعلم كل غائب ومشهود على السواء (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) لماذا هذا القسم وهذا التأكيد ، وما هو الدليل على الساعة الأكيد إن الله يحسب بلا إمهال ، وبها وضح المقال (عالم الغيب) كيف هذا العلم وما مداه ؟؟ اسمع الجواب (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) سبأ 30 هل بعد هذا يظن ظان ، أن له شفعاء أو تنفع الشفاعة عند الله أو يدعي أحد ، أن للأسباب أثرا في ملك الله واستقلالا عن أمر الله أو فعلا دون إذن الله ، كلا كلا .. بل هو العزيز الجبار ، والواحد القهار وله الخلق والأمر وحده ، وله التدبير والتقدير لا سواه ، ولا يشركه في حكمه أحد ، ولا ينفع سواه ، ولا يشفع أبدا ، حتى الملائكة ، ولهذا قال من عبدوا الملائكة متوهمين ، أن لهم النفع أو الدفع ، أو الشفاعة فيما يضر أو ينفع ، يجدون من الله التنكير ، ومن الملائكة الاستنكار ، في آخر السورة فيقول (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ?40? قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ?41?) سبأ 40/41 أسمعتم.. حتى الملائكة لا يشفعون ولا ينفعون ، فإذا هم في الدنيا قد عبدوا ضلالا ، فإنهم في الأخرى يسبحون الله ، وينكرون على المستشفعين هذا الضلال ، ويؤكدون أن الله وحده وليهم ، وأنهم عبيد له فمن استشفع بهم وعبد ، فإنما اتبع هواه ، واتبع الشيطان فأغواه وأضله عن ربه ومولاه ، فلا ينفعه شيء هنا ، لا الملائكة ولا الجن الغواه فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا ولا ضرا ، ونقول للذين ظلموا (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) سبأ 42 أرأيتم كيف أن الحكم لله وحده ، وأن الشفاعة في الدنيا والأخرى له وحده حتى الملائكة الكرام ، عباد لا يعملون إلا بما حكم ولا يعلمون شيئا مما يقضي ويحكم ، حتى إذا جاءهم الإذن انطلقوا للمهمات ، وهو بهم جميعا وبما يعملون يعلم ، فسبحانه الله عما يشركون ، وتعالى علوا كبيرا عما يصفون ، والحمد لله رب العالمين. ¶ وبعد فإن من عبدوا الملائكة قد أبطل دعواهم في سورة سبأ التي نغادرها الآن إلى سورة أخرى ، فما هي السورة التي سنسير إليها إنها سورة لا تخفى ، فإنها فضيه كالنجم الثاقب ، وتدعونا لتلاوة آيات التنديد فيها ، بكل مشرك كاذب ، ولنتدبر آيات الكشف والتشفيع ، لكل مدع للشفاعة بلا علم ولا دليل ولا بيان ، ولكن بالوهم والظنون ، التي يتبعها الجاهلون ، فلنمض إلى سورة على نور الله ، ولنقرأ ما يقوله الله. إن السورة تخبرنا أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ، لا ينطق عن الهوى ، قد أوحي إليه القرآن فهو ينطق بما أوحي إليه ، ولا يتعداه ومستحيل أن يقول أن ما يملي عليه هواه ، كلا وكيف يمكن ذلك (إن هو إلا وحي يوحى ?4? علمه شديد القوى ?5? ذو مرة فاستوى ?6? وهو بالأفق الأعلى ?7? ثم دنا فتدلى ?8? فكان قاب قوسين أو أدنى ?9?) النجم 4-9 ¶ هذا هو حال جبريل عليه السلام ، فهو عبد من عباد الله ينزل بأمره وبإذنه لما يشاء ربه من المهام ، فيؤديها باهتمام ، والله يعلم ما يقوله وما يفعل ، والله عن كل شيء لا يغفل ، فماذا عمل جبريل في هذا التدلي والدنو الأدنى ، لقد أدى مهمته محدده من ربه الأعلى ، وذلك في قوله تعالى (فأوحى إلى عبده ما أوحى) النجم 10 لقد أتى جبريل ليوحي إلى محمد من ربه ، بما شاء الله به أن يوحي تلك هي المهمة لا سوى ، إذن فالاثنان جبريل الرسول الملائكي ومحمد الرسول البشري ، كلاهما عبد من عباد الله ، لا يعملان إلا بإذنه ولا يعلمان شيئا من علمه إلا بما شاء ، فإذا قضى بشيء ، فلا راد لما قضى ، وإذا أوحى بأمر ، أو علم لمن يشاء ، فلقد أصبح حقا بلا مراء ولهذا قال الله مؤكدا بعد ذلك (ما كذب الفؤاد ما رأى ?11? أفتمارونه على ما يرى ?12?) النجم 11/12 لقد أصبح ما أوحى الله به وأرشد ، وما نزل به جبريل إلى محمد لقد أصبح هذا في فؤاد محمد صدقا فمن ذا يماريه ، على علم لا يرتاب فيه ، كلا بل هو الحق من ربه تلقاه بيقين ولم يكن ذلك حلما أو وهما ، من أضعاف الواهمين ، بل لقد تكرر اللقاء والاتقاء ، وتأكد الوحي واليقين ، مرة أخرى ،ليعلم محمد أن الذي يتلقاه هو الحق ، الذي لا يمارى (ولقد رآه نزلة أخرى ?13? عند سدرة المنتهى ?14? عندها جنة المأوى ?15? إذ يغشى السدرة ما يغشى ?16? ما زاغ البصر وما طغى ?17? لقد رأى من آيات ربه الكبرى ?18?)النجم 13-18 إذن فالوحي حق ويقين ، وهو النور والهدى ، ولقد أكده الله بالقسم في المبتدأ (والنجم إذا هوى ?1? ما ضل صاحبكم وما غوى ?2? وما ينطق عن الهوى ?3? إن هو إلا وحي يوحى ?4?) النجم 1-4 وهكذا أصبح الرسول محمدا موقنا بما أوحي إليه من ربه وأصبح جبريل الرسول والشفيع ، الذي إذن الله له أن ينزل بوحيه إلى رسوله محمد ، وكلاهما مؤتمن على ما أوحي ، وكلاهما محكوم معلوم الخطوات والعمل ، ومراقب ومرصود البلاغ بلا خلل ، وكلاهما على يقين بأن ما يحمله من علم هو من علم ربه الأجل ، فهو به موقن وهو به شديد القوى ، لا يزل ولا يتزلزل ، وكيفلا وعلمه محيط به في كل حال ، وأينما تحول ، وأينما كان ، وكل مداركه وأحاسيسه محروسة عن الزيغان ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فلا يضل ولا يغوى (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) النجم 18 ما هي الآيات ، ماذا رأى ماذا علم منها ، لا ندري والمهم أنه رأى ما يزيده اطمئنانا في القلب ، ورسوخا في العلم ، فهو بما رأى واثق الخطى ، وهو موقن بما علم ، أولم يؤكد الله هذا بالقسم مرة أخرى فقال (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) النجم 18 ¶ وإذن فهو عبد صادق ، واثق موقن ، وهو عبد مسلم موحد ، لا يشرك بالله شيئا ، وهو عبد مخلص مؤمن ، لا يجعل لله وسيطا ولا شفيعا بل يتجه إليه خاشعا مطيعا ، ويعبده موقنا أنه الواحد القهار ، الذي يدبر كل شيء باقتدار ، وله يسأل كل من في السموات والأرض ، وهو يجيبهم بما يحتاجون ، في كل حال ، بل يؤتيهم من كل ما يسألون قبل السؤال ، وكيفلا وهو علام الغيوب وذو الجلال ، وهكذا فإن عبده الصادق ، هو من دعاه ، وهو بالإجابة واثق ، لأنه يعلم أن الله هو الخالق ، ومن خلق فهو المعطي والرازق ، وإليه كل خير ينسب ويعزى ، فمن دعاه فقد علم ووعى ، ¶ من أشرك به فقد جهل وغوى ولهذا يوجه الله السؤال ، إلى من دعى سواه من الجهلاء ، فقال سائلا باستهزاء (أفرأيتم اللات والعزى ?19? ومناة الثالثة الأخرى ?20? ألكم الذكر وله الأنثى?21? تلك إذا قسمة ضيزى?22?) النجم 19-22 هؤلاء هم الذين اعتمدوا على الأحجار ، وجهلوا قدر الواحد القهار واستشفعوا بالملائكة ، وسموهم بنات الله ، وغفلوا أن كل شيء عبد لله فهم لا يعلمون شيئا ، ويقسمون الوهم وقسمة ضيزى ، فتبا لهم ونقما لقد اعتمدوا على الهباء ، واتبعوا الهوى وظنوا الوهم حقا ، والدعوى علما ، فبئس ما فعلوا وسحقا (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) النجم 23 هل بعد هذا الضلال من ضلال ، الهدى يأتيهم من ربهم العليم بكل شيء والبصير بكل شيء وحي ، والخبير بما نبدي ونخفي ، وما مضى وما يأتي ، الهدى يأتيهم من ربهم هذا العليم العظيم ، وهم يعرضون عنه إلى وهم آبائهم الجاهلين ، وإلى ظنون أهواءهم الغافلين ، فلا علم لديهم ولا سلطان ، وهذا هو سبيل الشيطان ، الذي بينهم ويعدهم بالسلام والأمان ، وما يعدهم إلا بالخسران (أم للإنسان ما تمنى) النجم 24 هل يناله بمجرد التمني؟ مستحيل لكن المنى تنال ، من العليم الحكيم الملك القدوس ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، وإليه مصير كل حي فليطلب المنى ، من لديه لا سوى (فلله الآخرة والأولى) النجم 25 وإذا كان هذا حاله ، فإن الفلاح للإنسان في الدنيا والآخرة في عبادته وإذا كان أناس يبحثون جهلا عن الدنيا ، فلتكن الوجهة إليه وإذا كان أناس يتنافسون على الأخرى ، وهو التنافس الحق فإن السبيل إليها هو هدى الله ، وإن الفوز بها ، هو بالاتجاه إلى الله لا سواه فلا نبي ينفع ، ولا ملك يشفع ، ولا مقرب يدفع ، ولا شيء سوى الله ولهؤلاء الذي يرجون سوى الله ، ويظنونهم يقربونهم إلى الله زلفى ويستشفعون بالملائكة ليكونوا لهم عند الله وسطاء ، أو يظنونهم يدفعون عنهم الضراء ، في الدنيا ويجلبون السراء ، إلى هؤلاء يقول الله جل وعلا (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم 26 إن الآية تؤكد ما أكدته سورة سبأ ، في أن الملائكة عباد الله ، لا يعلمون ما يريد الله ، ولكنهم يعملون ما يإذن به الله ، ولمن يشاء ويرضى فإن حركتهم إلى شيء يريده الله ، لا تكون إلا من بعد أن يإذن ولا يمكن بل يستحيل أن تكون الحركة ابتداء من لديهم ، وبدون إذن ربهم ، كلا وكيف وهو (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) طه 110 وهم (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) النحل 50 إذا فشفاعتهم لمن يظنها ويتوهمها ، لا تغني بل لا تتحقق أبدا إلا إذا تم إذن لهم من ربهم ، وبذلك ارتضى ، فما بال هؤلاء الجهلاء يدعونهم ويرجونهم ، وقع البلاء في الدين ، إن هذا هو الغباء والوهم والظنون العمياء ، وخيالات المنى (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) النجم 27 فهم يبحثون عن أسباب للسراء ، في الدنيا فيسلطون الملائكة ويسمونهم تسمية الأنثى ، عساهم يرقون لهم ويستجيبون لأطماعهم ، في تسهيل متاع الدنيا وهذا هو الإخلاد إلى الأرض ، واتباع الهوى ، وهو الحب الأعمى للدنيا ، مع التعلق بأسباب لا تغني شيئا ، وهذا هو الجهل الذي يظن غير شيء شيئا ، وأن غير الله يمكن أن يجدي نفعا ، وأن بإمكانه أن يفعل ما لا يرضاه (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) النجم 28 وإذا فليترك هؤلاء الأوهام والظنون ، فسوف يعلمون غدا أنهم الخاسرون ، وأن علمهم باطل ، أو ردهم إلى ما لا يشتهون (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا?29? ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى?30?) النجم 30 وهكذا فإن الاستشفاع بالملائكة جهل ، أو أوهم إليه حبهم للدين ووهمهم بالضلال أبدا ، فهم لا يهتدون ولا علم لهم بالهوى ، بل مرادهم هو الدنيا ، لا سوى وهذا هو الضلال وإذا فإن المهتدي الحق ، هو الذي يتجه إلى الله بلا شفيع ، ويدعوه هو بلا وسيط ، فهو القريب المجيب ، وهو الغفور لمن تاب ¶ (إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) النجم 32 إليه الاتجاه وعليه الاعتماد ، فهو العليم بمن اهتدى ، وبمن اتقى (ولله ما في السماوات وما في الأرض) ولديه الجزاء، فلنعلم أنه يعلم السر واخفى ، ولنعمل الصالحات ولنوقن أبدا ، إنه لا يظلم الناس شيئا (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى?40? ثم يجزاه الجزاء الأوفى ?41? وأن إلى ربك المنتهى ?42? وأنه هو أضحك وأبكى ?43? وأنه هو أمات وأحيا ?44? وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ?45? من نطفة إذا تمنى ?46? وأن عليه النشأة الأخرى ?47?) النجم 39-47 أفبعد هذه الصفات والأسماء الحسنى ، لربنا الأعلى ، يمكن أن يدور بخاطر انسان ، شفيع يشفع ، أو ملك مقرب يقرب إليه زلفى ، وللشر يدفع ، كلا كلا.. فيا أيها الإنسان اعتمد على ربك ، واتخذه وليا ، وأيقن بآلائه وقدرته ، التي تكون في كل شيء ولا تخفى ، وتدل على أنه هو المدبر والمقدر ، والمسير لكلما في الأرض ، وفي السموات والعلى وما يظهر وما يخفى (فبأي آلاء ربك تتمارى) النجم 55 وبأي حديث سوى حديث الله يأتيك الهدى ، فالله وحده هو أصدق حديثا ، وأصدق قيلا (أفمن هذا الحديث تعجبون ?59? وتضحكون ولا تبكون ?60? وأنتم سامدون ?61?) النجم 59-61 إن هذا العجب منكم ، هو الذي يجب أن يتعجب منه المتعجبون ، وإن هذا الضحك منكم والارتياب ، هو الذي يدعو للضحك عليكم بل والبكاء عليكم ، فما بالكم لا تبكون على أنفسكم لأنكم عددتم الخلق بربكم ، وتركتم من يخلق ، أو ركنتم إلى من لا يخلق فمن السمود فاستيقظوا ، وللشفعاء ارفضوا ، وإذا رفضتم وقررتم أن تهتدوا (فاسجدوا لله واعبدوا) النجم 62 وله احمدوا ، ووحدوا لتأمنوا ، في الدنيا والأخرى وتسعدوا. ¶ القسم الثاني ¶ الشفاعة في الأخرى - الجزء الأول ¶ لقد عرفنا مما عرضنا ، أن المراد بالشفاعة هي الأسباب ، وأن الشفيع هو السبب ، ¶ فلا شفيع ينفع ولا يضر ، إلا بإذن الله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ¶ وعليه فإن ما أوردناه من الآيات السابقة المحتوية على كلمة شفاعة أو شفيع أو يشفع ، أو كلمة مصرفه من مادة الشفاعة ، ¶ إن ما أوردناه إنما هو متعلق بالشفاعة في الدنيا وكل الآيات تؤكد أن الأسباب المتخذة كشفعاء في الدنيا ، لا ينفعون ولا يدفعون ، وإنما هم عبيد مسيرون بالله أبدا ، ¶ وإذا كان هناك شفيع يشفع أو سبب يسبب ، فإنما هو بإذن الله الذي هو المدبر والرب ، وهو العليم بكل خلقه والله الأقرب ، فكيف يكون سواه مؤثرا ، وهو المدبر ، ¶ وكيف يكون غيره نافعا ، وهو المسير والمقدر ، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فمن اتخذ سواه شفيعا إليه ، فقد جعل لله شريكا في علمه ، ¶ بل لقد جعل الله يجهل ما يجري في خلقة ، لا يعلم ما يدور في السماء والأرض وما بينهما ، وهذا افتراء على الله ، وشرك لا يرضاه ¶ (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18 ¶ هذه هي خلاصة ما عرضناه في القسم السابق من الآيات المتعلقة بالشفاعة في الدنيا. ¶ وها نحن ذا ، ننتقل بكم إلى الشفاعة في الأخرى ، وهو القضية التي سقنها هذا البحث لها ، ومن أجلها ، فلقد ضل فيها الناس ، ولقد جعلوا القضية هي الأساس ، ¶ فالشفاعة عندهم هي القائمة في الأخرى ، وهي التي تنقذ الخاطئين من اللظى ، وهي تحمي المسلمين من السعير ، ولو عملوا السيئات والخطاء الكبير ، ¶ وهذا وهم لا بد أن نتنبه إليه ، حتى لا يركن الناس عليه ، ويتساهلوا في الأمر الذي هم مقدمون عليه ، إنه يوم عسير ، على الكافرين غير يسير ، بل هو يوم موصوف بأنه ¶ (يوم لا ينفع مال ولا بنون?88? إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء 88/89 ¶ (يوم يفر المرء من أخيه ?34? وأمه وأبيه ?35? وصاحبته وبنيه ?36? لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ?37?) عبس 34-37 ¶ من خلال هذه الآيات فلنعد سريعا إلى آيات سورة الشعراء ، لنستكمل بقية الحكاية في هذا اليوم العجيب ، يقول الله بعد ذلك ¶ (وأزلفت الجنة للمتقين ?90? وبرزت الجحيم للغاوين ?91? وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون ?92? من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون?93?) الشعراء 90-93 ¶ قف هنا....... من هم هؤلاء الذي يسأل عنهم الغاوون أنهم كانوا يعبدونهم ، إنهم الشفعاء ، الذين اتخذوهم إلى الله وسطاء ، وظنوا أنهم ينصرونهم ، في الدنيا والأخرى ، ¶ ها هم اليوم لا يجدونهم كما توهموا فلا هم ينصرون أنفسهم ، ولا هم ينصرون الغاوين ، الذين عبدوهم واتخذوهم شفعاء إلى ربهم العليم ، رب العالمين ، ¶ ظنا منهم أنه غير عليم بما يعملون ، فكانوا بذلك الظن من الخاسرين ، ثم تعالوا نواصل الآيات لنرى ما سيحدث ¶ (فكبكبوا فيها هم والغاوون ?94? وجنود إبليس أجمعون) الشعراء 94/95 ¶ هاهم مع المعبودين في الجحيم ، الغاوون والذين غووا بهم ، إنهم وجنود ابليس الذين سولوا لهم وهمهم ، كل هؤلاء في الحميم ، مكبكبون متراكمون بعضهم على بعض ، ¶ وهكذا في جهنم أولئك هم الخاسرون ، ومع الخسران ها هم يتقاولون ¶ (قالوا وهم فيها يختصمون ?96? تالله إن كنا لفي ضلال مبين ?97? إذ نسويكم برب العالمين ?98? وما أضلنا إلا المجرمون) الشعراء 96-99 ¶ هكذا يتذكر الغاوي ، إنما المغوي قد أوهمه ، أنه يشفع وينفع ويمنع ويدفع ، وأنه ينصر ويضر ، فإن توهمه قد تبخر ، وأصبح الندم هو المظهر في الحشر. ¶ لقد ظن الضال القوي ، أن الغاوي هو القوي ، وأنه له قدرة الله رب العالمين ، فإذا به يراه الآن في أول الخاسرين ، وفي مقدمة العاجزين إن الضلال المبين ، يتضح له الآن وقد أصبح في اللظى ، والتذكر يفيض اليوم في ذهنه ، وأنى له الذكرى ، إنه يتلفت ليبحث عن الشفعاء الذين فيهم توهم ، فلا يجدهم بل لا يجد إلا الحسرة والندم ¶ (فما لنا من شافعين ?100? ولا صديق حميم ?101?) الشعراء 100/101 ¶ ولما لم يعد يلجأ إلى الأحلام والامتنان ، قالوا لنا كرة نكون من المؤمنين ،إنه حلم محال ، وأمنية مستحيلة ، ولكن هذه الأمنية ¶ التي يرجوا فيها الرجوع إلى الدنيا كرة ثانية ، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ، بأن الشفاعة في ذلك مستحيلة ، كما أن الرجوع إلى الدنيا كرة أخرى مستحيل ، ¶ فهو يفر من المستحيل إلى المستحيل ، وذلك هو الضلال الوبيل ، وذلك هو الوهم الغفول ، في أن الشفيع سيكون أمامه عند الوصول ، وأنه له بالنجاة من النار الكفيل ، ¶ وهذا اعتداء على الله الجليل ، وافتراء على رب العالمين ، ولكي تستزيد يقينا أن الشفاعة ¶ مستحيلة يوم الدين ، نغادر هذه الآيات في سورة الشعراء ، إلى سورة البقرة ، لنبدأ الحكاية من أول الكتاب ، ونواصل استقصاء الآيات على التوالي في السور التي تلي سورة البقرة ، ¶ حتى نصل إلى السورة الأخيرة ، والآية الأخيرة التي تحتوي على كلمة شفاعة وشفعاء في الآخرة ، يقول الله في سورة البقرة في ظن بني إسرائيل ، ¶ وهم الذين يظنون أن لهم من الأكرام ، ما يخرجهم من النار ، بعد عدة أيام ¶ (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ?47? ¶ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ?48?) البقرة 47/48 ¶ ولقد تكررت الآيتان ، في نهاية الحوار مع بني إسرائيل ، مع تعديل بسيط في الثانية ، وهو قوله تعالى ¶ (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين?122? ¶ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) البقرة 122/123 ¶ وبما أن الآيتين تذكير لهم ، بفضل الله ونعمته فإنه تحذير لهم ، من عذابه ونقمته وتوضيح لهم ، أن اليوم عسير ، ¶ وأن الأسباب المتوفرة في الدنيا لا تتوفر هناك ، فلا سبب إلا العمل ، وسواه لا يقبل ¶ فلا المال يقبل ، ولا يدفع ، ولا ملك ولا ولي ولا نصير ، يستطيع أن ينصر سواه ، أو يدفع شفاعته ، أو يمنحه شيئا ، فالكل إلى الله فقير ¶ والكل لا يملك سواه من فطير ، وعنت الوجوه للحي القيوم ، وقد خاب من عمل ظلالا (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16 ¶ إذا فليكن لك معلوما ، يا أخي القارئ بعد تلاوة الآيتين ، أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، هكذا قرر علماء البيان واللغة بشكل محسوم ¶ ولقد وردت كلمة نفس في الآيتين ، نكره في سياق النفي ، ومعنى هذا أن كل نفس مهما كانت مقربه من الله ، أو كان لها مقام محمود لديه فإنها لا تجزي ولا تملك لنفس سواها شيئا ، ¶ فالحكم في ذلك اليوم لله وحده ، ولقد تأكد هذا المعنى في آية أخرى من سورة الإنفطار ¶ (وما أدراك ما يوم الدين ?17? ثم ما أدراك ما يوم الدين) الإنفطار 17/18 ¶ إنهما آيتان ، تريد أن ترسخ في الأذهان ، حقيقة هذا اليوم فتصدرها الاستفهام ، بشكل متكرر ليصل إلى الأذهان ، بأسلوب لا ينسى ولا ينكر ، ثم يأتي الجواب ، الذي يثبت المعنى ويقرر ¶ (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) الإنفطار 19 ¶ هل بعد هذا البيان الواضح ، والتأكيد الأقوى المبين ، يبحث الواهمون عن شفعاء في يوم الدين ، كلا فالأمر والحكم والملك في ذلك اليوم لله رب العالمين لا سوى ، ¶ ومن شاء أن يستشفع إليه بسواه ، فقد جعل له شريكا في ملكه ، وجعل له نقصا في علمه ، وألصق إليه ظلما في حكمه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فهو العليم بكل شيء ، ¶ وهو الحاكم الحق وهو أحكم الحاكمين، وبيده الملك وهو على كل شيء قدير ، فكيف تتوسط إليه ، بالذين لا يملكون شيئا ولا يقدرون ، ¶ وكيف تستشفع إليه بمن لا يعلمون ، حتى ولو كانوا ملائكة أو أنبياء أو مرسلين ¶ (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109 ¶ (إنك أنت) هذا الضمير يسمى ضمير فصل ، وهو يفيد الحصر والقصر فهو العليم وحده ، وهو علام الغيوب لا سواه ، وهذا هو الحق ¶ فهم كانوا أمواتا ، ولا يدرون من أعمال الناس بعد موتهم شيئا ¶ فهم شهداء ، ما داموا أحياء ، فإذا ماتوا غاب عنهم العلم ، وبقي الله ¶ هو الشهيد ، ولهذا يقول عيسى يوم القيامة لربه ¶ (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) المائدة 117 ¶ وهنا يتكرر الحصر والقصر ، بضمير الفصل (كنت أنت الرقيب عليهم) فهو الله الرقيب ، وهو على كل شيء شهيد، العلم له وحده وكل الناس خاشعون عنده ، ¶ وكلهم عبيد يأتون ، فأنى يجد من يشفع له وهو أمام ربه ، الذي يعلم السر واخفى (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) ¶ فهل يستطيع أحد ، أن ينصرف ليبحث عن شفيع ، وهو أمام الله الرفيع الدرجات ، إنها الأوهام ، التي تردي الناس في الندم والحسرات ¶ (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46 ¶ وإذا كان لنا أن ننتقل إلى آية أخرى ، تتحدث عن الشفاعة في الأخرى فلن نغادر سورة البقرة ، حتى نجد فيها الآية المحكمة المبصرة ¶ التي تردع كل الأوهام والظنون المندحرة إن الله سبحانه ينادي المؤمنين فيها ، بالصفة التي أحبوها ، وكأنه يذكرهم بها ، ليستمروا على ما تعنيه ، وليستقيموا عليه ، ¶ فالإيمان يعني اليقين ، بأن الله هو القهار ، الذي لا شريك له في الدنيا ، ولا في يوم الدين ، فلنصغ إلى الآية ، فإن فيها النبأ اليقين ¶ (ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) البقرة 254 ¶ إن النداء يعقبه الأمر بالإنفاق ، ثم التحذير من يوم لا ينفع فيه ثراء ¶ ولا مال ولا صديق ، ولا خلال ولا شفيع ، ولا شفاعة فيتوصل بها للآمال ، ¶ كلا فالكل مقطوع ممنوع ، منفي بحرف لا ، الدال على نفي الجنس ، فلا وجود هناك لبيع ، يمكن أن يتوسل به لشراء ، ما تفقده من الحاجات ، ¶ ولا خلة يمكن أن تحميك من الخطر ، أو تتستر عليك في بعض الخطيئات ، أو تشهد لك بما تريده في الخصومات ¶ كلا ولا شفاعة تتوسل بها ، وتجعلها سببا للنجاة ، مما يحيط بك من الأخطاء والمهديات ، ¶ لا شيء من هذه الثلاث الخصال ، موجود بل منفي نفي جحود ، ونفي تأكيد وتأبيد ، فهل بعد هذا البيان ، تتوهم في شفاعة توجد هناك ، أو شفيع يفيد ، ¶ هل بعد هذا اليقين ، يلوح لك ظن في خلاف ذلك يا مجنون. إن الأماني والارتياب ، لا تسد عنك الباب ولا تصد العذاب ، فكن على يقين من قول الله ، فهو أصدق قيلا ¶ وأقلع عن أوهام الشفاعة والشفيع ، تكن معقولا ، وإنما إذا لم تقلع ولم تقنع ، فستكون رجلا ضالا ، وستغطي على الحقيقة بالأوهام والكذب ، وثم تجد نفسك أمام ظل كاذب ، ¶ لا ظليل ولا يغني من اللهب فاستيقظ من الآن ، قبل أن يوقظك الخسران ، وأعمل لغدك بإخلاص قبل أن تقع في اللظى ، ولاحت حيث مناص ¶ إن الآية تنفي الشفاعة ، ولقد جاءت الكلمة منكرة ، لتؤكد أن النكرة في سياق النفي ، تفيد العموم ، وتفيد نفي الجنس ، ¶ إنها آية محكمة البيان وساطعة البرهان ، تنبه الإنسان ، من الغفلة وتخرجه من الأوهام ¶ وتشد عزيمته للعمل ، الذي به الله يرضى ، فإن له الآخرة والأولى ¶ ولقد قال ، وقوله الحق بلا مراء (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى ?40? ثم يجزاه الجزاء الأوفى ?41? وأن إلى ربك المنتهى)النجم 39-42 ¶ وقال (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) النساء 40 ¶ إليه المنتهى وحده ، ثم لا يظلم مثقال ذرة ، فابحث بعد هذا عن شفيع يعلم ما لا يعلم الله عنك ، أو عن عملك ، أو ابحث عن مستقر تنتهي إليه دون ربك ، أو ابحث عن معط هو أكرم من الله ، ويضاعف أكثر منه في عطائك ، كلا كلا كل ذلك محال ، فاقتنع بأن إليه المآل ، وأن أوهام الشفاعة أماني ، وضلال وظنون وخيال ، بل خيال خيال. ¶ لنودع سورة البقرة ، بآياتها المحكمة المبصرة ، ولننطلق على جناح الإمعان ، إلى سورة الأنعام ، فنجد الآيات أمامنا بالمرصاد ، لكل أولى الأوهام ، ¶ ها هي الآية الأولى تحوي الخطاب ، من رب العالمين إلى عبده محمد ، الرسول الأمين ، يأمره بأن ينذر بالقرآن ، من يخاف الحشر من المؤمنين ¶ (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) الأنعام 51 ¶ لعل هذه الآية تقطع الشك باليقين ، وتخرس المرتابين ، لأن هناك من يقول لنا نعم ، ليس هناك شفاعة للكافرين الظالمين ، وهناك شفاعة للمؤمنين المتقين ، ¶ لكن الآية توجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله سلم بأن يوجه الإنذار ، إلى الفتيه المؤمنة ، وهم الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ¶ وهذه هي صفة العلماء أولى الألباب ، الذين يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وهم الذين يقبلون الإنذار ، ويسمعون القرآن ، ويتدبرون البيان ، ¶ أما الكافرون (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ¶ إذا فهؤلاء الناس الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم الله ، يخبرهم بلسان رسوله وينبئهم بلسان نبيه ، الذي نستند إليه الشفاعة ، ونحمله بلا بينه ، ¶ ينبههم الله بلسان هذا الرسول ، ولهم يقول (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) أي من دون ربهم ، الذين يخافون الحشر إليه ، ¶ ليس لهم من دونه ولي ينصر ، ولا يشفع ولا يدفع ولا ينفع بل هو الله الولي الذي ينصر ، وهو الشفيع النافع الضار ، وإليه المستقر ¶ لماذا ينبههم بهذا الخبر اليقين ، ولما يخبرهم بهذا الحق المبين إن الجواب هو (لعلهم يتقون) ¶ فليكن تقواهم هو المقرب لهم إلى ربهم ، وهو الشفيع لهم عند ربهم ، وهو السلم لقربهم إلى ربهم ، وهو الواقي لهم من عذاب جهنم ، ومن غضب ربهم ، ¶ فلا شفيع يصونهم ويبعد عنهم العذاب ، ولا شفاعة توصد عنهم من النار الأبواب ¶ بل التقوى هو الباب ، لعطاء الوهاب ، والتقوى هي المعراج ، إلى الفوز بالجنة المعدة للمتقين ، وبرضوان من الله رب العالمين ، وذلك هو الفوز العظيم. ¶ فهل اتضح لكم الآن ، أن الشفاعة حتى للمؤمنين غير ممكنه ، بل أن التقوى والعمل الصالح هي مفتاح الجنة ، فاعتمدوا على العمل ، ودعوا الأوهام والكسل ، وتخلوا عن الأماني والأمل ¶ فيما لا يرضاه الله ، ولا به يقبل ، فإن القياس عنده هو العمل ، وهو السلم ، إلى الفوز بكل أمل. ¶ ثم تعالوا إلى آية أخرى ، تخرس الأوهام تزفها إلينا سورة الأنعام ، وهي آية فيها يتوجه الخطاب المبين فيها مرة أخرى ، إلى رسول الله الأمين ، فيقول له الله رب العالمين ¶ (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا) ¶ أي ذر هؤلاء ولا تخاطبهم ، فهم لا يسمعون ولا يعون ، لأن الدنيا غرتهم وأعمتهم وأصمتهم ، فالإنذار وعدمه سواء عليهم ، ذر هؤلاء وتوجه بالقرآن ، وأنذر به وذكر سواهم ¶ (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) ¶ هكذا هو الأمر إذا ، وهكذا هو الواقع لا ولي ولا شفيع إلى الله ، بل ولا ينفع عنده مال ولا يجدي ، وإن تعدل بكل عدل لا يقبل ، ولا يؤخذ ، ولا لصاحبه يفدى ، ¶ فليحذر كل متذكر لأولى الألباب ، ويعمل عملا يقبل عند الله ، وينجيه من سوء الحساب ويدفع عن صاحبه العذاب ، ¶ إن الغافل هو الذي كان ممن اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وركنوا على الشفعاء ¶ (أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) الأنعام 70 ¶ أسمعتم ، أقرأتم الختام في الآية (بما كانوا يكفرون) لقد سمى من ركن إلى الدنيا ، وغرتهم زينتها ، ومن اتخذوا الدين لعبا ولهوا ، قد سماهم كافرين ، ¶ وهم حقا كافرون ، لأنهم نسوا الله رب العالمين ، واعتمدوا على الأوهام والظنون ، وحسبوا أن المال يدفع وينفع في الدنيا ويوم الدين ، وأن الوساطات تقبل ، عند أحكم الحاكمين ، ¶ كلا كلا هو الولي القريب ، والشفيع المجيب ، والنافع الرقيب ، والدافع الحسيب ، فله وحده يجب أن نستجيب ، ¶ وإليه وحده فليتوجه كل قلب منيب ، وإلى لقائه فليستبق بالعمل الصالح ، كل عبد صالح ، يحب لقاء ربه الحبيب ولهذا جاءت الآيات التالية ، تؤكد هذا التوجه الحق ¶ (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ¶ قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ?71? وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ?72?) الأنعام 71/72 ¶ إن أول الآيتين يدعم آخرهما ، فالله هو النافع والضار ، ولا يدعى سواه ثم هو وحده ، الذي إليه يحشر الناس ، ¶ فإن وجود الضمير (هو ) وتقديم الجار والمجرور (إليه ) يؤكد بأن الحشر إليه وحده ويحصره عليه ، وليس هذا فقط ، ¶ بل أن الآية التالية (73) تدعم هذا الحصر ، وتعمقه في أسلوب جميل قوي ، وتعممه على كل شيء ¶ (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق) فهو الخالق لكل شيء ، وهو الآمر وحده ، بالبعث لكل حي ، ¶ فإن الخلق بالحق ، والبعث بالحق وللحق ، وقوله وحده هو الحق ، ثم نواصل القراءة ، لنجد الحصر والقصر يترصدنا في كل منعطف ، فاستمع وانظر؟ ¶ (وله الملك يوم ينفخ في الصور) نعم له وحده الملك والتدبير والعلم والتقدير ، والحكم والتقرير ، يوم ينفخ في الصور ، ويبعث ما في القبور ، ويجمع الناس في مقام واحد منظور ، ¶ وكلهم لحسابه وكتابه يسير ، في هذا اليوم لله وحده العلم ، وله وحده الحكم ، ¶ وكيفلا وهو وحده الذي يتفرد بصفات الجلال والكمال ، ولهذا قال موضحا ومبينا للإجمال (عالم الغيب والشهادة) ¶ فإذا كان هو عالم الغيب ، وهو عالم الشهادة ، فمن ذا يستطيع في مقامه ، أن يعترض على أحكامه ¶ أو يشفع أمامه ، كلا كلا هذا محال ، فمن ذا الذي أعلم وأرحم ، من الله ذي الجلال ، ولهذا ختم الآية بقوله (وهو الحكيم الخبير) الأنعام 73 ¶ ربي هو وحده الحكيم الذي يقول الحق ، وهو الخبير بأعمال الخلق وبالظاهر والخفي بلا فرق ، فله الحكم وحده ، وقوله الحق ، ¶ وهكذا كما بدأنا نعود في الخلق ، بدأنا بالحق ونعود الآن إلى اليوم الحق ¶ وحكمه فيه هو الحق ، فأين الشفعاء أيها الغافل عن الآيات ، وهل هناك غير الله يحكم في الدارين ، ¶ وهل هناك أرباب سواه ، تشترك في حكمه كلا فهو الله الحاكم الحق (ولا يشرك في حكمه أحدا) ¶ وعلى هذا الأساس وبهذا اليقين ، كان موقف إبراهيم عليه السلام ¶ أمام أبيه وقومه الغافلين ، فإذا به يعلن بعد التأمل والتفكير ، فيما يراه وبعد التفحص في الأرباب الآفلة ، يعلن ¶ (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) الأنعام 79 ¶ ولولا خوف الإطالة ، لسردنا آيات تأمل إبراهيم ، لكنها في الحقيقة تتجه في نفس الاتجاه العام للسورة ، بل وللقرآن ، وهي نفي الشفعاء والوسطاء ، بين العبد وربه الرحمن ، ¶ وتؤكد أن الاتجاه إلى الله بلا واسطة هو الأمان ، وهو الهدى الذي يرفع الإنسان ، إلى حباب الرحمن (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام82 ¶ (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) 83 ¶ لن أحاول أن أستقرأ الآيات بالتفصيل ، فذلك قد يتهمني بأني أطيل ولكني أقفز بكم عشر آيات من الآيتين 82/83 التي اتهنا هنا عندها إلى الآيتين 93/94 وما تلاها ¶ ها هم الظالمون المشركون بالله رب العالمين ، في مشهد مهين ،، فماذا يحدث ، لتشاهدوا هذا الموقف ¶ (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملآئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) الأنعام 93 ¶ إن هؤلاء الآن قد ماتوا وانقلبوا إلى ربهم ، وهم على غفلتهم وافترائهم فيا سوء المتقلب ، ويا خيبة الأرب. ¶ ها هو الواقع أمامهم في يوم اللقاء ، وها هم الملائكة وكل الملأ الأعلى بل هو الله ذو العلا ، يقول لهؤلاء قولا يدفع كل ادعاء ،ويدفع كل افتراء ¶ (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) الأنعام 94 ¶ لقد عاد الجميع إلى ربهم الحق ، وعرفوا إنه هو المدبر للخلق ، وأن كل سبب سواه ، وكل شفيع مدعي ، لا يغني عن الله شيئا ، ¶ وأن الله هو رب الأولى والأخرى ، وله الملك في الأولى والأخرى ، وهو علام الغيوب لا يعزب عنه شيء ، ولا يغيب ، ¶ وكل ما يتمتع به الإنسان من مال ومتاع هو مسخر من الله ، وبأمره وهو المطاع. ¶ إن كل ما خوله الله لهؤلاء المشركين ، من مال ومتاع ، قد تركوه ورائهم ، وورثه سواهم ، بأمر الله ¶ وكل ما ظنوه يشفع ويقرب إلى الله قد غاب ، وكل ما توهموه مشاركا لله في التدبير ، ليس إلا وهما وثنيا ¶ فالشفعاء الذي جعلهم المشركون شركاء لرب العالمين ، هؤلاء الشفعاء الموهومون ، أصبحوا غائبين بلا أثر ¶ بل غير موجودين ، أصلا فما هي إلا ظنون ، وأوهام خبلاء ، فليتجه إليه الإنسان ، وإليه يرغب فأقرأ معي الآيات (من 95 إلى الآية 103) تجدوا أن الموضوع خطير ¶ وأن الشفاعة عند الله عمل نكير ، إنها تبدأ بقوله ¶ (إن الله فالق الحب والنوى) ثم يوضح هذا فيقول (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) ¶ وكما أنه يغلق الحب الصغير في التراب ، فهو يغلق الشيء الواضح في الآفاق ، فهو (فالق الإصباح) ¶ وهكذا تتوالى الآيات ، من الأعلى إلى الأسفل ، ومن السماء إلى الثرى ومن الكبرى إلى الصغرى ، حتى يقول ¶ (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون) 100 ¶ وهؤلاء هم الشفعاء المدعاة ، في الأولى والآخرة ، فليكن الإنسان على علم ، بأن الله هو الذي إليه يرغب ، وأنه هو الذي ينشئ الإنسان وينضح الحب ، ¶ لكن الله يرد عليهم ، ويصوب وهمهم ، فيقول ¶ (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) 101 ¶ لاحظوا (بكل شيء عليم) إذا فماذا ينفع الشفيع في خلق الله ، وهو العليم بكل شيء ، ثم يؤكد هذا أكثر فيقول ¶ (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) 102 ¶ إذا فهو المعبود والمقصود ، وهو العليم بكل حي وموجود ، وهو الوكيل وإليه الرجوع ، وإليه المصير ¶ (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) 103 ¶ لعلي أكتب هذا الكلام ، لمن يقرأ ويفهم القرآن ، ولهذا فلن أضطر إلى شرح الآيات ، لأن فصاحة القرآن ، تفصح عن المراد ، وبلاغته تبلغ الأفهام ، ¶ وإذا فلا لا بد لي أن أودع سورة الأنعام ، المباركة لأنتقل إلى سورة الأعراف ، لنعرف ما فيها من الآيات ، التي تحتوي على كلمة الشفاعة ، وما يشتق منها ، ¶ لكني لن أغادر الأنعام ، حتى أعرج على آية فيها قبل الختام ، يقول الله فيها لرسوله محمد ، ويلقنه هذا الكلام ¶ (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) الأنعام 164 ¶ هذا كلام يلجم كل الأوهام ، فالنبي يعلن أمام العالم ، ويقول بأمر ربه العلام ، أن ربه هو الله ، وهو الذي لا يبغى سواه ، لأنه رب كل شيء فكيف يطلب سواه ربا ، ¶ إنه لو ابتغى غيره غوي ،، ثم إنه يعلن ذلك باطمئنان ، لأنه يعلم أن ربه يعلم كل ظاهر وخفي ¶ فلا يضيع أجر من عمل وأخلص ، ولا يفوته عقاب من خان وتملص ¶ (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) ثم أنه لا يمكن أن يختلط إلى وعلى ربه الذي هو رب كل شيء ، ¶ ولا يتصور أن ينال أحد عنده ، من أجر أحد أو يحمل عند أحد ، وزر أحد (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ¶ فالله يحصي كل شيء عددا ، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ، وعنده كتاب ينطق بالحق (ثم إلى ربكم مرجعكم) ¶ إنه حصر وقصر ، أن رجوع الناس كلهم إلى ربهم وحده ، هكذا يعلن الرسول ، فكيف يدعي بعد ذلك أنه سيشفع أو ينفع ، ¶ إنها دعوى ألصقت به ، وهو منها بريء ، فهو لا يتدخل في حكم ربه ، ولا يشترك معه في حكمه ، بل هو رسول ، ¶ وهو مع الناس منتظر لحكم ربه الجليل ، وسيسأل مع كل عبد ، ومع كل مسئول ، يوم يسأل الذين أرسل إليهم ، ويسأل المرسلون ، ¶ ولهذا فإن الآية تختم بقول (ثم إلى ربكم مرجعكم) لماذا الرجوع يكون إلى ربنا لا سواه ، لأنه العليم بما أبداه العبد وأخفاه ، ولهذا فهو قال ¶ (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) فالله ربنا هو الذي ينبئ ويخبر كل عبد وكل نبي ، بأعمال العباد ، والظاهر والخفي ، وهو له الحكم ، وهو الذي له الملك ، ¶ وسيلقى كل عبد جزائه المحتوم ، فلا مظلوم ولا مهضوم (إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) وكما أنه سريع العقاب ، فهو سريع الحساب ، وهو بكل شيء عليم. ¶ وهكذا ينتهي غرضنا من سورة الأنعام. ¶ فهيا معا إلى الأعراف ، لنعرف ماذا تعنيه الشفاعة في آياتها ، لن نجد الكلمة إلا في آية واحده ... فلنقرأ ¶ (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) الأعراف 52 ¶ إن الكتاب هو القرآن ، وفيه تفصل كل شيء ، وكيفلا وهو مفصل علما من الله العليم ، وهذا العلم مهمته أن يهدي الناس ، إلى الطريق الحق والصراط المستقيم ، ¶ وبذلك ينالون الرحمة من الرحيم ، وهذا فضل لا يناله إلا القوم الذين يؤمنون ، فليبادروا إليه ، وليفرحوا بفضل الله ورحمته ، ¶ فهو خير من كل ما يجمعه الإنسان لشهوته ، فما ينتظر الإنسان بعد هذا العطاء العظيم ، وهذا العلم السليم ، والهدى إلى صراط مستقيم ، ¶ ماذا ينتظر بعد كتاب الله ، الذي يهدي إلى الحق وينذرنا باليوم الحق ، ويدعونا إلى الله الحق ، ماذا ينتظر الخلق ¶ سؤال هام ، ولكن الجواب عليه يأتي من العلام ، في الآية التالية ¶ (هل ينظرون إلا تأويله) 53 لا ينظر الناس إلا تحقق ما وعد به الكتاب ¶ من الثواب والعقاب ، ومن الوقوف للحساب ، ومن افتراق الناس ¶ إلى أشقياء وسعداء ، وذلك يوم كلنا إليه على اقتراب ، فلنستمع ¶ (يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) 53 ¶ هذه الكلمة التي وردت في الآية ، إنما هي تعبير عن الحسرة ، إنه سؤال عن الشفعاء ، واستفهام هل يمكن أن يشفعوا ، ¶ لكن الجواب هو الصمت والعدم ، هو الخسرة والندم ، هو الفراغ الأصم الأبكم ، فأين الشفعاء ، الذين ظنوهم في الأرض لله شركاء ، ¶ لا أحد هنا يجيب ، بل لا يرى ، وهنا يلتفت الغافلون ، الناسون للكتاب المبين ، فلا يجدون شيئا ، ولا أحدا من الشفعاء الموهومين ، ¶ ولما لا يلوح لهم أمل في الموقف المهين ، يلجئون إلى الأمنيات المستحيلة ، التي لا تتحقق أبدا هذه الأمنيات هي قولهم (أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) ¶ إن هذه الأمنية التي تطلب الرجوع إلى الدنيا ، للعمل تؤكد لنا ، أن الفلاح في يوم الدين ، لا يتم إلا بالعمل في الدنيا ، وأن الفوز والنجاة ¶ لا تمهد إلا بالتقوى في الدنيا ، فلا ينفع شفيع يوم الحساب ، بل لا يظهر له أثر ولا جواب ، وكيف يستطيع أحد مهما نال من المكانة أن يشارك الله في حكمه ، ¶ لقد أعطى الله العباد الفرصة في الدنيا وعمرهم عمرا يتذكرون فيه ويقدمون لأنفسهم ، ولقد جائهم بكتاب فصله على علم هدى ورحمة لهم ، ليؤمنوا بأنهم ملاقوا ربهم ¶ فلماذا نسوه واتبعوا أمانيهم ، إنها الأماني التي خدعوا بها أنفسهم في الدنيا بالشفاعة والشافع ، وها هم لا يجدون أحدا نافع أو دافع ¶ ولهذا فإنهم يلجئون إلى الأماني من جديد ، ويتمنون أن كل واحد منهم إلى الدنيا مردود ، ليعمل عملا ينفعه في هذا الموقف المشهود ¶ لكن الأماني تتبخر وتذهب سدا ، وتصبح كل افتراءاتهم هباء منبثا وأفئدتهم وهواء ، ولهذا فإن الله يختم الآية بإعلان ، يقطع الأمل ¶ ويسكت من ضل ، ويخرس من تقول (قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) ¶ وهكذا يكون ختام الآية 53 من الأعراف بإعلان واضح بالخسران ، وإخبار لكل افتراء بالضلال ، ¶ فلا يظن الناس أن الافتراء على الله ، يجدي بل يردي ، ولا يظنوا أن الأماني تنجي بل تخسي ، ¶ ولا يستمروا في الأوهام والترهات ، بل عليهم الانتباه إلى العمل قبل الفوات ، وإلى اغتنام الفرصة قبل الممات ، ¶ فمن مات فقد وصل إلى ما وعد به الله من العاد ، فإما أن يشقى ، أو ينال الإسعاد فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، ¶ فالكل عائد إلى ربه ، وسيرى ما يسيء أو يسر ، فماذا تريد أيها الإنسان من الحالين ، إن أردت إلا السيئات ، فابقى عليها ، فإنك إلى ربك آت ، وإن ابتغيت المسرات ¶ فإن ربك عالم بكل الخفيات ، فاعمل لتجد عنده الحسنات مضاعفات لأنه الرب الذي خلق كل شيء ، ولا يخفى عليه شيء ولا حي ¶ وهو المدبر والمسير ، لكل عالم علوي وسفلي ، وكل عاقل وغافل ¶ وكل نجم وصخر ، وكل كوكب وحجر ، وكل ملك وجن وبشر ¶ وهو بهم أعلم وأخبر ، وإليه المرجع لكل من تقدم أو تأخر ، وكل إنسان يعرف ما قدم وما أخر ، وقد فاز من قال ربي الله ،واستقام واستمر ¶ فلنكن إليه متجهين ، وعليه متوكلين ومعتمدين ، ولا نجعل من الشفعاء له شركاء ، فإن فعلنا كنا مشركين ، ¶ ولنستمع إلى قوله المبين (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) ¶ ما هو الاستواء ، إن البيان هو قوله (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) ¶ هكذا إذا هو المدبر والمسخر والمسير لكل ضوء وظلام ، وكل حركة وسكون ، وكل جسم أينما يكون ¶ (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) الأعراف 54 ¶ إنها كلمات موجزة معجزة ، تؤكد أن الله رب كل شيء ، ولقد أحاط الله بكل شيء علما وتدبيرا وله وسع ، ولا يشترك مع أحد ولا يشفع ¶ فهو الذي خلق ويخلق ، وهو الذي له الأمر وأمره الحق ، وهو في خلقه وأمره لا يعجز ولا يسبق ، وهو المبارك المعطاء ، والمبارك المنعم (تبارك الله رب العالمين) ¶ إنه رب كل ما تحرك وسكن ، وبدى واختفى وسفل وعلا ، وكل سابق ولاحق ، وماض وآت وحاضر ، ¶ وهو القريب لكل صامت وناطق ، ولكل ما هو خالق ، فليدعه المخلوق ليجد الجواب وينصلح عمله ، ليجد الرحمة مفتوحة الأبواب ، قريبة للمحسنين ولأولى الألباب ¶ (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ?55? ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين ?56?) الأعراف 55/56 ¶ ولكي يؤكد لنا أن تدبيره يشمل السماء والأرض ، والنجوم والإنسان يواصل الآيات التي تدل على قربه وتدبيره ، لكل شأن وكل ما يهم الإنسان والحيوان ، ¶ فيقول (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) الأعراف 57 ¶ تأمل معي الآية... الإرسال منه ، وهو المرسل ، سوق السحاب عليه ، إنزال الماء هو الذي يتولاه ، إخراج الثمرات هو الذي يقدره ¶ ويفلق الحب والنوى ، ويكسو الثمرات باللون والطعم واليناع والشذى ثم هو كما يفعل هذا أمامنا ، كل يوم وحين ، هو الذي يخرج الموتى يوم الدين ، ¶ فمالنا لا نكون من المتذكرين ، إن المتذكرين هم الطيبون في الدنيا ، أما الغافلون فهم كالصخور ، التي لا تثمر ، ولقد ضرب الله للفريقين المثل ، ¶ فقال (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) ¶ وهؤلاء هم المتذكرون ، أولوا الألباب ثم ماذا (والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) وهؤلاء هم الغافلون الأغبياء ¶ (كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون) الأعراف 58 ¶ فلنكن من الشاكرين لا المشركين ، ومن المتذكرين لا المنكرين ¶ ومن الطيبين لا الخبيثين ، ومن المنبئين لا المنبئين ، ومن المثمرين في كل حين رغدا ، لا من الذين لا يخرجون إلا نكدا. ¶ وبعد فلنغادر سورة الأعراف ، إلى سورة أخرى ، لنبحث عن الشفاعة لا تلوموني على التطويل ، ¶ فقد أردت أن أوضح للغاوي ماذا تعني كلمة الشفاعة ومشتقاتها في القرآن ، وأن أبينها بالتفصيل ، وأستقصي مواقعها مع التحليل ، ¶ وعليه فأنا أنقلكم الآن نقلة واسعة ، إلى النصف الثاني من القرآن ، فلن نجد الكلمة مرة أخرى إلا هناك ، بل لن نلقى الكلمة إلا عند الحديث عن يوم الحشر ، فإلى هناك ¶ يقول الله تعالى (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ?85? ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ?86? لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) مريم 85-87 ¶ هاهم المتقون يحشرون إلى الرحمن وفدا ، فهل من ينال مثل هذا التكريم ويحشر إلى هذا المقام ، يحتاج إلى شفيع ، أو وسيط لدى ربه العلام ¶ كلا فهم إلى الرحمن ، قد حشروا ، وهم في رعايته وولايته ، قد حضروا فهو وليهم ، وهم في جناته التي أعدت للمتقين (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) مريم 63 ¶ فلا يحتاج المؤمن التقي ، إلى شفيع به يتوصل ، وبشفاعته يرتقي إلى الرحمن ، فلا شريك للرحمن في حكمه ، ولا وسيط لديه في ملكه ¶ (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16 ¶ والملك هنا المراد به العلم ، فهو الذي يعلم حال كل عبد ، ولا يخفى عليه من عمله شيء ، وهو يجزي كلا بما عمل وكسب (لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17 ¶ وعلى ضوء هذا الملك والعلم ، ننتقل إلى الفريق الثاني المقابل للمتقين وهم المجرمون ، ¶ فانظروا كيف حالهم ، فالله يقول (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) مريم 86 ¶ إنهم يساقون كالأنعام ، فأنهم كانوا أضل منها وفي ظلام ، وهم يردون جهنم كالأغنام ، ¶ لأنهم كانوا يردون الشهوات باهتمام ، ويرتئون عن الهدى على الدوام ، فليس لهم سبيل ولا وسيلة للنجاة من جهنم ، ¶ وليس لهم سبب ولا حيلة لصرف العذاب عنهم ، ولهذا قال الله عقب ذلك (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) مريم 87 ¶ فماذا يعني هذا؟.. إنه التأكيد على يأسهم من النجاح ، وفقرهم من أي سبب للفلاح ، ¶ وكيفلا وهم نقضوا العهود مع الرحمن ، واتبعوا الشيطان إذا فلا يجد له أحد سببا للنجاح ، ولا يفوز أحد بالفلاح ، إلا من اتخذ لنفسه في الدنيا عهدا عند الرحمن ، ¶ وهو الوفاء بما عاهد عليه الله من الإيمان ، والعمل بما آمن بصدق وإحسان. ¶ هذا الفريق هو الذي كان عنده علم بأسباب النجاة في الدنيا ، فعمل بها ثم جاء بها مشفوعا إلى ربه ، أي أن الوفاء بالعهد للرحمن رفيقه في دربه ، ¶ أما المجرمون لا يملكون الشفاعة ، وهي الأسباب ولا يعلمونها فهم في عمى واضطراب ، وهم في ضلال وتباب ، ذلك أنهم لم يكونوا يعيرون أسباب النجاة ، في حياتهم الدنيا أي اهتمام ، ¶ بل كانوا يصرفونها ويولون عنهم مدبرين نفارا ، ويستهزئون بها استكبارا ، ¶ فمن أين لهم اليوم أن يملكوا الشفاعة والأسباب في الأخرى ، وقد أهملوها وقطعوها في الدنيا ، ولم يحفظوا لله هدى ، ولم يتخذوا عنده عهدا ، ¶ فهم اليوم في درك الإهمال والنسيان عمدا ، وهم يساقون إلى جهنم وردا ¶ وما يغني عن أحد مال ، ولا وهم الشفيع ، وذلك جزاء من تعدى وادعى على الرحمن ما لم يأت به سلطان ، وافترى على ربه الكذب والبهتان (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) مريم 88 ¶ وهذا هو الشفيع المدعى ، وهذا هو الوسيط المفترى (لقد جئتم شيئا إدا) مريم 89 ¶ هكذا هو وصف ما ادعوه وافتروه ، أما أثره فهو قوله تعالى بعد ذلك ¶ (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ?90? أن دعوا للرحمن ولدا ?91?) مريم 90/91 ¶ أرأيتم ما هو الأثر ، إن معنى الشفيع والوسيط لدى الرحمن انفراط نظام الخلق ، وفساد الإتقان ، ¶ فإن تصدع السماء وانشقاق الأرض وانهدام الجبال ، إنما هو كناية عن أن الدعوى ، والقول بأن الله اتخذ ولدا يلزم منها ، ¶ أن الله عجز عن مسك السموات والأرض عن الزوال وغفل عن تدبير النظام والكمال ، فأصبح الانفلات والانهدام هو المآل وهذا صحيح ، ¶ فلو ركن الله إلى شفيع في العلم ، أو اعتمد على ولي للملك ، أو كان له شريك في الحكم ، لكانت الفوضى هي المصير المحتم ¶ أما الحق الثابت الذي يجب أن يعلم ، فهو أن الله خالق كل شيء ، وهوالواحد القهار ، ولا يشركه في حكمه أحد ، ولهذا أضاف ¶ (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ?92? إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?93? إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?94? وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ?95?) مريم 92-95 ¶ إن هناك حقيقة غفل عنها من دعى الشفاعة ، هي أن كل واحد سيأتي الله فردا ، ¶ وإذا كان العبد سيأتي ربه يوم القيامة فردا ، فمن أين له شافع وأنى له نافع ، إنه في المحال طامع ، فليس أمامه من شفيع للنجاة ولا نافع للنجاح ، إلا العمل المنطلق من إيمان بالله ، وصلاح ¶ هذا هو وحده طريق الفوز والفلاح ، وسواه وهم وضلال قراح ، كما أن افتراء شفعاء مع الله كفر وشرك بواح ، فاعملوا صالحا تجدوا الفلاح ¶ (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) مريم 96 ¶ إنه وعد مؤكد ، فلتكن بينك وبينه موده وأنس ، خير لك من الاستيحاش والتزلف بشياطين الجن والإنس. ¶ ولتوف بعهدك مع الله ، تجد لديه يوم القيامة النجاه ، ولتتخذ إليه سبيلا ليكن لقائك مسرورا جذولا ، ¶ ولتكفر بالشركاء والشفعاء ، لتنال لديه الدرجات (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) طه 76 ¶ وما دمنا قد استشهدنا بهذه الآية من سورة طه ، فلنواصل السير على نور الآية ، للبحث عن كلمة الشفاعة في السورة ، سنجدها كذلك في الحديث عن الآخرة. ¶ فإلى هناك ، لنرى ماذا تعني هذه الكلمة في اليوم ذاك ، يقول الله ¶ (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) طه 108 ¶ فالجو معين ، والجموع في خشوع رهيب ، والرحمن هو المتولي للأمر والحكم لا سواه ، والكل ينتظر ما حكم به الرحمن وقضاه ، ¶ وكيفلا وهو يقضي بالحق ، وهو العليم بأعلم الخلق ، فمن عمل صالحا فاز ، ومن أفسد أخفق (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) طه 109 ¶ كيف تفسرون هذه الآية ، تظنون أن الإذن يصدر من الله لأحد من خلقة المقربين ليشفع في المذنبين ، أو ان الإذن يصدر لغير صاحب العمل من الحاضرين .. ¶ كلا بل المراد أن كل الأسباب هناك لا تنفع ولا تجدي وأن من توهم سببا من أسباب الدنيا المالية والأخوية أو العشائرية تنفع فقد ظل وغوى. ¶ لا ينفع هناك إلا سبب واحد ، وشافع واحد ، هو العمل الذي رضيه الله وارتضاه لصاحبة في الدنيا ، لأنه عمل بما أمر الله ، فرضى الله عنه وأرضاه ، ¶ ولأنه عمل بإيمان وصلاح وإحسان ، وقال ربي الله ثم استقام فرضى الله له هذا القول الصادق في الدنيا ، وهيأ له أسباب الفوز في الأخرى ، ¶ وأتاح له أن يكون عمله مشفوعا به يراه فيرضى ، وأنه للحق الذي نعلمه من القرآن ¶ (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى) النجم 39/40 ¶ ولماذا نذهب بعيدا فلنواصل السير مع آيات سورة طه ، بعد أن قرر الله أن الشفاعة لا تنفع ولا تهدي أحدا ، ¶ لكن من أذن له الرحمن في الهدى ورضى له قوله في الدنيا ، فإنه الفائز في الأخرى ، بعد هذا يؤكد هذا القرار ، ويوضح أسباب الفوز للأبرار ، ¶ فيقول (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) طه 110 ¶ إن الآية جواب عن سؤال ، هو كيف يا رب لا يفوز إلا من أذنت له وإلا من رضيت له قولا ، ¶ وأنى يتميز هذا في المقام المستنير ، فجاء الجواب بأن علم الله محيط بكل خفي وظاهر ، ¶ وبكل متقدم ومتأخر فكل الخلق عنده بارز وظاهر (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ¶ هذا هو شأن الله ، أما شأنهم فهم لا يحيطون به علما ولا يستطيعون وكيف وهو رب العالمين ، وكلهم إليه مضطرون مسائلون ، ¶ وهو المجيب المعطي ما يسألون ، لا يشغله أحد عن أحد ، ولا شأن عن شأن ولا ماذا كان عما يكون ، ¶ فكل العالمين يديه ، وهو الذي له الحكم فيما يعملون ، والذي يفهم بما لا يعلمون ، وبما نسوه من عمل مهما يكون وعليه فهل يمكن أن يشاركه في علمه أحد ، ¶ وهل يمكن أن يشاركه في حكمه أحد ، كلا بل ولا يعزب عزا به أحد ، فالناس أمام ربهم في خشوع ، وقوله لا يرد (وعنت الوجوه للحي القيوم) طه 111 ¶ فلا نبي ولا ملك ولا شهيد ، ولا صديق ولا بار ، ليتطاول في موقف الواحد القهار ، ولا يعلم أحد سواه ما عمله الأبرار ، وما اقترفه الأشرار ¶ وهو الذي أعلم بما فعلوه وعليه القرار ، فالكل لا يعلمون حتى ولا كانوا مقربين ، أما الظالمون فهم كما يقول الله في ختام الآية ¶ (وقد خاب من حمل ظلما) طه 111 ¶ كل من حمل وجاء به فقد خاب في الفلاح ، ودحر إلى جهنم ليكن هناك فريق آخر يتولى الله أمره بعدل وكرم (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) طه 112 ¶ هكذا هو شأنه ، إذا فما فائدة الشفيع والشفاعة لدى الله العليم بكل شأن والذي لا يظلم أحدا ¶ (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) ¶ فمن هو من الله أعظم ، ومن هو أكرم ، ومن هو أعلم ، ومن هو أحكم في هذا المقام الأعظم ، لا أحد كلهم لا يعلم ، ¶ فكيف يمكن أن يشفع أو باعتراض يتقدم ،نعم كيف يتقدم ، من ليس بأعمال العباد يعلم ¶ بل ليس له اطلاع حتى على اعمال ، من عاصره من النساء والرجال فكيف يعلم أعمال من جاء بعده من الناس عبر آلاف الأعوام والقرون والأجيال ، ¶ كل المرسلين لا يستطيعون ذلك ، ولا يعلمون بل يعترفون ، أما ربهم ذي الجلال ، بعدم العلم على الإطلاق ¶ (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109 ¶ فهل يستطيع أحد منهم بعد هذا أن يشفع أو ينفع ، وهو عار من العلم بأعمال من بلغهم وعاصرهم ، ¶ فكيف يمكن أن يعلم بأعمال من لم يعاصرهم ولم يرهم ، إن هذا هو الحال ، الذي يؤكد أن الحكم والعلم في ذلك اليوم إنما هو لذي الجلال. ¶ إنما المرسلون على اختلاف مراتبهم وعصورهم ومقاماتهم منذرون للناس بذلك اليوم الذي به يوعدون به، ¶ من ربهم رفيع الدرجات ذو العرش (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) غافر15 ¶ هذه هي مهمة الرسل ، إنها إنذار العباد ، بيوم اللقاء بربهم ¶ (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16 ¶ فهو الذي بيده الملك لا سواه ، وله العلم وحده ، وكيفلا وهو الواحد القهار ، بل (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) الحشر 23 ¶ وهو قبل ذلك (عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم) الحشر 22 ¶ فمن ذا الذي يتطاول إلى هذا المقام السامي ، ومن يجاري في العلم والحكم ، ربه الله الخالق ، كلا بل هو وحده أعلم ¶ (وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير) الأنعام 73 ¶ وإذا كان الأمر كذلك ، فهو الذي تعرض عليه الأعمال ، وهو الذي ينبئ العبد بكل عمل وقال ، ثم يقضي بالحق له أو عليه بلا جدال ¶ ولهذا فهو يقول (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17 ¶ وما دمنا من سورة غافر قد أوردنا هذه الآيات ، فلنواصل الترتيل والتدبير ، عسى أن نجد فيها كلمة شفيع ، فلننظر ما تفيد ¶ إن الآية السابقة متلوة بقوله تعالى مخاطبا رسوله محمد ¶ (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) غافر 18 ¶ إن ذكر الشفيع والحميم هنا لا يعني وجوده ، بل يعني نفي وجوده ¶ فإذا انتفى الوجود للشفيع ، فبالأولى أن ينفى كونه يطاع ، بل وعلى فرض أن الشفيع والحميم موجود ، فإن من المحال أن يطاع أو يسمع لماذا؟ ¶ إن الجواب يأتي في الآية التالية ليسد الطريق أمام الأوهام ¶ فلنقرأ باهتمام ، قول العلام (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) غافر 19 ¶ أسمعتم انه هوحده العليم بخائنة الأعين ، وهو وحده المطلع على ما تخفي الصدور ، فمن ذا الذي يشفع عنده في هذا المقام الخطير ¶ ومن ذا الذي يشاركه في الحكم ، وهو الحكيم الخبير ، فمن ركن إلى سواه ، أو اعتمد على غيره ، فقد جعل شريكا لربه الكبير ¶ الذي يقول عن نفسه (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء) ¶ لماذا لا يقضون ، ولماذا لا يستطيعون ، لأنهم لا يعلمون ولا يطلعون على أعمال الآخرين ، كما يعلمها الله رب العالمين ، ¶ ولهذا يختم الآية بقوله (إن الله هو السميع البصير) غافر 20 ¶ فهل بعد هذا تدعي لنفسك شفيعا حميما ، وتنسى ربك العليما ¶ هل تعلم له سميا ، فيكف تجعل لك من دونه وليا ، وكيف تشرك في حكمه عبدا ، وهو الولي الحاكم أبدا ¶ (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) ¶ وبعد لعلنا قد استقصينا كل الآيات التي وردت فيها كلمة شفاعة ¶ أو مشتقاتها ولقد أردنا من استقصائها ، قصم الأوهام المتعلقة بها ¶ فلنكن على علم أن الشفاعة لله كلها ، وإذا لم نصدق ونوقن بكلامه المفهوم ، فلنعزز ذلك بآيات من سورة الروم ، فلعلها لم ترد في هذا البحث المرقوم ، يقول الله الحي القيوم ¶ (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) الروم 11 ¶ إليه وحده الرجوع ، لأن تقديم الجار والمجرور ، يفيد أن الرجوع ¶ إليه مقصور ، ثم ماذا؟.. ثم لننظر كيف يكون الحال ، لمن يعلق بالشفعاء الآمال ¶ (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) الروم 12 ¶ لماذا يبلسون ، لأنهم نسوا الله واعتمدوا على المفترين ، وجعلوهم لله مشاركين ، ولكنهم اليوم غير موجودين (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) الروم 13 ¶ نعم إن الشركاء الموهومين ، من المحال أن يوجدوا يوم الدين ¶ فهو اليوم الحق ، فكيف يكونون شافعين ، ثم إن وجدوا وأحضروا فأنهم يعلنون أمام الله ، أنهم متبرئون ممن جعلهم شركاء لله ، ¶ بل يقولون (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) القصص 63 ¶ وهنا ماذا يكون مصير الواهمين ، إنه الندم ثم العذاب ¶ (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) القصص 64 ¶ قد يقول قائل أن هذا من أشرك بالله ، وعبد الطغاة والأحجار ¶ أو الشمس والنجوم والأقمار ، نقول لكن من اعتمد على نبي ¶ أنه يشارك الله في ، حكمه ويشفع في خلقه ، ويرد على الله علمه ¶ فقد جعل لله شريكا وعليه اعتمد ، ونسى الله الواحد الأحد ، وهو الذي لا يرسل الرسل إلا مبشرين ومنذرين ، وتلك مهمتهم للناس أجمعين ¶ و أمر الناس لربهم رب العالمين ، وها هو يقول لرسوله محمد خاتم النبيين (وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) الرعد 40 ¶ أتفهمون أساليب الحصر والقصر ، هنا جاء بأسلوبين ... ¶ التقديم للجار والمجرور ، وهو (عليك - وعلينا) وقبلها جاء بكلمة إنما التي تفيد الحصر المؤكد ¶ ويقول (إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) هود 12 ¶ ويقول (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) يونس 46 ¶ ويقول (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) هود 123 ¶ وإذا كان إليه وحده ، يرجع الأمر كله ، فهل يمكن أن يدعي محمد ¶ النبي الأمين ، أنه شريك لربه في حكمه في يوم الدين ، كلا بل شأنه ¶ هو كما حدده الله (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) يونس 109 ¶ ويقول (يسألونك عن الساعة أيان مرساها ?42? فيم أنت من ذكراها ?43? إلى ربك منتهاها ?44? إنما أنت منذر من يخشاها) النازعات42-45 ¶ ويقول (وما أدراك ما يوم الدين ?17? ثم ما أدراك ما يوم الدين ?18? يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ?19?) الإنفطار 17-19 ¶ هناك قاعدة نقولها ، وننسى تطبيقها ، وهي ¶ "النكرة في سياق النفي تفيد العموم" ¶ وها هي كلمة نفس في الآية وردت نكرة مسبوقة بالنفي ، ومعنى هذا ¶ أن كل نفس من البشر كلهم ، والأنبياء معهم ، لا يملك أحدهم لأحد شيئا بل الأمر كله لله وحده ، ¶ فهل بعد هذا يدعي محمد الإشتراك مع الله الأحد كلا كلا إنه أعقل وأجل ، من أن يجهل كلام ربه ، وهو الذي تلا القرآن ورتل ، وبلغه وأكمل ، ¶ فلا يمكن أن يدعي لنفسه ما ليس إليه يوكل لقد سماه الله هكذا (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ?45? وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ?46?) الأحزاب 45/46 ¶ وسماه رسول الله وخاتم النبيين وقال له (إنك لمن المرسلين ?3? على صراط مستقيم ?4? تنزيل العزيز الرحيم ?5? لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ?6?) يس 3-6 ¶ (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) البقرة 252 ¶ نعم إن محمدا من المرسلين كما وصفه الله ، وإنه خاتم النبيين كما سماه الله ، وإنه نذير وبشير. كما أن كل المرسلين مبشرين ومنذرين ¶ فهو مكمل لمهمتهم ، وهو ماضي على طريقتهم ، ومنظم لأمتهم ومؤتم لملتهم ، ومقتد بهم ، بطريقتهم في الصبر والعزم والتوكل ¶ والحزم والثبات على الحق ، والإلتزام بالصدق ، إذا فهو منهم وليس سيدهم كما نصفه ، وهو مثلهم وليس أشرفهم كما نسميه ¶ وهو عبد الله ورسوله الأمين ، وليس شريكه في حكمه وعلمه ¶ بل أن محمدا نفسه ، لا يرضى لنفسه هذا الإدعاء ، ¶ وحاشا أن يجعل نفسه شفيعا عند ربه ، الذي إليه دعى ، وبعلمه هدى ، ¶ وله خشع ولبى وعليه توكل وله ترجى ، واستقام له عابدا ومحتاجا مستجيرا ¶ وبه مستعينا مستنصرا ، وعليه متوكلا وإليه فقيرا. ¶ إني لا استهين بالنبي ، ولا أحط من مقامه العلي ، ولا أتجرأ على دوره الوضاء ، ¶ ولكني أصفه كما وصفه ربه ، وأسميه بما سماه ، وأحدد مهمته كما حددها ربه الذي اصطفاه ، ¶ وهكذا يجب أن يكون موقعنا وفهمنا ، فلا نزيد له ما ليس له ، ولماذا نمنحه من الصفات والأسماء ما لم يأذن به الله. ¶ إننا إذا أفرطنا ، واستمر إفراطنا في هذا الإدعاء ، فقد نسقط فيما سقط فيه النصارى ، إذ جعلوا المسيح شريك الله ، وسموه إبن الله ، ¶ بل قالوا أن الله هو عيسى بن مريم ، وبهذا جعلوه يعلم ما ليس به الله يعلم وليشارك ربه فيما يقضي ويحكم ، ¶ فكانوا مشركين وكانوا كافرين برب العالمين ، ولقد توعدهم المسيح بن مريم بالعذاب المهين وأكد لهم أنه عبد لرب العالمين ¶ (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) المائدة 72 ¶ (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) المائدة 73 ¶ بل أن الله يوضح لنا ولهم ، أن المسيح بشر لا ينفع ولا يشفع ، ومحتاج إلى ربه وإليه متضرع ، وحدد مهمته وبين حقيقته ، فقال ¶ (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة) ¶ نعم إذا كانت الرسل قد خلت من قبله ، فهو قد خلا معهم ومات ¶ وهذا شأن البشر ، ثم أن الله يوضح أنه مولود من أم مؤمنه ، وليس مولودا لله كما يزعمون ، ¶ ولتأكيد عجزهما وتجردهما من صفات الألوهيه ، قال مضيفا عن المسيح وأمه (كانا يأكلان الطعام) ¶ إن من يأكل الطعام ، محتاج مضطر ، وفاني مثل غيره من البشر فكيف يعبد البشر ، بأولى البشر ¶ (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) المائدة 75 ¶ إذا فهو الإفك والبهتان ، والكفر بالرحمن ، ولقد تجرد عن القلب السليم من عبد غير الله العليم ¶ (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) المائدة 76 ¶ إن السميع العليم هو الذي ، يعبد ويدعى ويقصد ويرجى ¶ وسواه عاجز لا يملك لغيرة ولا لنفسه شيئا ، فأنى يكون شافعا عند الله وهو لا يعلم من أعمال العباد شيئا ، ¶ وكيف يشارك الله في حكمه عبد مستسلم لحكمه ، بل ومسئول عن مهمته التي كلفه بها ربه ، مدعو إلى الحساب مع قومه ¶ (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109 ¶ وهذه آية تجمع فيها كل الرسل ، ولا تخصص ولا مخصص لها ¶ فكيف تفرد محمدا بالعلم دونهم ، ولماذا نفعل كما فعل النصارى في إفكهم ، ولماذا نكون مثلهم ، وقد سمعنا ما قال الله عنهم. ¶ إن هذا هو الغفول والافتراء ، والسهو عن آيات الله ، بل الاستهزاء بها وكيفلا ، وقد كرر الله قصة المسيح في القرآن ، أكثر من مرة ¶ وأوضح فيها أن ما افتراه النصارى فيه ، إن هو إلا ظلم وشرك مبين ، وأكد لنا أن المسيح كغيره من المرسلين ، يدعو إلى عبادة ربه رب العالمين ¶ بل واستبعد أن يدعي رسول ما يخالف مهمته ، وينقض رسالته ، فقال ¶ (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ?79? ¶ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ?80?) آل عمران 79-80 ¶ بل أن الله سبحانه يؤكد ، والتحذير للمسلمين ، ولكل المؤمنين من اتخاذ النبيين أربابا ، من خلال عرض موقف مهيب في يوم الدين فإذا المسيح يسأل أمام العالمين ¶ (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ¶ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) المائدة 116 ¶ إنه التأكيد على أن الأنبياء لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يقولون إلا الحق الذي قال لهم الله ، ولهذا أضاف قائلا ¶ (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) المائدة 117 ¶ وهكذا فهو بلغ ما أمر به ، ولم يزد عليه شيئا ، وهو لا يعلم من أعمال الناس المبلغين شيئا ، فلقد مات وبقى الله وحده ، ¶ هو الرقيب والشهيد وكيفلا وهو الله وحده على كل شيء شهيد ، وما دام الأمر كذلك ، فإن الله هو الحاكم القاضي ، يوم الدين ¶ ولا شفيع لديه ، ولا شريك في حكمه من الأنبياء والمرسلين ، لأنهم لا يعلمون ، ولم يعلموا شيئا ظاهرا من أعمال العباد المعاصرين ، ¶ فكيف يعلمون الأعمال الخفية الباطنة ، في كل العصور من بعد موته ، إن هذا من المحال ، فيكف ننسب إليهم المحال ، ونسند إليهم مالا يستطيعون من الأعمال ، ¶ إن العلم بالغيب حصر على الله ذي الجلال. ¶ وإني أنبه أن الشفاعة تعتمد على العلم الحق ، ولا يمكن أن تتحقق ، إلا إذا قام بها من يعلم من حال المشفوع له ، أكثر مما يعلم عنه المشفوع عنده ¶ وبعبارة أكثر إيضاحا ،... إن الشفاعة تعني أن أي نبي رسول ، أو نبي حين يشفع لفلان من الناس عند الله ، ¶ فإن هذا يعني أن النبي يعلم عن أعمال هذا المشفوع له ، أكثر وأدق مما يعلمه الله عن هذا المشفوع له وهذا محال ، ¶ وهذا المقال لا يليق بذي الجلال ، بل هو شرك بلا جدال ¶ (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18 ¶ وإذا كانت الشفاعة تعني ما ذكرنا ، فليكن معلوما أن الأنبياء والمرسلين غير مؤهلين لهذا العمل ، ¶ ولا يرضون لأنفسهم إدعاء هذا الشرك الوبيل لأنهم لا يعلمون ، ولأنهم لربهم يقدرون ، وله يوحدون ، ولا يشركون به شيئا ¶ (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الأنعام 88 ¶ هكذا يقول الله عنهم ، ويقول لرسوله الخاتم محمد ¶ (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) الزمر 65 ¶ ومع علمهم بربهم ، وتقديره حق قدره ، فإنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم ، وإن الله ليؤكد لنا هذا عمليا ، ويعلنها علينا في القصص والآيات ، ¶ فها هو نوح عليه السلام ، وهو قدوة الرسل وهدف أولى العزم وهو العبد الشكور الصبور ، ها هو لا يعلم من عمل ابنه شيئا ¶ وهو أخص وأقرب الناس إليه ، ومعاصر له ، بل وساكن معه في بيته وكذلك لا يعلم من أعمال امرأته شيئا ، وهي أقرب إليه من ابنه ، كما هو شأن المرأة مع زوجها ، ¶ فبعد أن أطبق الماء على قوم نوح وحال بينه الموج وبين ابنه ، يقول الله ¶ (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) هود 45 ¶ إنه كان لا يعلم إن ابنه فيمن سبق عليهم القول ، ولهذا فإن ربه العليم يرد عليه ، ويعلمه ما يجب عليه ¶ (قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) هود46 ¶ وهكذا ينتبه نوح ويستغفر ، ويستعيذ ويعتذر ¶ (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) هود 47 ¶ ولو أردنا أمثلة أخرى عن بقية الأنبياء ، لأوردناها وكلنا نخاف الإطالة ولكني سأنقلكم ، من أولهم إلى خاتمهم ، الرسول النبي الأمي الأمين المرسل للعالمين ، ¶ فهذه صفاته وهذه مهمته ، لكنه لا يعلم من أعمال الناس المعاصرين له ظاهرا ، فكيف يعلم من أعمال من خلفهم سرا والدليل على قولي ، هو قوله تعالى مخاطبا لرسوله ¶ (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) التوبة 101 ¶ واقرءوا بعدها من الآيات ، تجدوا أخبارا تأتي من الله لرسوله لا يعلمها الرسول إلا من ربه ¶ (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) التوبة 102 ¶ (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) التوبة 106 ¶ لقد ختم الآية بقوله (والله عليم حكيم) ليؤكد أن هذا لا يعلمه الرسول إلا من ربه العليم ،وكذلك يختم الآيات التي تليها والتي تخص ¶ (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين) التوبة 107 ¶ وتستمر الآيات حتى يقول مخبرا ، بما لا يعلمه أحد إلا هو الله ¶ (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) التوبة 110 ¶ وهكذا تتوالى الآيات ، وتتضح وتفصح ، عن عدم علم الرسول بأعمال من حوله ومن معه ، من أهله وقومه ، وأصحابه المخلصين وأصحابه المنافقين ، ¶ وهي حالات تحويها السور المدنية ، وبالذات سورة التوبة وسورة محمد وسورة الأنفال والبقرة وآل عمران ¶ ومن هذا حاله ، كيف يمكن أن يشفع لشخص وهو يجهل أعماله ¶ إن هذا أمر محاط بالاستحالة ، ولا يرضاه النبي بل لا يتفق مع الرسالة لأن مهمة الرسول هي البلاغ ، أما الحساب فعلى الله ¶ (وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) الرعد 40 ¶ (إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) هود 12 ¶ (فذكر إنما أنت مذكر ?21? لست عليهم بمصيطر ?22? إلا من تولى وكفر ?23? فيعذبه الله العذاب الأكبر ?24? إن إلينا إيابهم ?25? ثم إن علينا حسابهم ?26?) الغاشية 21-26 ¶ ألا تلاحظون الحصر والقصر ¶ (فإنما عليك البلاغ) (إنما أنت مذكر) (إنما أنت نذير) ¶ إن الحصر هنا مضاعف التوكيد والقوة ، لأنه مؤيد بإنما ¶ وبالتقديم للظرف والخبر (عليك) (أنت) ¶ كما أن الحصر في جانب الله أوضح ¶ (وعلينا الحساب) (إن إلينا إيابهم) (علينا حسابهم) ¶ وكل الآيات التي تتحدث عن القيامة والبعث والحساب ، وكل الآيات التي تتحدث عن الدنيا ، تحصر وتقصر مهمتهم في الإنذار ، وتخص الله بالحساب والقرار ¶ (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) ¶ وهذه تتكرر في عدد من السور والمواقع القرآنية ، وبأساليب حصر وقصر متنوعة ، فهل بعد هذا يجادل مجادل ، ¶ أن للأنبياء والمرسلين جميعا ، أو لبعضهم دورا ، في يوم الحساب ، ينقذ من العقاب ... كلا بل الله يخاطب رسوله محمدا ، مؤكدا له اختصاص ربه بالحساب والعقاب ، فيقول ¶ (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار) الزمر 19 ¶ ويقول له عن أصحابه المؤمنين (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) الأنعام 52 ¶ بل ويجعله يبلغ الناس ، أن ربه هو الحاكم بين العباد ، ومعنى هذا هو أن محمدا لا يشارك ربه في يوم المعاد ¶ (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46 ¶ فما دام هو الله الفاطر ، وهو عالم الغيب والشهادة ، ثم بأعمال عباده لأن من خلق فهو الذي يعلم ويحكم ، ¶ أما المخلوق فلا يعلم شيئا إلا ما به الله علم ، إن وصف الله بأنه عالم الغيب والشهادة ، هو المقدمة التي تؤدي إلا النتيجة المنطقية ، ¶ وهي أنه هو الذي يحكم بين العباد ، كما أنه الفيصل وحده فيما كانوا فيه يختلفون ، لأنه يعلم ما يبدون وما يخفون. ¶ ثم تأمل مشهد الناس يوم القيامة ، سنجد الجميع أمام ربهم ، وكلهم ينتظرون حكم الله فيهم ، فهو المتصرف فيهم ، وفي كلما يحيط بهم ¶ (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) الزمر 67 ¶ وما دام هو القابض والباسط ، والبادي والطاوي ، للأرض والسموات فكيف لا يكون هو المتصرف فيما عليها من المخلوقات ، ¶ فهو الملك الحق ، ولا شريك له في الأمر والخلق ، ومن ادعى مشاركته فقد فسق ولهذا ختم الآية بقوله (سبحانه وتعالى عما يشركون) الزمر 67 ¶ ثم ماذا؟.. ها هم الخلق والناس مقبوضون كالأرض والسموات ¶ (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) الزمر 68 ¶ ثم ها هي الأرض تعد ليوم الفصل الموعود ، يوم جمع الآخر مع الأول في يوم مشهود ¶ (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون) الزمر 69 ¶ فالنبيون والشهداء لا يأتون ، أو لا يجاء بهم ، إلا وقد وضح الكتاب وانقضى الحساب ، ¶ فكيف يشفعون في الأعمال والعباد ، والكتاب قد حوى الخافي والبادي ، فهو (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) الكهف 49 ¶ ومن المعروف أن الكتاب ينطق بالحق ، والله يقضي بالحق ¶ فمن ذا الذي يستطيع بعد هذا البيان ، أن يتدخل في حكم الرحمن ¶ أو يعلم أكثر من الله ، أو يتكلم عما كان ، وهو لا يعلم من أحوال نفسه شيئا ، فكيف يعلم أحوال سواه ، ثم ¶ (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) النساء 40 ¶ فمن ذا الذي يستطيع أن يزيد على عطاء الله ، أو ينقص من جزائه ¶ وهو الله الكريم الأكرم ، وكل عبد عنده لا يظلم ، فإن أساء نال ما يستحق ، وإن أحسن زاده الله من العطاء العظيم ، ¶ وكيفلا وهو الحكيم العليم ، ولهذا قال في الآية التالية من سورة الزمر ¶ (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) الزمر 70 ¶ وهكذا كانت الآية السبعون ، هي الفاصلة فيما يفعلون ¶ فالله هو الأعلم بالعباد وأفعالهم ، وهو الذي يوفيهم بأعمالهم ¶ فلا يخاف مسيئهم ظلما في العقاب ، ولا يخاف محسنهم هضما في الثواب فالكل أمام الله السريع الحساب ، وهكذا فإن الجميع في الختام ¶ وبعد انقضاء الأحكام ، يتوجهون بالحمد والتسبيح لربهم العلام ¶ (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) الزمر 75 ¶ إن الحمد هنا يعني أن الله حكم بالحق ، الذي لا يرد ولا يسبق والذي يقبل به الكل بلا اعتراض ولا نكران ، ¶ لأنه قضى بالعدل والميزان وهو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ¶ ولا أقل من ذلك من أعمال الإنسان فسبحانه الرحمن الرحيم ولا شريك له في الحكم ¶ (أليس الله بأحكم الحاكمين) التين 8 ،،،،،،،
الامعان في مفردات القرآن
هي قراءات متأنية لتصحيح معاني أهم المفردات التي اختلف حولها المفسرون أو فهموها فهما سطحيا لم ينفذ إلى عمق دلالاتها الحقيقية فكان التفسير لها غير منسجم مع سياقها القرآنيالامعان في مفردات القرآن ¶ هي قراءات متأنية لتصحيح معاني أهم المفردات التي اختلف حولها المفسرون أو فهموها فهما سطحيا لم ينفذ إلى عمق دلالاتها الحقيقية فكان التفسير لها غير منسجم مع سياقها القرآني
نزل وأنزل
لعل هذا الموضوع في نظر البعض غير مهم ولا يحتاج لاهتمام، لكنه موضوع هام يحتاج إلى التأمل بإمعان؛ لأنه متعلق بآيات القرآن؛ ذلك أن الكلمتين وردتا في القرآن متكررة وفي آيات تتحدث عن مصدره، وعن مصدقه ومنكره. وإذن فلا بد من تأمل معناهما بإمعان، لنصل إلى الفهم الذي يليق باليقين في الإيمان.
لقد دفعني إلى البحث والتفكير في معنى الكلمتين ودلالتها ما لحظته في كتب اللغة والتفسير من اضطراب في معناهما وهو اضطراب مثير لا يليق ببلاغة القرآن، ولا يصح أن يترك بلا بيان؛ وكيف لا وهو منزل من الرحمن؛ ولهذا فقد طفقت أتابع الكلمتين في الآيات، وأتأمل في سياقها بحثا عن الدلالات؛ حتى وصلت إلى الفهم الشافي، والتفسير الوافي، بعون الله الكافي ، ولقد كان مفتاح الباب إلى تتبع المعنى والتنقيب الدائب ما قاله العلامة الرضي في شرح شافية ابن الحاجب، حول الأفعال المضعفة. فلقد أشار إلى أن تضعيف كلمة أنزل بأن يقال [نزل] لا يدل على التكرير، كما زعم رجال التفسير؛ بل لها معنى آخر يلوح لمن له قلب مستنير. ودلل على قوله بآية كريمة، تدعم ما يذهب إليه من نظرة سليمة، وتدحض النظرات السقيمة؛ تلك هي قوله تعالى في سورة الشعراء: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) [الشعراء:4].فإن ورود كلمة (ننزل) المضعفة في هذا السياق لا تدل على التكرار؛ لأن الآية تنزل دفعة واحدة بلا تكرار ولا تتابع، هذا أولا - وهو قول صحيح ودليل واضح على ما ذهب إليه- ثم ما ورد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) [الفرقان:32]. فلقد وردت كلمة (نزل) مضعفة مع أنهم طلبوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، وهذا يعني أن الكلمة لا تعني التكرير والتتابع.
إذن فإن كلام الرضي قد أثار السؤال عن المعنى الجديد، ولكنه لم يوضح المعنى المراد بل ترك الباب مفتوحا لمن أراد البحث عن المعنى بالتحديد. وهذا هو الذي أثار عندي التساؤل حول المعنى المراد، ودفعني إلى البحث والتأمل في الآيات باطراد. وعليه: فقد أضربت صفحا عن مراجعة أقوال المفسرين، فإنهم لم يأتوا بالقول المبين، واتجهت إلى الآيات موقنا بأن فيها النبأ اليقين. فالقرآن يبين بعضه بعضا، ومن تدبر وصل إلى ما به الله يرضى، وبعد أيام وأيام وتأمل وإمعان، ومقارنة بين مواضع ورود الكلمتين في القرآن، تبين لي بسهولة ويسر أن المعنى واضح وليس فيه لبس ولا في فهمه عسر. وإليكم النتائج التي وصلت إليها، والدلالات التي اطمأنت نفسي إليها، وها أنذا أضع أمامكم المعاني التي تدل كلمتا "نزل وأنزل" عليها؛ مؤيدة ببعض الآيات التي يدل سياقها على معانيها.
لقد تأكد لي بما لا يدع مجالا للشك، أن كلمة (نزل) بالتضعيف تأتي في السياق الذي يدل على تنزيل خاص لفرد خاص أو مجموعة خاصة وبصفة خاصة بينما كلمة (أنزل) بالهمزة والتخفيف تأتي في السياق الذي يعني إنزالا عاما لا يخص فردا معينا ولا جماعة مخصصة ولا حالة خاصة ولكن للناس عامة وللأمم عامة ولحالات عامة بدون تخصيص ولا تحديد. ثم إن كلمة (نزل) تعني إلى جانب ما تعنيه من الخصوصية الاهتمام الخاص بالمنزل إليه والعناية الخاصة بالمنزل عليه؛ بينما لا تفيد كلمة (أنزل) الإشارة إلى هذا الاهتمام بل تأتي في سياق الإلقاء للخاص والعام. وهكذا يكون الفهم لمعنى الكلمتين في سياق الآيات.
لنقرأ قوله تعالى، حاكيا تعنت الكفار وطلبهم المعجزات من الرسول في سورة الإسراء فلقد أورد عددا من المطالب حتى وصل إلى قوله: (أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا)[الإسراء: 93]. تأملوا قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى (تنزل) علينا كتابا نقرؤه). إن كلمة (تنزل) جاءت لتدل على أن المراد "التنزيل الخاص" الذي يصل إليهم بعناية واهتمام، ويخصهم بالخطاب والكلام. ثم إن مثل هذا الطلب المتعسف، ورد في سورة الزخرف: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) [الزخرف: 31]. فإن كلمة (نزل) وردت لتدل على أن المراد تنزيل خاص إلى شخص مخصوص وبعناية واهتمام يليق بالرجل العظيم، ويتناسب مع مقامه المزعوم. ولتأكيد هذه الخصوصية وردت الكلمة في سورة الإسراء: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)[الإسراء: 106]. فلقد تنزل القرآن على رسول الله محمد تنزيلا خاصا ليقرأه على مكث على الناس وليبلغه إلى الناس بشكل واضح مبين. ولنعرف أن هذا المعنى هو المراد، فإن الآية التي سبقت هذه تستعمل كلمة أنزل لتدل على أنه إنزال عام: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) فهو بالحق متلبس، وهو له ملابس في حالة الإنزال وفي حالة النزول؛ ليكون للعالمين الدليل على أن الله هو الهادي إلى سواء السبيل، وأنه الهادي إلى الحق لا سواه؛ ولهذا فإنه وحده المتفرد بالحكمة والإرسال، والوحي والإنزال؛ ولكنه يختار من الملائكة والناس ما يختار من الرسل وهو السميع البصير.(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور) [الحج: 76].
وعليه: فإنه يعتني باختيار رسله من الملائكة ومن الناس فإذا تحدث عن إنزال الملائكة استعمل كلمة (نزل) المضعفة التي تدل على العناية والاهتمام الخاص؛ (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون(1) (ينزل) الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) [النمل: 1-2]. لاحظوا كلمة (ينزل الملائكة) فإنها مضعفة. وكذلك قال في سورة الإسراء: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) [الإسراء: 95]. وحين يتحدث الملائكة عن أنفسهم يستعملون نفس الكلمة: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) [مريم: 64]. وحين يتحدث الله عن القيامة يقول: (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) [الفرقان:25]. وقوله عن ليلة القدر: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4)سلام هي حتى مطلع الفجر(5)) [القدر: 4-5]. وحين يريد الله أن يؤكد أن القرآن منزل من عنده بلا ريب فإن كلمة (نزل) ومشتقاتها ترد متوالية، سواء في الحديث عن الملائكة أو عن القرآن كما ورد في سورة الحجر، فالله يحكي قول المكذبين فيقول: (وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) [الحجر:6]. فهم ينادون النبي بما يدعيه ويستعملون الكلمة التي تدل على الاختصاص (نزل) كما يدعيه بأنه منزل عليه، وهم بهذا يسخرون أو يطمعون أن يكون التنزيل لهم معه؛ ولهذا فهم يطلبون دليلا على ما ادعاه وهو قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) [الحجر:7]. لكن الله يجيب بلهجة التهديد، والتلويح بالوعيد، ويستعمل كلمة (ننزل): (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) [الحجر:8]. ثم يؤكد أن القرآن منزل من عنده بعناية واهتمام ويستعمل كلمة (نزل): (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9].
ومثل هذا جاء في سورة الإنسان: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا(23)فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا(24)) [الإنسان:23-24]. أما حينما يتحدث عن الكتاب ويصفه بصفات خاصة فإن استعمال كلمة (نزل) المضعفة هي المناسبة بلا إشكال: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) [الزمر:23].
وهكذا تأتي كلمة (نزل) المضعفة في سياق التأكيد على التنزيل الخاص الذي يهم الناس، فالله يقول: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير) [الحج: 71]. ومثل هذا قال هود لقومه: (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين) [الأعراف:71].
لعلي بهذا قد أثبت ما أريد أن أوضحه لكم، ولست بحاجة إلى المزيد من الآيات لأترك لكم فرصة التأمل في ما تركته من الآيات ولتصلوا إلى الحقيقة بأنفسكم؛ لكني لن أترك الحقيقة حتى أدعمها بقضية تؤكدها بوضوح، وتدعمها بالخبر الصحيح. استمعوا إلى الحواريين وهم يطلبون المائدة من المسيح: (إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [المائدة: 112]. إنهم يطلبون مائدة تتنزل بشكل خاص وبعناية خاصة وإلى فئة خاصة- هم هؤلاء المجموعة من الحواريين- منفردين لا يشاركهم غيرهم؛ ولهذا فإنهم يدعمون هذا الطلب بما يوضحه: (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) [المائدة: 113]. وهنا يجد عيسى نفسه محتاجا لما طلبوا فيتوجه إلى ربه سائلا طالبا، ولكن بطريقة مختلفة عن طلبهم: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) [المائدة:114]. لقد استعمل كلمة أنزل بدون تضعيف. لماذا؟. لأنه لا يطلبها للحواريين وحدهم، ولا لمن يعاصره منهم ولكن له ولهم ولمن يلحقهم من المؤمنين أي لأولهم وآخرهم؛ ولهذا وصفها بأن تكون لهم عيدا، أي تعود في كل عام وتنزل على من اتبعه من المؤمنين بشكل عام، وفي وقت محدد من الأعوام؛ لتكون آية من الله ورزقا من خير الرازقين. لقد قدم الطلب بأسلوب مؤدب، وجعل القضية آية من الله لمن آمن بالله وأحب، وعمم الخير لكل المؤمنين به في كل الحقب. وهنا يستجيب الله للطلب؛ ولكنه يتوعد من كفر وكذب؛ بأنه بعذاب خاص سيعذب. (قال الله إني منزلها عليكم). لقد استعمل كلمة (نزل) ليدل على أنه منزلها بعناية واهتمام، وبالصفة التي أرادها المسيح في كل عام. ولكن الله يتوعدهم بقوله: (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) [المائدة: 115]. وعلى هذا فإن المائدة لم تنزل، بل لم تنزل؛ لأن شرط المسيح عليه السلام الذي جعلها عيدا، وتهديد الله لهم والوعيد هو الذي ألغى طلب الحواريين وجنبهم عذابا لا يعذبه أحد من العالمين، فسبحان الله القوي المتين، والحمد لله خير الرازقين.
وبعد فلعل القضية قد تكون اتضحت لكم وأصبح الإنزال غير التنزيل، وفهمنا أن كلمة (أنزل) لا تدل على المرة بل على الكثرة بشكل عام، وأن كلمة (نزل) لا تدل على التكرار بل على الخصوصية والاهتمام. لكن قد يسأل سائل عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر:1]. وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) [الدخان:3]. وقوله: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1)قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا(3)وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4)) [الكهف: 1-4]. لقد أخبر أنه أنزله على عبده ولكنه استعمل كلمة (أنزل)، وهذا ينقض ما قلت، ولكني أقول أن في الآيات إشارة إلى أن الكتاب أنزل للناس كلهم بلا تحديد إلى الجهة المستهدفة من الإنزال؛ لكنه في سورة الفرقان يقول: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)[الفرقان:1]. فيستعمل كلمة نزل لأنه ينظر إلى الشخص المنزل عليه الفرقان وهو الرسول خاصة ثم للعالمين من بعده؛ ولهذا قال: (ليكون للعالمين نذيرا) فالتنزيل على واحد مخصوص لينقله إلى العالمين وينذر به من يعون.
وعليه: فإن المعنى في الآيات الواردة لا يتناقض ؛ لأن الكلمة تستعمل بالنظر إلى الجهة المستهدفة من الإنزال أو التنزيل؛ فإن كانت الآيات ناظرة إلى فرد مخصوص أو حالة مخصوصة؛ استعمل كلمة نزل، وإن كانت ناظرة إلى جماعات مستهدفة وحالات عامة؛ استعملت كلمة أنزل، وهذا يلحظه من يتدبر الآيات ويتأمل. ولتأكيد هذا المعنى تعالوا معي إلى ما يقوله لرسوله أمام المعاندين المطالبين بالآيات والمعجزات. يقول: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) [الأنعام:7]. فالآية هنا ناظرة إلى الرسول فإنه المقصود بالتنزيل المشار إليه ليستدل به على نبوته أمام من كذب به، فكان لا بد من استعمال كلمة (نزل) المضعفة. لكنه جاء بعدها: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) [الأنعام:8]. فالآية هنا ناظرة إليهم، إلى المكذبين المعاندين، فهم يطلبون إنزال ملك إلى الرسول ليكون معه نذيرا لهم ليصدقوه تماما كما قالوا في سورة الفرقان: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) [الفرقان:7]. فهم المقصودون بالإنزال هنا لا الرسول بخصوصه، ثم لنقرأ آية أخرى:
(وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) [الفرقان:21]، فهم المقصودون هنا بالإنزال ولهذا أردفوا إنزال الملائكة برؤيتهم لربهم، ولأنهم هم المستهدفون بالطلب للإنزال؛ فإن الله يقول عنهم: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) [الفرقان:21]. ثم قال: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) [الفرقان:22]. فهم هم المستهدفون للإنزال العام وليس الرسول هو المستهدف بما طلبوه من الإنزال، ولهذا استحقوا هذا التهديد وهذا الخطاب الشديد، لكن حين يكون المستهدف هو الرسول؛ فإن الخطاب يتوجه إلى الرسول عقب الطلب.
وتستعمل كلمة (نزل) في هذا المقام وهو الاستعمال الأنسب، (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا(32)ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا(33))[الفرقان:32-33]. ألم يوجه الخطاب مباشرة إلى الرسول وأهمل المكذبين في الخطاب؟. وفي سورة النمل: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون(101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين(102))[النحل:101-102].فالخطاب هنا مباشرة يتوجه إلى الرسول، المستهدف من التنزيل والمستهدف من التكذيب، ولهذا استعملت كلمة (نزل). وهكذا فإن التأمل إلى جهة الخطاب وإلى المستهدف من السياق يرفع الإشكال في استعمال الكلمتين ويكشف اللبس الذي أورده التساؤل المفترض، ممن قد يعترض.
والآن وقد أخذنا حظنا من معنى كلمة (نزل) بالتضعيف، فإني سأورد في الصفحات التالية بعون الله بعض المواضع التي وردت فيها كلمة (أنزل) بلا تضعيف. إن الملاحظ أن كلمة (أنزل) استعملت كثيرا في سياق الحديث عن إنزال المطر أو بالأصح إنزال الماء من السماء، وهو تأكيد لمعنى الكلمة؛ إذ لا يمكن أن يكون إنزال الماء من السماء إلا بشكل عام، ولا يخص فردا أو فئة خاصة بل لمن يشاءه الله من عباده بشكل عام. ولهذا فالله حين يخاطب الناس أجمعين بهذه النعمة فإنه يقول: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون(21)الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون(22)) [البقرة: 21-22]. وفي سورة الحجر التي وردت فيها (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9]. وقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. جاءت بعدها قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) [الحجر:22]. إن حزائن كل شيء عنده، وإن التنزيل بقدر معلوم هو الذي يتولاه حين تحدث عن هذا وبهذا الأسلوب؛ فإنه استعمل كلمة (نزل) فقال: (وما ننزله) فهو تنزيل خاص وباهتمام خاص. لكنه حين تحدث عن الماء بعد ذلك قال: (فأنزلنا من السماء) فهو إنزال لكل الناس وهو شيء معتاد وسنة معهودة فلا تحتاج إلى الخصوصية والاهتمام. وبالمناسبة فلقد وردت كلمة (فأسقيناكموه) وقد يسأل سائل: ما المناسبة؟ والجواب هو: تأملوا لماذا لم يقل: "فسقيناكموه" بدون الهمزة؟! وما الفرق بين "أسقيناكم" و"سقيناكم" بالهمزة وبدون همزة؟!
الفرق مثل الصبح واضح، فكلمة "أسقى" تعني إنزال الماء أو إطلاق الماء للناس سواء شربوا أو لم يشربوا، فهو مبذول لهم في كل حين، تقول: "أسقيت فلانا النهر أو الغدير" أي: مكنته منه سواء شرب أو لم يشرب، المهم أنك مكنته من الماء وأطلقته له وهو حر، والخيار أمامه؛ أما حين تقول: "سقيتك الماء" فإن المراد أنك سقيته بيدك وجعلته يشرب، فليس مجرد إطلاق أو تمكين بل تقريب وتحقيق، فالمسقي قد شرب من يدك أو من كأسك بصور ة مباشرة، فأنت قد قربت إليه الماء باهتمام ومبادرة وهو استجاب وأقبل على الشرب برغبة ظاهرة. فالفرق بين "أسقى" و"سقى" واضح بلا خفاء. ولهذا يقول الله عن الأبرار وهم في نعيم الجنة: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) [الإنسان:21]. ويقول إبراهيم عن ربه: (والذي هو يطعمني ويسقين) [الشعراء:79]. إن "يسقيني" بفتح الياء يعني أنه من "سقى" لا من "أسقى". تقول: سقى، يسقي. وأسقى يسقى، وعليه فإن "أسقى" معناها مثل أنزل في الدلالة على العموم بل عدم الاختصاص فيها مفهوم. ولهذا يقول الله في سورة الفرقان: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا(48)لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) [الفرقان:48-49]. فلقد تضمنت الآيتان كلمة "أنزل" الدالة على العموم و"أسقى" الدالة على العموم، ولقد عللت كلمة "أنزل" بأنها لإحياء البلدة الميتة ولإسقاء أنعام وأناس كثيرة فكلا الكلمتين في الآية "أنزل وأسقى" تدعم الأخرى وتؤكد معناها. فالإنزال عام لأنه لإسقاء الناس والأنعام وهكذا هو الحديث عن الماء، غالبا ما تستعمل له كلمة أنزل ولست بحاجة لإيراد المزيد من الآيات.
غير أني أنبه إلى أن قولي "غالبا" يشير إلى أنه قد ترد كلمة نزل بالتضعيف في حالة الحديث عن الماء ولكن بسبب خاص في السياق ولمعنى يوحي به السياق، ولنتأمل مثلا قوله تعالى في سورة الزخرف: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون ) [الزخرف: 11]. فالذي أوجب ورود كلمة "نزل" بالتضعيف هو إما السياق خطاب خاص في موضوع هام هو إقناع الناس بأن الله هو ربهم القريب منهم الملابس لما أنعم به عليهم بل هو معهم في كل ما يهمهم فالآيات تبدأ هكذا: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم(9)الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون(10)) [سورة الزخرف]. ثم قوله: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا) [الزخرف: 11]. فالخطاب مباشر للناس وتدليل على شيء يجهله الناس وهو أن الله هدى الناس، ثم للتدليل على شيء آخر هام متعلق بالأول وهو قوله في ختام الآية : (كذلك تخرجون(11)). فكما ينشر الله بالماء بلدة ميتة التراب، كذلك سينشر الناس ويخرجهم يوم القيامة للحساب. فالموضوع خطاب هام وتدليل وبرهان فلا بد من استعمال (نزل) الدال على القرب والاهتمام ثم العلم بحال الخلق وحاجاتهم وإتيانهم بما يحتاجون وتصلح به حياتهم.
وهكذا يجب أن نفهم سياق المواضيع التي ترد فيها الكلمتان لنعرف سر إيراد هذه هنا وتلك هناك وسر اختيار أحدهما في هذا السياق وتركها في سواه، إن لذلك أسبابا وأسرارا لا يدركها إلا من عرف أسرار اللغة وغاص في بحورها ليصيد جواهرها وليعرف غثها من سمينها وإذا كان ذلك هو المطلوب في كل من يتعامل مع اللغة العربية فهو واجب محبوب لمن يتعامل مع القرآن وآياته البينة، فلنكن على استعداد لهذا المقام الرفيع الأسنى والله معنا يسمع ويرى ويزيد المهتدي هدى بل هو الله المعين المنزل القرآن المبين هدى ورحمة وبشرى للمسلمين فالحمد لله رب العالمين في كل حال وحين وسلام على المرسلين أجمعين وعلى محمد خاتم النبيين.. آمين.
إضافة لطيفة:
وإذا كان القلم قد جرى بما تيسر حول (نزل وأنزل) فإن له بناء حول نبأ وأنبأ؛ فإن لكل منهما معنى متقارب مع نزل وأنزل؛ فإن نباء بالتضعيف تعني أن النبأ نقل إلى الآخر بعناية واهتمام واختص به المنبأ دون سواه فهو المستهدف من الكلام بينما كلمة أنباء بالهمزة والتخفيف تعني أن النبأ أطلق بشكل عام وألقي وسط الناس بشكل عشوائي دون تخصيص أحد منهم وهذا الفرق بين الكلمتين يظهر بوضوح في سورة التحريم. ففي الحوار بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أزواجه وردت الكلمتان (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به) لاحظوا، لقد استعمل كلمة "نبأت" فهي هنا قد نبأت به بعض الزوجات بصورة خاصة وحدثت به باهتمام ولهذا استعمل كلمة "نبأت" بالتضعيف ولنستمر في قراءة الآية: (فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به). نعم لقد نبأ النبي زوجته بما عملت وبما أظهره الله نبأها باهتمام وبصفة خاصة وبصورة مخصوصة، فماذا حدث وماذا كان ردها؟. لنقرأ: (قالت من أنبأك هذا).لقد استعملت كلمة "أنبأ" لأن السؤال منها يدل على أنها ظنت أن النبي تلقى الخبر وأنبأ به بشكل عابر وعبر تداول الألسنة فكان المناسب أن تقول (من أنبأك هذا) لكن الرسول يرد على السؤال الموهم بأن الثناء جاءه بشكل عابر يرد بما يدل على أن النبأ جاءه بصورة خاصة ومن مصدر خاص فلنقرأ كيف رد: (قال نبأني العليم الخبير) [التحريم:3].
لقد استعمل كلمة "نبأ" المضعفة الدالة على أن النبأ جاءه من مصدر خاص وبشكل خاص، وكيف لا وهو قد جاءه من العليم الخبير، فإن المصدر يدل على أن النبأ غير عابر على أفواه الناس، ولكنه من العليم بأسرار الناس الخبير بما في النفوس من الوسواس. وعلى هذا الأساس فإن "نبأ" المضعفة ترد كثيرا في القرآن؛ لأن النبأ لا يكون إلا من نبي صادق إلى عباد الله الصادقين، فهذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمره الله بقوله: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم(49)وأن عذابي هو العذاب الأليم(50)ونبئهم عن ضيف إبراهيم(51)) [سورة الحجر].
وهذا يوسف عليه السلام يخاطب صاحبي السجن: (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي) [يوسف:37]. وهناك عيسى بن مريم عليه السلام يخاطب بني إسرائيل: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) [آل عمران:49]. وهكذا يكون التشابه بين "أنزل ونزل" و"أنبأ ونبأ" فالمضعفة منهما تعني الاهتمام في الإيصال والاختصاص والتخصيص فيما ينقل ويقال والمهمزة في الكلمتين تعني الإطلاق بشكل يشمل أكثر من واحد ولا يخص واحدا أو بالأصح يعني العموم في الإنزال والإنباء بدون تخصيص ولا انتقاء، ولا اهتمام ولا احتفاء.
عود على بدء:
وبعد فإن الموضوع يبدو محسوما بلا مراء على أن للقلم بعد هذا البيان بناء خاصا حول معنى كلمة "أنزل" مع كلمة "نزل" من حيث الموضع الأصلي لهما أي من حيث ما يدلان عليه في أصل وضع اللغة وفي مبتدأ مفهوم الكلمة. لا شك أن المتبادر إلى الذهن أن كلمة أنزل ونزل تعني أن شيئا ما قد أتى إلى الناس من أعلى إلى أسفل أو قد تناوله المتناول من مصدر عال وهو في مكان أسفل من المناول. ولهذا فإن القرآن أنزل من الله إلى الرسول والمطر ينزل من السماء إلى الأرض فالكلمة تعني انتقال الشيء من حال الارتفاع إلى الهبوط أو من صدر عال إلى مهبط سافل.
هذا هو المتبادر من الاستعمال، نعم لقد استعملت لهذا المعنى تعظيما لله المعطي وتهوينا للعبد المعطى وتجليلا لله المتفضل وتقليلا للعبد المستقبل، فالله يليق به العلو والتعظيم، والجلال والتفخيم، فهو العلي العظيم، وهو الرفيع الدرجات، وهو الوهاب ذو المعارج والهبات، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، ولهذا يحق له أن يستعمل فيما يعطيه ويظهره كلمة "أنزل ونزل" معا.ولكن: هل الله حقا في مكان محسوس الارتفاع وفي مقام ملموس العلو. كلا: إن علوه وارتفاعه معنوي، فهو قريب من كل شيء وهو معنى أينما كنا وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].
وإذن فإن كلمة "أنزل" لا تعني في حقه تعالى أن ما يأتي منه ينزل من أعلا إلى أدنى أو من عال إلى سافل، كلا ولكنه يأتي بشكل أسهل وأجمل. وعليه: فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأبان؛ لأن الله عنده خزائن الأشياء والأكوان وهو يوجدها بكلمة كن فكان، وليس معنى الخزائن أن عنده مخازن مكدسة وخزائن، فهو يكون الأشياء ثم يظهرها من العدم إلى العيان. ولا يصرفها من مخازن مكدسة بالأجسام كما يفعل الإنسان، وليس لديه أمر صرف ولا خزان للمخزون بل يقول للشيء كن فيكون. وعليه فإن الله حين يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. فإنما يعني أنه الخبير بالمكونات والأكوان وفي علمه كل أسرار الخلق والإتقان، وكل خفايا الإيجاد والإحسان. فإذا أراد للشيء الوجود والتكوين قال له كن فيكون، فإذا هو ظاهر بين أيدي الناس به ينعمون وهو أخبر بما يريدون وبمقدار ما يحتاجون، وهذا هو معنى قوله: (وما ننزله إلا بقدر معلوم). أي نظهره ونبرزه للوجود بقدر ما يحتاجه الخلق وبما يفيد ولا ينقص ولا يزيد، وكيف لا وهو الخبير بما يخفى وأقرب إلينا من حبل الوريد. وهكذا فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأخرج وأوجد وقدر. وعلى هذا المعنى قال الله في سورة هود: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) [هود: 12]. فإن قوله: (أنزل عليه كنز) يعني أظهر عليه أو أخرج له بدليل أن بعدها (أو جاء معه ملك) فلقد استعمل كلمة جاء مع الملك مع أن الملك في مفهومنا يتنزل من أعلى إلى أسفل لكن الواقع أنه يجيء من حيث لا ندري وهذا هو التعبير اللائق بالله العظيم.
فليس له عرش محسوس وكرسي ولكنه قريب من كل شيء. ثم إن كلمة "أنزل" قد جاءت في مقام تدل على أصلها وفي سياق يؤكد معناها الأصلي ذلك هو قوله في سورة الأنعام: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). إن قول هذا الظالم المفتري (سأنزل مثل ما أنزل الله) وهو عربي اللسان يعني ما يقول ويعرف معنى الكلام. إن قوله هكذا لا يعني أنه يزعم ويدعي أنه سينزل كلاما من السماء ولكن يعني أنه سيقول ويظهر لنا كلاما من فمه ولسانه الماثل أمامنا على الأرض فلماذا استعمل كلمة (سأنزل) ثم (مثلما أنزل الله). إن هذا يعني أن "أنزل" تعني أظهر وأخرج وهو المعنى الأصح وعليه جاءت الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة متعلقة بأشياء أرضية محسوسة كقوله تعالى: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا).فإن الإنزال هنا يعني الإظهار والإخراج في الأرض بلا شك، وكيف لا ولله ملك السماوات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر مخاطبا بني آدم: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) [الزمر:6].
هل الأنعام أنزلت؟ وكيف أن المراد أظهرت وأخرجت بكلمة كن التي يتكون بها كل شيء فالله له الملك لا إله إلا هو الحي القيوم وبيده ملكوت كل شيء وسر كل شيء ولا يعجزه شيء؟ وبهذا العلم والقدرة والحكمة والخبرة قال في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [الحديد:25]. فهل الحديد كما يقول بعض السطحيين جاءنا منزل من أعلى إلى الأرض أو من نجم يتوفر فيه الحديد أكثر من الأرض كما يقول بعض السطحيين؟ كلا، بل إن الحديد أظهر للناس في الأرض وبقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون ومن خزائنه التي هي العلم والقدرة وسرعة الحساب في التكوين فبعلمه وقدرته أظهر الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليبتلي الناس كيف يستخدمون هذه البأس هل للحق أم للباطل. هل لله أم للطاغوت، ولكنه مع ذلك (قوي عزيز) فهو لا يعجزه شيء وهو الغني عن كل شيء وهو الغالب على أمره وكل شيء إليه فقير وبه مقهور.
وعلى هذا المعنى يحمل إنزال القرآن وبه يحمل تساؤل المفسرين عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). كيف قال أنزلناه في ليلة القدر مع أنه أنزل على فترة ربع قرن؟ ثم حاولوا حل الإشكال، والإجابة على السؤال، بأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في ليلة القدر ثم استمر جبريل يتنزل به على الرسول بحسب ما استجد من أحداث وأمر، وهذا كلام لا يصح في حق الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولا يليق بمن يعلم ما نسر وما نعلن، بل القرآن كان يتنزل بعلمه في كل حال وزمن، عاشه الرسول المؤتمن. وإذن فالمراد بكلمة "أنزلناه" أظهرناه في ليلة القدر وهكذا تحمل الآية التي تقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]. فإنها تعني أن شهر رمضان كان موعدا لإظهار القرآن فشهر رمضان أظهر فيه القرآن وقد كان ذلك في ليلة منه هي ليلة القدر وهكذا يتضح الأمر. ولتأكيد أن المراد بالإنزال الإظهار نجد الله يقول عن الرسول: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف:157]. فهل محمد الرسول أنزل حتى يكون النور منزلا معه؟ الحقيقة أنه أظهر وأخرج للناس وأمته والمتبعون له هم خير أمة أخرجت للناس ودين الحق هو الذي أظهره الله. ولهذا يقول الله في سورة الطلاق: (فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا(10) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات..) [الطلاق: 10-11]. فالذكر هو القرآن وها هو قد أبدل منه الرسول فكلاهما منزلان فكيف يكون الرسول منزلا وهو معنا في الأرض؟!إن المراد ظهوره وقيامه بالإنذار، وهكذا فإن النور قد ظهر معه، ولهذا فهو يتلو آيات الله مبينات. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) [الطلاق: 11]. ولتأكيد ما أقول تعالوا نقرأ آخر سورة الطلاق، وكيف يصف الله نفسه بأنه العليم الخلاق: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [الطلاق:12]. أسمعتم؟! أفهمتم؟! فهو الخلاق العليم وكل شيء في السماوات والأرض يسير بأمره وسائر على هداه المستقيم وكيف لا فهو القدير على كل شيء ، المحيط بكل شيء وهو العلي العظيم. وبهذا فإن كل ما يتنزل إنما هو إظهار للموجود، من الغيب إلى المشهود، فالله ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون(82)فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون(83)) [سورة يس].
انتهى بعون الله،،،نزل وأنزل ¶ لعل هذا الموضوع في نظر البعض غير مهم ولا يحتاج لاهتمام، لكنه موضوع هام يحتاج إلى التأمل بإمعان؛ لأنه متعلق بآيات القرآن؛ ذلك أن الكلمتين وردتا في القرآن متكررة وفي آيات تتحدث عن مصدره، وعن مصدقه ومنكره. وإذن فلا بد من تأمل معناهما بإمعان، لنصل إلى الفهم الذي يليق باليقين في الإيمان. ¶ لقد دفعني إلى البحث والتفكير في معنى الكلمتين ودلالتها ما لحظته في كتب اللغة والتفسير من اضطراب في معناهما وهو اضطراب مثير لا يليق ببلاغة القرآن، ولا يصح أن يترك بلا بيان؛ وكيف لا وهو منزل من الرحمن؛ ولهذا فقد طفقت أتابع الكلمتين في الآيات، وأتأمل في سياقها بحثا عن الدلالات؛ حتى وصلت إلى الفهم الشافي، والتفسير الوافي، بعون الله الكافي ، ولقد كان مفتاح الباب إلى تتبع المعنى والتنقيب الدائب ما قاله العلامة الرضي في شرح شافية ابن الحاجب، حول الأفعال المضعفة. فلقد أشار إلى أن تضعيف كلمة أنزل بأن يقال [نزل] لا يدل على التكرير، كما زعم رجال التفسير؛ بل لها معنى آخر يلوح لمن له قلب مستنير. ودلل على قوله بآية كريمة، تدعم ما يذهب إليه من نظرة سليمة، وتدحض النظرات السقيمة؛ تلك هي قوله تعالى في سورة الشعراء: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) [الشعراء:4].فإن ورود كلمة (ننزل) المضعفة في هذا السياق لا تدل على التكرار؛ لأن الآية تنزل دفعة واحدة بلا تكرار ولا تتابع، هذا أولا - وهو قول صحيح ودليل واضح على ما ذهب إليه- ثم ما ورد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) [الفرقان:32]. فلقد وردت كلمة (نزل) مضعفة مع أنهم طلبوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، وهذا يعني أن الكلمة لا تعني التكرير والتتابع. ¶ إذن فإن كلام الرضي قد أثار السؤال عن المعنى الجديد، ولكنه لم يوضح المعنى المراد بل ترك الباب مفتوحا لمن أراد البحث عن المعنى بالتحديد. وهذا هو الذي أثار عندي التساؤل حول المعنى المراد، ودفعني إلى البحث والتأمل في الآيات باطراد. وعليه: فقد أضربت صفحا عن مراجعة أقوال المفسرين، فإنهم لم يأتوا بالقول المبين، واتجهت إلى الآيات موقنا بأن فيها النبأ اليقين. فالقرآن يبين بعضه بعضا، ومن تدبر وصل إلى ما به الله يرضى، وبعد أيام وأيام وتأمل وإمعان، ومقارنة بين مواضع ورود الكلمتين في القرآن، تبين لي بسهولة ويسر أن المعنى واضح وليس فيه لبس ولا في فهمه عسر. وإليكم النتائج التي وصلت إليها، والدلالات التي اطمأنت نفسي إليها، وها أنذا أضع أمامكم المعاني التي تدل كلمتا "نزل وأنزل" عليها؛ مؤيدة ببعض الآيات التي يدل سياقها على معانيها. ¶ لقد تأكد لي بما لا يدع مجالا للشك، أن كلمة (نزل) بالتضعيف تأتي في السياق الذي يدل على تنزيل خاص لفرد خاص أو مجموعة خاصة وبصفة خاصة بينما كلمة (أنزل) بالهمزة والتخفيف تأتي في السياق الذي يعني إنزالا عاما لا يخص فردا معينا ولا جماعة مخصصة ولا حالة خاصة ولكن للناس عامة وللأمم عامة ولحالات عامة بدون تخصيص ولا تحديد. ثم إن كلمة (نزل) تعني إلى جانب ما تعنيه من الخصوصية الاهتمام الخاص بالمنزل إليه والعناية الخاصة بالمنزل عليه؛ بينما لا تفيد كلمة (أنزل) الإشارة إلى هذا الاهتمام بل تأتي في سياق الإلقاء للخاص والعام. وهكذا يكون الفهم لمعنى الكلمتين في سياق الآيات. ¶ لنقرأ قوله تعالى، حاكيا تعنت الكفار وطلبهم المعجزات من الرسول في سورة الإسراء فلقد أورد عددا من المطالب حتى وصل إلى قوله: (أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا)[الإسراء: 93]. تأملوا قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى (تنزل) علينا كتابا نقرؤه). إن كلمة (تنزل) جاءت لتدل على أن المراد "التنزيل الخاص" الذي يصل إليهم بعناية واهتمام، ويخصهم بالخطاب والكلام. ثم إن مثل هذا الطلب المتعسف، ورد في سورة الزخرف: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) [الزخرف: 31]. فإن كلمة (نزل) وردت لتدل على أن المراد تنزيل خاص إلى شخص مخصوص وبعناية واهتمام يليق بالرجل العظيم، ويتناسب مع مقامه المزعوم. ولتأكيد هذه الخصوصية وردت الكلمة في سورة الإسراء: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)[الإسراء: 106]. فلقد تنزل القرآن على رسول الله محمد تنزيلا خاصا ليقرأه على مكث على الناس وليبلغه إلى الناس بشكل واضح مبين. ولنعرف أن هذا المعنى هو المراد، فإن الآية التي سبقت هذه تستعمل كلمة أنزل لتدل على أنه إنزال عام: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) فهو بالحق متلبس، وهو له ملابس في حالة الإنزال وفي حالة النزول؛ ليكون للعالمين الدليل على أن الله هو الهادي إلى سواء السبيل، وأنه الهادي إلى الحق لا سواه؛ ولهذا فإنه وحده المتفرد بالحكمة والإرسال، والوحي والإنزال؛ ولكنه يختار من الملائكة والناس ما يختار من الرسل وهو السميع البصير.(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور) [الحج: 76]. ¶ وعليه: فإنه يعتني باختيار رسله من الملائكة ومن الناس فإذا تحدث عن إنزال الملائكة استعمل كلمة (نزل) المضعفة التي تدل على العناية والاهتمام الخاص؛ (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون(1) (ينزل) الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) [النمل: 1-2]. لاحظوا كلمة (ينزل الملائكة) فإنها مضعفة. وكذلك قال في سورة الإسراء: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) [الإسراء: 95]. وحين يتحدث الملائكة عن أنفسهم يستعملون نفس الكلمة: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) [مريم: 64]. وحين يتحدث الله عن القيامة يقول: (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) [الفرقان:25]. وقوله عن ليلة القدر: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4)سلام هي حتى مطلع الفجر(5)) [القدر: 4-5]. وحين يريد الله أن يؤكد أن القرآن منزل من عنده بلا ريب فإن كلمة (نزل) ومشتقاتها ترد متوالية، سواء في الحديث عن الملائكة أو عن القرآن كما ورد في سورة الحجر، فالله يحكي قول المكذبين فيقول: (وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) [الحجر:6]. فهم ينادون النبي بما يدعيه ويستعملون الكلمة التي تدل على الاختصاص (نزل) كما يدعيه بأنه منزل عليه، وهم بهذا يسخرون أو يطمعون أن يكون التنزيل لهم معه؛ ولهذا فهم يطلبون دليلا على ما ادعاه وهو قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) [الحجر:7]. لكن الله يجيب بلهجة التهديد، والتلويح بالوعيد، ويستعمل كلمة (ننزل): (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) [الحجر:8]. ثم يؤكد أن القرآن منزل من عنده بعناية واهتمام ويستعمل كلمة (نزل): (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9]. ¶ ومثل هذا جاء في سورة الإنسان: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا(23)فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا(24)) [الإنسان:23-24]. أما حينما يتحدث عن الكتاب ويصفه بصفات خاصة فإن استعمال كلمة (نزل) المضعفة هي المناسبة بلا إشكال : (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) [الزمر:23]. ¶ وهكذا تأتي كلمة (نزل) المضعفة في سياق التأكيد على التنزيل الخاص الذي يهم الناس، فالله يقول: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير) [الحج: 71]. ومثل هذا قال هود لقومه: (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين) [الأعراف:71]. ¶ لعلي بهذا قد أثبت ما أريد أن أوضحه لكم، ولست بحاجة إلى المزيد من الآيات لأترك لكم فرصة التأمل في ما تركته من الآيات ولتصلوا إلى الحقيقة بأنفسكم؛ لكني لن أترك الحقيقة حتى أدعمها بقضية تؤكدها بوضوح، وتدعمها بالخبر الصحيح. استمعوا إلى الحواريين وهم يطلبون المائدة من المسيح: (إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [المائدة: 112]. إنهم يطلبون مائدة تتنزل بشكل خاص وبعناية خاصة وإلى فئة خاصة- هم هؤلاء المجموعة من الحواريين- منفردين لا يشاركهم غيرهم؛ ولهذا فإنهم يدعمون هذا الطلب بما يوضحه: (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) [المائدة: 113]. وهنا يجد عيسى نفسه محتاجا لما طلبوا فيتوجه إلى ربه سائلا طالبا، ولكن بطريقة مختلفة عن طلبهم: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) [المائدة:114]. لقد استعمل كلمة أنزل بدون تضعيف. لماذا؟. لأنه لا يطلبها للحواريين وحدهم، ولا لمن يعاصره منهم ولكن له ولهم ولمن يلحقهم من المؤمنين أي لأولهم وآخرهم؛ ولهذا وصفها بأن تكون لهم عيدا، أي تعود في كل عام وتنزل على من اتبعه من المؤمنين بشكل عام، وفي وقت محدد من الأعوام؛ لتكون آية من الله ورزقا من خير الرازقين. لقد قدم الطلب بأسلوب مؤدب، وجعل القضية آية من الله لمن آمن بالله وأحب، وعمم الخير لكل المؤمنين به في كل الحقب. وهنا يستجيب الله للطلب؛ ولكنه يتوعد من كفر وكذب؛ بأنه بعذاب خاص سيعذب. (قال الله إني منزلها عليكم). لقد استعمل كلمة (نزل) ليدل على أنه منزلها بعناية واهتمام، وبالصفة التي أرادها المسيح في كل عام. ولكن الله يتوعدهم بقوله: (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) [المائدة: 115]. وعلى هذا فإن المائدة لم تنزل، بل لم تنزل؛ لأن شرط المسيح عليه السلام الذي جعلها عيدا، وتهديد الله لهم والوعيد هو الذي ألغى طلب الحواريين وجنبهم عذابا لا يعذبه أحد من العالمين، فسبحان الله القوي المتين، والحمد لله خير الرازقين. ¶ وبعد فلعل القضية قد تكون اتضحت لكم وأصبح الإنزال غير التنزيل، وفهمنا أن كلمة (أنزل) لا تدل على المرة بل على الكثرة بشكل عام، وأن كلمة (نزل) لا تدل على التكرار بل على الخصوصية والاهتمام. لكن قد يسأل سائل عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر:1]. وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) [الدخان:3]. وقوله: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1)قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا(3)وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4)) [الكهف: 1-4]. لقد أخبر أنه أنزله على عبده ولكنه استعمل كلمة (أنزل)، وهذا ينقض ما قلت، ولكني أقول أن في الآيات إشارة إلى أن الكتاب أنزل للناس كلهم بلا تحديد إلى الجهة المستهدفة من الإنزال؛ لكنه في سورة الفرقان يقول: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)[الفرقان:1]. فيستعمل كلمة نزل لأنه ينظر إلى الشخص المنزل عليه الفرقان وهو الرسول خاصة ثم للعالمين من بعده؛ ولهذا قال: (ليكون للعالمين نذيرا) فالتنزيل على واحد مخصوص لينقله إلى العالمين وينذر به من يعون. ¶ وعليه: فإن المعنى في الآيات الواردة لا يتناقض؛ لأن الكلمة تستعمل بالنظر إلى الجهة المستهدفة من الإنزال أو التنزيل؛ فإن كانت الآيات ناظرة إلى فرد مخصوص أو حالة مخصوصة؛ استعمل كلمة نزل، وإن كانت ناظرة إلى جماعات مستهدفة وحالات عامة؛ استعملت كلمة أنزل، وهذا يلحظه من يتدبر الآيات ويتأمل. ولتأكيد هذا المعنى تعالوا معي إلى ما يقوله لرسوله أمام المعاندين المطالبين بالآيات والمعجزات. يقول: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) [الأنعام:7]. فالآية هنا ناظرة إلى الرسول فإنه المقصود بالتنزيل المشار إليه ليستدل به على نبوته أمام من كذب به، فكان لا بد من استعمال كلمة (نزل) المضعفة. لكنه جاء بعدها: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) [الأنعام:8]. فالآية هنا ناظرة إليهم، إلى المكذبين المعاندين، فهم يطلبون إنزال ملك إلى الرسول ليكون معه نذيرا لهم ليصدقوه تماما كما قالوا في سورة الفرقان: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) [الفرقان:7]. فهم المقصودون بالإنزال هنا لا الرسول بخصوصه، ثم لنقرأ آية أخرى: ¶ (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) [الفرقان:21]، فهم المقصودون هنا بالإنزال ولهذا أردفوا إنزال الملائكة برؤيتهم لربهم، ولأنهم هم المستهدفون بالطلب للإنزال؛ فإن الله يقول عنهم: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) [الفرقان:21]. ثم قال: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) [الفرقان:22]. فهم هم المستهدفون للإنزال العام وليس الرسول هو المستهدف بما طلبوه من الإنزال، ولهذا استحقوا هذا التهديد وهذا الخطاب الشديد، لكن حين يكون المستهدف هو الرسول؛ فإن الخطاب يتوجه إلى الرسول عقب الطلب. ¶ وتستعمل كلمة (نزل) في هذا المقام وهو الاستعمال الأنسب، (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا(32)ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا(33))[الفرقان:32-33]. ألم يوجه الخطاب مباشرة إلى الرسول وأهمل المكذبين في الخطاب؟. وفي سورة النمل: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون(101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين(102))[النحل:101-102].فالخطاب هنا مباشرة يتوجه إلى الرسول، المستهدف من التنزيل والمستهدف من التكذيب، ولهذا استعملت كلمة (نزل). وهكذا فإن التأمل إلى جهة الخطاب وإلى المستهدف من السياق يرفع الإشكال في استعمال الكلمتين ويكشف اللبس الذي أورده التساؤل المفترض، ممن قد يعترض. ¶ والآن وقد أخذنا حظنا من معنى كلمة (نزل) بالتضعيف، فإني سأورد في الصفحات التالية بعون الله بعض المواضع التي وردت فيها كلمة (أنزل) بلا تضعيف. إن الملاحظ أن كلمة (أنزل) استعملت كثيرا في سياق الحديث عن إنزال المطر أو بالأصح إنزال الماء من السماء، وهو تأكيد لمعنى الكلمة؛ إذ لا يمكن أن يكون إنزال الماء من السماء إلا بشكل عام، ولا يخص فردا أو فئة خاصة بل لمن يشاءه الله من عباده بشكل عام. ولهذا فالله حين يخاطب الناس أجمعين بهذه النعمة فإنه يقول: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون(21)الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون(22)) [البقرة: 21-22]. وفي سورة الحجر التي وردت فيها (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9]. وقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. جاءت بعدها قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) [الحجر:22]. إن حزائن كل شيء عنده، وإن التنزيل بقدر معلوم هو الذي يتولاه حين تحدث عن هذا وبهذا الأسلوب؛ فإنه استعمل كلمة (نزل) فقال: (وما ننزله) فهو تنزيل خاص وباهتمام خاص. لكنه حين تحدث عن الماء بعد ذلك قال: (فأنزلنا من السماء) فهو إنزال لكل الناس وهو شيء معتاد وسنة معهودة فلا تحتاج إلى الخصوصية والاهتمام. وبالمناسبة فلقد وردت كلمة (فأسقيناكموه) وقد يسأل سائل: ما المناسبة؟ والجواب هو: تأملوا لماذا لم يقل: "فسقيناكموه" بدون الهمزة؟! وما الفرق بين "أسقيناكم" و"سقيناكم" بالهمزة وبدون همزة؟! ¶ الفرق مثل الصبح واضح، فكلمة "أسقى" تعني إنزال الماء أو إطلاق الماء للناس سواء شربوا أو لم يشربوا، فهو مبذول لهم في كل حين، تقول: "أسقيت فلانا النهر أو الغدير" أي: مكنته منه سواء شرب أو لم يشرب، المهم أنك مكنته من الماء وأطلقته له وهو حر، والخيار أمامه؛ أما حين تقول: "سقيتك الماء" فإن المراد أنك سقيته بيدك وجعلته يشرب، فليس مجرد إطلاق أو تمكين بل تقريب وتحقيق، فالمسقي قد شرب من يدك أو من كأسك بصور ة مباشرة، فأنت قد قربت إليه الماء باهتمام ومبادرة وهو استجاب وأقبل على الشرب برغبة ظاهرة. فالفرق بين "أسقى" و "سقى" واضح بلا خفاء. ولهذا يقول الله عن الأبرار وهم في نعيم الجنة: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) [الإنسان:21]. ويقول إبراهيم عن ربه: (والذي هو يطعمني ويسقين) [الشعراء:79]. إن "يسقيني" بفتح الياء يعني أنه من "سقى" لا من "أسقى". تقول: سقى، يسقي. وأسقى يسقى، وعليه فإن "أسقى" معناها مثل أنزل في الدلالة على العموم بل عدم الاختصاص فيها مفهوم. ولهذا يقول الله في سورة الفرقان: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا(48)لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) [الفرقان:48-49]. فلقد تضمنت الآيتان كلمة "أنزل" الدالة على العموم و"أسقى" الدالة على العموم، ولقد عللت كلمة "أنزل" بأنها لإحياء البلدة الميتة ولإسقاء أنعام وأناس كثيرة فكلا الكلمتين في الآية "أنزل وأسقى" تدعم الأخرى وتؤكد معناها. فالإنزال عام لأنه لإسقاء الناس والأنعام وهكذا هو الحديث عن الماء، غالبا ما تستعمل له كلمة أنزل ولست بحاجة لإيراد المزيد من الآيات. ¶ غير أني أنبه إلى أن قولي "غالبا" يشير إلى أنه قد ترد كلمة نزل بالتضعيف في حالة الحديث عن الماء ولكن بسبب خاص في السياق ولمعنى يوحي به السياق، ولنتأمل مثلا قوله تعالى في سورة الزخرف: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون) [الزخرف: 11]. فالذي أوجب ورود كلمة "نزل" بالتضعيف هو إما السياق خطاب خاص في موضوع هام هو إقناع الناس بأن الله هو ربهم القريب منهم الملابس لما أنعم به عليهم بل هو معهم في كل ما يهمهم فالآيات تبدأ هكذا: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم(9)الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون(10)) [سورة الزخرف]. ثم قوله: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا) [الزخرف: 11]. فالخطاب مباشر للناس وتدليل على شيء يجهله الناس وهو أن الله هدى الناس، ثم للتدليل على شيء آخر هام متعلق بالأول وهو قوله في ختام الآية : (كذلك تخرجون(11)). فكما ينشر الله بالماء بلدة ميتة التراب، كذلك سينشر الناس ويخرجهم يوم القيامة للحساب. فالموضوع خطاب هام وتدليل وبرهان فلا بد من استعمال (نزل) الدال على القرب والاهتمام ثم العلم بحال الخلق وحاجاتهم وإتيانهم بما يحتاجون وتصلح به حياتهم. ¶ وهكذا يجب أن نفهم سياق المواضيع التي ترد فيها الكلمتان لنعرف سر إيراد هذه هنا وتلك هناك وسر اختيار أحدهما في هذا السياق وتركها في سواه، إن لذلك أسبابا وأسرارا لا يدركها إلا من عرف أسرار اللغة وغاص في بحورها ليصيد جواهرها وليعرف غثها من سمينها وإذا كان ذلك هو المطلوب في كل من يتعامل مع اللغة العربية فهو واجب محبوب لمن يتعامل مع القرآن وآياته البينة، فلنكن على استعداد لهذا المقام الرفيع الأسنى والله معنا يسمع ويرى ويزيد المهتدي هدى بل هو الله المعين المنزل القرآن المبين هدى ورحمة وبشرى للمسلمين فالحمد لله رب العالمين في كل حال وحين وسلام على المرسلين أجمعين وعلى محمد خاتم النبيين.. آمين. ¶ إضافة لطيفة: ¶ وإذا كان القلم قد جرى بما تيسر حول (نزل وأنزل) فإن له بناء حول نبأ وأنبأ؛ فإن لكل منهما معنى متقارب مع نزل وأنزل؛ فإن نباء بالتضعيف تعني أن النبأ نقل إلى الآخر بعناية واهتمام واختص به المنبأ دون سواه فهو المستهدف من الكلام بينما كلمة أنباء بالهمزة والتخفيف تعني أن النبأ أطلق بشكل عام وألقي وسط الناس بشكل عشوائي دون تخصيص أحد منهم وهذا الفرق بين الكلمتين يظهر بوضوح في سورة التحريم. ففي الحوار بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أزواجه وردت الكلمتان (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به) لاحظوا، لقد استعمل كلمة "نبأت" فهي هنا قد نبأت به بعض الزوجات بصورة خاصة وحدثت به باهتمام ولهذا استعمل كلمة "نبأت" بالتضعيف ولنستمر في قراءة الآية: (فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به). نعم لقد نبأ النبي زوجته بما عملت وبما أظهره الله نبأها باهتمام وبصفة خاصة وبصورة مخصوصة، فماذا حدث وماذا كان ردها؟. لنقرأ: (قالت من أنبأك هذا).لقد استعملت كلمة "أنبأ" لأن السؤال منها يدل على أنها ظنت أن النبي تلقى الخبر وأنبأ به بشكل عابر وعبر تداول الألسنة فكان المناسب أن تقول (من أنبأك هذا) لكن الرسول يرد على السؤال الموهم بأن الثناء جاءه بشكل عابر يرد بما يدل على أن النبأ جاءه بصورة خاصة ومن مصدر خاص فلنقرأ كيف رد: (قال نبأني العليم الخبير) [التحريم:3]. ¶ لقد استعمل كلمة "نبأ" المضعفة الدالة على أن النبأ جاءه من مصدر خاص وبشكل خاص، وكيف لا وهو قد جاءه من العليم الخبير، فإن المصدر يدل على أن النبأ غير عابر على أفواه الناس، ولكنه من العليم بأسرار الناس الخبير بما في النفوس من الوسواس. وعلى هذا الأساس فإن "نبأ" المضعفة ترد كثيرا في القرآن؛ لأن النبأ لا يكون إلا من نبي صادق إلى عباد الله الصادقين، فهذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمره الله بقوله: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم(49)وأن عذابي هو العذاب الأليم(50)ونبئهم عن ضيف إبراهيم(51)) [سورة الحجر]. ¶ وهذا يوسف عليه السلام يخاطب صاحبي السجن: (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي) [يوسف:37]. وهناك عيسى بن مريم عليه السلام يخاطب بني إسرائيل: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) [آل عمران:49]. وهكذا يكون التشابه بين "أنزل ونزل" و "أنبأ ونبأ" فالمضعفة منهما تعني الاهتمام في الإيصال والاختصاص والتخصيص فيما ينقل ويقال والمهمزة في الكلمتين تعني الإطلاق بشكل يشمل أكثر من واحد ولا يخص واحدا أو بالأصح يعني العموم في الإنزال والإنباء بدون تخصيص ولا انتقاء، ولا اهتمام ولا احتفاء. ¶ عود على بدء: ¶ وبعد فإن الموضوع يبدو محسوما بلا مراء على أن للقلم بعد هذا البيان بناء خاصا حول معنى كلمة "أنزل" مع كلمة "نزل" من حيث الموضع الأصلي لهما أي من حيث ما يدلان عليه في أصل وضع اللغة وفي مبتدأ مفهوم الكلمة. لا شك أن المتبادر إلى الذهن أن كلمة أنزل ونزل تعني أن شيئا ما قد أتى إلى الناس من أعلى إلى أسفل أو قد تناوله المتناول من مصدر عال وهو في مكان أسفل من المناول. ولهذا فإن القرآن أنزل من الله إلى الرسول والمطر ينزل من السماء إلى الأرض فالكلمة تعني انتقال الشيء من حال الارتفاع إلى الهبوط أو من صدر عال إلى مهبط سافل. ¶ هذا هو المتبادر من الاستعمال، نعم لقد استعملت لهذا المعنى تعظيما لله المعطي وتهوينا للعبد المعطى وتجليلا لله المتفضل وتقليلا للعبد المستقبل، فالله يليق به العلو والتعظيم، والجلال والتفخيم، فهو العلي العظيم، وهو الرفيع الدرجات، وهو الوهاب ذو المعارج والهبات، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، ولهذا يحق له أن يستعمل فيما يعطيه ويظهره كلمة "أنزل ونزل" معا.ولكن: هل الله حقا في مكان محسوس الارتفاع وفي مقام ملموس العلو. كلا: إن علوه وارتفاعه معنوي، فهو قريب من كل شيء وهو معنى أينما كنا وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3]. ¶ وإذن فإن كلمة "أنزل" لا تعني في حقه تعالى أن ما يأتي منه ينزل من أعلا إلى أدنى أو من عال إلى سافل، كلا ولكنه يأتي بشكل أسهل وأجمل. وعليه: فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأبان؛ لأن الله عنده خزائن الأشياء والأكوان وهو يوجدها بكلمة كن فكان، وليس معنى الخزائن أن عنده مخازن مكدسة وخزائن، فهو يكون الأشياء ثم يظهرها من العدم إلى العيان. ولا يصرفها من مخازن مكدسة بالأجسام كما يفعل الإنسان، وليس لديه أمر صرف ولا خزان للمخزون بل يقول للشيء كن فيكون. وعليه فإن الله حين يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. فإنما يعني أنه الخبير بالمكونات والأكوان وفي علمه كل أسرار الخلق والإتقان، وكل خفايا الإيجاد والإحسان. فإذا أراد للشيء الوجود والتكوين قال له كن فيكون، فإذا هو ظاهر بين أيدي الناس به ينعمون وهو أخبر بما يريدون وبمقدار ما يحتاجون، وهذا هو معنى قوله: (وما ننزله إلا بقدر معلوم). أي نظهره ونبرزه للوجود بقدر ما يحتاجه الخلق وبما يفيد ولا ينقص ولا يزيد، وكيف لا وهو الخبير بما يخفى وأقرب إلينا من حبل الوريد. وهكذا فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأخرج وأوجد وقدر. وعلى هذا المعنى قال الله في سورة هود: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) [هود: 12]. فإن قوله: (أنزل عليه كنز) يعني أظهر عليه أو أخرج له بدليل أن بعدها (أو جاء معه ملك) فلقد استعمل كلمة جاء مع الملك مع أن الملك في مفهومنا يتنزل من أعلى إلى أسفل لكن الواقع أنه يجيء من حيث لا ندري وهذا هو التعبير اللائق بالله العظيم. ¶ فليس له عرش محسوس وكرسي ولكنه قريب من كل شيء. ثم إن كلمة "أنزل" قد جاءت في مقام تدل على أصلها وفي سياق يؤكد معناها الأصلي ذلك هو قوله في سورة الأنعام: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). إن قول هذا الظالم المفتري (سأنزل مثل ما أنزل الله) وهو عربي اللسان يعني ما يقول ويعرف معنى الكلام. إن قوله هكذا لا يعني أنه يزعم ويدعي أنه سينزل كلاما من السماء ولكن يعني أنه سيقول ويظهر لنا كلاما من فمه ولسانه الماثل أمامنا على الأرض فلماذا استعمل كلمة (سأنزل) ثم (مثلما أنزل الله). إن هذا يعني أن "أنزل" تعني أظهر وأخرج وهو المعنى الأصح وعليه جاءت الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة متعلقة بأشياء أرضية محسوسة كقوله تعالى: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا).فإن الإنزال هنا يعني الإظهار والإخراج في الأرض بلا شك، وكيف لا ولله ملك السماوات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر مخاطبا بني آدم: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) [الزمر:6]. ¶ هل الأنعام أنزلت؟ وكيف أن المراد أظهرت وأخرجت بكلمة كن التي يتكون بها كل شيء فالله له الملك لا إله إلا هو الحي القيوم وبيده ملكوت كل شيء وسر كل شيء ولا يعجزه شيء؟ وبهذا العلم والقدرة والحكمة والخبرة قال في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [الحديد:25]. فهل الحديد كما يقول بعض السطحيين جاءنا منزل من أعلى إلى الأرض أو من نجم يتوفر فيه الحديد أكثر من الأرض كما يقول بعض السطحيين؟ كلا، بل إن الحديد أظهر للناس في الأرض وبقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون ومن خزائنه التي هي العلم والقدرة وسرعة الحساب في التكوين فبعلمه وقدرته أظهر الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليبتلي الناس كيف يستخدمون هذه البأس هل للحق أم للباطل. هل لله أم للطاغوت، ولكنه مع ذلك (قوي عزيز) فهو لا يعجزه شيء وهو الغني عن كل شيء وهو الغالب على أمره وكل شيء إليه فقير وبه مقهور. ¶ وعلى هذا المعنى يحمل إنزال القرآن وبه يحمل تساؤل المفسرين عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). كيف قال أنزلناه في ليلة القدر مع أنه أنزل على فترة ربع قرن؟ ثم حاولوا حل الإشكال، والإجابة على السؤال، بأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في ليلة القدر ثم استمر جبريل يتنزل به على الرسول بحسب ما استجد من أحداث وأمر، وهذا كلام لا يصح في حق الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولا يليق بمن يعلم ما نسر وما نعلن، بل القرآن كان يتنزل بعلمه في كل حال وزمن، عاشه الرسول المؤتمن. وإذن فالمراد بكلمة "أنزلناه" أظهرناه في ليلة القدر وهكذا تحمل الآية التي تقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]. فإنها تعني أن شهر رمضان كان موعدا لإظهار القرآن فشهر رمضان أظهر فيه القرآن وقد كان ذلك في ليلة منه هي ليلة القدر وهكذا يتضح الأمر. ولتأكيد أن المراد بالإنزال الإظهار نجد الله يقول عن الرسول: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف:157]. فهل محمد الرسول أنزل حتى يكون النور منزلا معه؟ الحقيقة أنه أظهر وأخرج للناس وأمته والمتبعون له هم خير أمة أخرجت للناس ودين الحق هو الذي أظهره الله. ولهذا يقول الله في سورة الطلاق: (فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا(10) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات..) [الطلاق: 10-11]. فالذكر هو القرآن وها هو قد أبدل منه الرسول فكلاهما منزلان فكيف يكون الرسول منزلا وهو معنا في الأرض؟!إن المراد ظهوره وقيامه بالإنذار، وهكذا فإن النور قد ظهر معه، ولهذا فهو يتلو آيات الله مبينات. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) [الطلاق: 11]. ولتأكيد ما أقول تعالوا نقرأ آخر سورة الطلاق، وكيف يصف الله نفسه بأنه العليم الخلاق: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [الطلاق:12]. أسمعتم؟! أفهمتم؟! فهو الخلاق العليم وكل شيء في السماوات والأرض يسير بأمره وسائر على هداه المستقيم وكيف لا فهو القدير على كل شيء ، المحيط بكل شيء وهو العلي العظيم. وبهذا فإن كل ما يتنزل إنما هو إظهار للموجود، من الغيب إلى المشهود، فالله ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون(82)فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون(83)) [سورة يس]. ¶ انتهى بعون الله،،،
مفردة الرحمن
بسم الرحمن نبدأ المشوار في فهم بعض مفردات القرآن، وعلى نور الله الهادي نبدأ المشوار إلى المراد، لنبدأ باسم من أسماء الله تعالى التي حار حولها المفسرون ولم يدركوا معناها الحقيقي العظيم، فما هي هذه الكلمة يا ترى؟ إنها الرحمن !!!
هل تظنون أنها مشتقة من الرحمة؟ هذا ما توهمه المفسرون، قال الزمخشري في معناها [الرحمن: فعلان من رحم كغضبان من غضب]، ثم قال: [وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم]، ولذلك قالوا: [رحمن الدنيا والآخرة]. هذا ما قاله الزمخشري شيخ المفسرين اللغويين ومثله قال الكثير من قبله ومن بعده.
ونحن نؤيد ما استشهد به من قولهم: [رحمن الدنيا والآخرة]. لكن لا على الأساس المشتق من رحم، بل على معنى آخر هو مختلف عن ذلك كثيرا ومدلوله أهم، فهو [رحمن الدنيا والآخرة]، يعني: المدبر والمسيطر والمهيمن في الدنيا والأخرى، فهو يدبر الأمر فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ولا يعزب عنه شيء فيهما، وهو يحكم في الحشر فلا يظلم ولا ينسى ولا يخطئ في الحكم ولا يغوى وكيف لا وهو يعلم السر وأخفى. هذا ما نفهمه من قولهم: [رحمن الدنيا والآخرة].
قد تسألون، وكيف فهمت ذلك؟ ومن أين لك هذا التفسير؟ لا تعجلوا، وتعالوا معي نمعن النظر والتفكير في السؤال :
لنبدأ من آخر سورة الإسراء: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) إذن فالرحمن اسم لله وليس صفة من الصفات مثل الرحيم. والإسم يدل على عدة صفات وميزات وسمات سواء في ذلك [الله أو الرحمن]، كلاهما تندرج تحته كل أسماء الله الحسنى، إلا أن الأول يختص بصفات الألوهية والثاني بصفات الربوبية، ولهذا اجتمعا في البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم). ثم لنتأمل هذه البسملة وهي آية تكررت في القرآن مائة وأربع عشرة مرة. لنتأملها على ضوء غيرها من الآيات، فهل تجدون آية من آيات القرآن تختم بإسمين أو صفتين من صفات الله مترادفتين في المعنى؟ كلا. ولنأخذ مثلا ما يلي:- العلي العظيم- العزيز الحكيم- الغفور الرحيم- العفو الغفور- السميع البصير- اللطيف الخبير- الغني الحميد- الغفور الحليم- العليم الحكيم. . الخ. أرأيتم اسمين أو صفتين في هذه مترادفتين في الدلالة؟ لعلكم تقولون لا لم نجد فكل اسم أو صفة يغاير الآخر. وإذا كان الأمر كذلك بالدليل القاطع والمثال الساطع في كل سور القرآن والآيات والمقاطع، فإن اجتماع صفتين مترادفتين في البسملة ممنوع لمن له دراية، فهي أهم آية، وبها تحسن البداية، وتتكرر بعد كل نهاية.
إنني أقول وأنتم قد تقولون معي: إن اجتماع صفتين في هذه الآية الهامة الصغيرة التي تعتمد على الإيجاز يتعارض مع أبسط أساليب البلاغة والإعجاز. وهذا لا يليق بجلال الله القادر على كل شيء والذي أنزل القرآن تبيانا لكل شيء. وإذن فلا بد أن يكون للرحمن معنى آخر غير معنى كلمة [الرحيم] فليسا في الدلالة متحدتين بل متغايرتين. قد تقولون: وإذن فماذا تعني [الرحمن]؟إن لها معنى أشمل وأوسع وأعظم وأقوى وأهم.
لا تعجلوا وتعالوا نقرأ من سورة مريم: (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) فهل يصح لغويا ومعنويا وبلاغيا أن يستعيذ المستعيذ بما له معنى الرحمة واللطف والحنان، أم بما له معنى القوة والقدرة والسلطان؟ لا شك أنكم تؤيدون المعنى الثاني. إذن فالرحمن هنا لا تختص بالرحمة ولكن بالقوة والقدرة. ثم تعالوا نواصل القراءة في نفس السورة بشكل سليم يبحث عن المعنى المستقيم، فنصل إلى قول إبراهيم: (ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) فهل يمكن أن يعذب الرحيم؟! وهل معنى الرحمة يتفق مع العذاب الأليم؟ كلا كلا. بل إن العذاب لا يكون إلا من القوي الشديد ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد.
وإذن فالرحمن هنا في هذه الآية تعني شيئا غير الرحمة، وغير الرقة والحنان، وتعني القوة والقهر والسلطان، والقدرة والسيطرة على الشيطان، والحكمة والخبرة بما يستحقه الإنسان، وما يليق به حين يعصى الرحمن، ويوالى الشيطان. لعل الأمور الآن بدأت تتضح وينجلي الغشاء عن معنى - الرحمن- تعالوا معي إلى سورة الفرقان، لنجد الرحمن يخاطب رسوله محمدا بما يضفي عليه الاطمئنان، فيقول بأفصح بيان: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا)[58-95: الفرقان] إذن فالرحمن هو الحي الذي لا يموت، وهو الخبير بالعباد ولا يخفى عليه شيء ولا يفوت، وهو الخالق المبدع لكل شيء، والعليم بكل شيء وحي. فهو الذي يسأل عن مصير الجميع، وعن مآل المعرض والسميع فلا يليق إلا له الحمد والتسبيح ولا يصح إلا له السجود الصحيح، ولكن ماذا؟ ها هم المعرضون يستنكرون الإسم العظيم وينفرون من الرحمن العليم (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) [الفرقان:60].إن استنكار الإسم وسؤالهم عن ماهيته، وهم عرب فصحاء يعني أنه اسم لم يألفوه، واشتقاق لم يعرفوه،
وإلا لما سألوا (قالوا وما الرحمن ) أليس في هذا دليل على أن الإسم ليس مشتقا من الرحمة؟
ثم تعالوا نواصل القراءة لما يلي من الآيات لتتضح لنا عن الرحمن بعض الميزات الدالة على أن الرحمن اسم لله لا صفة من الصفات. لنقرأ: (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) [الفرقان: 61-62].إن هذا الآيات تعني أنه الخالق المدبر والمبدع المسير والمسخر للنجوم والكواكب والأقمار والمغشي لليل والنهار. وهو مع ذلك الحاكم الآمر والعليم بالخافي والظاهر، وهو المعبود من كل جامد وسائر، والمطلع على السرائر، ولهذا قال عمن يفهم هذه المعاني ويفقه هذا السمو الروحاني: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما* والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما)[الفرقان: 63-66]. إلى آخر الآيات.
ومن خلال ما قرأنا يتضح لنا معنى رحمن الدنيا. فماذا يعني رحمن الأخرى؟ إن الآية الأخيرة من الآيات الواردة هنا، توحي إلى بعض المعنى، عن رحمن الأخرى. فهو الذي يدعى لصرف عذاب جهنم، وهو بالعباد أدرى وأعلم. فهو القوي المهيمن في يوم الدين وهو الذي يحكم ويقرر جزاء الصادقين والكاذبين. تعالوا نتبين هذه الصفات للرحمن في الأخرى من خلال الآيات التالية: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا)[طه: 108](رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا * يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) [النبأ: 37-38].(إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) [مريم: 93-96] (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا * لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) [مريم: 85-87].(يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب * وأنذرهم يوم الإزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) [غافر: 16-19]. إن هذه الآيات تدل على أنه المسيطر العليم بكل سر، وهو المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الحاكم بالعدل والحق، وحكمه لا يتبدل، ولا يظلم ربك أحدا. وهو الحسيب السريع الحساب، الخبير بمن يستحق الجنة ومن يستحق العذاب، لا يعترض على حكمه ولا يرد، ولا يظلم ربك أحد، فهو الرحمن وكل شيء له خضع وعبد، وركع وسجد، وسبح بحمده وهجد ,, فسبحان الرب الرحمن،
فهل اتضح لكم بعض معاني الرحمن؟ إن لم يتضح المعنى بعد هذا البيان؛ فاقرأوا سورة [الرحمن] فإن فيها البيان عن أهم معاني ودلالات هذا الإسم العظيم الذي لم يدرك معناه المفسرون. خفي عليهم سر الإسم ففات عليهم الفهم، ولقد وفقنا الله وهدى، فاتضح لنا المعنى وبدا، فالحمد لله الرحمن في الأولى والأخرى، في الأرض والسماء، ومن كل شيء خلقه فسوى.مفردة الرحمن ¶ بسم الرحمن نبدأ المشوار في فهم بعض مفردات القرآن، وعلى نور الله الهادي نبدأ المشوار إلى المراد، لنبدأ باسم من أسماء الله تعالى التي حار حولها المفسرون ولم يدركوا معناها الحقيقي العظيم، فما هي هذه الكلمة يا ترى؟ إنها الرحمن !!! ¶ هل تظنون أنها مشتقة من الرحمة؟ هذا ما توهمه المفسرون، قال الزمخشري في معناها [الرحمن: فعلان من رحم كغضبان من غضب]، ثم قال: [وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم]، ولذلك قالوا: [رحمن الدنيا والآخرة]. هذا ما قاله الزمخشري شيخ المفسرين اللغويين ومثله قال الكثير من قبله ومن بعده. ¶ ونحن نؤيد ما استشهد به من قولهم: [رحمن الدنيا والآخرة]. لكن لا على الأساس المشتق من رحم، بل على معنى آخر هو مختلف عن ذلك كثيرا ومدلوله أهم، فهو [رحمن الدنيا والآخرة]، يعني: المدبر والمسيطر والمهيمن في الدنيا والأخرى، فهو يدبر الأمر فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ولا يعزب عنه شيء فيهما، وهو يحكم في الحشر فلا يظلم ولا ينسى ولا يخطئ في الحكم ولا يغوى وكيف لا وهو يعلم السر وأخفى. هذا ما نفهمه من قولهم: [رحمن الدنيا والآخرة]. ¶ قد تسألون، وكيف فهمت ذلك؟ ومن أين لك هذا التفسير؟ لا تعجلوا، وتعالوا معي نمعن النظر والتفكير في السؤال : ¶ لنبدأ من آخر سورة الإسراء: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) إذن فالرحمن اسم لله وليس صفة من الصفات مثل الرحيم. والإسم يدل على عدة صفات وميزات وسمات سواء في ذلك [الله أو الرحمن]، كلاهما تندرج تحته كل أسماء الله الحسنى، إلا أن الأول يختص بصفات الألوهية والثاني بصفات الربوبية، ولهذا اجتمعا في البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم). ثم لنتأمل هذه البسملة وهي آية تكررت في القرآن مائة وأربع عشرة مرة. لنتأملها على ضوء غيرها من الآيات، فهل تجدون آية من آيات القرآن تختم بإسمين أو صفتين من صفات الله مترادفتين في المعنى؟ كلا. ولنأخذ مثلا ما يلي:- العلي العظيم- العزيز الحكيم- الغفور الرحيم- العفو الغفور- السميع البصير- اللطيف الخبير- الغني الحميد- الغفور الحليم- العليم الحكيم. . الخ. أرأيتم اسمين أو صفتين في هذه مترادفتين في الدلالة؟ لعلكم تقولون لا لم نجد فكل اسم أو صفة يغاير الآخر. وإذا كان الأمر كذلك بالدليل القاطع والمثال الساطع في كل سور القرآن والآيات والمقاطع، فإن اجتماع صفتين مترادفتين في البسملة ممنوع لمن له دراية، فهي أهم آية، وبها تحسن البداية، وتتكرر بعد كل نهاية. ¶ إنني أقول وأنتم قد تقولون معي: إن اجتماع صفتين في هذه الآية الهامة الصغيرة التي تعتمد على الإيجاز يتعارض مع أبسط أساليب البلاغة والإعجاز. وهذا لا يليق بجلال الله القادر على كل شيء والذي أنزل القرآن تبيانا لكل شيء. وإذن فلا بد أن يكون للرحمن معنى آخر غير معنى كلمة [الرحيم] فليسا في الدلالة متحدتين بل متغايرتين. قد تقولون: وإذن فماذا تعني [الرحمن]؟إن لها معنى أشمل وأوسع وأعظم وأقوى وأهم. ¶ لا تعجلوا وتعالوا نقرأ من سورة مريم: (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) فهل يصح لغويا ومعنويا وبلاغيا أن يستعيذ المستعيذ بما له معنى الرحمة واللطف والحنان، أم بما له معنى القوة والقدرة والسلطان؟ لا شك أنكم تؤيدون المعنى الثاني. إذن فالرحمن هنا لا تختص بالرحمة ولكن بالقوة والقدرة. ثم تعالوا نواصل القراءة في نفس السورة بشكل سليم يبحث عن المعنى المستقيم، فنصل إلى قول إبراهيم: (ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) فهل يمكن أن يعذب الرحيم؟! وهل معنى الرحمة يتفق مع العذاب الأليم؟ كلا كلا. بل إن العذاب لا يكون إلا من القوي الشديد ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد. ¶ وإذن فالرحمن هنا في هذه الآية تعني شيئا غير الرحمة، وغير الرقة والحنان، وتعني القوة والقهر والسلطان، والقدرة والسيطرة على الشيطان، والحكمة والخبرة بما يستحقه الإنسان، وما يليق به حين يعصى الرحمن، ويوالى الشيطان. لعل الأمور الآن بدأت تتضح وينجلي الغشاء عن معنى - الرحمن- تعالوا معي إلى سورة الفرقان، لنجد الرحمن يخاطب رسوله محمدا بما يضفي عليه الاطمئنان، فيقول بأفصح بيان: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا)[58-95: الفرقان] إذن فالرحمن هو الحي الذي لا يموت، وهو الخبير بالعباد ولا يخفى عليه شيء ولا يفوت، وهو الخالق المبدع لكل شيء، والعليم بكل شيء وحي. فهو الذي يسأل عن مصير الجميع، وعن مآل المعرض والسميع فلا يليق إلا له الحمد والتسبيح ولا يصح إلا له السجود الصحيح، ولكن ماذا؟ ها هم المعرضون يستنكرون الإسم العظيم وينفرون من الرحمن العليم (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) [الفرقان:60].إن استنكار الإسم وسؤالهم عن ماهيته، وهم عرب فصحاء يعني أنه اسم لم يألفوه، واشتقاق لم يعرفوه، ¶ وإلا لما سألوا (قالوا وما الرحمن ) أليس في هذا دليل على أن الإسم ليس مشتقا من الرحمة؟ ¶ ثم تعالوا نواصل القراءة لما يلي من الآيات لتتضح لنا عن الرحمن بعض الميزات الدالة على أن الرحمن اسم لله لا صفة من الصفات. لنقرأ: (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) [الفرقان: 61-62].إن هذا الآيات تعني أنه الخالق المدبر والمبدع المسير والمسخر للنجوم والكواكب والأقمار والمغشي لليل والنهار. وهو مع ذلك الحاكم الآمر والعليم بالخافي والظاهر، وهو المعبود من كل جامد وسائر، والمطلع على السرائر، ولهذا قال عمن يفهم هذه المعاني ويفقه هذا السمو الروحاني: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما* والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما)[الفرقان: 63-66]. إلى آخر الآيات. ¶ ومن خلال ما قرأنا يتضح لنا معنى رحمن الدنيا. فماذا يعني رحمن الأخرى؟ إن الآية الأخيرة من الآيات الواردة هنا، توحي إلى بعض المعنى، عن رحمن الأخرى. فهو الذي يدعى لصرف عذاب جهنم، وهو بالعباد أدرى وأعلم. فهو القوي المهيمن في يوم الدين وهو الذي يحكم ويقرر جزاء الصادقين والكاذبين. تعالوا نتبين هذه الصفات للرحمن في الأخرى من خلال الآيات التالية: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا)[طه: 108](رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا * يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) [النبأ: 37-38].(إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) [مريم: 93-96] (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا * لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) [مريم: 85-87].(يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب * وأنذرهم يوم الإزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) [غافر: 16-19]. إن هذه الآيات تدل على أنه المسيطر العليم بكل سر، وهو المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الحاكم بالعدل والحق، وحكمه لا يتبدل، ولا يظلم ربك أحدا. وهو الحسيب السريع الحساب، الخبير بمن يستحق الجنة ومن يستحق العذاب، لا يعترض على حكمه ولا يرد، ولا يظلم ربك أحد، فهو الرحمن وكل شيء له خضع وعبد، وركع وسجد، وسبح بحمده وهجد ,, فسبحان الرب الرحمن، ¶ فهل اتضح لكم بعض معاني الرحمن؟ إن لم يتضح المعنى بعد هذا البيان؛ فاقرأوا سورة [الرحمن] فإن فيها البيان عن أهم معاني ودلالات هذا الإسم العظيم الذي لم يدرك معناه المفسرون. خفي عليهم سر الإسم ففات عليهم الفهم، ولقد وفقنا الله وهدى، فاتضح لنا المعنى وبدا، فالحمد لله الرحمن في الأولى والأخرى، في الأرض والسماء، ومن كل شيء خلقه فسوى.
مفردة القرآن
هذه المفردة تتكرر في النص القرآني بشكل ملحوظ، ولو تأملنا وضعها في سياق الآيات التي وردت فيها لوجدنا لها معنى جميلا ربما فات على كثير من المفسرين للقرآن الكريم.
فالكلمة مصدر من قرن يقال قرن الشيء بالشيء أي ضمه إليه وعلى هذا فالقرآن يعني قرن آية بآية وسورة بسورة وضم بعضها إلى بعض بحيث تكون نصا مقروءا مفهوما لقوم يعقلون.
أما الفرقان فيعني فرق سورة عن سورة في الإنزال فهو لم ينزل جملة واحدة ولكنه نزل مفرقا ومنجما كما هو معروف.
وإن شئتم فاقرأوا الآية [32من سورة الفرقان](وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) هكذا هم يقترحون أن لا يكون القرآن مفرقا ولكن جملة واحدة لكن الله يرد عليهم بقوله: (كذلك) أي نزلناه مفرقا كذلك لماذا (لنثبت به فؤادك) (ورتلناه ترتيلا) أي أنزلناه على تمكث وتمهل وفرقناه على فترات ليكون أكثر أثرا وتثبيتا في قلبك وأحسن وقعا في قلوب الناس فلا تنزل السورة منه إلا على أرض من القبول المتعطشة للبيان فيكون أثره فيها كالماء للعطشان ولهذا قال الله:
(وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) [الإسراء:106].
فالقرآن فرق تفريقا، أو فرق فرقانا ليقرأ على الناس على مكث وتمهل ولذلك لزم أن يكون (ونزلناه تنزيلا) أي دفعة بعد دفعة لأن فعل نزل المضعف يعني تكرار الإنزال دفعة بعد دفعة وجملة وراء جملة أما أنزل المزيد فهو يعني الإنزال دفعة واحدة ومن هذا نفهم أن القرآن يختلف عن الكتب السابقة عليه بأنه نزل على دفعات بينما هي أنزلت دفعة واحدة ولهذا قال الله في سورة آل عمران (الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) [آل عمران، الآيات:1و2و3و4]
تأمل قوله: (نزل عليك الكتاب) وقوله: (وأنزل التوراة والإنجيل).
وقال: (ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) [النساء:136]، فإذا تأملنا الآيات كلها نلاحظ أن القرآن عامله نزل المصنف أما الكتب التي قبله فعاملها أنزل.
ولو راجعنا فعل نزل في القرآن كله لوجدناه يقترن دائما بالقرآن ولا يقترن بسواه بينما فعل أنزل يقترن بالكتب الأخرى إلا في مواضع خاصة فإنه قد يأتي فعل أنزل سابقا للقرآن ولكن لفرض بلاغي وبياني ليس هذا مكان إيضاحه.
وعلى أي حال فإن بحثنا هنا هو حول كلمة أو مفردة القرآن فهي تعني اقتران الآية بالآية والسورة بالسورة لتكون نصا متكاملا ولتأكيد هذا المعنى نقرأ قوله تعالى في سورة القيامة وهو يتحدث عن القرآن: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) [القيامة:16و17و18].
تأملوا الآية فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحاول استجماع ما تنزل ويتابع الآيات ويتعجل حفظها فهو يحرك لسانه مع ما يتلى عليه ليساير لسانه ما يسمع فطمأنه ربه أن عليه الإصغاء والاستسلام لما يتلى من التنزيل وأن ربه هو الذي سيتولى جمعه في قلبه وقرن بعض الآيات ببعض في السورة التي تنزل عليه حتى يجدها قد طبعت في قلبه فلا ينسى الآيات إلا ما شاء الله وعليه فإن واجبه هو الإصغاء باطمئنان والاستماع بلا استعجال حتى يقضى إليه ما يوحى ليجده قد أصبح مكتمل الاقتران واضح البيان.
إنه وعد أكيد من ربه المجيد الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد ولهذا فهو يقول لرسوله: (سنقرئك فلا تنسى) (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما)، وهكذا فإن القرآن يعني قرن الآية بالآية والسورة بالسورة في قلب رسول الله ليقرأها باطمئنان موقنا أنها وحي يوحى من ربه الذي يعلم السر وأخفى.
وبعد: فلعلي قد أطلت ولكني قد أسمع سؤالا يقول: ماذا تريد من هذا وهو واضح؟.
إني أريد من هذا أن أؤكد ما يلي: إن القرآن بالمعنى الذي فهمناه اسم يطلق على الكلمات والألفاظ المقترنة في نص هذا الكتاب الكريم. أعني أن (القرآن) يطلق على ألفاظ الكتاب المعروف لنا المقروء بيننا لا على المعاني.فإذا وردت كلمة (قرآن) في القرآن فإنها تعني الكلام المقروء المبين أما المعنى فهو رحلة ثانية لا يعلقه إلا من فهم الكلام، ولهذا يقول الله: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [يوسف:2].(إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [الزخرف:3].
فماذا يعني هذا؟ يعني أن الله تفضل وتكرم بأن صاغ هذه المعاني العلية الحكيمة وقرن الكلمات اقترانا مبينا ليعقله الناس في صياغة لفظية عربية.ولقد جاء في الآية الأولى بكلمة أنزلناه قرآنا عربيا وفي الثانية بكلمة إنا جعلناه قرآنا عربيا فلماذا اختار (أنزلناه) في يوسف، و(جعلناه) في الزخرف.
إن جعل في اللغة تعني حول الشيء إلى شيء آخر، وعليه: فإن جعل هنا تعني أن النظام القائم عليه خلق الله والميزان الذي وضعه لكل شيء وحي في الخلق قد حوله الله إلى كلمات عربية تفصح وتبين لما يريده الله للإنسان من نظام وعلو وحكمة يتفق مع نظام الكون الذي لا يختل وينسجم مع ميزان الخلق الذي لا يطغى ولهذا قال الله بعد ذلك في سورة الزخرف : (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [الزخرف:4].
إنه بدأ السورتين بكلمة كتاب مبين، ففي يوسف (الر * تلك آيات الكتاب المبين)، وفي الزخرف (حم * والكتاب المبين) والكتاب هو النظام المبين الواضح لمن تأمل الخلق ولكن الله حوله إلى كلمات مفصحة وألفاظ مبينة عنه فجعله قرآنا عربيا.
لعلنا نفصل حكمة هذا النظام والميزان ونفهم عظمة هذا الإتقان فنسير عليه ونلتزم به وننسجم معه وينضم في موكبه العلي الحكيم المتزن المستقيم إذن فالقرآن كلمات وألفاظ عربية مبينة اختارها الله تفضلا لتكون مبينة عما أراده وليعقلوا ما يريده الله منهم وهذا هو السراط المستقيم إلى إقامة الميزان والقسطاس في حياة الناس في التعامل بين الكون والناس وبين الناس والناس، وعلى هذا الأساس فإن كلمة قرآن يطلق على مجمل الكتاب الذي بين أيدينا كما تطلق الكلمة على بعض منه، يقول الله:
(وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) الى آخر (الآية: 61من سورة يونس) فالضمير في منه يعود إلى مجمل القرآن وكلمة قرآن بعده تعني ما يتلوه من القرآن فقد أطلقت الكلمة على البعض كما أن قوله تعالى : (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) تفيد بأن كلمة القرآن تعني بعضه فإن ما يوحى إليه هو بعضه لكنه سمى البعض قرآنا. وكذلك قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالإخرة حجابا مستورا) [الإسراء:45].
فإن كلمة القرآن هنا تعني بعض القرآن فهو لا يتلوه في كل حين كاملا، وهذا يؤكد لنا أن المراد بالقرآن هي الألفاظ والكلمات المقترن بعضها ببعض وهنا قد يبدر سؤال وهو إذا كانت كلمة القرآن تعني الألفاظ والكلمات في هذا الكتاب فما هي المفردة التي تعني المعاني التي في القرآن؟.
الجواب هو أن الكلمة التي تعني ذلك هي كلمة (ذكر) أو (الذكر) فإذا وردت كلمة الذكر أو ذكر فهي تعني المعاني التي تحتويها هذه الألفاظ وتعني العلم الذي تفصح عنه تلك الكلمات.
ولهذا جاء في سورة (يس) (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [يس:69].
فقد جمع بين كلمتي ذكر وقرآن وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لم يعلم رسوله إلا علما لكم أيها الناس ولكن هذا العلم جاء مصاغا في كلمات مبينة ليتضح لكم العلم المنزل من ربكم فهذه الكلمات تسمى قرآنا ولهذا وصف القرآن في الآية بأنه مبين. فقال (وقرآن مبين) قد يسأل سائل فيقول: ألا تعلم بأن السورة بدأت بقوله تعالى: (يس * والقرآن الحكيم)
وهذا يعني أن القرآن هو المحتوي للحكمة فكيف تقول أنه اسم للألفاظ؟ لكن الجواب سهل فالألفاظ هي التي تدل على المعنى وإذا دلت فقد احتوت الحكمة فهو إطلاق مجازي أطلق المحل وأراد الحال. فالكلمات محل للحكمة لكن الحكمة ليست هي الكلمات بل الكلمات تفصح عنها وهذا هو الذي قصدناه بل قصده الله، بأن جعل حكمته وعلمه وكتابه في لفظ عربي يسمى قرآنا ليعقل الناس هذا العلم والحكمة وليعرفوا هذا النظام ويعلموه.
وهنا قد يرد سؤال آخر، وهو أننا نراك تكرر كلمة نظام خلال تفسيرك الآيات فمن أين جئت بها؟ لكني أقول للسائل: تعال معي بعقل يحاول أن يفهم ولا تتهجم ولا تتجهم.
إن كلمة كتب تعني في اللغة رتب ونظم وجمع وأحكم والكتابة لا تعني إلا جمع كلمة إلى كلمة وحرف إلى حرف وتنظيمها حتى يفهم منها من قرأ معنى لم يكن يفهمه لولا تنظيم هذه الكلمات والحروف ولهذا قيل للجماعة المنظمة كتيبة وللجيش المنظم الجماعات كتائب ويقال كتب الكتائب أي جمع ونظم.
وعلى هذا الأساس يقول أصحاب أمهات الكتب في تأليف المواضيع والمعلومات: كتاب الصلاة، كتاب الطهارة، كتاب البيع، أي هذا نظام البيع والصلاة والطهارة وقواعدها التي بدونها لا تصح.فكتاب مصدر كتب أي نظم، نظاما، وتنظيما، ورتب ترتيبا الشيء: جعله مؤسسا على قواعد لا يصح الخروج عنها، فالخروج عنها يبطلها.
وعلى هذا جاءت كلمة كتاب في القرآن.فهي تعني النظام، اقرأ معي أول سورة النمل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ) إن الجمع بين كلمتي قرآن وكتاب يعني أن معناهما متغاير وإلا فكلمة قرآن حشو وعليه فإن كلمة الكتاب لا تعني القرآن ولكنها تعني النظام الذي تدل عليه كلمات القرآن وتدل عليه سائر الكتب المنزلة.
وإلا فقل لي لماذا قال الله عن عيسى في سورة آل عمران: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) [48] فماذا يعني الكتاب؟ هل يعني التوراة والإنجيل إذا كان الكتاب هو التوراة والإنجيل فلماذا كررها الله؟ إن التكرار يعني الإطناب المخل وهو معيب في علم البلاغة والقرآن أعلا درجات البلاغة فهل يصح أن يكون فيه ما يخل؟ كلا، إذن فالكتاب له في الآيات معنى آخر، فما هو هذا المعنى يا ترى؟
إنه النظام والانسجام فكأن الله يقول لنا: هذا نظام أردنا أن تعرفوه فقربناه لكم في ألفاظ معروفة وجعلناه لكم بلسانكم العربي المبين لتعقلوه وتعملوا بمقتضاه وميزانه.فلا تخلوا به ولا تطغوا في ميزانه ولتقوموا بالقسط بموجب بيانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [الحديد:25](والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) [الرحمن:7و8و9].
ثم لنتأكد أن الكتاب هو النظام وأن القرآن هو الكلام الدال عليه نقرأ قول الله تعالى في أول سورة فصلت: (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) [الآيات:1و2و3] فالنظام الإلهي للخلق فصلت آياته قرآنا مصاغا باللغة العربية للناس الذين يريدون أن يعلموا هذا النظام ويقتدوا به ويقيموا حياتهم على ميزانه ولهذا قال: (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) [فصلت:4]ثم ماذا؟ (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) أي أن عملهم سيظل على الانحراف والفوضى فلا يسمعوه ولا يعون ما يدعون إليه من النظام والاستقامة وهم قد حجبوا أنفسهم عما يراد لهم من العلم بهذا النظام والسلام. ثم تعال لنقرأ: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي) [فصلت:44].
إن هذه الآية تؤكد أن المراد بالقرآن هو الكلام ولهذا كان يمكن أن يكون أعجميا أي بلغة غير العربية ولكن الله أراده عربيا لنعقل، فالعربية هي لغة البيان لمن يعقلون، ولو أردنا أن نوضح سر بيانها لضاق المقام ولكنه معروف لمن أتقن علم البلاغة والبيان، وقرأ كتب الجرجاني ومن تلاه في بيان أسرار القرآن ودلائل الإعجاز.
وإذن فالحكمة والعلم لا تتضح إلا بهذا القرآن والهدى إلى الصراط المستقيم لا يتم إلا بهذا القرآن. (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) فحكمة الله وعلمه صيغت رحمة للعالمين وذكرا للناس أجمعين في هذا القرآن المنزل من رب العالمين بلسان عربي مبين ليعقله العالمون.
فلم يكن القرآن باللسان العربي المبين إلا ليعقله الناس ويفقهوا حكمة الله وعلمه ونظامه فيكونوا منسجمين مع موكب النظام المحكم وسائرين في حكمه . ثم إن هذه المعاني الربانية الرفيعة قد نزلت بلغات قوم آخرين: (وإنه لفي زبر الأولين) [الشعراء:196].(إن هذا لفي الصحف الإولى * صحف إبراهيم وموسى) [الأعلى:18و19].
ولكن الله اختار أن تنزل على الناس باللسان العربي المبين المفصح عما يريده رب العالمين للناس أجمعين من خير وسلام ومقام أمين، فكأن القرآن هو الصيغة التي تعجز وتبين:
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)
وأعود لأؤكد فأقول:
وبعد فإن القرآن اسم للكلمات والألفاظ أما الذكر فهو اسم للعلم الذي حواه القرآن ولنقرأ معا: (ص والقرآن ذي الذكر) [1]، (إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين)[ص:87و88].(وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) [الزخرف:44].فهل يسأل الإنسان إلا عن العلم فهو الذي يحمله الإنسان ويسأل عنه ولهذا قال: (وقد آتيناك من لدنا ذكرا(99)من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا)[طه:100].(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء:10].(ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:2].لقد أوردت بعض هذه الآيات للبيان وإلا فإن الموضوع قد استوفيناه في بحث (الذكر) فيلرجع إليه من شاء المزيد.
وأخيرا فإذا كان القرآن يعني الكلمات والألفاظ فإنه مصاغ بأسلوب يعجز ويبين، وإنه لتنزيل من رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن القرآن يوصف بالحكمة وبالعلم وبالرحمة وبالنعمة فكيف يتفق هذا مع معناه هنا. لكني أقول أنه قد سبق أن أوضحت أنه تعبير مجازي وأن المقصود أنه يفصح عن هذه المعاني ويحتويها فهو مجاز مرسل علاقته المحلية.
على أني سأنقل القارئ إلى معنى للقرآن لم يسمعه قبل الآن، إنه معنى أعم وأشمل لا يقتصر على اقتران الكلمات والألفاظ فقط بل على اقتران كل شيء وكل كائن حي. وربما يفاجأ القراء بهذا الذي سيقرأونه لأنهم سيسمعونه لأول مرة فلم يقله الأولون ولا تطرق إليه أحد من المفسرين.
هل أنتم أيها القراء مستعدون لاستماع ما سأقول باستيعاب، والولوج في هذا الموضوع بروية تبحث عن الصواب، وبفهم يتصف به أولوا الألباب، (إنما يتذكر أولوا الألباب) هل أنتم مستعدون ياصحاب، لعلي أجد أن نعم هي الجواب. إذن فهيا معنا إلى سورة الرحمن.
(الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) [الآيات: 1و2و3و4].
كثير من المفسرين فهموا كلمة القرآن بأنها تعني هذا القرآن المقروء لكن السياق وترتيب الآيات يأبى هذا الفهم على الإطلاق فهل يمكن أن يعلم الله القرآن للإنسان قبل خلق الإنسان؟ كلا كلا.
إذن فمن هو المعني بالتعليم في (علم القرآن)؟
أنظروا الفعل (علم) جاء مطلقا لم يذكر فيه المفعول الأول مع أنه يتعدى إلى مفعولين فأين المفعول الأول؟ لو قدرنا المفعول هو الإنسان سنقول الرحمن علم الإنسان القرآن خلق الإنسان علمه البيان. هل هذا الترتيب صحيح؟ هل هو يتفق مع فصاحة القرآن وإعجازه وإيجازه. كيف يعلم الله شيئا قبل خلقه؟ فلماذا أضاف علمه البيان؟ أليس القرآن هو البيان؟ فلماذا التكرار !! مع أنه كان يمكن أن يقول:
الرحمن خلق الإنسان علمه القرآن وعلمه البيان.
فلماذا أفرد القرآن وحده وبدأ به فقال: (علم القرآن) ثم قال: (خلق الإنسان)؟ لا بد أن هناك سرا عظيما، وأن هناك معنى لكلمة القرآن لا تعني هذا الكلام المقروء وإنما تعني معنى أعم وأشمل تدل عليه الكلمة في الأصل اللغوي.
وهنا أنبه إلى قضية هامة هي أن القرآن قد يستعمل كثيرا من الكلمات يريد بها أصلها اللغوي لا معناها الاصطلاحي. وعليه: فلقد اصطلح على أن كلمة قرآن تدل على هذا الكلام المقروء المحتوي عليه المصحف. لكن الكلمة هنا استعملت أصلها اللغوي العام. لكن المفسرين كلهم لم يحاولوا أن يفهموا هذا المعنى العام. وإنما جعلوا الكلمة تدل على هذا القرآن المقروء بين أيدينا وإنه لوهم لا يتفق مع سياق الآيات ولا نوافق عليه، ولا ينسجم مع الترتيب الذي بنيت عليه الآيات. ولهم عذرهم فقد غاب عنهم أن القرآن كثيرا ما يستعمل الكلمات في معناها الأصلي لا الاصطلاحي، وهذا بحث سنفرد له بابا خاصا بإذن الله.
وعلى أي حال فلنقرأ ما قاله الزمخشري شيخ المفسرين في هذا الموضوع في تفسير سورة الرحمن.
عدد الله عز وعلا آلائه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قد قاس ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدم من نعمة الدين ما هو أعلا مراتبها وأخص مراقيها وهو إنعامه (بالقرآن) وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة وأحسنه في أبواب الدين أثرا وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها ؟؟ عليها)، ثم قال:
(وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله وكأن الغرض من إنشائه كان مقدما عليه وسابقا له)، انتهى كلام الزمخشري وهو محاولة لتبرير تقديم الآية على خلق الإنسان لكنها محاولة غير مدركة للحقيقة الكبرى والأهم التي سنوضحها لاحقا لكنا قبل ذلك نعرج على تفسير سيد قطب في [ظلال القرآن] لنقرأ ما قال، لقد قال ضمن التعريف بالسورة كما هي عادته مع كل سورة ما نصه:
[ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان فسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان] هكذا قال، وهي لمحة صغيرة بسطها في تفسير الآيات فقال بعد أن أورد نص الآيات الأولى من السورة:
[هذا هو المقطع الأول في بيان آلاء الرحمن وهذا هو الخبر الأول بعد ذلك الإعلان، [علم القرآن] هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمن بالإنسان [القرآن] الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود ومنهج السماء للأرض الذي يصل أهلها بناموس الوجود ويقيم عقيدتهم وتصوراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس) إلى أن يقول بعد كلام طويل لا يخرج عما نقلناه هنا: [ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان فيه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان] انتهى كلام السيد قطب.
وهو لا يخرج عما عناه الزمخشري إلا أنه أضاف شيئا آخر هو أن القرآن هو [الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود]، وهو يكاد يقترب مما نريد هنا إلا أنه عاد من جديد إلى ما عناه الزمخشري من قبله.
أما [ابن كثير] فقال: [يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى: (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) قال الحسن: يعني النطق وقال الضحاك: يعني الخير والشر [ثم رجح قول الحسن] فقال: وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها على اختلاف مخارجها وأنواعها، انتهى.
وهكذا يتجلى لنا أن أبرز المفسرين الأولين والمتأخرين قد وجهوا كلمة القرآن هنا إلى معناها الاصطلاحي ولم ينتبهوا إلى أنها مستعملة في معناها اللغوي الأصلي.
وعلى أي حال فهم قد عملوا جهدهم في تبرير تقديم (علم القرآن) على (خلق الإنسان) في الآيات. ولكنها مبررات لا تتفق مع المنطق ولا مع جلال الله وحكمته ولا مع سياق الآيات وترتيبها البياني. قد تسألون في ضيق ونفاد صبر فتقولون: لقد أطلت الكلام وتطاولت على الكبار الأعلام ، فماذا لديك من التفسير للكلمة أيها الهمام؟ وماذا تريد أن تحملها من المعاني؟ وأين تريد أن تذهب بها؟ لكني أدعوكم على مهل إلى المعنى الأشمل وأرجوكم التأني معي والإمعان لنصل معا إلى المعنى الأهم والأعم المتفق مع سياق الآيات وبيان الكلام.
أيها الأعزاء: إن كلمة القرآن كلمة تطلق ويراد بها هذه الكلمات والألفاظ المكونة لنص الكتاب الكريم الموحى على محمد الخاتم الأمين. هذا هو المصطلح وهو المراد بها في كل آيات القرآن. إلا في سورة الرحمن فإن معناها أعم وأشمل. إنها تعني الاقتران بين الأشياء والتقارن بين المخلوقات في الأجرام والمواقع والمهمات ولهذا أطلقت فقال تعالى: (علم القرآن).
فالألف واللام هنا للجنس أي علم كل شيء وكل مخلوق القرآن أي جنس الاقتران والتقارن فيما بينها بدون خلل ولا طغيان ولكنه اقتران بنظام واتزان. ولكي يتضح لكم المعنى بشكل أعمق وأنصع؛ تعالوا نتدبر الآيات ونتفهم معنى الكلمات من البداية فالسورة تبدأ بكلمة الرحمن.
فماذا تعني هذه الكلمة:
لا مانع أن تستعير هنا بدايات تفسير سيد قطب لهذه الكلمة فقد قال: (الرحمن) بهذا الرنين الذي تتجاوب أصدائه الطليقة المدوية في أرجاء هذا الكون وفي جنبات هذا الوجود.
(الرحمن) بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد يجلجل في طبقات الوجود إلى أن يقول (الرحمن) ويسكت وينتهي ويصمت الوجود كله وينصت في ارتقاب الخبر العظيم بعد المطلع العظيم ثم يجيء الخبر المرتقب الذي يخفق له ضمير الوجود (علم القرآن) هكذا قال سيد قطب بعد كلمة الرحمن ونحن نقول معه: نعم، إنه رنين وإيقاع مدوي ومجلجل، ولكن لماذا؟
لم يوضح لماذا ولم يدرك ماذا تعني كلمة الرحمن!.
أنا هنا لن أطيل الكلام حولها فلقد أفردت لها بحثا خاصا فليرجع إليه من شاء ففيه البيان والشفاء. ولكني هنا أقرب للقارئ الخطى والعناء فأقول:
إن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى وليس صفة مشتقة من الرحمة كما توهم المفسرون ولا تعجل أيها القارئ قبل أن أبين لك. ألم يقل الله في سورة الإسراء:
(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) [110].
إذن فالرحمن اسم من أسمائه العظمى والهامة والكبرى. إن الرحمن اسم يشمل كل معاني وصفات الربوبية كما أن (الله) اسم يشمل كل معاني وصفات الألوهية. إذن فالرحمن يعني الرب المدبر المقدر المسير القريب الخبير المهيمن الذي له الخلق والأمر فتبارك الله رب العالمين.الرحمن يعني المعيذ الحامي الكالئ الحافظ الممسك، الرحمن يعني القريب المجيب البصير القوي القادر القهار المعذب والمحاسب والمعاقب والرحيم والغفور والحكيم والغفار. إنه يشمل كل معاني الربوبية والتدبير والقرب والتسيير واللطف والتيسير والعقاب والحساب والتحذير وغيرها كثير. أنا لا أقول هذا جزافا لأن الآيات تؤكد ذلك في القرآن. لنقرا في سورة مريم قولها:
(قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) [18]. فهو المعيذ، وقول إبراهيم لأبيه:
(ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) [مريم:45]. فهو معذب، وقوله تعالى:
(قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) [الأنبياء:42] فهو الكالئ، وقوله تعالى:
(أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير) [الملك:19].
فهو الممسك والبصير والمدبر (الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) [الملك: 3]، فهو الخالق المنظم المدبر المسير. (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) [طه:108]. فهو المحاسب والمعاقب والمثيب والراحم. (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا) [النبأ:37]، فهو المهيمن والمحاسب والمعاقب والمثيب والغافر والعليم بكل شيء وظاهر وهو الذي له الملك والحكم والكبرياء في الدنيا والآخرة ولن أزيد على هذا لشرح كلمة الرحمن، ولو راجعت كل الآيات التي وردت فيها الكلمة ستجد أنها تعني كل تلك المعاني وأكثر فهي ليست صفة كالرحيم ولكنها اسم قوي عظيم ولهذا ناسب أن يأتي بعدها صفة الرحيم في (بسم الله الرحمن الرحيم)، وفي (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم)، لأن اسم الرحمن يدل على الهيمنة والعزة، والقهر والقوة، والملك والتدبير والخلق والتسيير والسلطان الواسع القدير، الحاكم بما يشاء والفعال ما يريد، فإذا كان هذا هو المفهوم من الرحمن فإن الرحيم هو المناسب أن يليه ليؤكد للعباد أنه مع قدرته وقوته وهيمنته وطلاقة سلطته ومشيئته إنه مع ذلك رحيم واسع الرحمة باسطها لمن يستحقها فيدخل إلى النفوس الاطمئنان إليه والتعرض لرحمته والتوكل عليه.
وإذا فهمنا الرحمن بهذه الصفات والدلالات، فإن الرنين الذي سمعه سيد قطب من الكلمة صحيح ومسموع لمن فهم. وإذن فإن الرحمن بهذه الصفات والقدرات وبهذه السمات والميزات وبهذه الهيمنة والسلطات وبهذه الحكمة والخبرات (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) [الفرقان:59].
نعم إذا كان هذا هو شأن الرحمن فإنه لا سواه هو الذي علم القرآن [فالقرآن يعني اقتران كل خلقه ببعض وتزاحمها في السماء والأرض وتعدد مهماتها والأغراض ولكنها مع هذا التعدد والتكاثر والاقتران والتوافر والاختلاط والتزاحم والتوسع والتداخل والتباعد والتقارب، إنها رغم هذا ومع هذا متناغمة متعاونة متزنة ملتزمة بما قدر لها وحكم الرحمن متجاوبة مع بعضها في أداء مهماتها التي خلقت لها وهيأها له الرحمن فلا يطغى بعضها على بعض ولا يخل بعضها بعمل بعض بل كلها رغم تفاوت المهمات والأغراض تسير إلى غرض عام وهدف هام هو إقامة الحياة على نظام وانسجام فالله الرحمن خلق كل شيء بالحق، وعلم هذا الخلق علمه القرآن، أي علمه أن يقترن بسواه بنظام وباحتكام لأمر الرحمن فكل شيء يسجد وكل شيء يسبح وكل في فلك يسبحون.
ولكي ندرك هذا التقارن والانسجام، ولكي نفهم هذا التوسع والاحتكام وهذا التعدد والالتزام، ولكي يتضح لك هذا التقدير الذي حكم به الرحمن كل خلقه ووضع له الميزان. لكي تدرك ذلك اقرأ في سورة الرحمن قبل سواها هذا المعنى واضحا كامل البيان (خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسماء رفعها ووضع الميزان) [الآيات: من 3إلى 7].
إن هذه الآيات هي بيان لقوله (الرحمن * علم القرآن) هذا هو معناها وهذا هو الاقتران المنظم فهو بحسبان وميزان بدون فوضى ولا طغيان، وأكبر شيء وأصغره وأعلاه وأسفله يسجد للرحمن، محكوم بقدرته والسلطان ، ملتزم بأمره وتقديره في كل آن ومكان. ثم (والأرض وضعها للأنام) وكم في الأرض من مخلوقات متعددة الألوان والأحجام، متفرعة المواد والأجسام، مختلفة الأغراض والمهام، ولكنها كلها متعاونة على الهدف العام مسخرة له بانسجام وهو الذي قدره الرحمن لصلاح الحياة على الأرض ولهذا فالأرض (فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام * والحب ذو العصف والريحان)، [الرحمن، الآيات:11و12].
إنها آلاؤه تدل على القوة والقدرة والحكمة والرحمة والسلطة والهيمنة وكلها تسير مقترنة إلى مهمة واحدة رغم تعدد النوع والشكل واللون والحجم. أليس هذا من آلاء الرحمن الذي علم القرآن (فبأي آلاء ربكما تكذبان) [الرحمن:13].ثم لنقرأ ما يدل على ذلك بشكل أوضح وفي نفس السورة (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) [الرحمن: 19و20].أليس هذا من آلاء الرحمن الذي (علم القرآن) تأملوا معي دلالة الاقتران، فالبحران مقترنان للعيان، متلازمان متجاوران، مختلطان لكنهما لا يبغيان، بل مع ذلك ورغم ذلك الاقتران، (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) [الرحمن:20] إنها آلاء تدل على الهيمنة والحكمة والسلطة والرحمة.
والخلاصة أن السورة كلها تؤكد معنى (علم القرآن) فتأملها يا أخي وسيتضح لك المعنى بجلاء وبيان.
ثم تعال معي إلى سواها من السور، واقرأ في سورة النساء: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) [33].ولتقرأ في سورة يس (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون * وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. ومع كل هذا الاقتران والتقابل والتداخل (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) نعم هكذا هو الملموس وهذا هو الواقع المحسوس (وكل في فلك يسبحون) [يس: الآيات من35-40].
ثم اقرأ في سورة الرعد: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون).
هذا في السماء، فانزل إلى الأرض تجد الاقتران واضحا منظما متعددا منسجما وتجده متنوعا وله هدف أسمى، واقرأ معي: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار) ألا تلاحظ الاقتران، ألا تشاهده، ولهذا يختم الآية بقوله: (إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) فتفكر لتجد أن (الرحمن * علم القرآن)
ثم استزد من مظاهر الاقتران العجيبة المنظمة واقرأ(وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الإكل) إنه الاقتران والقرآن بأجلى صوره وأبسطها وأوضحها، ولهذا يختم الآية بقوله: (إن في ذلك لايات لقوم يعقلون) [الرعد، الآيات: 2و3و4].
ثم لتقرأ في سورة الفرقان قوله: (ألم ترى إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) [الآيات:45و46].
أليس هذا هو الاقتران والقران الواضح بين السماء والأرض وبين الشمس والظل وبين السماء والأرض والشمس معا، ثم هناك اقتران آخر أقرب إلى الإنسان وأدنى:
(وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا * لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) [الآيات:48و49].
أليس هذا هو الترجمة لقوله (علم القرآن) إنه الاقتران بين الرياح والسحاب والماء والأرض وبين هذا الإنسان ومعه كل ما على الأرض من شجر وتراب وحجر ورمل وحيوان، إنه الرحمن الذي علم القرآن فرغم تعدد الأشكال والمواقع وتنوع الأساليب والطبائع؛ إلا أن اقتران كل سبب بالآخر يؤدي إلى هدف للكل جامع، هو حياة الإنسان وجمالها وظهورها بشكل رائع ولا غرو فالرحمن هو المسيطر والمسير وهو الذي علم كل هذه الأشياء (القرآن) وكلها له تسجد وتسبح بإذعان، (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والإصال) [الرعد:15].
أكتفي بهذا القدر من البيان على (علم القرآن) فلعله قد اتضح أن الرحمن هو الذي دبر هذا الاقتران ونظم هذا التعدد والتنوع الواسع وجعل كل مخلوق ساجد راكع، مسبح ضارع، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) [الإسراء:44].
وبعد فلنعد إلى (الرحمن * علم القرآن)
نعم لقد تفضل الرحمن وعلم كل شيء من خلقه القران فهو يقترن بسواه بلا طغيان ولكن بحسبان واتزان وبطاعة وخضوع للرحمن ثم وبعد تدبير هذا النظام المتقن المحكوم الواسع المتباعد الموزون بعد هذا كله ماذا حدث؟ (خلق الإنسان * علمه البيان) لقد أعد المهد الصالح لخلق هذا الإنسان فخلقه وعلمه البيان، علمه البيان ليبين عما يريد وليستبين ما يراد منه، فهو مبين مستبين وهو سميع بصير. وعليه أن يتفهم ما يحيط به ويفقه ما يقوم به وما يؤمر به، ولهذا قال الله بعد أن بين أن كل شيء بحسبان وبميزان قال مخاطبا للإنسان في سورة الرحمن:
(ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) [الآيات:8و9].
هل اتضح لكم الآن معنى كلمة (القرآن) في سورة الرحمن؟
إنها تعني الاقتران بين كل خلق الرحمن، ولكنه اقتران بحسبان وميزان، وما دام الإنسان جزء من هذا الخلق وطارئا على هذا النظام فعليه الانسجام معه والالتزام بما به يقوم الوجود وعليه استقام.
فالخروج عن الحق فساد وفسوق وكل من اقترفه هالك ممحوق (والله لا يحب الفساد)
إذن فكيف للإنسان أن ينسجم مع موكب هذا النظام وأن يقترن بما حوله من الخلق اقترانا بسلام، وأن يتعامل مع هذا الوسط باتزان واستسلام، وعدل واحتكام، وأن يسير مع السائرين بانتظام.
نعم أنى له ذلك؟ وما دليله عليه؟ إن الدليل بين يديه، فهو القانون الذي يعول عليه، والنور الذي يحتاج إليه، فما هو يا ترى؟ إنه هذا القرآن المقروء الموحى إلى خاتم النبيين رحمة للعالمين ومن هنا نفهم سر اختيار هذا الاسم الجميل لهذا التنزيل الجليل. إنه إشارة عظيمة وعلامة وسيمة على أن تسميته بالقرآن تسمية مختارة بعناية ودراية، وأن التسمية بحد ذاتها آية.ومن هذه التسمية المختارة لهذا الكتاب الكريم، نفهم أن القرآن هو الطريق للسلام بين الإنسان وبين كل المخلوقات وهو الدليل للتعاون المثمر بينه وبين كل الموجودات وهو الهادي إلى التكامل بينه وبين كل الكائنات.
إن هذه المخلوقات والكائنات متنوعة متعددة متباعدة متداخلة متباينة متقاربة.
ولكنه تنوع بانسجام، وتعدد بالتزام، وتباعد بالتئام، وتباين باحتكام، وتقارن بسلام، واتزان وتعاون بحسبان، فمن اقترف مع قرينه من الأشياء أو الأحياء فسادا فقد خرج عن الصراط المستقيم ومن اجترح مع مقارنه طغيانا فقد فسق عن الموكب العظيم، المسبح الساجد لربه الكريم. إن على الإنسان أن يهتدي إلى الطريق الحق الذي يقوم عليه كل ما أبدع الله وخلق وإلا تعرض لأن يهلك ويمحق. وإن عليه أن يلتزم بنظام الاقتران القائم على السلام والميزان سواء بينه وبين أبناء جنسه أو بينه وبين سائر الأشياء والأحياء وإلا تعرض للعقاب والعذاب.
إذن فما الذي يقيه الهلاك ويجنبه العذاب.
لا واقي له إلا هذا الكتاب ولا هادي له إلا القرآن إلى الصواب، وكيف لا وقد عرفناه (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) [طه:الآيات 4و5و6].
وما دام كذلك فهو الهدى الحق والدليل الأبلق.
لأن من خلق وعلم، هو الذي يهدي إلى الطريق الأقوم.
وإن من علم القرآن كل الأشياء، هو الذي به يهتدى، وكيف لا وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد فهو الذي يعلم ما يضر وما يفيد (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه:7و8].
إن من يعلم سرك وأخفى هو يهديك إلى السواء
وإن من له الأسماء الحسنى هو الذي يدلك على الحياة الحسنى، وهو الذي يطاع ويخشى، وعلمه هو الذي به يقتدى. وإلا فالمصير مهين في الأولى والأخرى.
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه:124].
إن علم الرحمن هو الضمان لفوز الإنسان بالفلاح والأمان.
ومن أراد علما سواه فقد هوى وغوى وخسر الدنيا والأخرى، ولقد جاءك هذا العلم من الرحمن في هذا القرآن إنه إسم يدل على أن القرآن يقرنك برحمة الله وعونه وهداه وإذا قرنت به نلت السعادة والاطمئنان.
ويقرنك بالذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ويقرنك بالدرجات العلى في جنة المأوى. ويقرنك بالحياة الخالدة في جنات النعيم، ويقرنك بالقرب من ربك العلي العظيم.
فيا له من مقام سامق رفيع، (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)
نعم إن القرآن المقروء يقرن العامل به بكل خير وجمال وكمال لأن القرآن فيه علم غزير من علم الله ونور وفير من نور الله وهدى من الله (من يهد الله فهو المهتدي) نعم هو المهتدي محصور مقصور عليه الهدى ولسواه لا يتعدى ولهذا قال: (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف:15].
ولو أردنا مزيدا من التعمق في اسم القرآن نقول:
إنه اسم يدل على المسمى، خبر اسم لخبر مسمى، وكيف لا وهو يقرن بين رب العالمين وعباده ويقرن بين الغيب والشهادة وبين الموت والحياة، وبين بداية خلق الإنسان واستخلافه على الأرض، وبين نهاية حياته في هذه الأرض وحشره للحساب والعرض.
بين النطفة الإنسانية المكنونة في الأرحام وبين الجثة الفانية المدفونة في الركام، بين الملائكة الذين هم عباد الرحمن وهم يستجيبون لأمر ربهم بالسجود للإنسان وبين جنود الشيطان الذي عصى الرحمن وأبى السجود للإنسان، وأعد نفسه للإغواء ونصب نفسه عدوا للإنسان مدى الزمان.
إن القرآن يقرن بين نكد الدنيا وخلود الأخرى.
إن القرآن يقرن بين الجنة وبين النار وبين نعيم الأبرار وجحيم الفجار.
بين علم الأنبياء وجهادهم وبين جهل الأغبياء وعنادهم.
بين صلاح المؤمنين وفساد المسرفين.
بين استقامة التقاة واعوجاج الطغاة، بين المتبعين الأخرى واطمئنانهم وبين المحبين الدنيا وجنونهم، يقرن بين إخلاص المستجيبين لربهم وتربص المنافقين وريبهم، بين الحرب وبين السلام، وبين الكفر وبين الإسلام.
بين الزلازل والاستقرار، وبين الإعمار والدمار، بين الفساد وبين الإصلاح، بين من زكى نفسه وبين من دساها، وبين الخسران.
بين صبر الأوابين ومكر المرتابين.
بين من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فيسره الله لليسرى وبين من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فيسره الله للعسرى.
بين من طغى واتبع الهوى، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
بين من يئس من رحمة ربه فتاه في ضلالات واعتمد على الأسباب فباء بالتباب، وبين من أحسن الظن بربه فنادى في الظلمات فنجاه ربه واستجاب.
بين من اتبع الشهوات فلقي غيا وبين من نادى ربه نداء خفيا فكان به حفيا.
هذه بعض المعاني المتقارنة المتقابلة في حياة الإسان وحالات نفسه ونتاجها وعقباها.
ثم تعالوا إلى بعض المقارنات التي يحفل بها القرآن خارج النفس الإنسانية ولكنها متصلة بها ومقترنة بها ومؤثرة فيها.
فالقرآن يقرن بين الرحمة والعذاب، بين سعادة المتقين وشقاء المكذبين، بين هلاك المستكبرين ونجاة المستجيبين، بين مصائر الغابرين ومآل اللاحقين، بين الماضي الذي لا يعلمه إلا الله وبين المستقبل الذي هو في علم الله، بين الأحكام المفروضة وبين العبرة والموعظة.
بين فرض الشريعة المستقيمة العادلة وبين رفض البدعة المعوجة المائلة، بين الحث على صراط الحق المبين، وبين التحذير من انحطاط الباطل المهين، بين الذكر والأنثى، وبين الأزواج والنساء، بين الطيبة التي تخرج ثمارا رغدا، وبين الخبيثة التي لا تخرج إلا نكدا، بين الخير والشر، وبين السراء والضراء، وبين نمو الصدقات ومحق الربا.
إنه يقرن بين الأرض وبين السماء، وبين الظاهر وبين الخفاء.
بين ازدهار الشجر وبين اكتمال القمر.
بين الصخر الرابض وبين الكوكب النابض.
بين فلق الحبة في ظلمات الثرى، وفلق الإصباح في آفاق السماء.
بين إيلاج الليل في النهار، وبين اختلاط المساء بالنهار.
بين توالي الظلام والنور، وبين ما تخفي الصدور.
بين إرسال الرياح المبشرة، وبين تسليط الريح المدمرة.
بين السراب الكذاب، وبين السحاب السكاب.
بين الظمأ والعراء، وبين الشبع والاكتساء.
بين الخوف والشقاء، وبين الأمن والرخاء.
بين البرق اللامع، وبين الطين الخاشع.
بين السحاب الثقال، والرعد المسبح لذي الجلال.
وبين السهول الطوال المهتزة بالثمار والجبال المتدفقة بالسيول.
بين الريح المحرقة، والرياحين العبقة.
بين الشمس وضحاها، وبين النهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها.
بين السماء وما بناها وبين الأرض وما طحاها.
بين النفس وما سواها، وبين فجورها وتقواها.
بين أسباب الفجور والطغيان، وأسباب التقوى والإيمان.
إنها مقارنات تفترق وتلتقي، ومتقابلات يدركها الذكي.
إنها تتضح لأولي الألباب، وتخفى على المسرف المرتاب.
مقارنات تظنها متباعدة، وهي متساعدة.
وتظنها متضادة، وهي متعاضدة.
تظنها متعددة، وهي متوحدة.
تظنها متناقضة، وهي متطابقة.
هكذا هو القرآن المقروء متقارب تظنه متباعد وهو متقارب موحد، فهو ترجمة للقرآن الكوني.
وانظر معي إلى بعض هذه المعاني:
تظن أن الشمس تناقض الماء، وهي معه تتعاون على النماء.
تظن أن البحر يختلف عن البر، وهما كفان يتعاونان على منح الإنسان العطاء أكثر.
تحسب الشتاء يجافي الربيع، وهما وجهان للجمال البديع.
تحسب الرمال ضد السيول، وهي تعاضدها على الوصول.
تحسب الجبال تناقض السهول، وهي مخازن الخير والحطب والمحصول.
تظن أن السماء والشموس والكواكب والأقمار بعيدة عن الأرض، وهي زينة ورجوم وبروج وحصون تحمي الأرض وتصون ومسخرة للإنسان بأمر الرحمن.
وإذا عدنا إلى القرآن المقروء سنجد التقارن فيه كذلك.
فأنت قد تظن أن الصلاة تعارض الشهوات وهي التي توصلك إلى ما تشتهي.
تظن أن الجهاد يعارض الحياة، وهو في الحقيقة هو الحياة العزيزة.
تظن التقوى تقف ضد الزينة والرخاء وهو الزينة الحقيقية من كل سوء، وهو اللباس الذي يستر كل سوآتك.
تظن الإنفاق ينقص المال والبخل هو الأمان، مع أن الإنفاق هو النمو والأمان والبخل هو النقص والحرمان والخوف والأحزان. وهو العسرى، وهو الذي يردي في نار لظى، (لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى) ( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) لأنه يحرم من عطاء الله في دنياه وأخراه.
تظن أن الصدق يردي، وأن الكذب ينجي، ولكن الواقع هو أن الصدق هو الحصن الحصين، من كل خطر في الدنيا ويوم الدين. وأقرأ قول الله:
(هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) [المائدة:119].
ولو أردت المزيد لزدنا ولكن لعل هذا يكفي، أيها القارئ الذكي.
فقد أريتك النجد وعليك سلوك الطريق إلى هذا المنوال لتجد الجمال والجلال .
سبحان من أنزل القرآن ذكرا لأولي الألباب، وهاديا للحق والصواب، منيرا طريق الفوز العظيم.
وسبحان من علم كل شيء القرآن، وعلم الإنسان البيان، ليستبين طريقه على هدى القرآن.
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء:9].
والآن هل لي أن أقول لكم إن القرآن يعلمنا القرآن؟!
ولقد عرفتم أن معنى الكلمتين مختلف بمعنى أن القرآن الأولى تعني القرآن المقروء وأن الثانية تعني النظام. وعلى هذا فالقرآن المقروء المنزل من رب العالمين بلسان عربي مبين يعلمنا القرآن أي الاقتران بنظام وانسجام وصلاح وسلام مع كل المخلوقات من حولنا ومع بعضنا فلا نطغى في الميزان على شيء من الجماد والحيوان ولا على أحد من بني الإنسان بل لا بد أن نقيم الوزن بالقسط ولا نخسر الميزان.
فلا نفسد في الأرض بعد إصلاحها ولا نعتدي على شيء منها إلا بالحق والقسط والإحسان ولا نفعل الفاحشة ولا نشيعها ولا نفعل المنكر ولا نسكت على فعله ولا نبغي على بعضنا ولا نرضى به بيننا ولا على غيرنا من الخلق والحيوان.
هذا هو المطلوب من الإنسان وهذا هو واجب الإنسان أمام ربه الرحمن الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والذي يقول: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)[النحل:90].
هذه الآية أجملت وأوجزت ما يأمر به الله في القرآن واختصرت ما يريده الله من الإنسان عبر الزمان وفي كل مكان، ولو أردنا التفصيل لطال المقال وتشعب المجال.
ولكني أعود فأقول: إن القرآن يعلمنا القرآن.
إننا حين نقول القرآن يعلمنا القرآن فإننا في نفس الوقت نعلم أن القرآن أنزله الله الرحمن الرحيم الذي له الأسماء الحسنى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)
فهل تتصورون معي مدى عظمة هذا المصدر الذي جاء منه هذا القرآن؟ هل تدركون مدى علو شأن هذا الرب الذي أنزل هذا الكتاب للعالمين وأظهره للناس بلسان عربي مبين؛ إن أردتم إدراك ذلك فنحن لا نستطيع أن نصفه كما يستحق ولا نحصي ثناء عليه كما وصف هو نفسه وأثنى، فاستمعوا كيف قال وعوا:
(سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم(1)له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وهو على كل شيء قدير)
أليس هذا يكفي؟ بلى، ولكن لديه المزيد (هو الأول والإخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)
أتدركون عمق هذه الأسماء وإحاطة هذه الصفات؟ ثم ماذا؟ لنتابع معا:
(هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)
هل تعرفون ما معنى استوى على العرش؟ هناك عدة آراء ولكن الله يحسم الموضوع فيقول مبينا:
(يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير)
هذا هو بعض معنى الاستواء إنه استمرار علمه بكل شيء وإحاطته بكل حركة وسكون.
وليس هذا فقط بل هناك المزيد فلنقرأ ولنتابع.
(له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الإمور * يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور)
هذه هي الآيات الأولى من سورة الحديد من 1-6.
فتأملوا كيف أنه محيط علما بكل خفايا الأكوان وأسرار الإنسان وأنه المحرك والمدبر لما يدور ويجري في كل حال ومكان، أينما كان، وأنه الحاكم في كل أمر وشأن، ومنه تبدأ الأمور وإليه مرجعها والمصدر.
ثم ألا تلاحظون أن الآيات تنبه الإنسان إلى أن لا يظن أنه بعيد مستثنى عن هذا العلم والتدبير فالله يذكره بأنه من أهم هذه الكائنات شأنا وأن الله معه أينما كان وأنه بما يعمل بصير، وأن الله كما يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل في جوف السماء الواسع وفضائها المثير، فهو المطلع على ما في جوف الإنسان الصغير وهو به خبير ولهذا قال، (وهو عليم بذات الصدور)
فهل بعد هذا البيان من بيان لمن يريد أن يفهم مدى سعة وعمق العلم الذي يلقاه في القرآن؟
إنه علم من هذا العلم الواسع الذي يختص به الله العلي العظيم.
وإذن فإن على الناس أن يوقنوا بأن هذا القرآن هو العلم الذي ينير وهو الحق الذي لا ريب فيه وهو الصراط المستقيم وهو الذي يعلمنا كيف نتعامل مع كل ما حولنا من الأشياء والمخلوقات الصغرى والكبرى بأسلوب سليم وبسلوك مستقيم لا عوج فيه ولا فساد ولا بغي ولا إحباط ولا انحراف ولا عناد، إنه طريق الانسجام مع كل الأنام، والهادي إلى إقامة الميزان بالقسط والنظام، وهو النور الذي يبدد الحيرة والظلام، ويصد الظلم والبغي على مدى الأيام، وينشر ظل الحب والوئام، والأمن والسلام فلا عدوان ولا طغيان، ولا جوع ولا حرمان، ولا مسكنة ولا يتم ولا إذعان، ولا خوف ولا أحزان، ولا حرب ولا أضغان، ولا عسر ولا خسران، ولكن سعادة واطمئنان ، وحب وأمان، وبركات من السماء والأرض مضاعفة مدى الأزمان.
هو هذا القرآن يا أيها الإنسان الذي أنزله إليك ربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، فيه تتعلم وتعلم، وبه تسعد وتسلم، وتفوز وتغنم، وتكون في الدنيا والأخرى ممن رضي الله عنه وأكرم.
فإن أعرضت عنه كانت حياتك ضنكا، وعلمك شكا، وطريقك معوجا، ومنطقك لججا، وعيشك نكدا، وعمرك كدا، ولن تفلح إذا أبدا.
فماذا تعلم غير ما علمك ربك؟ هل تعلم ما تكسب في غدك، إنك لا ترى ماذا وراء إذنك، بل إن ما تحت جفنك وفوق خدك غيب عندك، وهو أقرب شيء إلى عينك، فما بالك بما بين يديك وما خلفك من السماء والأرض، وما فوقك وما تحتك من الأجرام الصغرى والعظمى، إنك لا تدري عن ذلك شيئا، ومع ذلك تدعي معرفة الأسرار وأنت عن ربك بعيد، وتريد نيل الخيرات وأنت عنه تحيد وتبغي أن تسخر لك القوى والطاقات وأنت تنس خالق الأرض والسماوات، وتركن إلى ظنونك الواهنات.
وبعد: هل سلمت معي أنك ضعيف عاجز؟ وأنك بدون ربك وعلمه غير فائز.
إذن فكيف تتغلب على ضعفك والعجز؟ وكيف تنال النجاح والفوز؟
ليس أمامك إلا هذا القرآن الذي يعلمك فيه الرحمن كيف تقترن بغيرك من الكائنات، وكيف تتعامل مع إمكانياتها والطاقات، وكيف تفتح لك منها البركات، وتنهال عليك الثروات، وتسهل لك الممتنعات، وتسخر لك العسيرات، وتلين لك القاسيات، وتسير إليك الراسيات، وتظهر لك الغائبات، وتستجيب لك المستحيلات، وتلبى آمالك ومطامحك النجوم والذرات البحار والمجرات.
هل تظن أن ما أقوله أحلام وأمنيات؟ وأوهام وخيالات؟.
كلا كلا، إن ذلك ممكن لو كنت لله عبدا، وجعلت هداه هو الهدى، فلقد تحقق المستحيل لإبراهيم وزكريا فأصبحت العاقر ولودا سويا، ولقد استجابت البحار العميقة وانجابت الظلمات الكثيفة ليونس ذي النون فكان من الناجحين لأنه من عباد الله المسلمين.
ولقد ذللت الريح العاصفة واستسلمت الجان لعبد من عباد الله المخلصين المسمى سليمان.
فهل يطمح إلى مثل هذا التمكين إنسان لكنه تمكن منه لأنه استسلم لربه الرحمن واتبع هداه بيقين واطمئنان فكانت القوى الصعبة الجامحة في يده طائعة سانحة، بل لقد انزوت له المسافات واختزلت له الأوقات فإذا به يحضر عرش ملكة سبأ في سرعة تفوق سرعة الضياء، فهل وصل إلى هذا الإنجاز العلمي الرائع أحد بعد سليمان النبي؟
قد تقولون إنه نبي من الله، وأنا أقول: كلا، ولكنه نال ذلك لأنه عبد الله ولقد وصفه الله بقوله: (نعم العبد إنه أواب) ونحن نستطيع أن نكون مثله، لا أريد أن أعدد الأمثلة، فهي في القرآن واضحة ماثلة.
ألسنا نقرأ سورة [القدر] إنها مثل من الأمثلة الماثلة، وهي لكل قارئ متناولة، وفي الألسن متداولة.
أسألكم هل الله في هذه السورة يتحدث عن القرآن أم عن الليلة؟ إنه يتحدث عن القرآن فهو يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) أليس الضمير في أنزلناه إلى القرآن؟ بلى، ثم ماذا؟ ثم يتساءل عن دراية الإنسان بقدر هذه الليلة فيقول: (وما أدراك ما ليلة القدر) وهو تساؤل يفيد التعظيم والتشويق إلى الخبر الذي يحمله إلينا عنها، ثم يأتي الخبر لكل من تدبر، فاستمعوا: (ليلة القدر خير من ألف شهر) لعل هذا يكفي ولكن هناك المزيد من الصفات التي ترفع قدرها وتعلي، فما هي:
(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر)
هل عرفتم الآن قدر هذه الليلة؟ وهل أدركتم سرها؟ وهل علمتم أمرها؟ إن الآيات واضحة لمن تدبرها.
ولكن هل يعني هذا أن نقف عند الليلة وننسى المحتوى الذي حوت والفحوى الذي إليه أشارت فما هما؟ إنها حوت إنزال القرآن، وهي بتلك الصفات والسمات ، هذا هو الذي حوت، فما هي الفحوى؟
هنا يكمن السر الذي لم يدركه الناس ولم يعوا، وهنا يقع المعنى العميق الذي غفل عنه المسلمون وفي عمقه وقعوا ولم يرتفعوا.
إن هذه الغفلة أنستهم عظمة المحتوى وفضله وسمو الفحوى لمن عقله.
إن فحوى السورة يؤكد لنا أن هذه الليلة إذا كانت بهذه الصفات العليات والسمات الساميات فإن ما حوته من الإنزال فيها لا بد أن يكون محتويا على تلك السمات ومتسما بتلك الصفات إن لم يكن أكثر وأوفر حظا.
وكيف لا يكون كذلك وهو المحتوى والليلة الوعاء؟ ولا شك أن المحتوى لا بد أن يكون أغلى وأثمن وأنفع من الوعاء الذي حواه وإلا فإني أسألكم سؤالا بديهيا، هل يمكن أن تضع صدفا في حقيبة من ذهب أو حتى من فضة؟ كلا، ولكن قد تضع ذهبا في حقيبة من صدف أو خزف أو حتى فضة، لكن المحتوى لا بد أن يكون أغلى وأشرف.
وإذن فإذا كانت الليلة لها تلك الصفات وقد حوت هذا التنزيل ؛ فإن المنزل فيها لا بد أن يتصف بما اتصفت به بلا شك.
فهي مباركة وهو مبارك وهي سلام وهو سلام، وهي تنزل فيها الملائكة وهو تنزل به الملائكة وتنزل عل من تلاه. وهي خير من ألف شهر، وهو كذلك على مدى الدهر.
لكن الغفلة قد أخذت المسلمين والتصور قد ران على المرتلين فاهتموا بالليلة ونسو الآيات المنزلة واهتموا بالوعاء ونسو المحتوى فإذا بهم ينتظرون هذه الليلة طيلة العام في كل عام، فإذا أهلت أو ظنوا أنها قد حلت أقاموا الصلوات ورفعوا الدعوات وأكثروا الأمنيات فإذا ذهبت الليلة ودعوها ورقدوا وظنوا أنهم قد ربحوا هذا على فرض أنهم قد عرفوا تحديد موعدها مع العلم أنهم مختلفون فيه فهي تدور بين الليالي العشر الآخرة بدون تحديد.
لا سيما إذا ما عرفنا أن بعض الأقطار تبدأ الشهر قبل أو بعد سواها.
وهذا يؤدي إلى اختلاف ليالي القدر فالليلة السابعة والعشرين في قطر هي الثامنة والعشرين في آخر أو السادسة وإذن فأين هي الحقيقة لموعد الليلة وأي التحديد أصح لها؟ لا ندري.
وهكذا يصبح إدراكها لأحد الأقطار مشكوكا فيه إن لم يكن للجميع.
وعليه: فما هو السبيل في إدراكها للجميع بدون فوات؟ إن السورة توضح ذلك وتحدده وتجعل إدراكها سهلا وممكنا باستمرار.
قد تسألون كيف؟
والجواب يأتي في سؤال آخر أوجهه إليكم هو:
هل تدركون ماذا يعني إنزال القرآن في ليلة القدر، هذه الليلة الموصوفة بأنها خير من ألف شهر وبأنها ليلة مباركة وغير ذلك من الصفات المعروفة؟
إن ذلك يعني أن صفاتها ليست مؤقتة بها وليست موقوفة عليها ولكنها دائمة الوجود ميسورة الظهور في كل يوم وحين في هذا القرآن المبين الذي أنزله رب العالمين.
فكأن الله يقول:
هل تريدون أن تكون حياتكم كلها ليلة قدر؟ هل تريدون أن تكون أيامكم كلها موصوفة بصفات ليلة القدر؟ هل تريدون أن تكون أعمالكم حكيمة مباركة وعلاقاتكم سلاما تنزل عليها الملائكة؟
هل تريدون أن تكون عيشتكم واسعة هنية بصورة سوية؟
هل تريدون ما لا يحلم به خيال من الجمال؟
هل تريدون ما تعجز عنه العقول من الكمال؟
هل تريدون حكمة الله معكم ، وعلمه ونوره بين أيديكم؟
هل؟ هل؟ هل؟ وإلى ما لا نهاية من الأحلام التي تتحقق والآمال التي تنال والسعادة والاطمئنان والعزة والأمان.
هل تريدون الفلاح في الدنيا والأخرى والفوز برضى الله؟ نعم نعم يا رب.
إذن عليكم بالقرآن إنه الحياة لكم من الموت، ونور يسعى بين أيديكم وبأيمانكم في ظلمات الجهل، (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) [الأنعام:123].
هذا أيها الأعزاء هو معنى (إنا أنزلناه في ليلة القدر. . الخ السورة).
إنه إخبار لنا أن صفات ليلة القدر دائمة البقاء ظاهرة الأثر لمن عمل بالقرآن وتذكر والتزم به وتدبر.
(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) [ص:29].
فهو للجمال الباب وهو للكمال اللباب وهو للخير والفلاح طريق الصواب، وهو النور لأولي الألباب.
أما من كذب واستهزأ فليس له إلا الخسار والعذاب ولا يزيده إلا طغيانا وكفرا وتباب.
إنه علم من الله علام الغيوب، ونور من الله نور السماوات والأرض وحكمة من الله العزيز الحكيم، إنه باختصار يشع بأجمل وأسمى آيات الله الحسنى ويكسو الناس وحياة الناس بمعانيها العظمى.
فهل لكم بعد هذا أيها الناس من سبيل سواه ؟ وهل لديكم أيها الناس هدى غير هداه؟ كلا كلا فإنما هو العمى والأهواء.
(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف:108].
(قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [البقرة:120].
(من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف:17].
وبعد فتعالوا معي نتأمل كيف أن صفات ليلة القدر قد وصف بها القرآن في كثير من الآيات البينات ولن أستقصي ولكني سأضرب أمثلة فقط أليست ليلة مباركة؟ والقرآن مبارك؟ واقرأوا الآية السابقة من سورة (ص) أليس يفرق فيها كل أمر حكيم؟ (يس * والقرآن الحكيم) (تبارك الذي نزل الفرقان) أليس تنزل فيها الملائكة والروح؟ اقرأوا صفات من يعمل بالقرآن: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون).
أليست من كل أمر سلام؟ اقرأوا قوله تعالى:
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين(15)يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) [المائدة: 15و16].
أليست خير من ألف شهر في العطاء والبركات؟ اقرأوا قوله تعالى:
(ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهمبما كانوا يكسبون) [الأعراف:94].
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء:9].
(ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا)[الكهف: 2و3]
ماذا تظنون بقوله تعالى: (أجرا كبيرا) إنه كبير من الله الكبير الغني الذي عنده خزائن كل شيء وما عنده باق لا يفنى.
وماذا تظنون بقوله (أجرا حسنا)؟ إنه الحسن الذي لا يساويه حسن وليس سواه حسن ولا يأتي إلا من الله المحسن البديع الغني الوسيع ومع ذلك فهذا الأجر الحسن يحيط بكم ويبقى نزلا معدا لمكثكم أبدا أبدا إلا أنه العطاء الذي لا يقدر عليه أحد أبدا إلا الله.
هذه مجرد مقارنة سريعة لتعرفوا أن سورة القدر ليس المراد بها الاهتمام بالليلة بل بما نزل فيها وليس المراد التماس الليلة ولكن التماس ما نزل فيها. ثم ولماذا ننتظر الليلة وهي لا تأتي إلا مرة في العام؟
وبين أيدينا ما احتوت عليه مستمر العطاء على الدوام.
ولماذا نحضر نفوسنا في ليلة وبين أيدينا بركات وخيرات تملأ الدهر كله ولماذا نقنع بليلة وأمامنا كل الأيام ولياليها لتكون كلها مباركة وتنزل فيها الملائكة ونبسم بالخير والسلام ويطلع فيها الفجر البسام الذي يجلو كل ظلام والجمال الذي يمحو كل قبح وآلام.
إن القرآن هو الباب لمن أراد ذلك العطاء المنهمر.
وهو السبيل لمن يروم ذلك النور المستمر، وهو الهادي إلى السلام والخير المنتشر والنمو الكامل والأمان الشامل.
إن عملا واحدا بهدى القرآن يساوي ألف عمل لسواه بل يفوق. وإن يوما واحدا في ظل العمل بالقرآن يساوي بل يفوق ألف شهر بل هو خير من ألفي شهر، ولتعلموا أن كلمة خير تعني وتشمل كل جوانب الجمال والكمال فكيف لو كان العمر كله؟ والزمن كله يمضى على هدى القرآن إذا لتضاعفت من الله البركات والخيرات والمنجزات والإبداعات ليصبح ما نناله في ليلة وضحاها يفوق ما نحلم به على مدى القرون مهما طال مداها ويصير ما ننجزه في يوم واحد حافل يفوق ما نحاوله في قرون بلا طائل، ذلك لأننا في ظل القرآن نمضي على هدى الله ونوره ونسعى بأعينه ووحيه وعونه لكنا مع الجهل والهوى نمضي في ظلمات بعضها فوق بعض (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)
وكيف لا وهو علم من علم الله علام الغيوب؟ الذي لا يعزب عنه شيء في السماوات والأرض ولا يغيب ولا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
ولكي ندرك هذا المعنى الجميل في القرآن وهذا المقام الجليل للقرآن فإني أدعوكم إلى تلاوة بعض الآيات التي تتحدث عن القرآن فماذا ستجدون في هذا المشوار من البيان؟
ستجدون أن الله حينما يتحدث عن هذا القرآن يتبعه غالبا بأسمائه التي تدل على العلم والقدرة والإحسان والإبداع والجمال والحكمة لكن صفة العلم مع ذلك غالبة مهما تعددت الأساليب واختلفت الكلمات والتعابير. ولكي أختصر لكم الطريق؛ فسأدخل معكم إلى المجال ليتضح لكم الجمال فلنبدأ على بركة الله ذي الجلال.
لنبدأ بسورة طه، ولنقرأ من أولها إلى الآية: 8.
(طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)
أنظر أخي القارئ كيف أوضح الله أن مصدر هذا التنزيل ممن خلق الأرض والسماوات العلى ثم قال: (الرحمن على العرش استوى) والرحمن يعني أسماء من أسمائه العظمى التي تدل على عدة من أسمائه الحسنى وأهمها العلم ولهذا قال (على العرش استوى) فالاستواء هو الاستمرار في العلم بما يجري في خلقه والإحاطة بما دق وجل وظهر واختفى ولهذا قال مؤكدا علمه وإحاطته بكل شيء:
(له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى)
ثم لم يترك الإنسان الذي هو شيء هام في هذه الكائنات فقال ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب إليه :
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)
فالإنسان معني بهذا القرآن فإذا كان تنزيلا ممن تلك صفاته وممن يعلم سر الإنسان وأخفى منه؛ فإنه هو الذي يرجى ويدعى ويخشى وهو الذي يهدي إلى خير الهدى، (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) فسبحانه المنزل القرآن الكريم والهادي إلى صراط مستقيم وهداه هو الهدى.
هذا عرض سريع لمعاني الآيات، ألا تلاحظون أن العلم هو أبرز معاني الصفات الواردة لله في هذه الآيات؟ فهو علم للإنسان من الرحمن، ثم إذا شئتم مزيدا فلنقرأ معا أول سورة السجدة إلى الآية9:
(الم(1)تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين(2)أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون)
نعم إنه تنزيل من رب العالمين وهو الحق من ربك، فما هو هذا الرب؟ ها هو البيان:
( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) صدق الله العظيم [السجدة: 1-9].
أرأيتم كيف أتبع الخبر بإنزال القرآن بأهم صفات العلم؟ فهو(من رب العالمين) ورب العالمين لا تعني إلا الإحاطة بكل شيء والقرب من كل مخلوق والتدبير لكل صغير وكبير ونجم وقطمير، ثم أوضح وبين ما أجمل في (رب العالمين) بقوله:
(الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش)
فالخلق يعني الإبداع والابتكار على غير سابق مثال، وحفظ كل مخلوق وإمساكه عن الزوال، والقدرة على تسييره والهيمنة عليه في كل حين وحال.
أما الاستواء على العرش فهو يعني الاستمرار في العلم بما خلق والإصلاح لكل ما جل ودق، والإجابة لكل من دعى وعلى الباب دق، ولهذا قال: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)
فهو الولي الذي يدعى ويرجى ويخشى وهو الشفيع الذي بيده الأسباب وهو الذي يأذن لها بالنفع أو الضرر، وبدون ذلك ليس لها أثر، وهذا معلوم لمن تذكر (أفلا تتذكرون) فتدركون أن كل سبب وأثر بيد الله وأنه هو العليم بحال كل شيء، والرحيم بكل شيء وحي، وه والغني وإليه يفتقر الجميع (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) ومع علمه ورحمته وحكمه وقدرته فهو (الذي أحسن كل شيء خلقه) ثم خص الإنسان بما يميزه عن سواه، وفي حسن تقويمه سواه، وحسب الإنسان وكفاه تكريما أنه نفخ فيه من روحه وأعلا شأنه عنده، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، ألا أن هذا الذي أحسن الخلق وصور، لجدير بأن يشكر، وما الشكر إلا أن يعبد ويحمد ويرجى ويقصد وعلى هداه يعتمد، ألا وإن القرآن هو الهدى الذي جاء فيه علم الله وحكمته للإنسان، لينال به السلام والسعادة والأمان.
ولكن الله العليم بما كان وما يكون يصفنا بقوله (قليلا ما تشكرون)
وذلك هو الخسران وهو الحرمان من العلم الذي يأتيه من الرحمن إنها هذه الآيات دعوة للإنسان ليقبل على هذا العلم الذي خصه به عالم الغيب والشهادة تفضلا منه ورحمة بعباده وإلا فهو الغني عمن كفر والعزيز عن كل البشر.
لكنه رحيم بهم وإن يشكروا يرضه لهم، بل ومن فضله يزيدهم.
وبعد: فحسبي هذه الكلمة تعقيبا على الآيات فهي بينة لمن تذكر واضحة لمن تفكر فيا سعد من شكر واستجاب لربه الأكرم ومن علمه اغترف وتعلم، وبنفسه زكى وكرم.
والآن: هل أزيدكم بعض البيان؟ وهل أقدم مزيدا من البرهان على أهمية وسمو العلم الذي جاءنا في القرآن.
اقرأوا إن شئتم آخر سورة الحشر تجدوا ما هو أعظم.
(لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)
هل قرأتم بإمعان ؟ هل تفكرتم في هذه الأمثال الحسان؟
لو تفكرتم لخشعتم لله تصدعا، ولخشيتم الله تضرعا ولكن صبرا فإن ما سيأتي يدعو كل ذي لب إلى الخشوع منه إجلالا وإلى الخشية له امتثالا فاستمعوا كيف أوضح لنا مصدر التنزيل، إنه مصدر صاف جميل ومقام رفيع جليل ومنبع عذب سلسبيل، هل أنتم على استعداد للارتفاع معي إلى هذا المقام؟ إذن فلنقرأ معا ما يأتي باهتمام:
(هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون)
أسمعتم بتدبر؟ أقرأتم بتفكر؟ أعلمتم بتذكر؟
لو كان ذلك قد حصل فإنه لا مفر لي ولكم من الوجل لله الأجل.
ولا بد من التعظيم لمن أنزل، ولما نزل لنا وبه علينا تفضل، وكيف لا وهو من هذا المصدر الأسمى، وهو الله الذي له الأسماء الحسنى.
إنه فضل وكرم عظيم، ونعمة ورحمة لكل عقل سليم.
إنه قرآن منزل بالهدى وبالبينات، ممن له تلك الأسماء والصفات، فماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن ننال من معاني تلك الأسماء ما به تسمو إلى المقام الأسنى، فننال الرحمة والعلم، والسلام والأمان والعز والإيمان، والبراءة من الشرك ومن الذل للطغيان، إنه يعني أن العمل بالقرآن والإقبال على تدبره بإمعان أن تكون من أولي الحكمة والعرفان (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) فلا يخفى علينا سر ولا يصعب علينا شيء فالله فالله لنا سخر، ولا يمسنا ضراء بل تصبح الحياة يسر وسراء.
إنه يعني أن حياتنا تكون واسعة حسنى لا ضيقة ضنكا وأن لنا في كل حال وحين من الله خيرا وعونا، وأن نكون برعايته منتصرين على كل شيء، آمنين من كل ضر، موفقين لما ينفع ويسر، وكلنا على صراط الحق مستبصر، فلا يضل ولا يشقى ولا يخاف ولا يحزن أبدا ولا يخشى غير الله أحدا.
إنه مقام المخلصين المسبحين الموقنين القانتين الصادقين الصديقين المصلحين الصالحين العلماء الراسخين الشهداء الشاهدين ومع النبيين في عليين.
إنه مقام رفاقنا فيه النخبة الأبرار المتقون، والسابقون المقربون، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين أولئك هم السعداء في الدنيا والأخرى، وهم الذين يرثون الفردوس الأعلى، وحسن أولئك رفيقا.
فهل نحن نسموا إلى هذا المقام ؟ هل نطمح إلى هذا الفلاح والإكرام؟
لا شك أن كلنا يهوى الفوز العظيم والنعيم المقيم. فهل تدرون أن طريقه القويم هو هذا القرآن الحكيم. إنه هو لا سواه لأنه تنزيل العلي العظيم، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.
ومن يهدي ومن يعلي ويرفع سواه؟ ومن يعطي كعطاه؟ لا أحد لا أحد إلا هو الله أحد.
فهيا إذن إلى القرآن نتدبر ونتذكر ونسمو إلى المقام العلي عند مليك مقتدر.
وإذا أردنا مزيدا عن هذا القرآن لننقل النظر من الحشر إلى آل عمران، فماذا نقرأ في أول السورة والعنوان؟ (الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم) هل أدركتم هذا الاستهلال الجميل الجليل؟
فهو الله الذي لا يشاركه شيء في الألوهية، ثم هو الحي القيوم.
فهو الحي الذي منه حياة كل شيء هو الحي الذي لا يموت وكل شيء هالك إلا وجهه، وهو القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القائم على كل شيء بالقسط وبه يقوم كل شيء وبدونه يزول وهو الذي وهب للناس العقول ليقوم الناس بالقسط والميزان ويقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان . فكيف يمكن هذا للإنسان؟ إنه بهدى الله في القرآن.
ولهذا جاء بعد تلك الآية العظيمة الاستهلالة الجميلة قوله تعالى:
(نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان)
فالكل من مشكاة واحدة ومن مصدر عظيم واحد هو الحي القيوم الذي لا يموت ولا ينوم فهو الهادي وهداه هو الهدى الذي ينير للناس على المدى ويمنحهم الأمان والفوز في الدنيا والأخرى.
وإذن فإن المخالف بهذا الهدى والمنحرف عن هذا الطريق هو الهاوي في مكان سحيق، وهكذا جاء للآية الختام فقال الله العلام، (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام)
وهذا هو الذي يستحقه من استهان بآيات الله العلي العظيم. لقد اتخذ إلهه هواه واتبع الشيطان الرجيم.
ثم إن الله كما وصف نفسه بالعلم المحيط في الآيات التي أوردناها قبل هذه من السور فإنه هنا يؤكد نفس المحور فيقول: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)
نعم نعم يارب هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ولا مراء، وإنه لواضح في كل حال وحين، ألم يخلق الله الناس ويصورهم من ماء مهين فجعلهم بعلمه وقدرته سامعين مبصرين وفي أحسن تقويم معتدلين، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وها هو الدليل يلي في الآيات بشكل مبين، فالله يقول للعالمين:
(هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء)
أليس هذا هو الواقع بلا مدافع، من ذا الذي يختار لنفسه الحجم والوزن واللون والصورة؟
من ذا الذي يعلم ماذا يجري في ظلمات الأرحام؟ من أطوار ومن خلق بعد خلق بدقة وانتظام.
لا أحد يدري ولا يعلم ولا لأحد في ذلك مشاركة أو أسهم.
بل هو الذي يصورنا كما يشاء وهو الذي يختار، (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) هكذا يختم الآية ويقرر وبهذه الحقيقة يجب أن نقر وله نعبد ونكبر.
وبعد: فلا بد أن أشير في النهاية إلى قضية هامة وحقيقة ظاهرة ذلك أن كل الآيات التي أوردناها من مختلف السور والحافلة بصفات العلم لله لا بد أن نعرج على الإنسان.
ونخبره أن العلم الذي عند ربه، متصل ويحيط به في كل حال وطور من أحواله وأطواره وفي مختلف تقلباته وجوانبه.
فالله هو الذي يعلم عنه السر وأخفى وهو الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، بل هو الذي خلقه من طين ثم طوره إلى سلالة من ماء مهين.
ثم رقاه إلى خلق آخر ذي سمع وبصر وفؤاد مبين.
فواجبه أن يعبد ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
فتلك هي المهمة التي خلق لها وهي الأمانة التي حملها وهذا هو الحق الذي به خلق الله الأرض والسماوات وما بينهما، وهو الذي يدعو إليه الإنسان، ومع كل الأنبياء والمرسلين، وفي كل الكتب وفي التوراة والإنجيل والقرآن.
ألم يقل الله في هذه السورة (نزل عليك الكتاب بالحق) فالحق هو الذي يجب أن يقوم في حياة الإنسان، لأن كل شيء به محكوم، وعليه الأرض والسماوات تقوم، وتذعن للحي القيوم.
وهكذا يكون القرآن، هو الهادي إلى الحق والميزان، الذي قامت به كل الأكوان.
وبناء على هذه الحقيقة فإني اختم هذا المحور بأروع وثيقة. فلو تأملنا سور القرآن وتدبرنا الآيات بإمعان، لوجدنا أن فيه خمس سور تبدأ بالحمد لله. هي الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر. ثم ماذا؟
إن هناك أربعا منها تبدأ بالحمد لله على شيء عظيم فهو يحمد لأنه رب العالمين [في الفاتحة]
وهو يحمد على أنه: (الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) [في الأنعام]
وعلى أنه (الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الإخرة وهو الحكيم الخبير) [في سبأ].
ثم وبعدها: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا) [في فاطر]، فهو المحمود في الأربع لأنه خلق السماوات والأرض وأبدع وأقامها على الحق الذي به الباطل يزهق، فماذا بقي بعد ذلك؟
لكنا لو عدنا إلى الوسطى أي إلى واسطة العقد في الخمس السور وهي سورة الكهف، فماذا سنجد؟
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا)
فالسورة تبدأ بالحمد لله، على ماذا ولماذا؟ إنها تنفرد بشيء دون سواها، إنه إنزال الكتاب، هل تدرون ماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن إنزال الكتاب على عبد الله ورسوله إلى العالمين يساوي خلق السماوات والأرض ويساوي خلق كل العالمين.
لماذا؟ لأنه نزل بالحق وكل شيء في السماوات والأرض وكل العالمين قائم بالحق ومخلوق بالحق.
فليس لعبا ولا عبثا، ولا باطلا ولا سدى. (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)
إذن فالإنسان لا يستطيع أن يسير في موكب الحق إلا بهذا القرآن وإلا فحياته باطل وبهتان وهكذا أصل بكم إلى هذه الحقيقة العظمى للقرآن وأختم هذا المحور الأول من مفردات القرآن التي كان أولها كلمة [قرآن].
والآن فإني أدعوكم للعودة إلى ما قررناه قبل الآن وهو أن القرآن يعلمنا القرآن.
ألا تتذكرون هذه العبارة، القائمة كالمنارة؟
إنها حق لا ريب فيه وواقع لا جدال فيه، فالقرآن يعلمنا كيف نقترن مع هذه المخلوقات العظام، وكيف نسلك معها باتزان وانتظام، وكيف نتعامل معها بصلاح وسلام.
ثم كيف نتعامل مع بعضنا البعض ومع أنفسنا بعدل واتزان، فلا نطغى في الميزان، ولا نخترق الاقتران، ولا نفجر الاطمئنان، ولا نتعدى نظام الرحمن، الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان.
إلا أن على الإنسان أن يفهم أن الخروج عن صراط القرآن هو الهم والغم وأن الانفلات من هدى ذي الجلال هو العمى والضلال وأن الفرار من حكمه هو الفساد والانحلال، وأن الاعتماد على الهوى هو الخسران والوبال، وأن عبادة المال هو الحروب والافتتال، وأن اتباع الطغاة هو الهلاك والوبال، وأن الجهل بعلم القرآن هو الذل الذي يطحن الجبال، ثم ماذا بعد؟ ثم وهو الأدهى والأمر لكل البشر، الحشر إلى جهنم ولبئس المستقر. وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير مع الحاضر ومن غبر، (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الإخرين * كذلك نفعل بالمجرمين) [المرسلات: من16 إلى19].
إن لم تصدقوا كلامي فانظروا في حال العالم اليوم، إلا إن ملامح الهلاك على الأحوال واضحة، وأن أسواط العذاب على ظهور العالم جامحة، والرمضاء والبأساء والضراء تحت أقوالهم لافحة، وأن أظافر الفقر والجوع على جلودهم جارحة.
هذا ملموس لكل ذي لب مستنير، رغم المال والثراء الكثير، نعم إن الثروات كثيرة، ولكن الكوارث مستطيرة، وإن الخيرات متدفقة، ولكن الخلافات منبثقة، والصناعات والزراعات والعمارات واسعة ولكن الجموع عارية جائعة.
الإنسان يطور سلاح الدمار، ويطلق الصواريخ والأقمار، لكنه يعجز عن تضميد جراح المرضى وتوفير العقار، يرصد أجهزة التجسس على السائرين والنائمين، لكن الذعر يعتري قلوب الراصدين والمرصودين.
مسكين هذا الإنسان يطور السلاح ويطلق الصواريخ والأقمار للحرب والدمار، وحماية الطغيان والاحتكار، لكنه يعجز عن تضميد جراح مظلوم ويبخل عن قيمة العقار، يرصد الملايين لأجهزة الرصد والتجسس على الساهرين والنائمين والقاعدين والسائرين، لكن الذعر يغتال الراصدين والمرصودين والساهرين والنائمين ويظن شركات التأمين هي الأمان المكين لأصحاب الملايين، لكن الخوف يعصف بالملايين وأصحاب الملايين.
الإنسان يكنز في البنوك الأموال، ويخترع أبشع وسائل الاستغلال، ويوسع شركات الاحتكار في كال مجال يظنها الأرباح والنجاح للكانزين والمحتكرين لكن الهلع ينهش المستغلين والمستغلين، والفزع يرعش المستكبرين والمتسضعفين، والإنسان يظن سعة الملاعب وباذخ الملاهي وفاخر القصور، تجلب الفرح والسرور.
لكن الحزن والضجر، يسكن الأكواخ وخيام النشئ وفاخرات الدور والخوف يخيم على الأفراد والجموع ويخترق الأفئدة التي في الصدور.
إنه عذاب واصب وقلق دائم، ألم يسطر على العالم والخاسر والقائم؟ فهل من مهرب ينفع؟ هل من ملجأ يمنع؟
كلا إن المزيد من الجشع، يشعل نار الهلع والبغضاء والفزع، إلا أن المفر للإنسان هو في ظل القرآن، إنه في عبادة الرحمن، إنه هو السلام والأمان، هو الخير والاطمئنان، إنه هو المنجي والواقي والحامي من الآلام والكروب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
وما هو ذكر الله المراد في هذه الآية؟
إن ذكر الله المراد هو العلم الذي جاء به القرآن وسيأتي لكم في هذا الكتاب ما يؤكد هذا المعنى للذكر ويكفي أن أدلل على ذلك هنا بقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام لقومه وقد اتهموه بالضلالة: (قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) [الأعراف:61و62]
وإذا كان يعلم من الله ما لا يعلمون؛ فإنه يواصل الحديث معهم فيقول: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون) [الأعراف:63]
بل إن هودا يؤكد نفس المعنى إذ يقول لقومه وقد رموه بالسفاهة (قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين )
ثم يقول: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) [الأعراف:67و68و69].
فماذا يعني لكم الذكر في قولي نوح وهود؟
إنها تعني العلم لا غير؛ ذلك أنهما أبلغا قومهما رسالات ربهما وما الرسالات إلا علم جديد من عند الله لم يكن هؤلاء الجهلاء يعلمونه إلا بواسطة الرسل.
وهل هناك جهل أشد وأظلم من قول قوم هود وقد بلغهم أن لا يعبدوا إلا الله فماذا قالوا؟ استمعوا هذا الجهل المطبق: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) [الأعراف:70]
إنهم يتمسكون بعادات آبائهم وضلالهم المهلك ويذرون عبادة الله وحده وهو الحق الذي يخرجهم من الخوف والذل ويمنحهم حياة مخلدة.
أليس هذا هو الجهل بلا حدود؟ بلى بلى إنه البهتان والتمسك بما لم ينزل به الله من سلطان، وهذا هو العمى والضلال والهوان.
إذن فالذكر الذي جاء به نوح وهود لم يكن إلا العلم الذي استنكره الجهلاء وارتضوه وكذبوا الرسول وضللوا الأول والثاني سفهوه، ألا إنهم هم الضالون وهم السفهاء ولكن لا يعلمون.
ولكي نؤكد الموضوع أكثر فالله يقول في أول سورة (ص) (ص والقرآن ذي الذكر) أي: ذي العلم، وعلى هذا فالله يقول في آخر السورة نفسها (إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين)
أي إنه علم للعالمين وسيعلمون نبأه وصدقه بعد حين بأنه العلم الحق وكذلك حين يقول الله: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء: 10] لا يعني إلا كتابا فيه علم لكم من الله ربكم.
ألم يبدأ السورة بقوله تعالى:
(اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:1و2]
ويقول فيها أيضا: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون) [الأنبياء:42]
ويقول فيها عن موسى وهارون في الآية: 48
(ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين)
من هم المتقون؟
إنهم العلماء الذين يعلمون هذا الذكر فهم
(الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) [49]
ثم يقول في الآية الخمسين بعد ذلك:
(وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) [50]
إذن فهو العلم كما رأينا وكما تضح لنا وهذا ليس إلا قليل من كثير سيأتي في بحث معنى كلمة [ذكر] بإذن الله.
لكني لن أغادركم حتى أعود بكم إلى السورة التي قبل الأنبياء وهي سورة طه، حيث يقول الله بعد أن أخبر رسوله محمدا بأخبار موسى وفرعون وهي علوم لم يكن يعلمها ولا سواه، يقول الله:
(كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) [طه:99/100]
ثم وعن سجود الملائكة لآدم وإباء إبليس ثم وسوسته لآدم، ماذا يقول الله بعد ذلك في نفس السورة:
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [123/124/125/126]
أليس في هذا ما يدل على أن الذكر هو العلم فالآيات لا تحوي سوى العلم.
والآن وقد عرفنا أن المراد بالذكر هو العلم، وأنه كما يقول الله (ذكر للعالمين)، فكيف يكون ذكرا للعالمين وهو لم يصل إلى العالمين؟ هل يقول ما لا يتحقق؟ هل يعد بما لا يصدق؟ كلا كلا، فلا بد أن يصل هذا الذكر للعالمين ولا بد أن يعلمه كل الناس، ولكن كيف والنبي قد مات؟ كيف يتم ذلك والناس متمسكون بما لديهم من الملل وبالديانات ؟ وما هي إلا أهواء وضلالات.
إنه سؤال مهم ، والجواب أهم لمن يعقل ويفهم.
لكن الجواب عليه واضح البيان، وهو موجود في القرآن، فأين من يقرأون؟ وأين من يفقهون؟ ليؤدوا ما يحملون، لنبدأ من قوله تعالى للمسلمين:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران:144]
نعم ما محمد إلا رسول بلغ ما أنزل إليه من العلم وأوصل ما كلف به من الذكر وصدع بما يؤمر وبشر وأنذر وعلم وذكر ولقد علم بالبلاغ كل من حضر، وللنبي والنبوة عاصر، وآمن به وصبر، واتبع الذكر وتذكر، ولكن هل بلغه إلى من يليه من الأجيال، هل حمله إلى من يجهله من النساء والرجال؟
نعم ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وماتت وهو سيموت وقد مات فهل نحمل ما حملناه من بعده إلى غيرنا؟ أم ننقلب على أعقابنا؟ إذا انقلبنا فإن الله غني عنا ولن يتضرر بالانقلاب غيرنا لأننا أهملنا ما حملنا.
وسيكون الضرر عقاب في الدنيا والأخرى وذل لنا ولمن بعدنا، لكن الأوفياء بحمل الرسالة وتبليغ القرآن لكن الشاكرين الذاكرين المتذكرين المذكرين بالقرآن جزاؤهم على الله فإنه شكور وفي معين، وهو يزيد لمن شكر، وغني عمن كفر، ولهذا قال: (وسيجزي الله الشاكرين) وهو وعد مؤكد من أصدق القائلين، فأين الشاكرون؟ هل تدرون ما هو الشكر؟ هو الوفاء بالعهد والصدق في الوعد ولهذا سمى الله نفسه شكورا، أي: وفيا بما يعد الشاكرين، فأين أين الأوفياء بحمل الرسالة الكبرى ليجزوا من ربهم الجزاء الأوفى (ومن أوفى بعهده من الله) لا أحد إلا الله.
لقد قال الله لرسوله ولنا وللمشركين في عصرنا وقبلنا وبعدنا (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) قالها في سورة التوبة 33، وقالها في سورة الصف9، وهو وعد لا بد أن يتحقق إذا لقي من يحمله وبه صدق، فأين الصادقون؟ أين المرابطون؟ أين الصابرون على الصعاب؟ أين المتذكرون؟ (إنما يتذكر أولوا الألباب)
أيها المسلمون: ألم يقل ربكم لرسوله محمد ولكم(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [سبأ:28]
ويقول: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
وإذا كان محمد قد مات؛ فكيف يكون للناس كافة بشيرا ونذيرا؟
وإذا كان محمد قد لحق برب العالمين مع غيره من المرسلين؛ فكيف يكون رحمة للعالمين؟ وكيف تصل الرحمة إليهم أجمعين؟ هل يخبر الله تعالى بما لا يكون؟ هل يقول الله سبحانه ما لا يتحقق؟
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (ومن أصدق من الله قيلا)
إذن فما الوسيلة لوصول الإنذار إلى العالمين ؟ وما هو الطريق لنشر رحمة الله للعالمين بهذا الرسول الأمين؟
إن الوسيلة بيدكم وأنتم الوعاء الذي يحمل ما أنزل ربكم إلى من حولكم، وإن الواجب ملقى عليكم من بعد رسولكم.
فهل تقومون بالواجب أم تتقاعسون؟ هل تنفرون للدعوة أم تتثاقلون بالشهوة؟
(إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) [التوبة:39]
إنكم مكلفون بنص القرآن ما دمتم تدعون أنكم أتباع محمد رسول الله، (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف:108]
إن من الشرك أن تخالفوا أمر الله خوفا من سواه وتخلدوا إلى الأرض كمن أخلد إليها واتبع هواه، وتركنوا إلى الضالين، الذين يصدون عن سبيل الله ويغوون الدعاه بالمال والجاه.
فإن فعلتم ذلك فأنتم من الطغاة الذين يمقتهم الله، إن المسلم الصحيح الإسلام هو من قال: ربي الله ثم استقام، وبالمهمة والدعوة قام، كما فعل محمد المرسل للأنام، والذي يقول له ربه ولكم معه على الدوام:
(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) [هود:112و113]
هل تريدون زادا وعونا للتوفيق؟ ها هو الزاد في القرآن يدلكم على الطريق.
(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [114و115]
هذا هو الزاد للذاكرين المتذكرين، لكن المترفين المخلدين إلى الأرض المتثاقلين بالشهوات فهم سبب الفساد والهلاك لأنفسهم وللناس ولهذا يقول الله مخبرا عمن سبق:
(فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين) [116]
فماذا كان مصير المجرمين؟ إنه الهلاك والعذاب المهين.
فالله لا يعذب إلا من يستحق ومن ليس بالذكر يصدق.
(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) [117]
فالصلاح هو سبب البقاء والنماء والفلاح، أما الفساد فهو الطريق إلى الهلاك، فهل تنتظرون هذا المصير؟
هل تستهزئون بما أنزل وبالرسول الذي أرسل؟
(ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لما جميع لدينا محضرون) [يس:30و31و32]
نعم إن لم تحملوا ما حملتم من القرآن، وإن لم تبلغوا ما ورثتم من الذكر والبيان إلى كل بني الإنسان؛ فأنتم أيها المسلمون مستهزئون بالرسول وبالقرآن وعاصون للرحمن وذلك هو الخسران وذلك هو الهوان (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) [الحج:18]
هل تريدون إيضاحا أكثر يؤكد لكم وجوب حمل القرآن إلى البشر؟ ها أنا أواصل السير والقرآن هو المصدر والله هو النصير.
لنعد قليلا معكم إلى ما قبل الآية التي أوردناها في سورة يس، لقد وردت بعد أن ضرب لنا مثلا:
(واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين) الآيات: 13و14و15و16و17
نعم ما على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بلغوا وذلك واجبهم وكفى، وكيف لا وربهم يعلم أنهم مرسلون؟ وهو الذي يكافئ ويجزي فمنه الأجر لا من الناس وعليه الجزاء بقدر الإخلاص.
(تنبيه)
وقبل أن أصل بكم إلى نهاية المطاف أنبه هنا إلى قضية هامة، ذلك هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه المفسرون، فلقد قالوا: (إن هؤلاء الرسل الثلاثة مرسلون من عيسى إلى هذه القرية) وهذه والله فرية يكذبها في النص القرآني كل آية أليس الله يقول:
(إذ أرسلنا إليهم اثنين)
فالإرسال منه لا من عيسى، ثم إن الرسل يقولون: (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فهم مرسلون من ربهم لا من عيسى.
قد تسألون لماذا أنبه إلى هذا وبهذه الحدة؟ وأنا أقول لكم: إن هذه الروايات دخلت علينا من اليهود والنصارى الذين يجعلون من عيسى إلها مؤهلا ليرسل الرسل ويشارك الله في هذه الخصوصية التي اختص بها دون سواه.
وعلى أي حال، فإن الرسل هؤلاء ليسوا من عيسى، ولكنهم من الله.
وها نحن نراهم قد بلغوا وانتهت مهمتهم عند البلاغ الذي أمروا به (وما علينا إلا البلاغ المبين) والناس بعد هذا هم المسئولون ولا بد أن ينقسموا بين مكذب ومصدق، فالمكذب جزاؤه عند ربه، والمصدق عليه أن يحمل ما آمن به وأن يقوم بواجبه.
وهذا ما حدث في هذه الآيات، ألا تلاحظون أن سياقها سكت عن الرسل نهائيا وانتقل، إلا الشيء المهم من بعدهم وهو حمل البلاغ عنهم.
فإذا الرسل الثلاثة لم يخرجوا من مهمتهم إلا برجل واحد آمن بهم ولكن هذا يكفي لأنهم لا يريدون كثرة الأتباع ولكن المهم هو صدق الاتباع.
ثم إن الله غني عمن كفر، ولا يزيد في ملكه من شكر، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر ويرضى لهم الشكر.
وعلى هذا الأساس نرى الآيات تركز أكثر على دور الرجل الذي استجاب منفردا لربه وشكر واتبع الرسل ونصر.
فانظروا كيف أن سياق الآيات جعل دوره أبرز إفصاحا وأكثر إيضاحا، لقد اهتم به الله وأفرده بالحديث وجعله هو المهم في المثل، ولنقرأ:
(وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)
هكذا جعله منكرا ليدل على أن حمل الرسالات قد يفوز بها أي رجل مهما كان موقعه في ميزان الناس فهو عظيم في ميزان الله.
إنه رجل ومن أقصى المدينة ليس من أعيانها ولا من الملأ المسرفين المترفين الذين يحبون الدنيا، كلا إنه رجل للخير يحب ويسعى، (قال ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون)
لقد فهم الرسالة وأحب لقومه اتباعها وعرف أن الرسل مهتدون ويهدون وللأجر لا يسألون وهذا دليل على صدقهم فيما إليه يدعون فكيف لا يتبعون، إن الخير كل الخير للقوم في اتباعهم لا في اتباع المسرفين الذين يضلونهم وهم يسلبون جهودهم ويأكلون أموالهم.
وهذا هو شأن الناس مع طغاتهم يتبعون من يذلهم ويؤذي، ويكذبون من يعزهم ويهدي.
أليس الرسل يدعون إلى عبادة الله الذي خلق الإنسان وفطره ورزقه وله ما في الأرض والسماء سخر، إنه بعبادة الله يسمو ويتحرر، ويكرم ويؤجر، وذنبه يغفر يوم يحشر، وذلك هو المقام العزيز والهدف الأكبر.
(وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون)
كيف لا أعبده وأرجوه وهو الذي أمري بيده وإليه مرجعي ومرجعكم جميعا (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا)
ثم إن عبادتي لله هي التي تحمي وتصون، وتدفع عني كل خوف وحزن في الدنيا والدين وسوى الله فقراء عاجزون، لا يضرون ولا ينفعون، ولا حتى عن أنفسهم للضر يدفعون.
(أأتخذ من دونه آلهة إن يردني الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون)
أليس هذا هو الملموس في كل حين لمن يعقلون؟ إذن فمن عند غير الله فهو في ظلال وهوان، ولهذا يختم القول بقوله: (إني إذا لفي ضلال مبين)
ثم يتبعه بالإعلان الساطع الرائع، يسمعه كل سامع، وليغيض به كل مكذب ممانع فيقول: (إني آمنت بربكم فاسمعون) إنه ربي وربكم فالمفروض أن تؤمنوا مثلي وتسمعوا قولي: وهكذا يحمل الرسالة شجاعا قويا لا يخاف أحدا ولا يخشى مسرفا، فالله ربه سوى، وهو حسبه وكفى.
وهنا يأتي التعقيب على موقف الرجل السوي، وإيمانه القوي، وعقله الثاقب المضيء، فإذا به يفوز بالجنة عند ربه الأكرم، وفي المقام المكرم، فهو عند الله أكرم من القوم أجمعين، وأسمى من كل المسرفين، فهو في الجنة من المكرمين، يتمنى أن ينال ما نال: (ياليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) لكنهم لم يعلموا لأنهم أسرفوا فتلقوا (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) لقد أحبوا الدنيا فما بقيت لهم ولا بقوا لها وأحب هو الأخرى فبقيت له وبقي لها خالدا مكرما ناعما منعما وهكذا يكون مقام من حملوا الرسالات وبلغوا ما أنزل الله من الآيات.
وهكذا يفوز الصادقون الذين يواصلون ما بلغه المرسلون، وهكذا يكرم الشاكرون الذين على أعقابهم لا ينقلبون، فإذا مات الرسل فهم صامدون صابرون مصابرون وإذا فرغ الرسل من مهمتهم استمروا مسلمين وعلى طريق الحق ثابتين مرابطين (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين)
إنه مثل ضربه الله للمكذبين وللمؤمنين بالرسل، ألم يقل في أول السورة(إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم)
ثم بين موقف المكذبين ختم بقوله (لا يؤمنون) ثم قال (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) فهما فريقان لا بد منهما مع كل الرسل، وللفريقين ضرب المثل ليتضح من صبر ومن كذب وكفر، ومقام من آمن وشكر، وليعرف المؤمنون أن واجبهم هو حمل الرسالة لينالوا التكريم وأن من اتبع الذكر عليه أن يبلغه ويدعو الناس إلى الصراط المستقيم ليفوز بالمغفرة وبجنات النعيم. وإلا فهو من المستهزئين بالآيات وبالمرسلين.
فياحسرة على هذا لنوع من المسلمين الذين يزعمون أنهم أتباع محمد خاتم التبيين، وهم أتباع الهوى والشهوات والطغاة المسرفين، يريدون الإسلام، وهم نوام، ويريدون العزة، وهم عجزة. ويريدون المغفرة من ربهم وهم منقلبون على أعقابهم، مشتغلون بشهواتهم، راضون بالحياة الدنيا من الآخرة، مطمئنون إلى التافه القليل، وفي جمعه عباقرة. يخافون الطغاة، ويريدون أن يكونوا عباد الله، كلا لا يجتمع الشيطان والرحمن في مكان، ولا تجتمع الدنيا والدين في الجنان، ما جعل الله لرجل من قلبين في جوبه فهو قلب واحد. إما أن يسكنه الشيطان أو يسكنه الرحمن. إما أن يملؤه حب الله وإيثار الآخرة أو تكون الدنيا فيه هي المحبوبة المؤاثرة. فاختاروا أيها المسلمون إحدى الحالين، ولا تكونوا مذبذبين.
أتخافون الموت؟ موتوا شهداء، ولا تموتوا أذلاء.
أتخافون العذاب من الطغاة؟ تحملوا العذاب دعاة إلى الله، أحباء لله الصمد، ولا تعرضوا أنفسكم لعذاب الله الذي لا يعذب عذابه أحد.
كونوا في إيمانكم صادقين، وفي الله مجاهدين، وإلى سبله داعين، لا تكونوا كما قال الله عن المؤمنين الكاذبين:
(ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين * وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) [العنكبوت:10و11]
نعم إن الله يعلم سركم وجهركم، وإليه مصيركم ولن يسطيع أحد أن يدعي أنه دعى إلى الله وحمل رسالة الله وهو لم يعمل شيئا من ذلك بل اتبع هواه.
إن يوم الحساب عسير، ولا تخفى على الله منكم خافية.
ويومها سيقول: من أحب الدنيا والجاه والمال والسلطان واتبع الطاغية ما أغنى عني ماليه* هلك عني سلطانيه.
لكن من صدق واتبع الحق وجاهد في الله وحمل إلى الناس آيات الله هو الفائز في دنياه ويوم يلقاه.
لقد ضرب الله لنا مثلا في سورة يس بالرجل الذي مات في سبيل الله وآثر الحياة الأخرى على دنياه، فكان من المكرمين عند الله.
فهل تريدون مثالا آخر ينجو فيه الحامل للرسالة من الموت ومن مكر الطغاة ويفوز برضاء الله؟
هل تريدون أن تبقوا للدنيا ولا تكونوا معرضين للأذى؟
ها هو المثال الثاني يأتي وبه يحتذى:
قد تقولون لي هو هذا الفتى الذي حمل الرسالة بدون أن يؤذي، إنه رجل من أعماق الطغيان أطل، ومن ظلمات الضلال استهل، ومن صور الشرك بالله جاهد الشرك واستبسل.
إن سألتم عن هذا الفتى فالجواب حاضر، فاقرأوا سورة غافر فالرجل هناك لكل متدبر للقرآن واضح ظاهر، إنه الشخصية التي استأثرت بالسورة، فلقد رسم الله له فيها أجمل وأسمى صورة، ليكون لمن بعده أسوة وقدوة مشهورة، وليكون آية للناس على أن جنود الله هي المنصورة.
لعلكم قد عرفتم من أريد، ومن هو الفتى الذي نقصد.
إنه مؤمن آل فرعون، والرجل الذي لم يخش المنون، أتدرون كيف برز للميدان؟
لقد برز في خضم الوعيد، وتحت بريق التهديد، بالقتل والتبديد، فبينما فرعون يقول مستكبرا متوعدا رسول الهدى:
(ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) [غافر:26]
نسمع موسى عليه السلام يرد التهديد ويردع التضليل بالاعتصام بربه الجليل فيقول:
(إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) [غافر:27]
وبهذا اليقين في رب العالمين يبرز الرجل كالشهاب اللامع، والنجم الساطع، والسيف القاطع، لتمزيق ظلام الكتمان عن إيمانه وليعلن أمام الملأ تسفيه الطاغية المستكبر ويدحض تضليله المسيطر وينبه الملأ الغافلين بأنهم في طريق الهلاك سائرون، ويضع أمامهم حجج الرسول بأسلوب سلس معقول وبيان ساطع في ليل التضليل. فاستمعوا الرجل المسئول كيف يقول:
(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) [غافر:28]
وهكذا يستمر مقارعا للطغيان ومدافعا عن الهدى والإيمان، وحاملا رسالة الحق بعزم قوي ما ضعف ولا استكان، يقاطع فرعون في الكلام، ويقف له ندا أمام الملأ النوام، ويشرح لهم قدرة الله العلام، ويوضح لهم مصير المكذبين وهلاك الغابرين، ويعلن خوفه على قومه والملأ من نفس المصير في الدنيا ، ومن السعير في الدار الأخرى، (وياقوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) [32-33]
أترون كيف حمل الرسالة، وأتقن القول أمام الجهالة، أتدركون كيف وقف أمام الاستكبار؟ بقوة وإصرار، وعزم لا يلين لجبار.
هكذا تحمل الرسالات، وهكذا يكون موقف المؤمنين بالله وعلى هذا الطريق يجب أن يمضي من اتبع الرسل مؤمنا، وآمن بربه موقنا.
إنه يحمل ما حملوا، ويواصلوا ما بدأوا، ويستمر على الطريق الذي شرعوا.
لا يضعف ولا يستكين، ولا يتردد ولا يلين.
بل يواصل المسير بعزم ويقين يدعو إلى صراط ربه المستقيم، مطمئنا إلى نصر ربه العظيم، وحمايته من كل مستكبر لئيم.
ولن أطيل عليكم في شرح ما قال وما فعل، وفي إيضاح ما أدى وما حمل، بل أصل لكم معه إلى نهاية المطاف لنجده محاطا بحماية الله والألطاف رغم التهديد والوعيد الذي ينشر الرعب والإرجاف في قلب من يرهب الموت ويخاف.
وكيف لا والمرد إلى الله وهو الحاكم يوم الدين. وهو العليم بالمؤمنين والمسرفين. (وأن المسرفين هم أصحاب النار)
لكن المؤمنين هم الناجون ولهم عقبى الدار، بهذا اليقين يختم الحوار فيقول: (فستذكرون ما أقول لكم) ثم يطلق في بدايته عنانه والقياد، فيقول: (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) فماذا جرى بعد هذا يا ربي:
هل قتله فرعون أو تمكن؟ كلا، ولكنه عجز وخاب ونجى المؤمن وفاز (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب)
أترون أن الله مع الصادقين، ينصر ويؤيد، وأنه معهم يحمي ويهدي، ويدمر من مكر ويردي، (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) .مفردة القرآن ¶ هذه المفردة تتكرر في النص القرآني بشكل ملحوظ، ولو تأملنا وضعها في سياق الآيات التي وردت فيها لوجدنا لها معنى جميلا ربما فات على كثير من المفسرين للقرآن الكريم. ¶ فالكلمة مصدر من قرن يقال قرن الشيء بالشيء أي ضمه إليه وعلى هذا فالقرآن يعني قرن آية بآية وسورة بسورة وضم بعضها إلى بعض بحيث تكون نصا مقروءا مفهوما لقوم يعقلون. ¶ أما الفرقان فيعني فرق سورة عن سورة في الإنزال فهو لم ينزل جملة واحدة ولكنه نزل مفرقا ومنجما كما هو معروف. ¶ وإن شئتم فاقرأوا الآية [32من سورة الفرقان](وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) هكذا هم يقترحون أن لا يكون القرآن مفرقا ولكن جملة واحدة لكن الله يرد عليهم بقوله: (كذلك) أي نزلناه مفرقا كذلك لماذا (لنثبت به فؤادك) (ورتلناه ترتيلا) أي أنزلناه على تمكث وتمهل وفرقناه على فترات ليكون أكثر أثرا وتثبيتا في قلبك وأحسن وقعا في قلوب الناس فلا تنزل السورة منه إلا على أرض من القبول المتعطشة للبيان فيكون أثره فيها كالماء للعطشان ولهذا قال الله: ¶ (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) [الإسراء:106]. ¶ فالقرآن فرق تفريقا، أو فرق فرقانا ليقرأ على الناس على مكث وتمهل ولذلك لزم أن يكون (ونزلناه تنزيلا) أي دفعة بعد دفعة لأن فعل نزل المضعف يعني تكرار الإنزال دفعة بعد دفعة وجملة وراء جملة أما أنزل المزيد فهو يعني الإنزال دفعة واحدة ومن هذا نفهم أن القرآن يختلف عن الكتب السابقة عليه بأنه نزل على دفعات بينما هي أنزلت دفعة واحدة ولهذا قال الله في سورة آل عمران (الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) [آل عمران، الآيات:1و2و3و4] ¶ تأمل قوله: (نزل عليك الكتاب) وقوله: (وأنزل التوراة والإنجيل). ¶ وقال: (ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) [النساء:136]، فإذا تأملنا الآيات كلها نلاحظ أن القرآن عامله نزل المصنف أما الكتب التي قبله فعاملها أنزل. ¶ ولو راجعنا فعل نزل في القرآن كله لوجدناه يقترن دائما بالقرآن ولا يقترن بسواه بينما فعل أنزل يقترن بالكتب الأخرى إلا في مواضع خاصة فإنه قد يأتي فعل أنزل سابقا للقرآن ولكن لفرض بلاغي وبياني ليس هذا مكان إيضاحه. ¶ وعلى أي حال فإن بحثنا هنا هو حول كلمة أو مفردة القرآن فهي تعني اقتران الآية بالآية والسورة بالسورة لتكون نصا متكاملا ولتأكيد هذا المعنى نقرأ قوله تعالى في سورة القيامة وهو يتحدث عن القرآن: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) [القيامة:16و17و18]. ¶ تأملوا الآية فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحاول استجماع ما تنزل ويتابع الآيات ويتعجل حفظها فهو يحرك لسانه مع ما يتلى عليه ليساير لسانه ما يسمع فطمأنه ربه أن عليه الإصغاء والاستسلام لما يتلى من التنزيل وأن ربه هو الذي سيتولى جمعه في قلبه وقرن بعض الآيات ببعض في السورة التي تنزل عليه حتى يجدها قد طبعت في قلبه فلا ينسى الآيات إلا ما شاء الله وعليه فإن واجبه هو الإصغاء باطمئنان والاستماع بلا استعجال حتى يقضى إليه ما يوحى ليجده قد أصبح مكتمل الاقتران واضح البيان. ¶ إنه وعد أكيد من ربه المجيد الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد ولهذا فهو يقول لرسوله: (سنقرئك فلا تنسى) (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما)، وهكذا فإن القرآن يعني قرن الآية بالآية والسورة بالسورة في قلب رسول الله ليقرأها باطمئنان موقنا أنها وحي يوحى من ربه الذي يعلم السر وأخفى. ¶ وبعد: فلعلي قد أطلت ولكني قد أسمع سؤالا يقول: ماذا تريد من هذا وهو واضح؟. ¶ إني أريد من هذا أن أؤكد ما يلي: إن القرآن بالمعنى الذي فهمناه اسم يطلق على الكلمات والألفاظ المقترنة في نص هذا الكتاب الكريم. أعني أن (القرآن) يطلق على ألفاظ الكتاب المعروف لنا المقروء بيننا لا على المعاني.فإذا وردت كلمة (قرآن) في القرآن فإنها تعني الكلام المقروء المبين أما المعنى فهو رحلة ثانية لا يعلقه إلا من فهم الكلام، ولهذا يقول الله: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [يوسف:2].(إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [الزخرف:3]. ¶ فماذا يعني هذا؟ يعني أن الله تفضل وتكرم بأن صاغ هذه المعاني العلية الحكيمة وقرن الكلمات اقترانا مبينا ليعقله الناس في صياغة لفظية عربية.ولقد جاء في الآية الأولى بكلمة أنزلناه قرآنا عربيا وفي الثانية بكلمة إنا جعلناه قرآنا عربيا فلماذا اختار (أنزلناه) في يوسف، و(جعلناه) في الزخرف. ¶ إن جعل في اللغة تعني حول الشيء إلى شيء آخر، وعليه: فإن جعل هنا تعني أن النظام القائم عليه خلق الله والميزان الذي وضعه لكل شيء وحي في الخلق قد حوله الله إلى كلمات عربية تفصح وتبين لما يريده الله للإنسان من نظام وعلو وحكمة يتفق مع نظام الكون الذي لا يختل وينسجم مع ميزان الخلق الذي لا يطغى ولهذا قال الله بعد ذلك في سورة الزخرف : (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [الزخرف:4]. ¶ إنه بدأ السورتين بكلمة كتاب مبين، ففي يوسف (الر * تلك آيات الكتاب المبين)، وفي الزخرف (حم * والكتاب المبين) والكتاب هو النظام المبين الواضح لمن تأمل الخلق ولكن الله حوله إلى كلمات مفصحة وألفاظ مبينة عنه فجعله قرآنا عربيا. ¶ لعلنا نفصل حكمة هذا النظام والميزان ونفهم عظمة هذا الإتقان فنسير عليه ونلتزم به وننسجم معه وينضم في موكبه العلي الحكيم المتزن المستقيم إذن فالقرآن كلمات وألفاظ عربية مبينة اختارها الله تفضلا لتكون مبينة عما أراده وليعقلوا ما يريده الله منهم وهذا هو السراط المستقيم إلى إقامة الميزان والقسطاس في حياة الناس في التعامل بين الكون والناس وبين الناس والناس، وعلى هذا الأساس فإن كلمة قرآن يطلق على مجمل الكتاب الذي بين أيدينا كما تطلق الكلمة على بعض منه، يقول الله: ¶ (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) الى آخر (الآية: 61من سورة يونس) فالضمير في منه يعود إلى مجمل القرآن وكلمة قرآن بعده تعني ما يتلوه من القرآن فقد أطلقت الكلمة على البعض كما أن قوله تعالى : (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) تفيد بأن كلمة القرآن تعني بعضه فإن ما يوحى إليه هو بعضه لكنه سمى البعض قرآنا. وكذلك قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالإخرة حجابا مستورا) [الإسراء:45]. ¶ فإن كلمة القرآن هنا تعني بعض القرآن فهو لا يتلوه في كل حين كاملا، وهذا يؤكد لنا أن المراد بالقرآن هي الألفاظ والكلمات المقترن بعضها ببعض وهنا قد يبدر سؤال وهو إذا كانت كلمة القرآن تعني الألفاظ والكلمات في هذا الكتاب فما هي المفردة التي تعني المعاني التي في القرآن؟. ¶ الجواب هو أن الكلمة التي تعني ذلك هي كلمة (ذكر) أو (الذكر) فإذا وردت كلمة الذكر أو ذكر فهي تعني المعاني التي تحتويها هذه الألفاظ وتعني العلم الذي تفصح عنه تلك الكلمات. ¶ ولهذا جاء في سورة (يس) (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [يس:69]. ¶ فقد جمع بين كلمتي ذكر وقرآن وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لم يعلم رسوله إلا علما لكم أيها الناس ولكن هذا العلم جاء مصاغا في كلمات مبينة ليتضح لكم العلم المنزل من ربكم فهذه الكلمات تسمى قرآنا ولهذا وصف القرآن في الآية بأنه مبين. فقال (وقرآن مبين) قد يسأل سائل فيقول: ألا تعلم بأن السورة بدأت بقوله تعالى: (يس * والقرآن الحكيم) ¶ وهذا يعني أن القرآن هو المحتوي للحكمة فكيف تقول أنه اسم للألفاظ؟ لكن الجواب سهل فالألفاظ هي التي تدل على المعنى وإذا دلت فقد احتوت الحكمة فهو إطلاق مجازي أطلق المحل وأراد الحال. فالكلمات محل للحكمة لكن الحكمة ليست هي الكلمات بل الكلمات تفصح عنها وهذا هو الذي قصدناه بل قصده الله، بأن جعل حكمته وعلمه وكتابه في لفظ عربي يسمى قرآنا ليعقل الناس هذا العلم والحكمة وليعرفوا هذا النظام ويعلموه. ¶ وهنا قد يرد سؤال آخر، وهو أننا نراك تكرر كلمة نظام خلال تفسيرك الآيات فمن أين جئت بها؟ لكني أقول للسائل: تعال معي بعقل يحاول أن يفهم ولا تتهجم ولا تتجهم. ¶ إن كلمة كتب تعني في اللغة رتب ونظم وجمع وأحكم والكتابة لا تعني إلا جمع كلمة إلى كلمة وحرف إلى حرف وتنظيمها حتى يفهم منها من قرأ معنى لم يكن يفهمه لولا تنظيم هذه الكلمات والحروف ولهذا قيل للجماعة المنظمة كتيبة وللجيش المنظم الجماعات كتائب ويقال كتب الكتائب أي جمع ونظم. ¶ وعلى هذا الأساس يقول أصحاب أمهات الكتب في تأليف المواضيع والمعلومات: كتاب الصلاة، كتاب الطهارة، كتاب البيع، أي هذا نظام البيع والصلاة والطهارة وقواعدها التي بدونها لا تصح.فكتاب مصدر كتب أي نظم، نظاما، وتنظيما، ورتب ترتيبا الشيء: جعله مؤسسا على قواعد لا يصح الخروج عنها، فالخروج عنها يبطلها. ¶ وعلى هذا جاءت كلمة كتاب في القرآن.فهي تعني النظام، اقرأ معي أول سورة النمل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين) إن الجمع بين كلمتي قرآن وكتاب يعني أن معناهما متغاير وإلا فكلمة قرآن حشو وعليه فإن كلمة الكتاب لا تعني القرآن ولكنها تعني النظام الذي تدل عليه كلمات القرآن وتدل عليه سائر الكتب المنزلة. ¶ وإلا فقل لي لماذا قال الله عن عيسى في سورة آل عمران: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) [48] فماذا يعني الكتاب؟ هل يعني التوراة والإنجيل إذا كان الكتاب هو التوراة والإنجيل فلماذا كررها الله؟ إن التكرار يعني الإطناب المخل وهو معيب في علم البلاغة والقرآن أعلا درجات البلاغة فهل يصح أن يكون فيه ما يخل؟ كلا، إذن فالكتاب له في الآيات معنى آخر، فما هو هذا المعنى يا ترى؟ ¶ إنه النظام والانسجام فكأن الله يقول لنا: هذا نظام أردنا أن تعرفوه فقربناه لكم في ألفاظ معروفة وجعلناه لكم بلسانكم العربي المبين لتعقلوه وتعملوا بمقتضاه وميزانه.فلا تخلوا به ولا تطغوا في ميزانه ولتقوموا بالقسط بموجب بيانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [الحديد:25](والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) [الرحمن:7و8و9]. ¶ ثم لنتأكد أن الكتاب هو النظام وأن القرآن هو الكلام الدال عليه نقرأ قول الله تعالى في أول سورة فصلت: (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) [الآيات:1و2و3] فالنظام الإلهي للخلق فصلت آياته قرآنا مصاغا باللغة العربية للناس الذين يريدون أن يعلموا هذا النظام ويقتدوا به ويقيموا حياتهم على ميزانه ولهذا قال: (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) [فصلت:4]ثم ماذا؟ (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) أي أن عملهم سيظل على الانحراف والفوضى فلا يسمعوه ولا يعون ما يدعون إليه من النظام والاستقامة وهم قد حجبوا أنفسهم عما يراد لهم من العلم بهذا النظام والسلام. ثم تعال لنقرأ: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي) [فصلت:44]. ¶ إن هذه الآية تؤكد أن المراد بالقرآن هو الكلام ولهذا كان يمكن أن يكون أعجميا أي بلغة غير العربية ولكن الله أراده عربيا لنعقل، فالعربية هي لغة البيان لمن يعقلون، ولو أردنا أن نوضح سر بيانها لضاق المقام ولكنه معروف لمن أتقن علم البلاغة والبيان، وقرأ كتب الجرجاني ومن تلاه في بيان أسرار القرآن ودلائل الإعجاز. ¶ وإذن فالحكمة والعلم لا تتضح إلا بهذا القرآن والهدى إلى الصراط المستقيم لا يتم إلا بهذا القرآن. (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) فحكمة الله وعلمه صيغت رحمة للعالمين وذكرا للناس أجمعين في هذا القرآن المنزل من رب العالمين بلسان عربي مبين ليعقله العالمون. ¶ فلم يكن القرآن باللسان العربي المبين إلا ليعقله الناس ويفقهوا حكمة الله وعلمه ونظامه فيكونوا منسجمين مع موكب النظام المحكم وسائرين في حكمه . ثم إن هذه المعاني الربانية الرفيعة قد نزلت بلغات قوم آخرين: (وإنه لفي زبر الأولين) [الشعراء:196].(إن هذا لفي الصحف الإولى * صحف إبراهيم وموسى) [الأعلى:18و19]. ¶ ولكن الله اختار أن تنزل على الناس باللسان العربي المبين المفصح عما يريده رب العالمين للناس أجمعين من خير وسلام ومقام أمين، فكأن القرآن هو الصيغة التي تعجز وتبين: ¶ (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) ¶ وأعود لأؤكد فأقول: ¶ وبعد فإن القرآن اسم للكلمات والألفاظ أما الذكر فهو اسم للعلم الذي حواه القرآن ولنقرأ معا: (ص والقرآن ذي الذكر) [1]، (إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين)[ص:87و88].(وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) [الزخرف:44].فهل يسأل الإنسان إلا عن العلم فهو الذي يحمله الإنسان ويسأل عنه ولهذا قال: (وقد آتيناك من لدنا ذكرا(99)من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا)[طه:100].(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء:10].(ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:2].لقد أوردت بعض هذه الآيات للبيان وإلا فإن الموضوع قد استوفيناه في بحث (الذكر) فيلرجع إليه من شاء المزيد. ¶ وأخيرا فإذا كان القرآن يعني الكلمات والألفاظ فإنه مصاغ بأسلوب يعجز ويبين، وإنه لتنزيل من رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين. ¶ قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن القرآن يوصف بالحكمة وبالعلم وبالرحمة وبالنعمة فكيف يتفق هذا مع معناه هنا. لكني أقول أنه قد سبق أن أوضحت أنه تعبير مجازي وأن المقصود أنه يفصح عن هذه المعاني ويحتويها فهو مجاز مرسل علاقته المحلية. ¶ على أني سأنقل القارئ إلى معنى للقرآن لم يسمعه قبل الآن، إنه معنى أعم وأشمل لا يقتصر على اقتران الكلمات والألفاظ فقط بل على اقتران كل شيء وكل كائن حي. وربما يفاجأ القراء بهذا الذي سيقرأونه لأنهم سيسمعونه لأول مرة فلم يقله الأولون ولا تطرق إليه أحد من المفسرين. ¶ هل أنتم أيها القراء مستعدون لاستماع ما سأقول باستيعاب، والولوج في هذا الموضوع بروية تبحث عن الصواب، وبفهم يتصف به أولوا الألباب، (إنما يتذكر أولوا الألباب) هل أنتم مستعدون ياصحاب، لعلي أجد أن نعم هي الجواب. إذن فهيا معنا إلى سورة الرحمن. ¶ (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) [الآيات: 1و2و3و4]. ¶ كثير من المفسرين فهموا كلمة القرآن بأنها تعني هذا القرآن المقروء لكن السياق وترتيب الآيات يأبى هذا الفهم على الإطلاق فهل يمكن أن يعلم الله القرآن للإنسان قبل خلق الإنسان؟ كلا كلا. ¶ إذن فمن هو المعني بالتعليم في (علم القرآن)؟ ¶ أنظروا الفعل (علم) جاء مطلقا لم يذكر فيه المفعول الأول مع أنه يتعدى إلى مفعولين فأين المفعول الأول؟ لو قدرنا المفعول هو الإنسان سنقول الرحمن علم الإنسان القرآن خلق الإنسان علمه البيان. هل هذا الترتيب صحيح؟ هل هو يتفق مع فصاحة القرآن وإعجازه وإيجازه. كيف يعلم الله شيئا قبل خلقه؟ فلماذا أضاف علمه البيان؟ أليس القرآن هو البيان؟ فلماذا التكرار !! مع أنه كان يمكن أن يقول: ¶ الرحمن خلق الإنسان علمه القرآن وعلمه البيان. ¶ فلماذا أفرد القرآن وحده وبدأ به فقال: (علم القرآن) ثم قال: (خلق الإنسان)؟ لا بد أن هناك سرا عظيما، وأن هناك معنى لكلمة القرآن لا تعني هذا الكلام المقروء وإنما تعني معنى أعم وأشمل تدل عليه الكلمة في الأصل اللغوي. ¶ وهنا أنبه إلى قضية هامة هي أن القرآن قد يستعمل كثيرا من الكلمات يريد بها أصلها اللغوي لا معناها الاصطلاحي. وعليه: فلقد اصطلح على أن كلمة قرآن تدل على هذا الكلام المقروء المحتوي عليه المصحف. لكن الكلمة هنا استعملت أصلها اللغوي العام. لكن المفسرين كلهم لم يحاولوا أن يفهموا هذا المعنى العام. وإنما جعلوا الكلمة تدل على هذا القرآن المقروء بين أيدينا وإنه لوهم لا يتفق مع سياق الآيات ولا نوافق عليه، ولا ينسجم مع الترتيب الذي بنيت عليه الآيات. ولهم عذرهم فقد غاب عنهم أن القرآن كثيرا ما يستعمل الكلمات في معناها الأصلي لا الاصطلاحي، وهذا بحث سنفرد له بابا خاصا بإذن الله. ¶ وعلى أي حال فلنقرأ ما قاله الزمخشري شيخ المفسرين في هذا الموضوع في تفسير سورة الرحمن. ¶ عدد الله عز وعلا آلائه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قد قاس ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدم من نعمة الدين ما هو أعلا مراتبها وأخص مراقيها وهو إنعامه (بالقرآن) وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة وأحسنه في أبواب الدين أثرا وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها ؟؟ عليها)، ثم قال: ¶ (وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله وكأن الغرض من إنشائه كان مقدما عليه وسابقا له)، انتهى كلام الزمخشري وهو محاولة لتبرير تقديم الآية على خلق الإنسان لكنها محاولة غير مدركة للحقيقة الكبرى والأهم التي سنوضحها لاحقا لكنا قبل ذلك نعرج على تفسير سيد قطب في [ظلال القرآن] لنقرأ ما قال، لقد قال ضمن التعريف بالسورة كما هي عادته مع كل سورة ما نصه: ¶ [ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان فسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان ] هكذا قال، وهي لمحة صغيرة بسطها في تفسير الآيات فقال بعد أن أورد نص الآيات الأولى من السورة: ¶ [هذا هو المقطع الأول في بيان آلاء الرحمن وهذا هو الخبر الأول بعد ذلك الإعلان، [علم القرآن] هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمن بالإنسان [القرآن] الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود ومنهج السماء للأرض الذي يصل أهلها بناموس الوجود ويقيم عقيدتهم وتصوراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس) إلى أن يقول بعد كلام طويل لا يخرج عما نقلناه هنا: [ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان فيه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان] انتهى كلام السيد قطب. ¶ وهو لا يخرج عما عناه الزمخشري إلا أنه أضاف شيئا آخر هو أن القرآن هو [الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود]، وهو يكاد يقترب مما نريد هنا إلا أنه عاد من جديد إلى ما عناه الزمخشري من قبله. ¶ أما [ابن كثير] فقال: [يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى: (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) قال الحسن: يعني النطق وقال الضحاك: يعني الخير والشر [ثم رجح قول الحسن] فقال: وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها على اختلاف مخارجها وأنواعها، انتهى. ¶ وهكذا يتجلى لنا أن أبرز المفسرين الأولين والمتأخرين قد وجهوا كلمة القرآن هنا إلى معناها الاصطلاحي ولم ينتبهوا إلى أنها مستعملة في معناها اللغوي الأصلي. ¶ وعلى أي حال فهم قد عملوا جهدهم في تبرير تقديم (علم القرآن) على (خلق الإنسان) في الآيات. ولكنها مبررات لا تتفق مع المنطق ولا مع جلال الله وحكمته ولا مع سياق الآيات وترتيبها البياني. قد تسألون في ضيق ونفاد صبر فتقولون: لقد أطلت الكلام وتطاولت على الكبار الأعلام، فماذا لديك من التفسير للكلمة أيها الهمام؟ وماذا تريد أن تحملها من المعاني؟ وأين تريد أن تذهب بها؟ لكني أدعوكم على مهل إلى المعنى الأشمل وأرجوكم التأني معي والإمعان لنصل معا إلى المعنى الأهم والأعم المتفق مع سياق الآيات وبيان الكلام. ¶ أيها الأعزاء: إن كلمة القرآن كلمة تطلق ويراد بها هذه الكلمات والألفاظ المكونة لنص الكتاب الكريم الموحى على محمد الخاتم الأمين. هذا هو المصطلح وهو المراد بها في كل آيات القرآن. إلا في سورة الرحمن فإن معناها أعم وأشمل. إنها تعني الاقتران بين الأشياء والتقارن بين المخلوقات في الأجرام والمواقع والمهمات ولهذا أطلقت فقال تعالى: (علم القرآن). ¶ فالألف واللام هنا للجنس أي علم كل شيء وكل مخلوق القرآن أي جنس الاقتران والتقارن فيما بينها بدون خلل ولا طغيان ولكنه اقتران بنظام واتزان. ولكي يتضح لكم المعنى بشكل أعمق وأنصع؛ تعالوا نتدبر الآيات ونتفهم معنى الكلمات من البداية فالسورة تبدأ بكلمة الرحمن. ¶ فماذا تعني هذه الكلمة: ¶ لا مانع أن تستعير هنا بدايات تفسير سيد قطب لهذه الكلمة فقد قال: (الرحمن) بهذا الرنين الذي تتجاوب أصدائه الطليقة المدوية في أرجاء هذا الكون وفي جنبات هذا الوجود. ¶ (الرحمن) بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد يجلجل في طبقات الوجود إلى أن يقول (الرحمن) ويسكت وينتهي ويصمت الوجود كله وينصت في ارتقاب الخبر العظيم بعد المطلع العظيم ثم يجيء الخبر المرتقب الذي يخفق له ضمير الوجود (علم القرآن) هكذا قال سيد قطب بعد كلمة الرحمن ونحن نقول معه: نعم، إنه رنين وإيقاع مدوي ومجلجل، ولكن لماذا؟ ¶ لم يوضح لماذا ولم يدرك ماذا تعني كلمة الرحمن!. ¶ أنا هنا لن أطيل الكلام حولها فلقد أفردت لها بحثا خاصا فليرجع إليه من شاء ففيه البيان والشفاء. ولكني هنا أقرب للقارئ الخطى والعناء فأقول: ¶ إن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى وليس صفة مشتقة من الرحمة كما توهم المفسرون ولا تعجل أيها القارئ قبل أن أبين لك. ألم يقل الله في سورة الإسراء: ¶ (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) [110]. ¶ إذن فالرحمن اسم من أسمائه العظمى والهامة والكبرى. إن الرحمن اسم يشمل كل معاني وصفات الربوبية كما أن (الله) اسم يشمل كل معاني وصفات الألوهية. إذن فالرحمن يعني الرب المدبر المقدر المسير القريب الخبير المهيمن الذي له الخلق والأمر فتبارك الله رب العالمين.الرحمن يعني المعيذ الحامي الكالئ الحافظ الممسك، الرحمن يعني القريب المجيب البصير القوي القادر القهار المعذب والمحاسب والمعاقب والرحيم والغفور والحكيم والغفار. إنه يشمل كل معاني الربوبية والتدبير والقرب والتسيير واللطف والتيسير والعقاب والحساب والتحذير وغيرها كثير. أنا لا أقول هذا جزافا لأن الآيات تؤكد ذلك في القرآن. لنقرا في سورة مريم قولها: ¶ (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) [18]. فهو المعيذ، وقول إبراهيم لأبيه: ¶ (ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) [مريم:45]. فهو معذب، وقوله تعالى: ¶ (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) [الأنبياء:42] فهو الكالئ، وقوله تعالى: ¶ (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير) [الملك:19]. ¶ فهو الممسك والبصير والمدبر (الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) [الملك: 3]، فهو الخالق المنظم المدبر المسير. (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) [طه:108]. فهو المحاسب والمعاقب والمثيب والراحم. (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا) [النبأ:37]، فهو المهيمن والمحاسب والمعاقب والمثيب والغافر والعليم بكل شيء وظاهر وهو الذي له الملك والحكم والكبرياء في الدنيا والآخرة ولن أزيد على هذا لشرح كلمة الرحمن، ولو راجعت كل الآيات التي وردت فيها الكلمة ستجد أنها تعني كل تلك المعاني وأكثر فهي ليست صفة كالرحيم ولكنها اسم قوي عظيم ولهذا ناسب أن يأتي بعدها صفة الرحيم في (بسم الله الرحمن الرحيم)، وفي (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم)، لأن اسم الرحمن يدل على الهيمنة والعزة، والقهر والقوة، والملك والتدبير والخلق والتسيير والسلطان الواسع القدير، الحاكم بما يشاء والفعال ما يريد، فإذا كان هذا هو المفهوم من الرحمن فإن الرحيم هو المناسب أن يليه ليؤكد للعباد أنه مع قدرته وقوته وهيمنته وطلاقة سلطته ومشيئته إنه مع ذلك رحيم واسع الرحمة باسطها لمن يستحقها فيدخل إلى النفوس الاطمئنان إليه والتعرض لرحمته والتوكل عليه. ¶ وإذا فهمنا الرحمن بهذه الصفات والدلالات، فإن الرنين الذي سمعه سيد قطب من الكلمة صحيح ومسموع لمن فهم. وإذن فإن الرحمن بهذه الصفات والقدرات وبهذه السمات والميزات وبهذه الهيمنة والسلطات وبهذه الحكمة والخبرات (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) [الفرقان:59]. ¶ نعم إذا كان هذا هو شأن الرحمن فإنه لا سواه هو الذي علم القرآن [فالقرآن يعني اقتران كل خلقه ببعض وتزاحمها في السماء والأرض وتعدد مهماتها والأغراض ولكنها مع هذا التعدد والتكاثر والاقتران والتوافر والاختلاط والتزاحم والتوسع والتداخل والتباعد والتقارب، إنها رغم هذا ومع هذا متناغمة متعاونة متزنة ملتزمة بما قدر لها وحكم الرحمن متجاوبة مع بعضها في أداء مهماتها التي خلقت لها وهيأها له الرحمن فلا يطغى بعضها على بعض ولا يخل بعضها بعمل بعض بل كلها رغم تفاوت المهمات والأغراض تسير إلى غرض عام وهدف هام هو إقامة الحياة على نظام وانسجام فالله الرحمن خلق كل شيء بالحق، وعلم هذا الخلق علمه القرآن، أي علمه أن يقترن بسواه بنظام وباحتكام لأمر الرحمن فكل شيء يسجد وكل شيء يسبح وكل في فلك يسبحون. ¶ ولكي ندرك هذا التقارن والانسجام، ولكي نفهم هذا التوسع والاحتكام وهذا التعدد والالتزام، ولكي يتضح لك هذا التقدير الذي حكم به الرحمن كل خلقه ووضع له الميزان. لكي تدرك ذلك اقرأ في سورة الرحمن قبل سواها هذا المعنى واضحا كامل البيان (خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسماء رفعها ووضع الميزان) [الآيات: من 3إلى 7]. ¶ إن هذه الآيات هي بيان لقوله (الرحمن * علم القرآن) هذا هو معناها وهذا هو الاقتران المنظم فهو بحسبان وميزان بدون فوضى ولا طغيان، وأكبر شيء وأصغره وأعلاه وأسفله يسجد للرحمن، محكوم بقدرته والسلطان، ملتزم بأمره وتقديره في كل آن ومكان. ثم (والأرض وضعها للأنام) وكم في الأرض من مخلوقات متعددة الألوان والأحجام، متفرعة المواد والأجسام، مختلفة الأغراض والمهام، ولكنها كلها متعاونة على الهدف العام مسخرة له بانسجام وهو الذي قدره الرحمن لصلاح الحياة على الأرض ولهذا فالأرض (فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام * والحب ذو العصف والريحان)، [الرحمن، الآيات:11و12]. ¶ إنها آلاؤه تدل على القوة والقدرة والحكمة والرحمة والسلطة والهيمنة وكلها تسير مقترنة إلى مهمة واحدة رغم تعدد النوع والشكل واللون والحجم. أليس هذا من آلاء الرحمن الذي علم القرآن (فبأي آلاء ربكما تكذبان) [الرحمن:13].ثم لنقرأ ما يدل على ذلك بشكل أوضح وفي نفس السورة (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) [الرحمن: 19و20].أليس هذا من آلاء الرحمن الذي (علم القرآن) تأملوا معي دلالة الاقتران، فالبحران مقترنان للعيان، متلازمان متجاوران، مختلطان لكنهما لا يبغيان، بل مع ذلك ورغم ذلك الاقتران، (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) [الرحمن:20] إنها آلاء تدل على الهيمنة والحكمة والسلطة والرحمة. ¶ والخلاصة أن السورة كلها تؤكد معنى (علم القرآن) فتأملها يا أخي وسيتضح لك المعنى بجلاء وبيان. ¶ ثم تعال معي إلى سواها من السور، واقرأ في سورة النساء: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) [33].ولتقرأ في سورة يس (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون * وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. ومع كل هذا الاقتران والتقابل والتداخل (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) نعم هكذا هو الملموس وهذا هو الواقع المحسوس (وكل في فلك يسبحون) [يس: الآيات من35-40]. ¶ ثم اقرأ في سورة الرعد: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون). ¶ هذا في السماء، فانزل إلى الأرض تجد الاقتران واضحا منظما متعددا منسجما وتجده متنوعا وله هدف أسمى، واقرأ معي: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار) ألا تلاحظ الاقتران، ألا تشاهده، ولهذا يختم الآية بقوله: (إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) فتفكر لتجد أن (الرحمن * علم القرآن) ¶ ثم استزد من مظاهر الاقتران العجيبة المنظمة واقرأ(وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الإكل) إنه الاقتران والقرآن بأجلى صوره وأبسطها وأوضحها، ولهذا يختم الآية بقوله: (إن في ذلك لايات لقوم يعقلون) [الرعد، الآيات: 2و3و4]. ¶ ثم لتقرأ في سورة الفرقان قوله: (ألم ترى إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) [الآيات:45و46]. ¶ أليس هذا هو الاقتران والقران الواضح بين السماء والأرض وبين الشمس والظل وبين السماء والأرض والشمس معا، ثم هناك اقتران آخر أقرب إلى الإنسان وأدنى: ¶ (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا * لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) [الآيات:48و49]. ¶ أليس هذا هو الترجمة لقوله (علم القرآن) إنه الاقتران بين الرياح والسحاب والماء والأرض وبين هذا الإنسان ومعه كل ما على الأرض من شجر وتراب وحجر ورمل وحيوان، إنه الرحمن الذي علم القرآن فرغم تعدد الأشكال والمواقع وتنوع الأساليب والطبائع؛ إلا أن اقتران كل سبب بالآخر يؤدي إلى هدف للكل جامع، هو حياة الإنسان وجمالها وظهورها بشكل رائع ولا غرو فالرحمن هو المسيطر والمسير وهو الذي علم كل هذه الأشياء (القرآن) وكلها له تسجد وتسبح بإذعان، (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والإصال) [الرعد:15]. ¶ أكتفي بهذا القدر من البيان على (علم القرآن) فلعله قد اتضح أن الرحمن هو الذي دبر هذا الاقتران ونظم هذا التعدد والتنوع الواسع وجعل كل مخلوق ساجد راكع، مسبح ضارع، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) [الإسراء:44]. ¶ وبعد فلنعد إلى (الرحمن * علم القرآن) ¶ نعم لقد تفضل الرحمن وعلم كل شيء من خلقه القران فهو يقترن بسواه بلا طغيان ولكن بحسبان واتزان وبطاعة وخضوع للرحمن ثم وبعد تدبير هذا النظام المتقن المحكوم الواسع المتباعد الموزون بعد هذا كله ماذا حدث؟ (خلق الإنسان * علمه البيان) لقد أعد المهد الصالح لخلق هذا الإنسان فخلقه وعلمه البيان، علمه البيان ليبين عما يريد وليستبين ما يراد منه، فهو مبين مستبين وهو سميع بصير. وعليه أن يتفهم ما يحيط به ويفقه ما يقوم به وما يؤمر به، ولهذا قال الله بعد أن بين أن كل شيء بحسبان وبميزان قال مخاطبا للإنسان في سورة الرحمن: ¶ (ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) [الآيات:8و9]. ¶ هل اتضح لكم الآن معنى كلمة (القرآن) في سورة الرحمن؟ ¶ إنها تعني الاقتران بين كل خلق الرحمن، ولكنه اقتران بحسبان وميزان، وما دام الإنسان جزء من هذا الخلق وطارئا على هذا النظام فعليه الانسجام معه والالتزام بما به يقوم الوجود وعليه استقام. ¶ فالخروج عن الحق فساد وفسوق وكل من اقترفه هالك ممحوق (والله لا يحب الفساد) ¶ إذن فكيف للإنسان أن ينسجم مع موكب هذا النظام وأن يقترن بما حوله من الخلق اقترانا بسلام، وأن يتعامل مع هذا الوسط باتزان واستسلام، وعدل واحتكام، وأن يسير مع السائرين بانتظام. ¶ نعم أنى له ذلك؟ وما دليله عليه؟ إن الدليل بين يديه، فهو القانون الذي يعول عليه، والنور الذي يحتاج إليه، فما هو يا ترى؟ إنه هذا القرآن المقروء الموحى إلى خاتم النبيين رحمة للعالمين ومن هنا نفهم سر اختيار هذا الاسم الجميل لهذا التنزيل الجليل. إنه إشارة عظيمة وعلامة وسيمة على أن تسميته بالقرآن تسمية مختارة بعناية ودراية، وأن التسمية بحد ذاتها آية.ومن هذه التسمية المختارة لهذا الكتاب الكريم، نفهم أن القرآن هو الطريق للسلام بين الإنسان وبين كل المخلوقات وهو الدليل للتعاون المثمر بينه وبين كل الموجودات وهو الهادي إلى التكامل بينه وبين كل الكائنات. ¶ إن هذه المخلوقات والكائنات متنوعة متعددة متباعدة متداخلة متباينة متقاربة. ¶ ولكنه تنوع بانسجام، وتعدد بالتزام، وتباعد بالتئام، وتباين باحتكام، وتقارن بسلام، واتزان وتعاون بحسبان، فمن اقترف مع قرينه من الأشياء أو الأحياء فسادا فقد خرج عن الصراط المستقيم ومن اجترح مع مقارنه طغيانا فقد فسق عن الموكب العظيم، المسبح الساجد لربه الكريم. إن على الإنسان أن يهتدي إلى الطريق الحق الذي يقوم عليه كل ما أبدع الله وخلق وإلا تعرض لأن يهلك ويمحق. وإن عليه أن يلتزم بنظام الاقتران القائم على السلام والميزان سواء بينه وبين أبناء جنسه أو بينه وبين سائر الأشياء والأحياء وإلا تعرض للعقاب والعذاب. ¶ إذن فما الذي يقيه الهلاك ويجنبه العذاب. ¶ لا واقي له إلا هذا الكتاب ولا هادي له إلا القرآن إلى الصواب، وكيف لا وقد عرفناه (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) [طه:الآيات 4و5و6]. ¶ وما دام كذلك فهو الهدى الحق والدليل الأبلق. ¶ لأن من خلق وعلم، هو الذي يهدي إلى الطريق الأقوم. ¶ وإن من علم القرآن كل الأشياء، هو الذي به يهتدى، وكيف لا وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد فهو الذي يعلم ما يضر وما يفيد (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه:7و8]. ¶ إن من يعلم سرك وأخفى هو يهديك إلى السواء ¶ وإن من له الأسماء الحسنى هو الذي يدلك على الحياة الحسنى، وهو الذي يطاع ويخشى، وعلمه هو الذي به يقتدى. وإلا فالمصير مهين في الأولى والأخرى. ¶ (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه:124]. ¶ إن علم الرحمن هو الضمان لفوز الإنسان بالفلاح والأمان. ¶ ومن أراد علما سواه فقد هوى وغوى وخسر الدنيا والأخرى، ولقد جاءك هذا العلم من الرحمن في هذا القرآن إنه إسم يدل على أن القرآن يقرنك برحمة الله وعونه وهداه وإذا قرنت به نلت السعادة والاطمئنان. ¶ ويقرنك بالذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ¶ ويقرنك بالدرجات العلى في جنة المأوى. ويقرنك بالحياة الخالدة في جنات النعيم، ويقرنك بالقرب من ربك العلي العظيم. ¶ فيا له من مقام سامق رفيع، (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) ¶ نعم إن القرآن المقروء يقرن العامل به بكل خير وجمال وكمال لأن القرآن فيه علم غزير من علم الله ونور وفير من نور الله وهدى من الله (من يهد الله فهو المهتدي) نعم هو المهتدي محصور مقصور عليه الهدى ولسواه لا يتعدى ولهذا قال: (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف:15]. ¶ ولو أردنا مزيدا من التعمق في اسم القرآن نقول: ¶ إنه اسم يدل على المسمى، خبر اسم لخبر مسمى، وكيف لا وهو يقرن بين رب العالمين وعباده ويقرن بين الغيب والشهادة وبين الموت والحياة، وبين بداية خلق الإنسان واستخلافه على الأرض، وبين نهاية حياته في هذه الأرض وحشره للحساب والعرض. ¶ بين النطفة الإنسانية المكنونة في الأرحام وبين الجثة الفانية المدفونة في الركام، بين الملائكة الذين هم عباد الرحمن وهم يستجيبون لأمر ربهم بالسجود للإنسان وبين جنود الشيطان الذي عصى الرحمن وأبى السجود للإنسان، وأعد نفسه للإغواء ونصب نفسه عدوا للإنسان مدى الزمان. ¶ إن القرآن يقرن بين نكد الدنيا وخلود الأخرى. ¶ إن القرآن يقرن بين الجنة وبين النار وبين نعيم الأبرار وجحيم الفجار. ¶ بين علم الأنبياء وجهادهم وبين جهل الأغبياء وعنادهم. ¶ بين صلاح المؤمنين وفساد المسرفين. ¶ بين استقامة التقاة واعوجاج الطغاة، بين المتبعين الأخرى واطمئنانهم وبين المحبين الدنيا وجنونهم، يقرن بين إخلاص المستجيبين لربهم وتربص المنافقين وريبهم، بين الحرب وبين السلام، وبين الكفر وبين الإسلام. ¶ بين الزلازل والاستقرار، وبين الإعمار والدمار، بين الفساد وبين الإصلاح، بين من زكى نفسه وبين من دساها، وبين الخسران. ¶ بين صبر الأوابين ومكر المرتابين. ¶ بين من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فيسره الله لليسرى وبين من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فيسره الله للعسرى. ¶ بين من طغى واتبع الهوى، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. ¶ بين من يئس من رحمة ربه فتاه في ضلالات واعتمد على الأسباب فباء بالتباب، وبين من أحسن الظن بربه فنادى في الظلمات فنجاه ربه واستجاب. ¶ بين من اتبع الشهوات فلقي غيا وبين من نادى ربه نداء خفيا فكان به حفيا. ¶ هذه بعض المعاني المتقارنة المتقابلة في حياة الإسان وحالات نفسه ونتاجها وعقباها. ¶ ثم تعالوا إلى بعض المقارنات التي يحفل بها القرآن خارج النفس الإنسانية ولكنها متصلة بها ومقترنة بها ومؤثرة فيها. ¶ فالقرآن يقرن بين الرحمة والعذاب، بين سعادة المتقين وشقاء المكذبين، بين هلاك المستكبرين ونجاة المستجيبين، بين مصائر الغابرين ومآل اللاحقين، بين الماضي الذي لا يعلمه إلا الله وبين المستقبل الذي هو في علم الله، بين الأحكام المفروضة وبين العبرة والموعظة. ¶ بين فرض الشريعة المستقيمة العادلة وبين رفض البدعة المعوجة المائلة، بين الحث على صراط الحق المبين، وبين التحذير من انحطاط الباطل المهين، بين الذكر والأنثى، وبين الأزواج والنساء، بين الطيبة التي تخرج ثمارا رغدا، وبين الخبيثة التي لا تخرج إلا نكدا، بين الخير والشر، وبين السراء والضراء، وبين نمو الصدقات ومحق الربا. ¶ إنه يقرن بين الأرض وبين السماء، وبين الظاهر وبين الخفاء. ¶ بين ازدهار الشجر وبين اكتمال القمر. ¶ بين الصخر الرابض وبين الكوكب النابض. ¶ بين فلق الحبة في ظلمات الثرى، وفلق الإصباح في آفاق السماء. ¶ بين إيلاج الليل في النهار، وبين اختلاط المساء بالنهار. ¶ بين توالي الظلام والنور، وبين ما تخفي الصدور. ¶ بين إرسال الرياح المبشرة، وبين تسليط الريح المدمرة. ¶ بين السراب الكذاب، وبين السحاب السكاب. ¶ بين الظمأ والعراء، وبين الشبع والاكتساء. ¶ بين الخوف والشقاء، وبين الأمن والرخاء. ¶ بين البرق اللامع، وبين الطين الخاشع. ¶ بين السحاب الثقال، والرعد المسبح لذي الجلال. ¶ وبين السهول الطوال المهتزة بالثمار والجبال المتدفقة بالسيول. ¶ بين الريح المحرقة، والرياحين العبقة. ¶ بين الشمس وضحاها، وبين النهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها. ¶ بين السماء وما بناها وبين الأرض وما طحاها. ¶ بين النفس وما سواها، وبين فجورها وتقواها. ¶ بين أسباب الفجور والطغيان ، وأسباب التقوى والإيمان. ¶ إنها مقارنات تفترق وتلتقي، ومتقابلات يدركها الذكي. ¶ إنها تتضح لأولي الألباب، وتخفى على المسرف المرتاب. ¶ مقارنات تظنها متباعدة، وهي متساعدة. ¶ وتظنها متضادة، وهي متعاضدة. ¶ تظنها متعددة، وهي متوحدة. ¶ تظنها متناقضة، وهي متطابقة. ¶ هكذا هو القرآن المقروء متقارب تظنه متباعد وهو متقارب موحد، فهو ترجمة للقرآن الكوني. ¶ وانظر معي إلى بعض هذه المعاني: ¶ تظن أن الشمس تناقض الماء، وهي معه تتعاون على النماء. ¶ تظن أن البحر يختلف عن البر، وهما كفان يتعاونان على منح الإنسان العطاء أكثر. ¶ تحسب الشتاء يجافي الربيع، وهما وجهان للجمال البديع. ¶ تحسب الرمال ضد السيول، وهي تعاضدها على الوصول. ¶ تحسب الجبال تناقض السهول، وهي مخازن الخير والحطب والمحصول. ¶ تظن أن السماء والشموس والكواكب والأقمار بعيدة عن الأرض، وهي زينة ورجوم وبروج وحصون تحمي الأرض وتصون ومسخرة للإنسان بأمر الرحمن. ¶ وإذا عدنا إلى القرآن المقروء سنجد التقارن فيه كذلك. ¶ فأنت قد تظن أن الصلاة تعارض الشهوات وهي التي توصلك إلى ما تشتهي. ¶ تظن أن الجهاد يعارض الحياة، وهو في الحقيقة هو الحياة العزيزة. ¶ تظن التقوى تقف ضد الزينة والرخاء وهو الزينة الحقيقية من كل سوء، وهو اللباس الذي يستر كل سوآتك. ¶ تظن الإنفاق ينقص المال والبخل هو الأمان، مع أن الإنفاق هو النمو والأمان والبخل هو النقص والحرمان والخوف والأحزان. وهو العسرى، وهو الذي يردي في نار لظى، (لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى) ( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) لأنه يحرم من عطاء الله في دنياه وأخراه. ¶ تظن أن الصدق يردي، وأن الكذب ينجي، ولكن الواقع هو أن الصدق هو الحصن الحصين، من كل خطر في الدنيا ويوم الدين. وأقرأ قول الله: ¶ (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) [المائدة:119]. ¶ ولو أردت المزيد لزدنا ولكن لعل هذا يكفي، أيها القارئ الذكي. ¶ فقد أريتك النجد وعليك سلوك الطريق إلى هذا المنوال لتجد الجمال والجلال. ¶ سبحان من أنزل القرآن ذكرا لأولي الألباب، وهاديا للحق والصواب، منيرا طريق الفوز العظيم. ¶ وسبحان من علم كل شيء القرآن، وعلم الإنسان البيان، ليستبين طريقه على هدى القرآن. ¶ (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء:9]. ¶ والآن هل لي أن أقول لكم إن القرآن يعلمنا القرآن؟! ¶ ولقد عرفتم أن معنى الكلمتين مختلف بمعنى أن القرآن الأولى تعني القرآن المقروء وأن الثانية تعني النظام. وعلى هذا فالقرآن المقروء المنزل من رب العالمين بلسان عربي مبين يعلمنا القرآن أي الاقتران بنظام وانسجام وصلاح وسلام مع كل المخلوقات من حولنا ومع بعضنا فلا نطغى في الميزان على شيء من الجماد والحيوان ولا على أحد من بني الإنسان بل لا بد أن نقيم الوزن بالقسط ولا نخسر الميزان. ¶ فلا نفسد في الأرض بعد إصلاحها ولا نعتدي على شيء منها إلا بالحق والقسط والإحسان ولا نفعل الفاحشة ولا نشيعها ولا نفعل المنكر ولا نسكت على فعله ولا نبغي على بعضنا ولا نرضى به بيننا ولا على غيرنا من الخلق والحيوان. ¶ هذا هو المطلوب من الإنسان وهذا هو واجب الإنسان أمام ربه الرحمن الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والذي يقول: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)[النحل:90]. ¶ هذه الآية أجملت وأوجزت ما يأمر به الله في القرآن واختصرت ما يريده الله من الإنسان عبر الزمان وفي كل مكان، ولو أردنا التفصيل لطال المقال وتشعب المجال. ¶ ولكني أعود فأقول: إن القرآن يعلمنا القرآن. ¶ إننا حين نقول القرآن يعلمنا القرآن فإننا في نفس الوقت نعلم أن القرآن أنزله الله الرحمن الرحيم الذي له الأسماء الحسنى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) ¶ فهل تتصورون معي مدى عظمة هذا المصدر الذي جاء منه هذا القرآن؟ هل تدركون مدى علو شأن هذا الرب الذي أنزل هذا الكتاب للعالمين وأظهره للناس بلسان عربي مبين؛ إن أردتم إدراك ذلك فنحن لا نستطيع أن نصفه كما يستحق ولا نحصي ثناء عليه كما وصف هو نفسه وأثنى، فاستمعوا كيف قال وعوا: ¶ (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم(1)له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وهو على كل شيء قدير) ¶ أليس هذا يكفي؟ بلى، ولكن لديه المزيد (هو الأول والإخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) ¶ أتدركون عمق هذه الأسماء وإحاطة هذه الصفات؟ ثم ماذا؟ لنتابع معا: ¶ (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) ¶ هل تعرفون ما معنى استوى على العرش؟ هناك عدة آراء ولكن الله يحسم الموضوع فيقول مبينا: ¶ (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) ¶ هذا هو بعض معنى الاستواء إنه استمرار علمه بكل شيء وإحاطته بكل حركة وسكون. ¶ وليس هذا فقط بل هناك المزيد فلنقرأ ولنتابع. ¶ (له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الإمور * يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور) ¶ هذه هي الآيات الأولى من سورة الحديد من 1-6. ¶ فتأملوا كيف أنه محيط علما بكل خفايا الأكوان وأسرار الإنسان وأنه المحرك والمدبر لما يدور ويجري في كل حال ومكان، أينما كان، وأنه الحاكم في كل أمر وشأن، ومنه تبدأ الأمور وإليه مرجعها والمصدر. ¶ ثم ألا تلاحظون أن الآيات تنبه الإنسان إلى أن لا يظن أنه بعيد مستثنى عن هذا العلم والتدبير فالله يذكره بأنه من أهم هذه الكائنات شأنا وأن الله معه أينما كان وأنه بما يعمل بصير، وأن الله كما يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل في جوف السماء الواسع وفضائها المثير، فهو المطلع على ما في جوف الإنسان الصغير وهو به خبير ولهذا قال، (وهو عليم بذات الصدور) ¶ فهل بعد هذا البيان من بيان لمن يريد أن يفهم مدى سعة وعمق العلم الذي يلقاه في القرآن؟ ¶ إنه علم من هذا العلم الواسع الذي يختص به الله العلي العظيم. ¶ وإذن فإن على الناس أن يوقنوا بأن هذا القرآن هو العلم الذي ينير وهو الحق الذي لا ريب فيه وهو الصراط المستقيم وهو الذي يعلمنا كيف نتعامل مع كل ما حولنا من الأشياء والمخلوقات الصغرى والكبرى بأسلوب سليم وبسلوك مستقيم لا عوج فيه ولا فساد ولا بغي ولا إحباط ولا انحراف ولا عناد، إنه طريق الانسجام مع كل الأنام، والهادي إلى إقامة الميزان بالقسط والنظام، وهو النور الذي يبدد الحيرة والظلام، ويصد الظلم والبغي على مدى الأيام، وينشر ظل الحب والوئام، والأمن والسلام فلا عدوان ولا طغيان، ولا جوع ولا حرمان، ولا مسكنة ولا يتم ولا إذعان، ولا خوف ولا أحزان، ولا حرب ولا أضغان، ولا عسر ولا خسران، ولكن سعادة واطمئنان ، وحب وأمان، وبركات من السماء والأرض مضاعفة مدى الأزمان. ¶ هو هذا القرآن يا أيها الإنسان الذي أنزله إليك ربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، فيه تتعلم وتعلم، وبه تسعد وتسلم، وتفوز وتغنم، وتكون في الدنيا والأخرى ممن رضي الله عنه وأكرم. ¶ فإن أعرضت عنه كانت حياتك ضنكا، وعلمك شكا، وطريقك معوجا، ومنطقك لججا، وعيشك نكدا، وعمرك كدا، ولن تفلح إذا أبدا. ¶ فماذا تعلم غير ما علمك ربك؟ هل تعلم ما تكسب في غدك، إنك لا ترى ماذا وراء إذنك، بل إن ما تحت جفنك وفوق خدك غيب عندك، وهو أقرب شيء إلى عينك، فما بالك بما بين يديك وما خلفك من السماء والأرض، وما فوقك وما تحتك من الأجرام الصغرى والعظمى، إنك لا تدري عن ذلك شيئا، ومع ذلك تدعي معرفة الأسرار وأنت عن ربك بعيد، وتريد نيل الخيرات وأنت عنه تحيد وتبغي أن تسخر لك القوى والطاقات وأنت تنس خالق الأرض والسماوات، وتركن إلى ظنونك الواهنات. ¶ وبعد: هل سلمت معي أنك ضعيف عاجز؟ وأنك بدون ربك وعلمه غير فائز. ¶ إذن فكيف تتغلب على ضعفك والعجز؟ وكيف تنال النجاح والفوز؟ ¶ ليس أمامك إلا هذا القرآن الذي يعلمك فيه الرحمن كيف تقترن بغيرك من الكائنات، وكيف تتعامل مع إمكانياتها والطاقات، وكيف تفتح لك منها البركات، وتنهال عليك الثروات، وتسهل لك الممتنعات، وتسخر لك العسيرات، وتلين لك القاسيات، وتسير إليك الراسيات، وتظهر لك الغائبات، وتستجيب لك المستحيلات، وتلبى آمالك ومطامحك النجوم والذرات البحار والمجرات. ¶ هل تظن أن ما أقوله أحلام وأمنيات؟ وأوهام وخيالات؟. ¶ كلا كلا، إن ذلك ممكن لو كنت لله عبدا، وجعلت هداه هو الهدى، فلقد تحقق المستحيل لإبراهيم وزكريا فأصبحت العاقر ولودا سويا، ولقد استجابت البحار العميقة وانجابت الظلمات الكثيفة ليونس ذي النون فكان من الناجحين لأنه من عباد الله المسلمين. ¶ ولقد ذللت الريح العاصفة واستسلمت الجان لعبد من عباد الله المخلصين المسمى سليمان. ¶ فهل يطمح إلى مثل هذا التمكين إنسان لكنه تمكن منه لأنه استسلم لربه الرحمن واتبع هداه بيقين واطمئنان فكانت القوى الصعبة الجامحة في يده طائعة سانحة، بل لقد انزوت له المسافات واختزلت له الأوقات فإذا به يحضر عرش ملكة سبأ في سرعة تفوق سرعة الضياء، فهل وصل إلى هذا الإنجاز العلمي الرائع أحد بعد سليمان النبي؟ ¶ قد تقولون إنه نبي من الله، وأنا أقول: كلا، ولكنه نال ذلك لأنه عبد الله ولقد وصفه الله بقوله: (نعم العبد إنه أواب) ونحن نستطيع أن نكون مثله، لا أريد أن أعدد الأمثلة، فهي في القرآن واضحة ماثلة. ¶ ألسنا نقرأ سورة [القدر] إنها مثل من الأمثلة الماثلة، وهي لكل قارئ متناولة، وفي الألسن متداولة. ¶ أسألكم هل الله في هذه السورة يتحدث عن القرآن أم عن الليلة؟ إنه يتحدث عن القرآن فهو يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) أليس الضمير في أنزلناه إلى القرآن؟ بلى، ثم ماذا؟ ثم يتساءل عن دراية الإنسان بقدر هذه الليلة فيقول: (وما أدراك ما ليلة القدر) وهو تساؤل يفيد التعظيم والتشويق إلى الخبر الذي يحمله إلينا عنها، ثم يأتي الخبر لكل من تدبر، فاستمعوا: (ليلة القدر خير من ألف شهر) لعل هذا يكفي ولكن هناك المزيد من الصفات التي ترفع قدرها وتعلي، فما هي: ¶ (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر) ¶ هل عرفتم الآن قدر هذه الليلة؟ وهل أدركتم سرها؟ وهل علمتم أمرها؟ إن الآيات واضحة لمن تدبرها. ¶ ولكن هل يعني هذا أن نقف عند الليلة وننسى المحتوى الذي حوت والفحوى الذي إليه أشارت فما هما؟ إنها حوت إنزال القرآن، وهي بتلك الصفات والسمات ، هذا هو الذي حوت، فما هي الفحوى؟ ¶ هنا يكمن السر الذي لم يدركه الناس ولم يعوا، وهنا يقع المعنى العميق الذي غفل عنه المسلمون وفي عمقه وقعوا ولم يرتفعوا. ¶ إن هذه الغفلة أنستهم عظمة المحتوى وفضله وسمو الفحوى لمن عقله. ¶ إن فحوى السورة يؤكد لنا أن هذه الليلة إذا كانت بهذه الصفات العليات والسمات الساميات فإن ما حوته من الإنزال فيها لا بد أن يكون محتويا على تلك السمات ومتسما بتلك الصفات إن لم يكن أكثر وأوفر حظا. ¶ وكيف لا يكون كذلك وهو المحتوى والليلة الوعاء؟ ولا شك أن المحتوى لا بد أن يكون أغلى وأثمن وأنفع من الوعاء الذي حواه وإلا فإني أسألكم سؤالا بديهيا، هل يمكن أن تضع صدفا في حقيبة من ذهب أو حتى من فضة؟ كلا، ولكن قد تضع ذهبا في حقيبة من صدف أو خزف أو حتى فضة، لكن المحتوى لا بد أن يكون أغلى وأشرف. ¶ وإذن فإذا كانت الليلة لها تلك الصفات وقد حوت هذا التنزيل ؛ فإن المنزل فيها لا بد أن يتصف بما اتصفت به بلا شك. ¶ فهي مباركة وهو مبارك وهي سلام وهو سلام، وهي تنزل فيها الملائكة وهو تنزل به الملائكة وتنزل عل من تلاه. وهي خير من ألف شهر، وهو كذلك على مدى الدهر. ¶ لكن الغفلة قد أخذت المسلمين والتصور قد ران على المرتلين فاهتموا بالليلة ونسو الآيات المنزلة واهتموا بالوعاء ونسو المحتوى فإذا بهم ينتظرون هذه الليلة طيلة العام في كل عام، فإذا أهلت أو ظنوا أنها قد حلت أقاموا الصلوات ورفعوا الدعوات وأكثروا الأمنيات فإذا ذهبت الليلة ودعوها ورقدوا وظنوا أنهم قد ربحوا هذا على فرض أنهم قد عرفوا تحديد موعدها مع العلم أنهم مختلفون فيه فهي تدور بين الليالي العشر الآخرة بدون تحديد. ¶ لا سيما إذا ما عرفنا أن بعض الأقطار تبدأ الشهر قبل أو بعد سواها. ¶ وهذا يؤدي إلى اختلاف ليالي القدر فالليلة السابعة والعشرين في قطر هي الثامنة والعشرين في آخر أو السادسة وإذن فأين هي الحقيقة لموعد الليلة وأي التحديد أصح لها؟ لا ندري. ¶ وهكذا يصبح إدراكها لأحد الأقطار مشكوكا فيه إن لم يكن للجميع. ¶ وعليه: فما هو السبيل في إدراكها للجميع بدون فوات؟ إن السورة توضح ذلك وتحدده وتجعل إدراكها سهلا وممكنا باستمرار. ¶ قد تسألون كيف؟ ¶ والجواب يأتي في سؤال آخر أوجهه إليكم هو: ¶ هل تدركون ماذا يعني إنزال القرآن في ليلة القدر، هذه الليلة الموصوفة بأنها خير من ألف شهر وبأنها ليلة مباركة وغير ذلك من الصفات المعروفة؟ ¶ إن ذلك يعني أن صفاتها ليست مؤقتة بها وليست موقوفة عليها ولكنها دائمة الوجود ميسورة الظهور في كل يوم وحين في هذا القرآن المبين الذي أنزله رب العالمين. ¶ فكأن الله يقول: ¶ هل تريدون أن تكون حياتكم كلها ليلة قدر؟ هل تريدون أن تكون أيامكم كلها موصوفة بصفات ليلة القدر؟ هل تريدون أن تكون أعمالكم حكيمة مباركة وعلاقاتكم سلاما تنزل عليها الملائكة؟ ¶ هل تريدون أن تكون عيشتكم واسعة هنية بصورة سوية؟ ¶ هل تريدون ما لا يحلم به خيال من الجمال؟ ¶ هل تريدون ما تعجز عنه العقول من الكمال؟ ¶ هل تريدون حكمة الله معكم ، وعلمه ونوره بين أيديكم؟ ¶ هل؟ هل؟ هل؟ وإلى ما لا نهاية من الأحلام التي تتحقق والآمال التي تنال والسعادة والاطمئنان والعزة والأمان. ¶ هل تريدون الفلاح في الدنيا والأخرى والفوز برضى الله؟ نعم نعم يا رب. ¶ إذن عليكم بالقرآن إنه الحياة لكم من الموت، ونور يسعى بين أيديكم وبأيمانكم في ظلمات الجهل، (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) [الأنعام:123]. ¶ هذا أيها الأعزاء هو معنى (إنا أنزلناه في ليلة القدر. . الخ السورة). ¶ إنه إخبار لنا أن صفات ليلة القدر دائمة البقاء ظاهرة الأثر لمن عمل بالقرآن وتذكر والتزم به وتدبر. ¶ (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) [ص:29]. ¶ فهو للجمال الباب وهو للكمال اللباب وهو للخير والفلاح طريق الصواب، وهو النور لأولي الألباب. ¶ أما من كذب واستهزأ فليس له إلا الخسار والعذاب ولا يزيده إلا طغيانا وكفرا وتباب. ¶ إنه علم من الله علام الغيوب، ونور من الله نور السماوات والأرض وحكمة من الله العزيز الحكيم، إنه باختصار يشع بأجمل وأسمى آيات الله الحسنى ويكسو الناس وحياة الناس بمعانيها العظمى. ¶ فهل لكم بعد هذا أيها الناس من سبيل سواه ؟ وهل لديكم أيها الناس هدى غير هداه؟ كلا كلا فإنما هو العمى والأهواء. ¶ (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف:108]. ¶ (قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [البقرة:120]. ¶ (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف:17]. ¶ وبعد فتعالوا معي نتأمل كيف أن صفات ليلة القدر قد وصف بها القرآن في كثير من الآيات البينات ولن أستقصي ولكني سأضرب أمثلة فقط أليست ليلة مباركة؟ والقرآن مبارك؟ واقرأوا الآية السابقة من سورة (ص) أليس يفرق فيها كل أمر حكيم؟ (يس * والقرآن الحكيم) (تبارك الذي نزل الفرقان) أليس تنزل فيها الملائكة والروح؟ اقرأوا صفات من يعمل بالقرآن: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). ¶ أليست من كل أمر سلام؟ اقرأوا قوله تعالى: ¶ (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين(15)يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) [المائدة: 15و16]. ¶ أليست خير من ألف شهر في العطاء والبركات؟ اقرأوا قوله تعالى: ¶ (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهمبما كانوا يكسبون) [الأعراف:94]. ¶ (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء:9]. ¶ (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا)[الكهف: 2و3] ¶ ماذا تظنون بقوله تعالى: (أجرا كبيرا) إنه كبير من الله الكبير الغني الذي عنده خزائن كل شيء وما عنده باق لا يفنى. ¶ وماذا تظنون بقوله (أجرا حسنا)؟ إنه الحسن الذي لا يساويه حسن وليس سواه حسن ولا يأتي إلا من الله المحسن البديع الغني الوسيع ومع ذلك فهذا الأجر الحسن يحيط بكم ويبقى نزلا معدا لمكثكم أبدا أبدا إلا أنه العطاء الذي لا يقدر عليه أحد أبدا إلا الله. ¶ هذه مجرد مقارنة سريعة لتعرفوا أن سورة القدر ليس المراد بها الاهتمام بالليلة بل بما نزل فيها وليس المراد التماس الليلة ولكن التماس ما نزل فيها. ثم ولماذا ننتظر الليلة وهي لا تأتي إلا مرة في العام؟ ¶ وبين أيدينا ما احتوت عليه مستمر العطاء على الدوام. ¶ ولماذا نحضر نفوسنا في ليلة وبين أيدينا بركات وخيرات تملأ الدهر كله ولماذا نقنع بليلة وأمامنا كل الأيام ولياليها لتكون كلها مباركة وتنزل فيها الملائكة ونبسم بالخير والسلام ويطلع فيها الفجر البسام الذي يجلو كل ظلام والجمال الذي يمحو كل قبح وآلام. ¶ إن القرآن هو الباب لمن أراد ذلك العطاء المنهمر. ¶ وهو السبيل لمن يروم ذلك النور المستمر، وهو الهادي إلى السلام والخير المنتشر والنمو الكامل والأمان الشامل. ¶ إن عملا واحدا بهدى القرآن يساوي ألف عمل لسواه بل يفوق. وإن يوما واحدا في ظل العمل بالقرآن يساوي بل يفوق ألف شهر بل هو خير من ألفي شهر، ولتعلموا أن كلمة خير تعني وتشمل كل جوانب الجمال والكمال فكيف لو كان العمر كله؟ والزمن كله يمضى على هدى القرآن إذا لتضاعفت من الله البركات والخيرات والمنجزات والإبداعات ليصبح ما نناله في ليلة وضحاها يفوق ما نحلم به على مدى القرون مهما طال مداها ويصير ما ننجزه في يوم واحد حافل يفوق ما نحاوله في قرون بلا طائل، ذلك لأننا في ظل القرآن نمضي على هدى الله ونوره ونسعى بأعينه ووحيه وعونه لكنا مع الجهل والهوى نمضي في ظلمات بعضها فوق بعض (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) ¶ وكيف لا وهو علم من علم الله علام الغيوب؟ الذي لا يعزب عنه شيء في السماوات والأرض ولا يغيب ولا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير. ¶ ولكي ندرك هذا المعنى الجميل في القرآن وهذا المقام الجليل للقرآن فإني أدعوكم إلى تلاوة بعض الآيات التي تتحدث عن القرآن فماذا ستجدون في هذا المشوار من البيان؟ ¶ ستجدون أن الله حينما يتحدث عن هذا القرآن يتبعه غالبا بأسمائه التي تدل على العلم والقدرة والإحسان والإبداع والجمال والحكمة لكن صفة العلم مع ذلك غالبة مهما تعددت الأساليب واختلفت الكلمات والتعابير. ولكي أختصر لكم الطريق؛ فسأدخل معكم إلى المجال ليتضح لكم الجمال فلنبدأ على بركة الله ذي الجلال. ¶ لنبدأ بسورة طه، ولنقرأ من أولها إلى الآية: 8. ¶ (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) ¶ أنظر أخي القارئ كيف أوضح الله أن مصدر هذا التنزيل ممن خلق الأرض والسماوات العلى ثم قال: (الرحمن على العرش استوى) والرحمن يعني أسماء من أسمائه العظمى التي تدل على عدة من أسمائه الحسنى وأهمها العلم ولهذا قال (على العرش استوى) فالاستواء هو الاستمرار في العلم بما يجري في خلقه والإحاطة بما دق وجل وظهر واختفى ولهذا قال مؤكدا علمه وإحاطته بكل شيء: ¶ (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) ¶ ثم لم يترك الإنسان الذي هو شيء هام في هذه الكائنات فقال ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب إليه: ¶ (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) ¶ فالإنسان معني بهذا القرآن فإذا كان تنزيلا ممن تلك صفاته وممن يعلم سر الإنسان وأخفى منه؛ فإنه هو الذي يرجى ويدعى ويخشى وهو الذي يهدي إلى خير الهدى، (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) فسبحانه المنزل القرآن الكريم والهادي إلى صراط مستقيم وهداه هو الهدى. ¶ هذا عرض سريع لمعاني الآيات، ألا تلاحظون أن العلم هو أبرز معاني الصفات الواردة لله في هذه الآيات؟ فهو علم للإنسان من الرحمن، ثم إذا شئتم مزيدا فلنقرأ معا أول سورة السجدة إلى الآية9: ¶ (الم(1)تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين(2)أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) ¶ نعم إنه تنزيل من رب العالمين وهو الحق من ربك، فما هو هذا الرب؟ ها هو البيان: ¶ ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) صدق الله العظيم [السجدة: 1-9]. ¶ أرأيتم كيف أتبع الخبر بإنزال القرآن بأهم صفات العلم؟ فهو(من رب العالمين) ورب العالمين لا تعني إلا الإحاطة بكل شيء والقرب من كل مخلوق والتدبير لكل صغير وكبير ونجم وقطمير، ثم أوضح وبين ما أجمل في (رب العالمين) بقوله: ¶ (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) ¶ فالخلق يعني الإبداع والابتكار على غير سابق مثال، وحفظ كل مخلوق وإمساكه عن الزوال، والقدرة على تسييره والهيمنة عليه في كل حين وحال. ¶ أما الاستواء على العرش فهو يعني الاستمرار في العلم بما خلق والإصلاح لكل ما جل ودق، والإجابة لكل من دعى وعلى الباب دق، ولهذا قال: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) ¶ فهو الولي الذي يدعى ويرجى ويخشى وهو الشفيع الذي بيده الأسباب وهو الذي يأذن لها بالنفع أو الضرر، وبدون ذلك ليس لها أثر، وهذا معلوم لمن تذكر (أفلا تتذكرون) فتدركون أن كل سبب وأثر بيد الله وأنه هو العليم بحال كل شيء، والرحيم بكل شيء وحي، وه والغني وإليه يفتقر الجميع (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) ومع علمه ورحمته وحكمه وقدرته فهو (الذي أحسن كل شيء خلقه) ثم خص الإنسان بما يميزه عن سواه، وفي حسن تقويمه سواه، وحسب الإنسان وكفاه تكريما أنه نفخ فيه من روحه وأعلا شأنه عنده، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، ألا أن هذا الذي أحسن الخلق وصور، لجدير بأن يشكر، وما الشكر إلا أن يعبد ويحمد ويرجى ويقصد وعلى هداه يعتمد، ألا وإن القرآن هو الهدى الذي جاء فيه علم الله وحكمته للإنسان، لينال به السلام والسعادة والأمان. ¶ ولكن الله العليم بما كان وما يكون يصفنا بقوله (قليلا ما تشكرون) ¶ وذلك هو الخسران وهو الحرمان من العلم الذي يأتيه من الرحمن إنها هذه الآيات دعوة للإنسان ليقبل على هذا العلم الذي خصه به عالم الغيب والشهادة تفضلا منه ورحمة بعباده وإلا فهو الغني عمن كفر والعزيز عن كل البشر. ¶ لكنه رحيم بهم وإن يشكروا يرضه لهم، بل ومن فضله يزيدهم. ¶ وبعد: فحسبي هذه الكلمة تعقيبا على الآيات فهي بينة لمن تذكر واضحة لمن تفكر فيا سعد من شكر واستجاب لربه الأكرم ومن علمه اغترف وتعلم، وبنفسه زكى وكرم. ¶ والآن: هل أزيدكم بعض البيان؟ وهل أقدم مزيدا من البرهان على أهمية وسمو العلم الذي جاءنا في القرآن. ¶ اقرأوا إن شئتم آخر سورة الحشر تجدوا ما هو أعظم. ¶ (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) ¶ هل قرأتم بإمعان؟ هل تفكرتم في هذه الأمثال الحسان؟ ¶ لو تفكرتم لخشعتم لله تصدعا، ولخشيتم الله تضرعا ولكن صبرا فإن ما سيأتي يدعو كل ذي لب إلى الخشوع منه إجلالا وإلى الخشية له امتثالا فاستمعوا كيف أوضح لنا مصدر التنزيل، إنه مصدر صاف جميل ومقام رفيع جليل ومنبع عذب سلسبيل، هل أنتم على استعداد للارتفاع معي إلى هذا المقام؟ إذن فلنقرأ معا ما يأتي باهتمام: ¶ (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) ¶ أسمعتم بتدبر؟ أقرأتم بتفكر؟ أعلمتم بتذكر؟ ¶ لو كان ذلك قد حصل فإنه لا مفر لي ولكم من الوجل لله الأجل. ¶ ولا بد من التعظيم لمن أنزل، ولما نزل لنا وبه علينا تفضل، وكيف لا وهو من هذا المصدر الأسمى، وهو الله الذي له الأسماء الحسنى. ¶ إنه فضل وكرم عظيم، ونعمة ورحمة لكل عقل سليم. ¶ إنه قرآن منزل بالهدى وبالبينات، ممن له تلك الأسماء والصفات، فماذا يعني هذا؟ ¶ إنه يعني أن ننال من معاني تلك الأسماء ما به تسمو إلى المقام الأسنى، فننال الرحمة والعلم، والسلام والأمان والعز والإيمان، والبراءة من الشرك ومن الذل للطغيان، إنه يعني أن العمل بالقرآن والإقبال على تدبره بإمعان أن تكون من أولي الحكمة والعرفان (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) فلا يخفى علينا سر ولا يصعب علينا شيء فالله فالله لنا سخر، ولا يمسنا ضراء بل تصبح الحياة يسر وسراء. ¶ إنه يعني أن حياتنا تكون واسعة حسنى لا ضيقة ضنكا وأن لنا في كل حال وحين من الله خيرا وعونا، وأن نكون برعايته منتصرين على كل شيء، آمنين من كل ضر، موفقين لما ينفع ويسر، وكلنا على صراط الحق مستبصر، فلا يضل ولا يشقى ولا يخاف ولا يحزن أبدا ولا يخشى غير الله أحدا. ¶ إنه مقام المخلصين المسبحين الموقنين القانتين الصادقين الصديقين المصلحين الصالحين العلماء الراسخين الشهداء الشاهدين ومع النبيين في عليين. ¶ إنه مقام رفاقنا فيه النخبة الأبرار المتقون، والسابقون المقربون، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين أولئك هم السعداء في الدنيا والأخرى، وهم الذين يرثون الفردوس الأعلى، وحسن أولئك رفيقا. ¶ فهل نحن نسموا إلى هذا المقام ؟ هل نطمح إلى هذا الفلاح والإكرام؟ ¶ لا شك أن كلنا يهوى الفوز العظيم والنعيم المقيم. فهل تدرون أن طريقه القويم هو هذا القرآن الحكيم. إنه هو لا سواه لأنه تنزيل العلي العظيم، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. ¶ ومن يهدي ومن يعلي ويرفع سواه؟ ومن يعطي كعطاه؟ لا أحد لا أحد إلا هو الله أحد. ¶ فهيا إذن إلى القرآن نتدبر ونتذكر ونسمو إلى المقام العلي عند مليك مقتدر. ¶ وإذا أردنا مزيدا عن هذا القرآن لننقل النظر من الحشر إلى آل عمران، فماذا نقرأ في أول السورة والعنوان؟ (الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم) هل أدركتم هذا الاستهلال الجميل الجليل؟ ¶ فهو الله الذي لا يشاركه شيء في الألوهية، ثم هو الحي القيوم. ¶ فهو الحي الذي منه حياة كل شيء هو الحي الذي لا يموت وكل شيء هالك إلا وجهه، وهو القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القائم على كل شيء بالقسط وبه يقوم كل شيء وبدونه يزول وهو الذي وهب للناس العقول ليقوم الناس بالقسط والميزان ويقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان . فكيف يمكن هذا للإنسان؟ إنه بهدى الله في القرآن. ¶ ولهذا جاء بعد تلك الآية العظيمة الاستهلالة الجميلة قوله تعالى: ¶ (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) ¶ فالكل من مشكاة واحدة ومن مصدر عظيم واحد هو الحي القيوم الذي لا يموت ولا ينوم فهو الهادي وهداه هو الهدى الذي ينير للناس على المدى ويمنحهم الأمان والفوز في الدنيا والأخرى. ¶ وإذن فإن المخالف بهذا الهدى والمنحرف عن هذا الطريق هو الهاوي في مكان سحيق، وهكذا جاء للآية الختام فقال الله العلام، (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ) ¶ وهذا هو الذي يستحقه من استهان بآيات الله العلي العظيم. لقد اتخذ إلهه هواه واتبع الشيطان الرجيم. ¶ ثم إن الله كما وصف نفسه بالعلم المحيط في الآيات التي أوردناها قبل هذه من السور فإنه هنا يؤكد نفس المحور فيقول: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) ¶ نعم نعم يارب هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ولا مراء، وإنه لواضح في كل حال وحين، ألم يخلق الله الناس ويصورهم من ماء مهين فجعلهم بعلمه وقدرته سامعين مبصرين وفي أحسن تقويم معتدلين، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وها هو الدليل يلي في الآيات بشكل مبين، فالله يقول للعالمين: ¶ (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) ¶ أليس هذا هو الواقع بلا مدافع، من ذا الذي يختار لنفسه الحجم والوزن واللون والصورة؟ ¶ من ذا الذي يعلم ماذا يجري في ظلمات الأرحام؟ من أطوار ومن خلق بعد خلق بدقة وانتظام. ¶ لا أحد يدري ولا يعلم ولا لأحد في ذلك مشاركة أو أسهم. ¶ بل هو الذي يصورنا كما يشاء وهو الذي يختار، (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) هكذا يختم الآية ويقرر وبهذه الحقيقة يجب أن نقر وله نعبد ونكبر. ¶ وبعد: فلا بد أن أشير في النهاية إلى قضية هامة وحقيقة ظاهرة ذلك أن كل الآيات التي أوردناها من مختلف السور والحافلة بصفات العلم لله لا بد أن نعرج على الإنسان. ¶ ونخبره أن العلم الذي عند ربه، متصل ويحيط به في كل حال وطور من أحواله وأطواره وفي مختلف تقلباته وجوانبه. ¶ فالله هو الذي يعلم عنه السر وأخفى وهو الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، بل هو الذي خلقه من طين ثم طوره إلى سلالة من ماء مهين. ¶ ثم رقاه إلى خلق آخر ذي سمع وبصر وفؤاد مبين. ¶ فواجبه أن يعبد ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. ¶ فتلك هي المهمة التي خلق لها وهي الأمانة التي حملها وهذا هو الحق الذي به خلق الله الأرض والسماوات وما بينهما، وهو الذي يدعو إليه الإنسان، ومع كل الأنبياء والمرسلين، وفي كل الكتب وفي التوراة والإنجيل والقرآن. ¶ ألم يقل الله في هذه السورة (نزل عليك الكتاب بالحق) فالحق هو الذي يجب أن يقوم في حياة الإنسان، لأن كل شيء به محكوم، وعليه الأرض والسماوات تقوم، وتذعن للحي القيوم. ¶ وهكذا يكون القرآن، هو الهادي إلى الحق والميزان، الذي قامت به كل الأكوان. ¶ وبناء على هذه الحقيقة فإني اختم هذا المحور بأروع وثيقة. فلو تأملنا سور القرآن وتدبرنا الآيات بإمعان، لوجدنا أن فيه خمس سور تبدأ بالحمد لله. هي الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر. ثم ماذا؟ ¶ إن هناك أربعا منها تبدأ بالحمد لله على شيء عظيم فهو يحمد لأنه رب العالمين [في الفاتحة] ¶ وهو يحمد على أنه: (الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) [في الأنعام] ¶ وعلى أنه (الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الإخرة وهو الحكيم الخبير) [في سبأ]. ¶ ثم وبعدها: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا) [في فاطر]، فهو المحمود في الأربع لأنه خلق السماوات والأرض وأبدع وأقامها على الحق الذي به الباطل يزهق، فماذا بقي بعد ذلك؟ ¶ لكنا لو عدنا إلى الوسطى أي إلى واسطة العقد في الخمس السور وهي سورة الكهف، فماذا سنجد؟ ¶ (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) ¶ فالسورة تبدأ بالحمد لله، على ماذا ولماذا؟ إنها تنفرد بشيء دون سواها، إنه إنزال الكتاب، هل تدرون ماذا يعني هذا؟ ¶ إنه يعني أن إنزال الكتاب على عبد الله ورسوله إلى العالمين يساوي خلق السماوات والأرض ويساوي خلق كل العالمين. ¶ لماذا؟ لأنه نزل بالحق وكل شيء في السماوات والأرض وكل العالمين قائم بالحق ومخلوق بالحق. ¶ فليس لعبا ولا عبثا، ولا باطلا ولا سدى. (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) ¶ إذن فالإنسان لا يستطيع أن يسير في موكب الحق إلا بهذا القرآن وإلا فحياته باطل وبهتان وهكذا أصل بكم إلى هذه الحقيقة العظمى للقرآن وأختم هذا المحور الأول من مفردات القرآن التي كان أولها كلمة [قرآن]. ¶ والآن فإني أدعوكم للعودة إلى ما قررناه قبل الآن وهو أن القرآن يعلمنا القرآن. ¶ ألا تتذكرون هذه العبارة، القائمة كالمنارة؟ ¶ إنها حق لا ريب فيه وواقع لا جدال فيه، فالقرآن يعلمنا كيف نقترن مع هذه المخلوقات العظام، وكيف نسلك معها باتزان وانتظام، وكيف نتعامل معها بصلاح وسلام. ¶ ثم كيف نتعامل مع بعضنا البعض ومع أنفسنا بعدل واتزان، فلا نطغى في الميزان، ولا نخترق الاقتران، ولا نفجر الاطمئنان، ولا نتعدى نظام الرحمن، الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان. ¶ إلا أن على الإنسان أن يفهم أن الخروج عن صراط القرآن هو الهم والغم وأن الانفلات من هدى ذي الجلال هو العمى والضلال وأن الفرار من حكمه هو الفساد والانحلال، وأن الاعتماد على الهوى هو الخسران والوبال، وأن عبادة المال هو الحروب والافتتال، وأن اتباع الطغاة هو الهلاك والوبال، وأن الجهل بعلم القرآن هو الذل الذي يطحن الجبال، ثم ماذا بعد؟ ثم وهو الأدهى والأمر لكل البشر، الحشر إلى جهنم ولبئس المستقر. وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير مع الحاضر ومن غبر، (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الإخرين * كذلك نفعل بالمجرمين) [المرسلات: من16 إلى19]. ¶ إن لم تصدقوا كلامي فانظروا في حال العالم اليوم، إلا إن ملامح الهلاك على الأحوال واضحة، وأن أسواط العذاب على ظهور العالم جامحة، والرمضاء والبأساء والضراء تحت أقوالهم لافحة، وأن أظافر الفقر والجوع على جلودهم جارحة. ¶ هذا ملموس لكل ذي لب مستنير، رغم المال والثراء الكثير، نعم إن الثروات كثيرة، ولكن الكوارث مستطيرة، وإن الخيرات متدفقة، ولكن الخلافات منبثقة، والصناعات والزراعات والعمارات واسعة ولكن الجموع عارية جائعة. ¶ الإنسان يطور سلاح الدمار، ويطلق الصواريخ والأقمار، لكنه يعجز عن تضميد جراح المرضى وتوفير العقار، يرصد أجهزة التجسس على السائرين والنائمين، لكن الذعر يعتري قلوب الراصدين والمرصودين. ¶ مسكين هذا الإنسان يطور السلاح ويطلق الصواريخ والأقمار للحرب والدمار، وحماية الطغيان والاحتكار، لكنه يعجز عن تضميد جراح مظلوم ويبخل عن قيمة العقار، يرصد الملايين لأجهزة الرصد والتجسس على الساهرين والنائمين والقاعدين والسائرين، لكن الذعر يغتال الراصدين والمرصودين والساهرين والنائمين ويظن شركات التأمين هي الأمان المكين لأصحاب الملايين، لكن الخوف يعصف بالملايين وأصحاب الملايين. ¶ الإنسان يكنز في البنوك الأموال، ويخترع أبشع وسائل الاستغلال، ويوسع شركات الاحتكار في كال مجال يظنها الأرباح والنجاح للكانزين والمحتكرين لكن الهلع ينهش المستغلين والمستغلين، والفزع يرعش المستكبرين والمتسضعفين، والإنسان يظن سعة الملاعب وباذخ الملاهي وفاخر القصور، تجلب الفرح والسرور. ¶ لكن الحزن والضجر، يسكن الأكواخ وخيام النشئ وفاخرات الدور والخوف يخيم على الأفراد والجموع ويخترق الأفئدة التي في الصدور. ¶ إنه عذاب واصب وقلق دائم، ألم يسطر على العالم والخاسر والقائم؟ فهل من مهرب ينفع؟ هل من ملجأ يمنع؟ ¶ كلا إن المزيد من الجشع، يشعل نار الهلع والبغضاء والفزع، إلا أن المفر للإنسان هو في ظل القرآن، إنه في عبادة الرحمن، إنه هو السلام والأمان، هو الخير والاطمئنان، إنه هو المنجي والواقي والحامي من الآلام والكروب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). ¶ وما هو ذكر الله المراد في هذه الآية؟ ¶ إن ذكر الله المراد هو العلم الذي جاء به القرآن وسيأتي لكم في هذا الكتاب ما يؤكد هذا المعنى للذكر ويكفي أن أدلل على ذلك هنا بقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام لقومه وقد اتهموه بالضلالة: (قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) [الأعراف:61و62] ¶ وإذا كان يعلم من الله ما لا يعلمون؛ فإنه يواصل الحديث معهم فيقول: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون) [الأعراف:63] ¶ بل إن هودا يؤكد نفس المعنى إذ يقول لقومه وقد رموه بالسفاهة (قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ) ¶ ثم يقول: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) [الأعراف:67و68و69]. ¶ فماذا يعني لكم الذكر في قولي نوح وهود؟ ¶ إنها تعني العلم لا غير؛ ذلك أنهما أبلغا قومهما رسالات ربهما وما الرسالات إلا علم جديد من عند الله لم يكن هؤلاء الجهلاء يعلمونه إلا بواسطة الرسل. ¶ وهل هناك جهل أشد وأظلم من قول قوم هود وقد بلغهم أن لا يعبدوا إلا الله فماذا قالوا؟ استمعوا هذا الجهل المطبق: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) [الأعراف:70] ¶ إنهم يتمسكون بعادات آبائهم وضلالهم المهلك ويذرون عبادة الله وحده وهو الحق الذي يخرجهم من الخوف والذل ويمنحهم حياة مخلدة. ¶ أليس هذا هو الجهل بلا حدود؟ بلى بلى إنه البهتان والتمسك بما لم ينزل به الله من سلطان، وهذا هو العمى والضلال والهوان. ¶ إذن فالذكر الذي جاء به نوح وهود لم يكن إلا العلم الذي استنكره الجهلاء وارتضوه وكذبوا الرسول وضللوا الأول والثاني سفهوه، ألا إنهم هم الضالون وهم السفهاء ولكن لا يعلمون. ¶ ولكي نؤكد الموضوع أكثر فالله يقول في أول سورة (ص) (ص والقرآن ذي الذكر) أي: ذي العلم، وعلى هذا فالله يقول في آخر السورة نفسها (إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) ¶ أي إنه علم للعالمين وسيعلمون نبأه وصدقه بعد حين بأنه العلم الحق وكذلك حين يقول الله: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء: 10] لا يعني إلا كتابا فيه علم لكم من الله ربكم. ¶ ألم يبدأ السورة بقوله تعالى: ¶ (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:1و2] ¶ ويقول فيها أيضا: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون) [الأنبياء:42] ¶ ويقول فيها عن موسى وهارون في الآية: 48 ¶ (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) ¶ من هم المتقون؟ ¶ إنهم العلماء الذين يعلمون هذا الذكر فهم ¶ (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) [49] ¶ ثم يقول في الآية الخمسين بعد ذلك: ¶ (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) [50] ¶ إذن فهو العلم كما رأينا وكما تضح لنا وهذا ليس إلا قليل من كثير سيأتي في بحث معنى كلمة [ذكر] بإذن الله. ¶ لكني لن أغادركم حتى أعود بكم إلى السورة التي قبل الأنبياء وهي سورة طه، حيث يقول الله بعد أن أخبر رسوله محمدا بأخبار موسى وفرعون وهي علوم لم يكن يعلمها ولا سواه، يقول الله: ¶ (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) [طه:99/100] ¶ ثم وعن سجود الملائكة لآدم وإباء إبليس ثم وسوسته لآدم، ماذا يقول الله بعد ذلك في نفس السورة: ¶ (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [123/124/125/126] ¶ أليس في هذا ما يدل على أن الذكر هو العلم فالآيات لا تحوي سوى العلم. ¶ والآن وقد عرفنا أن المراد بالذكر هو العلم، وأنه كما يقول الله (ذكر للعالمين)، فكيف يكون ذكرا للعالمين وهو لم يصل إلى العالمين؟ هل يقول ما لا يتحقق؟ هل يعد بما لا يصدق؟ كلا كلا، فلا بد أن يصل هذا الذكر للعالمين ولا بد أن يعلمه كل الناس، ولكن كيف والنبي قد مات؟ كيف يتم ذلك والناس متمسكون بما لديهم من الملل وبالديانات ؟ وما هي إلا أهواء وضلالات. ¶ إنه سؤال مهم ، والجواب أهم لمن يعقل ويفهم. ¶ لكن الجواب عليه واضح البيان، وهو موجود في القرآن، فأين من يقرأون؟ وأين من يفقهون؟ ليؤدوا ما يحملون، لنبدأ من قوله تعالى للمسلمين: ¶ (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران:144] ¶ نعم ما محمد إلا رسول بلغ ما أنزل إليه من العلم وأوصل ما كلف به من الذكر وصدع بما يؤمر وبشر وأنذر وعلم وذكر ولقد علم بالبلاغ كل من حضر، وللنبي والنبوة عاصر، وآمن به وصبر، واتبع الذكر وتذكر، ولكن هل بلغه إلى من يليه من الأجيال، هل حمله إلى من يجهله من النساء والرجال؟ ¶ نعم ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وماتت وهو سيموت وقد مات فهل نحمل ما حملناه من بعده إلى غيرنا؟ أم ننقلب على أعقابنا؟ إذا انقلبنا فإن الله غني عنا ولن يتضرر بالانقلاب غيرنا لأننا أهملنا ما حملنا. ¶ وسيكون الضرر عقاب في الدنيا والأخرى وذل لنا ولمن بعدنا، لكن الأوفياء بحمل الرسالة وتبليغ القرآن لكن الشاكرين الذاكرين المتذكرين المذكرين بالقرآن جزاؤهم على الله فإنه شكور وفي معين، وهو يزيد لمن شكر، وغني عمن كفر، ولهذا قال: (وسيجزي الله الشاكرين) وهو وعد مؤكد من أصدق القائلين، فأين الشاكرون؟ هل تدرون ما هو الشكر؟ هو الوفاء بالعهد والصدق في الوعد ولهذا سمى الله نفسه شكورا، أي: وفيا بما يعد الشاكرين، فأين أين الأوفياء بحمل الرسالة الكبرى ليجزوا من ربهم الجزاء الأوفى (ومن أوفى بعهده من الله) لا أحد إلا الله. ¶ لقد قال الله لرسوله ولنا وللمشركين في عصرنا وقبلنا وبعدنا (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) قالها في سورة التوبة 33، وقالها في سورة الصف9، وهو وعد لا بد أن يتحقق إذا لقي من يحمله وبه صدق، فأين الصادقون؟ أين المرابطون؟ أين الصابرون على الصعاب؟ أين المتذكرون؟ (إنما يتذكر أولوا الألباب) ¶ أيها المسلمون: ألم يقل ربكم لرسوله محمد ولكم(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [سبأ:28] ¶ ويقول: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ¶ وإذا كان محمد قد مات؛ فكيف يكون للناس كافة بشيرا ونذيرا؟ ¶ وإذا كان محمد قد لحق برب العالمين مع غيره من المرسلين؛ فكيف يكون رحمة للعالمين؟ وكيف تصل الرحمة إليهم أجمعين؟ هل يخبر الله تعالى بما لا يكون؟ هل يقول الله سبحانه ما لا يتحقق؟ ¶ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (ومن أصدق من الله قيلا) ¶ إذن فما الوسيلة لوصول الإنذار إلى العالمين ؟ وما هو الطريق لنشر رحمة الله للعالمين بهذا الرسول الأمين؟ ¶ إن الوسيلة بيدكم وأنتم الوعاء الذي يحمل ما أنزل ربكم إلى من حولكم، وإن الواجب ملقى عليكم من بعد رسولكم. ¶ فهل تقومون بالواجب أم تتقاعسون؟ هل تنفرون للدعوة أم تتثاقلون بالشهوة؟ ¶ (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) [التوبة:39] ¶ إنكم مكلفون بنص القرآن ما دمتم تدعون أنكم أتباع محمد رسول الله، (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف:108] ¶ إن من الشرك أن تخالفوا أمر الله خوفا من سواه وتخلدوا إلى الأرض كمن أخلد إليها واتبع هواه، وتركنوا إلى الضالين، الذين يصدون عن سبيل الله ويغوون الدعاه بالمال والجاه. ¶ فإن فعلتم ذلك فأنتم من الطغاة الذين يمقتهم الله، إن المسلم الصحيح الإسلام هو من قال: ربي الله ثم استقام، وبالمهمة والدعوة قام، كما فعل محمد المرسل للأنام، والذي يقول له ربه ولكم معه على الدوام: ¶ (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) [هود:112و113] ¶ هل تريدون زادا وعونا للتوفيق؟ ها هو الزاد في القرآن يدلكم على الطريق. ¶ (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [114و115] ¶ هذا هو الزاد للذاكرين المتذكرين، لكن المترفين المخلدين إلى الأرض المتثاقلين بالشهوات فهم سبب الفساد والهلاك لأنفسهم وللناس ولهذا يقول الله مخبرا عمن سبق: ¶ (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين) [116] ¶ فماذا كان مصير المجرمين؟ إنه الهلاك والعذاب المهين. ¶ فالله لا يعذب إلا من يستحق ومن ليس بالذكر يصدق. ¶ (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) [117] ¶ فالصلاح هو سبب البقاء والنماء والفلاح، أما الفساد فهو الطريق إلى الهلاك، فهل تنتظرون هذا المصير؟ ¶ هل تستهزئون بما أنزل وبالرسول الذي أرسل؟ ¶ (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لما جميع لدينا محضرون) [يس:30و31و32] ¶ نعم إن لم تحملوا ما حملتم من القرآن، وإن لم تبلغوا ما ورثتم من الذكر والبيان إلى كل بني الإنسان؛ فأنتم أيها المسلمون مستهزئون بالرسول وبالقرآن وعاصون للرحمن وذلك هو الخسران وذلك هو الهوان (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) [الحج:18] ¶ هل تريدون إيضاحا أكثر يؤكد لكم وجوب حمل القرآن إلى البشر؟ ها أنا أواصل السير والقرآن هو المصدر والله هو النصير. ¶ لنعد قليلا معكم إلى ما قبل الآية التي أوردناها في سورة يس، لقد وردت بعد أن ضرب لنا مثلا: ¶ (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين) الآيات: 13و14و15و16و17 ¶ نعم ما على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بلغوا وذلك واجبهم وكفى، وكيف لا وربهم يعلم أنهم مرسلون؟ وهو الذي يكافئ ويجزي فمنه الأجر لا من الناس وعليه الجزاء بقدر الإخلاص. ¶ (تنبيه) ¶ وقبل أن أصل بكم إلى نهاية المطاف أنبه هنا إلى قضية هامة، ذلك هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه المفسرون، فلقد قالوا: (إن هؤلاء الرسل الثلاثة مرسلون من عيسى إلى هذه القرية) وهذه والله فرية يكذبها في النص القرآني كل آية أليس الله يقول: ¶ (إذ أرسلنا إليهم اثنين) ¶ فالإرسال منه لا من عيسى، ثم إن الرسل يقولون: (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فهم مرسلون من ربهم لا من عيسى. ¶ قد تسألون لماذا أنبه إلى هذا وبهذه الحدة؟ وأنا أقول لكم: إن هذه الروايات دخلت علينا من اليهود والنصارى الذين يجعلون من عيسى إلها مؤهلا ليرسل الرسل ويشارك الله في هذه الخصوصية التي اختص بها دون سواه. ¶ وعلى أي حال، فإن الرسل هؤلاء ليسوا من عيسى، ولكنهم من الله. ¶ وها نحن نراهم قد بلغوا وانتهت مهمتهم عند البلاغ الذي أمروا به (وما علينا إلا البلاغ المبين) والناس بعد هذا هم المسئولون ولا بد أن ينقسموا بين مكذب ومصدق، فالمكذب جزاؤه عند ربه، والمصدق عليه أن يحمل ما آمن به وأن يقوم بواجبه. ¶ وهذا ما حدث في هذه الآيات، ألا تلاحظون أن سياقها سكت عن الرسل نهائيا وانتقل، إلا الشيء المهم من بعدهم وهو حمل البلاغ عنهم. ¶ فإذا الرسل الثلاثة لم يخرجوا من مهمتهم إلا برجل واحد آمن بهم ولكن هذا يكفي لأنهم لا يريدون كثرة الأتباع ولكن المهم هو صدق الاتباع. ¶ ثم إن الله غني عمن كفر، ولا يزيد في ملكه من شكر، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر ويرضى لهم الشكر. ¶ وعلى هذا الأساس نرى الآيات تركز أكثر على دور الرجل الذي استجاب منفردا لربه وشكر واتبع الرسل ونصر. ¶ فانظروا كيف أن سياق الآيات جعل دوره أبرز إفصاحا وأكثر إيضاحا، لقد اهتم به الله وأفرده بالحديث وجعله هو المهم في المثل، ولنقرأ: ¶ (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) ¶ هكذا جعله منكرا ليدل على أن حمل الرسالات قد يفوز بها أي رجل مهما كان موقعه في ميزان الناس فهو عظيم في ميزان الله. ¶ إنه رجل ومن أقصى المدينة ليس من أعيانها ولا من الملأ المسرفين المترفين الذين يحبون الدنيا، كلا إنه رجل للخير يحب ويسعى، (قال ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) ¶ لقد فهم الرسالة وأحب لقومه اتباعها وعرف أن الرسل مهتدون ويهدون وللأجر لا يسألون وهذا دليل على صدقهم فيما إليه يدعون فكيف لا يتبعون، إن الخير كل الخير للقوم في اتباعهم لا في اتباع المسرفين الذين يضلونهم وهم يسلبون جهودهم ويأكلون أموالهم. ¶ وهذا هو شأن الناس مع طغاتهم يتبعون من يذلهم ويؤذي، ويكذبون من يعزهم ويهدي. ¶ أليس الرسل يدعون إلى عبادة الله الذي خلق الإنسان وفطره ورزقه وله ما في الأرض والسماء سخر، إنه بعبادة الله يسمو ويتحرر، ويكرم ويؤجر، وذنبه يغفر يوم يحشر، وذلك هو المقام العزيز والهدف الأكبر. ¶ (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) ¶ كيف لا أعبده وأرجوه وهو الذي أمري بيده وإليه مرجعي ومرجعكم جميعا (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا) ¶ ثم إن عبادتي لله هي التي تحمي وتصون، وتدفع عني كل خوف وحزن في الدنيا والدين وسوى الله فقراء عاجزون، لا يضرون ولا ينفعون، ولا حتى عن أنفسهم للضر يدفعون. ¶ (أأتخذ من دونه آلهة إن يردني الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) ¶ أليس هذا هو الملموس في كل حين لمن يعقلون؟ إذن فمن عند غير الله فهو في ظلال وهوان، ولهذا يختم القول بقوله: (إني إذا لفي ضلال مبين) ¶ ثم يتبعه بالإعلان الساطع الرائع، يسمعه كل سامع، وليغيض به كل مكذب ممانع فيقول: (إني آمنت بربكم فاسمعون) إنه ربي وربكم فالمفروض أن تؤمنوا مثلي وتسمعوا قولي: وهكذا يحمل الرسالة شجاعا قويا لا يخاف أحدا ولا يخشى مسرفا، فالله ربه سوى، وهو حسبه وكفى. ¶ وهنا يأتي التعقيب على موقف الرجل السوي، وإيمانه القوي، وعقله الثاقب المضيء، فإذا به يفوز بالجنة عند ربه الأكرم، وفي المقام المكرم، فهو عند الله أكرم من القوم أجمعين، وأسمى من كل المسرفين، فهو في الجنة من المكرمين، يتمنى أن ينال ما نال: (ياليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) لكنهم لم يعلموا لأنهم أسرفوا فتلقوا (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) لقد أحبوا الدنيا فما بقيت لهم ولا بقوا لها وأحب هو الأخرى فبقيت له وبقي لها خالدا مكرما ناعما منعما وهكذا يكون مقام من حملوا الرسالات وبلغوا ما أنزل الله من الآيات. ¶ وهكذا يفوز الصادقون الذين يواصلون ما بلغه المرسلون، وهكذا يكرم الشاكرون الذين على أعقابهم لا ينقلبون، فإذا مات الرسل فهم صامدون صابرون مصابرون وإذا فرغ الرسل من مهمتهم استمروا مسلمين وعلى طريق الحق ثابتين مرابطين (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) ¶ إنه مثل ضربه الله للمكذبين وللمؤمنين بالرسل، ألم يقل في أول السورة(إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم) ¶ ثم بين موقف المكذبين ختم بقوله (لا يؤمنون) ثم قال (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) فهما فريقان لا بد منهما مع كل الرسل، وللفريقين ضرب المثل ليتضح من صبر ومن كذب وكفر، ومقام من آمن وشكر، وليعرف المؤمنون أن واجبهم هو حمل الرسالة لينالوا التكريم وأن من اتبع الذكر عليه أن يبلغه ويدعو الناس إلى الصراط المستقيم ليفوز بالمغفرة وبجنات النعيم. وإلا فهو من المستهزئين بالآيات وبالمرسلين. ¶ فياحسرة على هذا لنوع من المسلمين الذين يزعمون أنهم أتباع محمد خاتم التبيين، وهم أتباع الهوى والشهوات والطغاة المسرفين، يريدون الإسلام، وهم نوام، ويريدون العزة، وهم عجزة. ويريدون المغفرة من ربهم وهم منقلبون على أعقابهم، مشتغلون بشهواتهم، راضون بالحياة الدنيا من الآخرة، مطمئنون إلى التافه القليل، وفي جمعه عباقرة. يخافون الطغاة، ويريدون أن يكونوا عباد الله، كلا لا يجتمع الشيطان والرحمن في مكان، ولا تجتمع الدنيا والدين في الجنان، ما جعل الله لرجل من قلبين في جوبه فهو قلب واحد. إما أن يسكنه الشيطان أو يسكنه الرحمن. إما أن يملؤه حب الله وإيثار الآخرة أو تكون الدنيا فيه هي المحبوبة المؤاثرة. فاختاروا أيها المسلمون إحدى الحالين، ولا تكونوا مذبذبين. ¶ أتخافون الموت؟ موتوا شهداء، ولا تموتوا أذلاء. ¶ أتخافون العذاب من الطغاة؟ تحملوا العذاب دعاة إلى الله، أحباء لله الصمد، ولا تعرضوا أنفسكم لعذاب الله الذي لا يعذب عذابه أحد. ¶ كونوا في إيمانكم صادقين، وفي الله مجاهدين، وإلى سبله داعين، لا تكونوا كما قال الله عن المؤمنين الكاذبين: ¶ (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين * وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) [العنكبوت:10و11] ¶ نعم إن الله يعلم سركم وجهركم، وإليه مصيركم ولن يسطيع أحد أن يدعي أنه دعى إلى الله وحمل رسالة الله وهو لم يعمل شيئا من ذلك بل اتبع هواه. ¶ إن يوم الحساب عسير، ولا تخفى على الله منكم خافية. ¶ ويومها سيقول: من أحب الدنيا والجاه والمال والسلطان واتبع الطاغية ما أغنى عني ماليه* هلك عني سلطانيه. ¶ لكن من صدق واتبع الحق وجاهد في الله وحمل إلى الناس آيات الله هو الفائز في دنياه ويوم يلقاه. ¶ لقد ضرب الله لنا مثلا في سورة يس بالرجل الذي مات في سبيل الله وآثر الحياة الأخرى على دنياه، فكان من المكرمين عند الله. ¶ فهل تريدون مثالا آخر ينجو فيه الحامل للرسالة من الموت ومن مكر الطغاة ويفوز برضاء الله؟ ¶ هل تريدون أن تبقوا للدنيا ولا تكونوا معرضين للأذى؟ ¶ ها هو المثال الثاني يأتي وبه يحتذى: ¶ قد تقولون لي هو هذا الفتى الذي حمل الرسالة بدون أن يؤذي، إنه رجل من أعماق الطغيان أطل، ومن ظلمات الضلال استهل، ومن صور الشرك بالله جاهد الشرك واستبسل. ¶ إن سألتم عن هذا الفتى فالجواب حاضر، فاقرأوا سورة غافر فالرجل هناك لكل متدبر للقرآن واضح ظاهر، إنه الشخصية التي استأثرت بالسورة، فلقد رسم الله له فيها أجمل وأسمى صورة، ليكون لمن بعده أسوة وقدوة مشهورة، وليكون آية للناس على أن جنود الله هي المنصورة. ¶ لعلكم قد عرفتم من أريد، ومن هو الفتى الذي نقصد. ¶ إنه مؤمن آل فرعون، والرجل الذي لم يخش المنون، أتدرون كيف برز للميدان؟ ¶ لقد برز في خضم الوعيد، وتحت بريق التهديد، بالقتل والتبديد، فبينما فرعون يقول مستكبرا متوعدا رسول الهدى: ¶ (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) [غافر:26] ¶ نسمع موسى عليه السلام يرد التهديد ويردع التضليل بالاعتصام بربه الجليل فيقول: ¶ (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) [غافر:27] ¶ وبهذا اليقين في رب العالمين يبرز الرجل كالشهاب اللامع، والنجم الساطع، والسيف القاطع، لتمزيق ظلام الكتمان عن إيمانه وليعلن أمام الملأ تسفيه الطاغية المستكبر ويدحض تضليله المسيطر وينبه الملأ الغافلين بأنهم في طريق الهلاك سائرون، ويضع أمامهم حجج الرسول بأسلوب سلس معقول وبيان ساطع في ليل التضليل. فاستمعوا الرجل المسئول كيف يقول: ¶ (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) [غافر:28] ¶ وهكذا يستمر مقارعا للطغيان ومدافعا عن الهدى والإيمان، وحاملا رسالة الحق بعزم قوي ما ضعف ولا استكان، يقاطع فرعون في الكلام، ويقف له ندا أمام الملأ النوام، ويشرح لهم قدرة الله العلام، ويوضح لهم مصير المكذبين وهلاك الغابرين، ويعلن خوفه على قومه والملأ من نفس المصير في الدنيا ، ومن السعير في الدار الأخرى، (وياقوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) [32-33] ¶ أترون كيف حمل الرسالة، وأتقن القول أمام الجهالة، أتدركون كيف وقف أمام الاستكبار؟ بقوة وإصرار، وعزم لا يلين لجبار. ¶ هكذا تحمل الرسالات، وهكذا يكون موقف المؤمنين بالله وعلى هذا الطريق يجب أن يمضي من اتبع الرسل مؤمنا، وآمن بربه موقنا. ¶ إنه يحمل ما حملوا، ويواصلوا ما بدأوا، ويستمر على الطريق الذي شرعوا. ¶ لا يضعف ولا يستكين، ولا يتردد ولا يلين. ¶ بل يواصل المسير بعزم ويقين يدعو إلى صراط ربه المستقيم، مطمئنا إلى نصر ربه العظيم، وحمايته من كل مستكبر لئيم. ¶ ولن أطيل عليكم في شرح ما قال وما فعل، وفي إيضاح ما أدى وما حمل، بل أصل لكم معه إلى نهاية المطاف لنجده محاطا بحماية الله والألطاف رغم التهديد والوعيد الذي ينشر الرعب والإرجاف في قلب من يرهب الموت ويخاف. ¶ وكيف لا والمرد إلى الله وهو الحاكم يوم الدين. وهو العليم بالمؤمنين والمسرفين. (وأن المسرفين هم أصحاب النار) ¶ لكن المؤمنين هم الناجون ولهم عقبى الدار، بهذا اليقين يختم الحوار فيقول: (فستذكرون ما أقول لكم) ثم يطلق في بدايته عنانه والقياد، فيقول: (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) فماذا جرى بعد هذا يا ربي: ¶ هل قتله فرعون أو تمكن؟ كلا، ولكنه عجز وخاب ونجى المؤمن وفاز (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب) ¶ أترون أن الله مع الصادقين، ينصر ويؤيد، وأنه معهم يحمي ويهدي، ويدمر من مكر ويردي، (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) .
مفردة الملك
هذه هي المفردة التي ربما تثير كثيرا من التساؤلات والاعتراض أو التردد أمام قبول ما سأقول.ذلك أن الناس اعتادوا على فهمها بالمفهوم الذي ألفوه وهو أن الملك يعني القيادة أو السيطرة والحكم للناس أو الاستيلاء في الأمارة، وهذا هو المفهوم الذي درج عليه الناس وفهموه ولكن هل هذا المفهوم صحيح في القرآن؟! وهل المراد بكلمة (ملك) أو (الملك) بضم الميم في القرآن هذه المعاني المذكورة؟
وهل المراد (بملك) بكسر اللام وبملوك جمع ملك أيضا هذا المفهوم؟.
لن أقطع معكم بقرار ولا برأي إلا بعد استعراض بعض الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة وهذه الكلمات.
وكذلك بعد أن نعرف معاني الآيات ومدلولها ونعرف ماذا يفيده السياق فيها من المعاني فهل يؤكد المفهوم المعروف للناس؟ أم أن لها معنى آخر لا يعرفه الناس؟
تعالوا معي إلى قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) [النساء:51].
إذن فاليهود الذين كان العرب الجاهليون يظنونهم أهل علم وكتاب قد أفتوا بهذه الفتوى العجيبة وأكدوا ان الكفار أهدى أي أكثر هدى من المؤمنين.
وهذا افتراء وكذب مع علمهم أن هذا القول افتراء وكذب.
إذن فهم لا يعملون بعلمهم ولا يتقون الله فيما آتاهم من الكتاب، ومع ذلك يزكون أنفسهم، وكفى به إثما مبينا.
فهم في الإثم غارقون، وفي الافتراء يعمهون.
وهكذا يعلن الله عليهم استحقاقهم للعن فيقول عقب ذلك: (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) [النساء:52]. (أم لهم نصيب من الملك) نعم (من الملك) فماذا تعني كلمة ملك؟
إنها تعني: هل يدعون أن لهم نصيبا من العلم والمعرفة بآيات الله؟
إذا كان هذا هو دعواهم وزعمهم فأين هذا العلم؟ ولماذا لا يؤتون الناس منه كما أنزله الله؟
إنهم لا يظهرون ما آتاهم الله بل ينبذونه وراء ظهورهم ويكتمونه ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
ولهذا ختم الآية بقوله:
(فإذا لا يؤتون الناس نقيرا)
أي إذا كانوا يزعمون أن لهم نصيبا من الملك ومع ذلك يفتون بهذه الفتوى المخالفة لكل مظاهر العلم؛ فإنهم والحال هذه لا يمكن أن يؤتوا الناس من العلم الذي لديهم شيئا ولا حتى ما يساوي النقير، والنقير هو النقطة الصغيرة التي تعلوا رأس نواة التمر.
فهم يكتمون العلم ويخفونه عن الناس وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهكذا جاء عنهم في سورة البقرة ما يؤكد هذا وهو أنهم يمنعون بعضهم عن تحديث الناس بما لديهم، فقال الله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) [البقرة:76-77].
وهم يظنون بهذا أنهم بمنجاة من الله لكن الله يرد عليهم بقوله:
(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) [البقرة:78-79].
ومثل هذه الآيات جاءت في سورة آل عمران في الآيات: [71و72و73]، وقد جاء فيها قوله تعالى عنهم:
(ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم)
هكذا قالوا ولكن الله يرد عليهم (قل إن الهدى هدى الله) فليس ما عندكم هو الهدى ولكن الهدى الحق هو هدى الله الذي يتلقاه محمد ثم يعود لحكاية قولهم لبعضهم وهو قولهم:
(أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم)
فيرد الله عليهم في ختام الآية بقوله:
(قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) [آل عمران: 73].
لا تؤاخذوني على هذا الاستطراد فذلك أمر ضروري دعت إليه القضية وهي قضية إخفاء اليهود للعلم الذي لديهم فهم لا يؤتون الناس من الملك نقيرا.
وهنا نعود إلى سياق آيات النساء فيقول الله بعدئذ عنهم:
(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) [النساء:54].
يعني أنهم يحسدون المسلمين على ما آتاهم الله من الملك (العلم) الذي أنزله على رسوله محمد في القرآن، هل يحسدونهم على هذا الفضل الذي آتاهم الله؟
ثم وما داموا يعلمون أنه علم وفضل فإن الواجب عليهم أن يتبعوا لا أن يحسدوا ولكن لا عجب فهذا هو ديدن اليهود وهذا شأنهم مع كل علم يأتي من الله على رسله إنهم يكذبون به وعنه يصدون ولا يتبعون إلا الذين يفترون، ولهذا قال الله في ختام الآية محتجا عليهم ومسجلا عنهم هذا الشأن الدائم:
(فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما)[النساء: 54].
أسمعتم ماذا آتاهم. . بماذا ختمت الآية؟ (ملكا عظيما) فماذا يعني بالملك يا ترى؟
تعالوا معي نتأمل ونتدبر.
نتأمل نهاية الآية وبدايتها للتعرف أن القضية المثارة هنا هي قضية علم وكتاب وهل في الكتاب غير العلم ولكن اليهود لا يعملون بالكتاب ولا يتبعون العلم.
إذا كانوا ممن يتبع العلم ويدعي أن له نصيبا من الملك ويزعم أنه مختص بهذا الفضل من الله؛ فلماذا لم يتبعوا إبراهيم وآل إبراهيم وهم يدعون أنهم أبنائه وحملة دينه؟
فقد أوتي هؤلاء من الله الكتاب والحكمة بل وأوتوا مع ذلك (ملكا عظيما) واختصوا به سوى الناس فماذا كان موقف اليهود ؟ ها هو الله يسجل موقفهم من هذا الملك الذي هو العلم فيقول:
(فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) [النساء:55].
فقد انقسموا فريقين فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه.
وهنا أسألكم، إلى أين يعود الضمير في "آمن به، وصد عنه"؟
إنه لا شك يعود إلى الملك الذي أوتيه آل إبراهيم، وهل الإيمان يكون بالملك بالمفهوم المتعارف عليه؟
وهل الصد يكون عن الملك بالمفهوم المعتاد لديكم؟
كلا لا يكون الإيمان إلا بالعلم ولا يكون الصد إلا عن العلم وهذا يؤكد أن المراد بالملك في الآيات هو العلم سواء في الآية 53 أو الآية 55.
ثم إني أسأل من ذا من آل إبراهيم أوتي الملك بالمفهوم المتعارف عليه؟
قد تقولون أوتيه يوسف وأوتيه داوود وسليمان.
لكني أقول لكم لا تتعجلوا فإني سأوضح لكم كيف تفهم المراد بما جاء من الآيات عن هؤلاء ولكن بعد أن نعود إلى إبراهيم أولا.
فأسألكم هل إبراهيم أوتي ملكا بالمعنى المتعارف؟
لا شك أنكم تقولون لا لم يؤت ذلك.
ثم أسألكم هل إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وإمامهم يدخل في هذه الآية أم لا يدخل؟
لا شك أنكم ستقولون أنه داخل فيهم فهو الرأس من الجسد وهو البداية والمنطلق لهذا العطاء الذي أوتيه ذريته وآله من بعده فالله يقول عنه:
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [العنكبوت:26].
ويقول عنه في سورة البقرة:
(ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [البقرة:130-131].
ألا ترون أنه الأساس في هذا الملك وهذا العلم الذي أوتيه هو وآل إبراهيم؟
فهو إذن داخل فيهم وهو ممن أوتي (ملكا عظيما) فماذا نفهم من هذه الكلمة؟
إننا نعرف أن إبراهيم لم يعرف الملك بالمفهوم المتعارف.
فهل يمكن أن نفهم الآية في النساء على الملك المتعارف عليه؟ وهل يمكن أن يخبر الله بما لا يكون أو بما لم يكن؟
كلا، إذن فما المراد بالملك هنا؟
إنه لا شك العلم الذي أوتيه إبراهيم من ربه، فكان للناس إماما وكان قدوة كل الأنبياء والرسل ويدعو إلى ملته كل امرأة ورجل في كل مكان وزمان.
ألم يقل لأبيه في سورة مريم:
(ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) [مريم:43].
أسمعتم لقد جاءه علم لم يؤت أباه ولم يؤت سواه فهو مختص به وبه ربه اصطفاه.
إنه علم عظيم جعله يطلب من أبيه أن يتبعه ليهديه الصراط المستقيم. فما أعظمه من علم، وما أسماه، إنه من علم الله. وعليه: فإنه هو الملك العظيم لا سواه.
لنقرأ آية النساء من جديد لنخرج منها بشيء جديد وفهم مفيد بإذن الله المجيد.
(فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما)
ولنقرأ ما بعدها لننال المزيد من المقصود، عن جهل اليهود، (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) [النساء: 55].
وبعد فإني هنا أكون قد أخذتكم لطريق واضح إلى فهم للكلمة واضح، وإلى معنى جديد لديكم لكنه أصيل لو تدبرتم، وإن أرتم المزيد من البيان فلنعد إلى القرآن ولن نغادر إبراهيم عليه السلام حتى يتضح أن الملك لديه من البداية حتى الختام.
أليس هو للناس الإمام وهو الذي علمه الله دون الأنام، كيف يحيي الموتى ويجمع العظام.
ألم يريه الله ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. إن هذا هو الملك الحق إنه معرفة الله مالك الملك الملك الحق واليقين بأنه له وحده العلم بالخلق وأن الملك له وحده في اليوم الحق، إن إبراهيم قد أيقن بهذا ومنه تحقق وتوثق. ولهذا كان في قراع وحجاج الطغاة المكذبين، لا يضعف ولا يلين، بل يعتصم برب العالمين. (الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين)
لقد كان علمه من ربه عظيما، وعلمه بربه عظيما، وكان يقينه بربه وثيقا، وكان رشده من ربه حقيقا.
ولهذا فإنه يقف أمام الأصنام محطما ليحطم كل صنم في النفوس والقلوب، وكان حجاجه مع قومه هو الغالب لا المغلوب، وكان هو الآمن مما يخوفه القوم المشركون، وهم الخائفون لأنهم بغير الله يعتصمون.
(فأي الفريقين أحق بالآمن) إنه إبراهيم بلا شك، وكيف لا والله يصدر حكما حاسما في ذلك فيقول:
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الآمن وهم مهتدون) [الأنعام:82].
وعلى هذا لا عجب أن تكون النار بردا وسلاما على إبراهيم، لأن معه ربه الله السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار العلي العظيم، الذي آتاه الملك العظيم.
ولأن إبراهيم صاحب علم ويقين، وملك من رب العالمين، فإن الحجاج يتواصل معه من القوم المشركين وها هو كبيرهم الطاغية اللعين يحاج إبراهيم في هذا العلم الذي جاءه من ربه العليم.
فلنسمع الحوار بينه وبين إبراهيم كما جاء في القرآن الكريم.
(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه)
إنها دعوة من الله إلى كل عبد ذي لب ليتدبر هذا الحوار العجيب.
فها هو الطاغية يدعو إبراهيم إليه ليحاجه في العلم الذي أصبح يعلنه على الناس ويصر عليه.
إذن فأسباب المحاجة هي لأن إبراهيم عنده علم منير فأراد الطاغية أن يرده عن هذا الطريق المثير.
ولهذا يقول الله بعد ذلك معللا هذا الحجاج:
(أن آتاه الله الملك) كثير من المفسرين يقولون بدون تدبر أن الضمير في (آتاه الله) يعود إلى الكافر الأثيم، فهل هذا صحيح؟
كلا إن الضمير يعود إلى إبراهيم الحليم الذي عنده علم عظيم فهو الذي آتاه الله الملك، وكان سببا في الحجاج معه.
لأن الحجاج لا يكون إلا مع عالم أو مع رجل عنده شيء جديد لا يقبله المجتمع الغافل فهو يثير معه الجدال العنيد.
هذا أدل دليل على عودة الضمير إلى إبراهيم وهو دليل عقلي، ثم إن الضمير لا بد أن يعود عادة إلى الأقرب إليه وهذه قاعدة نحوية معروفة وإبراهيم في الآية هو الأقرب ذكرا من سواه ولنقرأها مرة ثانية، (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك)
إذا فالضمير لا بد أن يعود إلى إبراهيم نحويا ولغويا وعقليا ثم لنتأمل بعد ذلك سياق الآية.
لنجد أن الله يغفل ذكر الكافر المحاجج بالإسم.
ويكرر ذكر إبراهيم بالإسم مما يدل على أن المحور في الآية هو إبراهيم لأنه هو المحاور العليم.
ولنقرأ بعد ذلك بقية الآية، (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت)
وهذا جزء من العلم الذي لدى إبراهيم وهذا النوع من الملك الذي أوتيه فالله هو المحيي والمميت.
وإذا كان كذلك فهو الرب الذي يرزق وهو الذي يرجى ويدعى ويخشى وهو الذي إليه الرجعى وعليه الجزاء، وشتان بين جزاء من اتقى وجزاء من طغى.
لكن الكافر يلج في الحجاج بالباطل ويتطاول في الدعوى (قال أنا أحيي وأميت) وهو أسلوب يتقنه الطغاة أبدا ليغروا الناس الأغبياء ،والأتباع الجهلاء.
لكن إبراهيم العليم الذي عنده ملك عظيم لا ينهزم للمكر اللئيم، بل ينبري بحجة تبطل دعوى الكافر الجاهل الأثيم، وتنبه كل غافل أنها حجة لا تخفى على كل عاقل.
لنسمع إبراهيم: (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب)
إنها حجة تثبت ربوبية الله وتبطل دعوى كل أحد سواه وتفرده بالربوبية وتدفن كل الدعاوى الشركية، وهنا يقف أمامه الكافر والمدعي الماكر عاجزا عن الرد ولهذا يقول الله (فبهت الذي كفر)
وكيف لا يبهت وهو الجاهل الغبي والغافل المدعي، والضال الغوي إلى الطريق السوي لا يهتدي (والله لا يهدي القوم الظالمين) [ البقرة:258].
والآن وقد استعرضنا الآية الكريمة أرجو أنه قد بان واتضح لكم أن الملك هو العلم. وأن الذي آتاه الله الملك هو إبراهيم.
ولن أغادر البقرة حتى نعرج على آية أخرى في السورة تتحدث عن بني إسرائيل فعندهم كتاب من الله وفيه علم من الله ولكنهم نبذوه واتبعوا الهوى ولهذا لم يصدقوا بالرسول الذي جاء مصدقا لما معهم من عند الله (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) [البقرة:101].
من المعروف أن كتاب الله هو العلم الذي ينزله على عباده ليهتدوا به إلى الحق والسلام.
ولكن هؤلاء القوم الذين أوتوا الكتاب فضلا من الله نبذوا هذا الكتاب، كتاب الله وراء ظهورهم فأصبحوا بذلك السلوك كأنهم لا يعلمون، أو أنهم تجاهلوا ما أنزل عليهم مظهرين أنهم لا يعلمون، وكلا الحالين ضلال وخسران مبين.
وليس هذا فقط بل كذبوا بالرسول الذي جاء من عند الله مصدقا لما معهم واستمروا في غيهم وباطلهم وجهلهم وتجاهلهم فهم كأنهم لا يعلمون.
وعلى هذا الحال العاطل أصبح هواهم هو الباطل، وهمهم هو العرض العاجل، فاتجهوا إلى أعمال لا تنفع في العاجل ولا الآجل، ذلك ما يوضحه الله في الآية التالية:
(واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان)
لقد تركوا العلم الحق واتبعوا الباطل والبهتان وانطلقوا يدعون أن السحر هو العلم الذي تركه سليمان وهو وهم روجه الشياطين منهم بين الناس ليتعلموه زاعمين أن هذا هو الطريق الذي تفوق به سليمان وسخر به الريح والجان.
ومن المعروف أن سليمان لم يكن ما ناله من الله هو السحر والوهم بل هو العلم فلقد أوتي علما وفضلا من ربه يفهم به منطق الطير والحيوان ويسمع النمل في أعماق الوديان، حتى لما أوتي بعرش ملكة سبأ لم يؤت به إلا بالعلم.
(قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)
فسليمان ما ادعى قدرته للتدبير ولا افتخر بأنه يشارك الله القدير في التأثير. بل قال: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) فهو ما ادعى ولا كذب ولا كفر ولا سحر بل اعترف بفضل ربه وشكر.
فكيف يدعي هؤلاء أنهم على علمه يمضون ولطريقه يتلون؟ كلا فهم للسحر الباطل يمارسون، وبالله يكفرون ويشركون، ويخدعون الناس بأنهم مؤثرون قادرون، وهذا هو الكفر والضلال المبين والجهل المهين.
(وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) وعلى هذا الفهم للآية يتضح لنا أن المراد بكلمة ملك سليمان هو علم سليمان لأننا قد عرفنا أنه قد أوتي علما وفضلا من ربه وأوتي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
فهؤلاء الكفرة زعموا أنهم على علمه يمضون، وهم كاذبون كافرون، مدعون المشاركة لله فيما يعملون.
ثم نمضي في الآية لنجد أنهم مع ذلك اتبعوا شيئا آخر من العمل الضار، والسلوك الضال، ما هو؟
إنه (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)
إن لكلمة الملكين قراءتين هي بفتح اللام وبكسر اللام والأخيرة هي قراءة الحسن وهي قراءة مشهورة وصحيحة.
فماذا تعني كلمة الملكين؟
إنها لا تعني إلا شيئا واحدا هو أنهما عالمين ولهذا جاء بعد ذلك قوله:
(وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) إلى آخر الآية.
فلديهما علم يغري الناس وقد أنزل عليهما علم من الله ليكونا فتنة للناس من اقترب منها كفر، ولكن بني إسرائيل فتنوا ورضوا بالكفر، واطمأنوا بالفتنة (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) [البقرة:102].
إن الرجلين ليسا ملكين نزلا من السماء كما يقال وإلا لم يقل الله (وما أنزل على الملكين)
بل هما رجلان عالمان أنزل الله عليهما علما يؤثر في الناس من تعلمه مؤمنا انتفع به ومن تعلمه فاجرا ضر نفسه وأضر بالناس.
وهذا ما اختاره بنو إسرائيل مع علمهم بأنه كفر وضلال ولكنهم نبذوا كتاب الله ومن هذا حاله فلا يبالي باتخاذ كل الأعمال الباطلة وسيلة لكسب الحياة العاجلة لأن نفسه جاهلة (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)
فلو كانوا يعلمون العلم الحق لما اختاروا السحر ولما باعوا أنفسهم بثمن بخس هو متاع الدنيا القليل ولكنهم لا يعلمون.
ولكي نؤكد أن العلم ملك وأن الملك علم ناله عباد الله وأوتيه آل إبراهيم ننتقل بكم من سورة البقرة إلى المائدة فسنجد على المائدة طعاما سهل الهضم في هذا الموضوع نافع الأثر في تأكيد المعنى المقصود.
لنقرأ معا الآية 20 من السورة:
(وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) [المائدة:20].
إن هذا الخطاب من موسى لقومه بعد خروجهم من مصر ولهذا يقول بعدها (ياقوم ادخلوا الآرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) [المائدة:21].
إذن فالخطاب لهم وهم في الصحراء وهم لم يستقروا في أرض ولم يهبطوا مدينة أو مصرا ليؤسسوا ما نسميه (ملكا) أو دولة بل لا يزالون مهاجرين مسافرين.
ولكنا مع ذلك نسمع موسى عليه السلام يقول لهم في الآية الأولى (اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا).
فماذا تعني كلمة (ملوكا)؟ وحالهم كما عرفنا وكما تدل الآية أنها لا تعني إلا العلم أي أن الله أنعم عليهم بالدين وأنعم عليهم بأن جعلهم أبناء الأنبياء يوسف وإخوته وآبائهم يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام.
وإذن فهم ورثوا الملك أي العلم من هؤلاء الملوك أي العلماء ومن المعروف أنهم جميعا قد أوتوا العلم من ربهم واختصهم الله بأن جعل في ذرية إبراهيم النبوة والكتاب فلا غرو أن يكون بنو إسرائيل في عصر موسى وارثين بعض هذا العلم والنبوة من آبائهم الذين أوتوا الملك فهم ملوك فعلا لأنهم علماء وكيف لا والعلم الذي لديهم يفوق علم الناس الذين لا يعلمون شيئا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا (وهم عن الآخرة هم غافلون) وبهذا يختم الآية بقوله:
وهكذا ننال المراد في المائدة هنيئا مريئا ونقطف المعنى واضحا سهلا ونسلم من المتاهات التي تاه فيها المفسرون حول معنى الكلمة في الآية، واحتاروا فيا حيرة خرجوا معها بدون معنى ولا مراد واحتاروا في كل آية وردت فيها هذه الكلمة.
إن التفسير الذي رجحناه للكلمة بالتأمل والإمعان هو الذي يتفق مع سياق القرآن فالله لا يمتن على عباده الصالحين إلا بالعلم وهو الملك الحقيقي الذي يعتز به ويسمو به الإنسان.
وقد تتساءلون كيف أتيت بهذا المعنى للكلمة؟
إني لم أجزم بهذا المعنى للكلمة إلا بعد تأمل وإمعان في كلما وردت فيه الكلمة من آيات القرآن.
ثم إن الباحث المدقق في اللغة وفي القرآن سيجد أن القرآن يستعمل الكلمات في الآيات بحسب مدلولها اللغوي الأصلي لا بحسب مدلولها العرفي المتداول.
فالناس مثلا قد تعارفوا أن السكر ملازم لشرب الخمر وأن كلمة سكارى تعني متأثرين بالخمر، لكن المتأمل في أصل اللغة يجد أن الكلمة تعني الإغلاق والحجب والحيلولة بين شيء وشيء فالتسكير هو الحجب والحيلولة بينهم.
ولهذا جاء (إنما سكرت أبصارنا) أي حجب بينها وبين الرؤية الحقيقية أو حيل بينها وبين الرؤية السليمة وعلى هذا وردت كلمة سكارى في آية النساء.
(ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) [النساء:43].
أي لا تقربوها وعقولكم محجوبة عن الوعي بمشاغل الحياة والوسواس في أمر المعاش والناس.
بل استحضروا عقولكم وأذهانكم في الصلاة وكفوا عنها كل حاجب ومانع عن الحضور والخشوع، ويحول بينكم وبين وعي ما تقولون.
ولهذا جاء بعدها ما يكون معللا للنهي ومبررا له، وهو قوله تعالى: (حتى تعلموا ما تقولون)
فالكلمة قد استعملت في معناها اللغوي الأصلي لا العرفي.
وعليها نقيس كل الكلمات في القرآن، ومنها كلمة الملك بضم الميم.
فلا شك أن المراد الأصلي لها في اللغة هو العلم والمعرفة فالذي يعلم يسمى ملكا بكسر اللام.
ولما كان من يتولى أمر الناس والحكم بينهم والزعامة فيهم لا بد أن يتوفر فيه نوع من العلم والمعرفة ونوع من التميز عمن سواه في العلم في أي نوع من أنواع العلم الذي يحتاجه أي مجتمع بحسب حاجته.
أقول لما كان من يتولى ذلك لا بد أن يتوفر فيه نوع من العلم أطلق الناس عليه اسم ملك بكسر اللام ويقال: نال فلان الملك بضم الميم. أي: أصبح زعيما أو حاكما في أي مكان.
وهكذا تعارف الناس على أن الملك هو السلطة والزعامة وأن الملك هو الزعيم والسلطان وأصبحت الكلمة حقيقة فيه فأصبحت الحقيقة العرفية شائعة ومعروفة وتغلبت على الكلمة الأصلية أو بالأصح تغلبت الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية الأصلية، لكن القرآن أعادها إلى الأصل.
وقد وردت كلمات في القرآن في سورة يوسف استخدمت هناك باعتبار الحقيقة العرفية جريا مع عرف الناس ولأن الموضوع يفسر في هذا الاستعمال المتعارف عليه ليتضح البيان، فقد وردت كلمات في السورة بهذا المعنى المتعارف مثل:
(وقال الملك إني أرى سبع بقرات) (وقال الملك ائتوني به) (نفقد صواع الملك) (في دين الملك) وسواها ذلك لأن السياق بغرض استعمالها ولأن هذا هو الإسم الذي يطلق على حاكم مصر في ذلك الزمان كما عليه تعارف الناس قبله وبعده.
لكن الكلمة تعود إلى معناها الأصلي وإلى الحقيقة اللغوية في نهاية السورة حيث قال يوسف: (رب قد آتيتني من الملك)
إذن إنما استعملت كلمة (ملك) بكر اللام جريا مع العرف لكن الله عاد بها إلى أصلها الحقيقي واللغوي وهو العلم لتيضح لكم الفرق بين الأصل والعرف وبين المعنى الحقيقي والمعنى العرفي.
وعلى هذا أقول لكم فهل تظنون أن ما ناله يوسف من التمكين في الأرض والخزائن هو الملك الذي أراده يوسف في قوله (قد آتيتني من الملك) إنما الملك الذي أوتيه يوسف وأراده إنما هو العلم وبه استطاع أن يتمكن في الأرض، وبه تأهل لهذا العمل الهام، ألا تذكروا أن مسيرته مع العلم برر هذا الطلب بقوله (إني حفيظ عليم) فهو العلم الذي أهله للعمل ومكنه في الأرض وبوأه منها حيث يشاء وعلى هذا فالملك هو العلم لا سواه وهو الذي أراده يوسف وبهذا المعنى نفهم قول يوسف عليه السلام في آخر السورة وقد جمعه الله العليم الحكيم بأبويه وإخوته وتحقق له تعبير رؤيا طفولته، فماذا قال؟
لنقرأ معا الآيات:
(ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم) [يوسف:100].
نعم إن ربه هو العليم وأن ربه هو الحكيم.
وفي هذا العلم الرباني والحكمة الإلهية أوتي يوسف وأنعم الله عليه نعمته وعلى آل يعقوب معه فكانوا يعلمون من علم الله ما لا يعلمه الناس وعلى هذا الأساس نجد يوسف وهو في هذه الحال السامية والمشاعر الراقية ونعمة الله عليه متوالية؛ يتجه إلى ربه بنفس خاشعة راضية ويعلن اعترافه بما آتاه ربه من العطايا التي لا تحصى لكنه يحدد أهمها وأبرزها وأساسها لكل خير وهو العلم فيقول في خشوع لربه العليم:
(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الآحاديث فاطر السماوات والآرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين)
هل تظنون أن كلمة الملك هنا تعني كونه أمينا على خزائن الأرض وكونه متمكنا منها؟
هذا هو الفهم العرفي وهو الفهم السطحي الذي لا يتفق مع جلال عطاء الله ومع عظمة ما أوتيه آل إبراهيم من ملك الله أي من علمه العظيم.
إن المراد هنا وبلا شك هو العلم، فهو يعترف بالعلم الذي أوتيه ويعلن أن كل فضل هو فيه وكلما يراه أمامه من خير يشمله مع أبويه وإخوته إنما هو بالعلم والإيمان والصبر والإحسان وخشية الله والإذعان والتوكل عليه في كل حال وآن، وتلك صفات العلماء لدى الرحمن، (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر:28].
إن يوسف الصديق الذي صبر على السجن موقنا بربه متوكلا عليه داعيا إليه والذي رفض الإغراء والإغواء في قصر امرأة العزيز مستعيذا بربه القوي العزيز.
إن هذا الصديق لا يمكن أن يفخر بالمتاع الدنيوي والسلطان، إن هذا الصديق العليم لا يمكن أن يفخر بالسلطة، ولا أن يعتبر مقاليد الولاية في الأرض مقاما يحرص عليه ويزهو به.
كلا بل حرصه على أن يتوفاه مسلما ويلحقه بالصالحين.
ومن كان هذا حاله، فإنما الملك لديه هو العلم وهذا هو ما يفخر به ويعتز ويستأنس به ويحرص عليه منذ بداية حياته حتى اليوم، فها هو أبوه يقول له بعد أن عرض عليه رؤياه في طفولته أو في بداية فتوته.
(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الآحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم) [يوسف:6].
فالعلم والحكمة ميراث من آبائه له ولكل آل يعقوب معه ولهذا فنعمة الله سابقة عليه كما هي على آبائه وعلى آله معه، ونحن نعرف عن آل إبراهيم في سورة النساء أنهم قد أوتوا ملكا عظيما وها هو الملك العظيم يظهر اليوم على يوسف الصديق من ربه العليم الحكيم لأنه من آل إبراهيم فليس بينه وبين إبراهيم إلا يعقوب وإسحاق فهو الحفيد الأقرب لإبراهيم والوريث الأسبق لهذا الملك العظيم وبهذا العطاء الكريم يبشره أبوه يعقوب الذي يصفه الله بقوله (وإنه لذو علم لما علمناه)
ولقد صدق ما بشره به أبوه وكان الله معه يرعاه ويكرمه ويعطي.
فها نحن نجده في دار الذي اشتراه من مصر وقد أصبح فتى يتفيأ ظل رحمة الله وينمو في عطاه، (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) [يوسف:22].
فالعلم معه حيث حل والحكمة معه في كل حال بل وبرهان ربه يسكن في قلبه.
وبهذا العلم والبرهان يقاوم الإغواء والإغراء ويرد مراودة التي أكرمت مثواه ويستعيذ بربه الذي أحسن مثواه.
وهكذا ينجو من الهم بها ويعلو على فتنة إغرائها بعون ربه (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) إنه عند ربه عبد مخلص قد اصطفاه ربه للإخلاص وللإحسان، ولهذا فإنه يؤثر وحشة السجن وقسوة السجان على ما تدعوه إليه امرأة العزيز مع النسوان، ويدعو ربه أن يصرف عنه كيدهن فهو الحامي والمستعان، (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم)
نعم إنه هو السميع العليم؛ ألا تلاحظون هذه الصفة من صفات الله تلازم يوسف في كل حال فلقد استجاب السميع العليم لعبده الذي يطيع ويسمع ويعمل بما علمه ربه ويخضع.
وبالعلم يدخل يوسف السجن باطمئنان (ودخل معه السجن فتيان)
وتستمر إقامته في السجن محسنا، ويعيش فيه بالعلم مطمئنا، فإذا السجناء يلوذون به في كل أمورهم ويكشفون عليه أسرارهم ويضعون أمامه أحلامهم وآمالهم وخواطرهم مطمئنين إلى علمه وإحسانه، واثقين من حسن خلقه وإيمانه.
فلقد لاحظوا عليه سلوكا لا يتوفر في سواه، وسكينة تدل على علمه وتقواه، تجدب إليه من يراه، وتدعو لمحبته واستفتاه.
ها هما الفتيان يحتاجان إليه في موضوع هام يشغلهما في المنام، ويعرضانه عليه مطمئنين إلى أن الجواب لديه ، ولهذا قالا: (إنا نراك من المحسنين)
لقد أصبح محط ثقة للفتوى وملجأ اطمئنان لكشف أسرار الرؤيا، والإنباء عما يخفى.
لكن يوسف لا يخفي ما لديه من علم بل يبديه، ولا يكتفي بذلك بل يستغل سؤال الفتيين للفتيا، ويستعرض أمامهما ما لديه من علم وعطاء، لا يقصد بذلك الرياء والخيلاء ولكن يريد بذلك إظهار نعمة الله عليه ليتمكن من دعوتهما إليه.
ومن هنا ندرك أن ما لديه من علم وحكمة قد عززا في السجن بالنبوة فإذا به يدعو إلى الله على بصيرة.
فالعلم معه رفيق، وهو بربه معتصم بشكل وثيق وإليه يدعو بأسلوب لطيف رفيق.
لنستمع إليه كيف يستعرض ما لديه من ربه قبل أن يفتي الفتيين في الأمر الذي قصداه بسببه:
(قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) فلقد أصبح في السجن رسولا نبيا.
ألا تراه قد أصبح يخبر الناس بما كان غيبا خفيا وهو من علم ربه الذي كان به حفيا، فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.
وهكذا نجد يوسف بعد أن يفاجئ الفتيين بهذا الخبر الهام وبهذا العلم العظيم يعيد ذلك إلى ربه الكريم فيقول: (ذلكما مما علمني ربي) فهو علم علمه ربه وليس له من سبب إلا توحيده وعدم الشرك به، (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون)
فهو عبد شاكر موحد ولربه ذاكر عابد، والناس مدعوون لهذا المقام بشكل عام فإن فضل الله متاح لكل من قال ربي الله ثم استقام، ولكن أكثر الناس غافلون عن هذا الطريق الشاكر، جاهلون لهذا المقام العامر، ولهذا فها هو يوسف يدعو الفتيين إلى هذا الطريق المحبوب، ويحثهما عليه بأروع أسلوب فيقول: (ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [وسف:40].
فعبادة الله وحده هو العلم الذي يدعو إليه يوسف، وهو شأن كل ذي عقل ولب، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وهكذا فإن العلم هو الذي يدعو به يوسف.
والعلم هو الذي أوتيه يوسف.
والعلم هو الذي جعله من المحسنين.
وهو الذي حببه لدى المسجونين.
وجعلهم يستفتونه مطمئنين.
وكما أن هذا العلم الذي أوتيه يوسف سيكون هو السبب فيما هو قادم عليه،
ولنمض معه في السجن والسجناء.
لنجده مرجع العلم والفتيا.
فبعد أن أفتى صاحبي السجن في الرؤيا.
وبعد أن كان يفتي في دائرة صغرى.
إذا بالدائرة تتوسع بإذن الله إلى مجال أوسع ومقام أعلى، ليصبح مرجعا للفتيا في مصر كلها وفي بلاط الملك ومن معه من الملأ.
فيأذن الله للملك أن يرى،
ماذا يرى؟
إنها رؤيا تتكرر عليه وتتعاود مرات لديه، ولهذا جاء الفعل مضارعا في قوله تعالى: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملا أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) [يوسف: 43].
إن الفعل المضارع في أرى يفيد التجدد والحدوث كما أن الجملة الإسمية تفيد الاستمرار والثبوت.
فالرؤيا لا تفارق منام الملك بل تلح عليه في البال متباعدة حتى جعلته يبحث عن تعبيرها بشكل ملهوف وملح.
فكن الملأ يروون عليه بما يدعو لليأس والحيرة (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الآحلام بعالمين) [يوسف:44].
وهنا تأتي إرادة الله ليكون يوسف هو المرجع للفتيا في البلاد كلها،
(وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلوني) [يوسف:45]
وتتوالى الأحداث كما في الآيات، وكلها تؤكد على أن يوسف أوتي العلم والحكمة مع النبوة.
فها هو يفتي في تعبير رؤيا الملك بشكل رائع وبما هو أوسع من التعبير للواقع.
بحيث يتجاوز ذلك إلى وضع خطة تطول لمدة خمسة عشر عاما، وهي خطة علمية متقنة وطريقة اقتصادية محكمة.
فإن حفظ الحبوب في السنابل، وسيلة هامة لحفظ الحبوب من التآكل.
ثم إن تعميم تطبيق ذلك في الأرض المصرية كلها تحتاج إلى خبرة وعدل وحكمة وعلم وأمانة وإلا فلا يمكن أن يثق بها الشعب ويلتزم بها وهذه هي الصفات التي لا تتوافر إلا في يوسف الصديق والمحسن والأمين وكيف لا وهو وحده العالم الذي هو من عباد ربه المخلصين.
ولهذا حرص على البقاء في السجن وقد جاءه الاستدعاء من الملك بواسطة رسول خاص مكلف بإحضاره، (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك [أي إلى الملك] فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم) [يوسف:50].
وهكذا يستدعي الملك النسوة إلى مقامه ويسألهن عن يوسف وعن حقيقة اتهامه فإذا بهن يقلن: (حاش لله ما علمنا عليه من سوء)
وكيف لا والله يقول عنه قبل ذلك:
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)
وهنا تبرز بطلة القصة ومحور التهمة لتصدع بالحقيقة الهامة:
(الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) [يوسف:51].
يا للعظمة! كيف يشمخ الصدق والإخلاص لله؟ وكيف يتصاغر المكر والكيد بعباد الله؟!
ولهذا يعلن يوسف إنه لم يصر على سؤالهن قبل الخروج إلا ليؤكد للناس أنه لم يخن أمانته في قصر العزيز:
(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) [يوسف:52].
ولكنه مع ذلك لا يعيد الفضل لقوته وعزمه، بل يعيده إلى الله، أما نفسه فهي ضعيفة فلولا عون الله لها لتلونت بالسوء كغيرها:
(وما أبرئ نفسي إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) [يوسف:53].
إن ربه في نفسه فهو به معتصم وهو به يسترحم فكان معه عاصما راحما وغافرا عليما.
وهذا مقام يدعو إلى الإعجاب والذهول والاشتياق لرؤية هذا الرجل النادر المثيل، وإنه لجدير بأن يكون في مقام خاص به وفي مكان يعتمد عليه ويوثق به:
(وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) [يوسف:54].
نعم هذا هو الذي يجب ويكون مع هذا النوع من الرجال، وهذا هو الذي تدلي إليه الأحداث، وتدل عليه الأعمال، فهو لم يتغير في كل حال، بل ظل متمسكا بربه ذي الجلال، فأصبح يتصف بأجمل الصفات ويختص بأرقى الخصال، فهو مكين أمين عند الملك مقبول المقال، مصدق في كل حال.
وأمام هذه الثقة المطلقة التي لمسها يوسف الصديق تقدم لتنفيذ الخطة والتطبيق، فليس إلا هو يتحمل ويطيق. أليس هو المكين الأمين والصديق؟
لم يطلب العمل ليعلو مكانه والجاه، ولكن ليتحمل مسئولية ما أشار به وأبداه، وليؤدي الواجب فيما سيتولاه، بعلم وحكمة وأمانة كما علمه الله.
نعم إنه لم يطلب المهمة إلا لأنه مؤهل لها ولا يقدر عليها سواه. وهكذا نسمعه يقدم نفسه معتزا بما آتاه الله:
(قال اجعلني على خزائن الآرض إني حفيظ عليم) [يوسف:55].
هل تظنون هذا الطلب كان كالمكافأة على تعبير الرؤيا الملكية؟ هل تظنونه هو المواساة لما عاناه في السجن بلا ذنب ولا خطيئة؟
كلا؛ ليس هذا، بل هو الحكمة والعلم والأمانة الربانية، وهكذا أصبح يوسف رئيسا للوزراء في مصر يتصرف في الغلال ويصون المال، كما رسمه للناس بلا تفريط ولا اختلال، ولكن بعدل وحزم وكمال، كما علمه ذو الجلال.
(وكذلك مكنا ليوسف في الآرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) [يوسف:56].
وهل الدنيا هي المبتغى وهل هي الهدف للعلماء أولي التقوى؟
كلا؛ إنما أعمالهم في الدنيا هي السلم والمعراج للدرجات العليا في جنات المأوى.
(ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) [يوسف:57].
وبعد فإني أصل بكم إلى نتيجة هامة هي أن صفات المحسنين والذين آمنوا وكانوا يتقون التي وصف الله بها يوسف بالإضافة إلى ما سبقها من صفات العلم والحكمة عبر هذا والاستعراض السريع للآيات.
كلها تؤكد أن هذه الصفات ملازمة للعلم والحكمة التي تفضل الله بها عليه وهي صفات كل العلماء وأولي العلم الذين يخشون الله ولا يخشون أحدا إلا الله ويريدون الآخرة ويسعون لها سعيها وهذا هو ما أوتيه الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين وما أوتيه يوسف وآبائه الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب (أولي الآيدي والآبصار) الموصوفون بقوله تعالى: (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) وهي الدار الآخرة والقرار فهم لها على ذكر دائم وعمل دائب ليل نهار ولهذا فهم عند الله كما يقول: (وإنهم عندنا لمن المصطفين الآخيار) [سورة ص: 45-47].
ونعم المقام العالي للعلماء.
وهم هم الذين أوتوا ملكا عظيما كما جاء في سورة النساء وعرضناه قبل هذا ومن خلال هذا العرض الواضح للآيات فالملك الذي أراده يوسف عليه السلام في قوله (رب قد آتيتني من الملك) إنما هو العلم لا سواه لأن الأنبياء هم الذين أوتوا العلم وهم الذين لا يفخرون بالمال والسلطان ولا بالجاه والصولجان وإنما يذعنون لله الذي علمهم وبما أوتوا منه يعملون بما أمرهم ولا يهمهم إلا رضاه عنهم، ولأجله يعملون في كل حال وحين واثقين مطمئنين وعلى ربهم يتوكلون، وهذه هي ميزة العلماء في كل زمان ومكان وهي صفات عباد الرحمن.
هل أستطيع بعد هذا أن أحصل على موافقتكم معي على أن الملك بضم الميم في هذه الآية وسواها هو العلم؟
لعل بعضكم لا يزال في نفسه شيء ما عن معنى الكلمة وسيقول ها هو يوسف يقول بعد ذلك (وعلمتني من تأويل الآحاديث) فعطف هذه الجملة على الأولى تعني المغايرة بين الأولى والثانية وعليه فالأولى لا يراد بها العلم وإنما هو الملك المتعارف عليه.
لأن تعليم تأويل الأحاديث علم فكيف يعطف الشيء على نفسه؟ هكذا سيقول القائل في احتجاجه.
لكني أقول له أن هذا دليل لي لا دليل علي.
فهذا العطف يؤكد أن الأولى وهي (رب قد آتيتني من الملك) لا تقصد إلا العلم ولكن العلم بشكل عام.
علم الدنيا وعلم الآخرة، علم النبوة وعلم الحياة الصالحة.
فهو قد أوتي من هذا العلم كما أوتي سواه ورغم ذلك فهو لم يؤت كل شيء ولكن ما شاء له الله منه ولهذا قال: (من الملك) ولم يقل: (قد آتيتني الملك) فهو بعض من علم الله (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وهذا فضل يؤتاه من شاء الله وأرضاه.
ولقد أوتيه كل الأنبياء لكن يوسف اختص بشيء هام وهو بعض من علم الله ذلك هو قوله
(وعلمتني من تأويل الآحاديث) فهو علم تميز به عن سواه وله خصوصية لديه وعليه في الحياة ولهذا فقد عطفه في الآية من باب عطف الخاص على العام للاهتمام بشأنه وتميزه عن غيره وحسن أثره فهو لا يعدد هنا إلا نعم الله الكبرى التي فاز بها في الدنيا وسيفوز بها في الأخرى وهي العلم والحكمة وتأويل الأحاديث والرؤيا.
ولهذا لم يستخدمها إلا فيما ينفع الناس أفرادا وجماعات وفي كل الظروف والحالات ليرجو بها رضاء الله والفوز بالجنات.
ولتأكيد أن المفهوم السليم للفوز العظيم لديه هو الآخرة وأن الإيمان بالله ربه واليقين بالآخرة هو مبتغاه فإنه يختم توسله إلى ربه بقوله في الآية:
(توفني مسلما وألحقني بالصالحين)
ومن هذا هو منتهى أمله ورجواه فإن الملك عنده ليس السلطان والجاه بل هو العلم لا سواه وهو الذي به يكون الله ربه ومولاه.
أليس هو الذي يصف ربه بقوله مناديا له:
(فاطر السماوات والآرض)
وبهذا الوصف العظيم لربه يعلن استسلامه له وركونه عليه وإذعانه لولايته فيقول:
(أنت ولي في الدنيا والآخرة)
فهو النصير والمجير وهو الملاذ وإليه المصير وهو المعين القوي الغني لعبده الضعيف الفقير، وأن يوسف بأن يكون الله وليه لجدير، فهذا هو الملك الكبير، (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) [يونس: 62-64].
ولا شك أن يوسف بأن يكون من أولياء الله لجدير، وذلك هو الفوز العظيم الذي حرص عليه في دعائه فتمكينه في الأرض وتصرفه في خزائنها وغلالها وتصريف أمورها حيث يشاء لا يعني له شيئا سوى ابتغاء وجه ربه الأعلى، والفوز برضاه في الأخرى، ولسوف يرضى.
أليس هذا هو ميزان العلم والعلماء؟ لا من صفات الملوك والأثرياء الذين عهدناهم يرضون بالحياة الدنيا ويطمئنون بها.
بلى بلى، وعلى هذا فالملك الذي أعلنه يوسف واعترف لله بأنه قد أوتي منه إنما هو العلم الذي عرفناه معه من بداية الرحلة ومستهل القصة حتى نهايتها الكريمة.
هل بعد هذا البيان أستطيع أن أحصل منكم على الموافقة على أن الملك بضم الميم هو العلم والعرفان لا بالجاه والسلطان؟
وهذا هو الملك العظيم الذي ناله آل إبراهيم من ربهم العليم الحكيم وهو فضل يختص به الله كل عبد جاءه بقلب سليم.
قد يقول قائل:
قد نسلم لك أن الملك الذي أوتيه إبراهيم ويوسف هو العلم كما عرضت ذلك علينا.
لكنا نجد السورة هنا سورة يوسف تذكر (الملك) وتعني به صاحب الأمر والسلطة في مصر، وهو الذي استوزر يوسف وجعله على خزائن الأرض فيوسف يقصد بالملك هذا المنصب الذي تولاه.
ولكني أقول: إن كلمة ملك من كل السورة استعملت في معناها المتعارف عليه فهي حقيقة عرفية وهذا معمول به في اللغة العربية، ثم كان يوسف هنا لا يقصد إلا العلم ولهذا قال: (من الملك) مع أنه قد أوتي بالمفهوم العرفي كل الملك فهو المتصرف في أمور مصر كلها يتبوأ من أرضها حيث يشاء ويدبر الحكم كما رسم ابتغى.
لا يعترض عليه بل يعان ولا يصد بل يجاب.
أليس هو قد أصبح عند الملك وعند أهل مصر موصوفا بأنه الصديق والمكين والأمين ثم هو عندهم مستحقا للملك وهو كما وصف نفسه حفيظ عليم، فهل بعد هذا يعطى من السلطات بعضها ويحجب عنه أهمها وهو قد تكفل بحفظ الأرض والناس في الشدة والبلاء وبأن يجعل السنوات العجاف سنوات رخاء بالعدل والوفاء.
وهل يستطيع أن يقوم بهذه المهمة العظمى من حجب عنه البعض من الأمور وأطلق في بعضها؟ كلا، بل لا بد أن تطلق يده في كل شأن ومكان وكما شاء وحيث يشاء.
أليس هو لنفس الملك مستخلصا فهو قائم مقام نفس الملك في كل الأمور والأشياء بلا استثناء.
إذن فكلمة الملك لا تعني إلا أنه نال البعض من علم الله ولكنه كثير كثير في مقام الله. فله الحمد على ما أعطى وله المنة أبدا. وهذا ما أراده يوسف واعترف به لربه علنا وشكرا وحمدا.
وبعد: فقد يعترض ثالث ويقول: قد نسلم بهذا في إبراهيم ويوسف فالملك هو العلم في شأنهما ولكن لا نسلم في شأن داوود وسليمان وهما من ذرية إبراهيم ومن آل إبراهيم المتأخرين فداوود كان ملكا فعلا بالمفهوم المتعارف عليه عرفا وكذلك سليمان كان ملكا مشهورا وبالمعنى المتعارف عليه، وهو الحكم والسلطان والتصرف والصولجان، ألم يكن متصرفا في الإنس والجان والريح والطير والحيوان؟.
فكيف تفعل في هذا الشأن المعروف للناس في كل زمان، وبالآيات في القرآن، إن ما أوردته في عرضك من الحجج والبرهان، ينقض بداوود وسليمان.
لكني لا أتعجل ولا أرتبك ولا أفاجأ بهذا بل أواصل المشوار واثقا مما أقول، وأؤيده بالحجة والدليل. فهيا معي إلى ملك سليمان ووالده داوود الجليل، فماذا نجد في هذا الملك من المعاني الراجحة، وماذا نلمسه من العلامات الواضحة.
سنجد الكثير المنير، ونلمس القوي المثير، ولكن بالتأمل والإمعان، والصبر على البحث في آيات القرآن، فأمعنوا وتأملوا معي، واصبروا وابحثوا لكي نفقه الحديث ونعي.
ولنبدأ من حيث يسر الله وأراد، وسنجد بعونه المقصد والمراد، فهيا معنا وليكن الحق هو الذي نقصد ونرتاد، ولنطهر قلوبنا من المراء والعناد، ولنتحر السداد، ولنذعن للحق إذا اتضح للنداد، فذلك هو الرشاد، ولنسر معا على هدى الله فهو خير هاد، ولتكن البداية والمنطلق من سورة (ص)، فإنها في انتظار من تأمل وتدبر، وهي التي لديها الذكرى لمن تذكر، أليست تبدأ بقوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر) وتنتهي بقوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) [ص: 87-88] فهي سورة تشع بالذكر والعلم، وبأخبار أولي الذكر والعلم.مفردة الملك ¶ هذه هي المفردة التي ربما تثير كثيرا من التساؤلات والاعتراض أو التردد أمام قبول ما سأقول.ذلك أن الناس اعتادوا على فهمها بالمفهوم الذي ألفوه وهو أ ن الملك يعني القيادة أو السيطرة والحكم للناس أو الاستيلاء في الأمارة، وهذا هو المفهوم الذي درج عليه الناس وفهموه ولكن هل هذا المفهوم صحيح في القرآن؟! وهل المراد بكلمة (ملك) أو (الملك) بضم الميم في القرآن هذه المعاني المذكورة؟ ¶ وهل المراد (بملك) بكسر اللام وبملوك جمع ملك أيضا هذا المفهوم؟. ¶ لن أقطع معكم بقرار ولا برأي إلا بعد استعراض بعض الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة وهذه الكلمات. ¶ وكذلك بعد أن نعرف معاني الآيات ومدلولها ونعرف ماذا يفيده السياق فيها من المعاني فهل يؤكد المفهوم المعروف للناس؟ أم أن لها معنى آخر لا يعرفه الناس؟ ¶ تعالوا معي إلى قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) [النساء:51]. ¶ إذن فاليهود الذين كان العرب الجاهليون يظنونهم أهل علم وكتاب قد أفتوا بهذه الفتوى العجيبة وأكدوا ان الكفار أهدى أي أكثر هدى من المؤمنين. ¶ وهذا افتراء وكذب مع علمهم أن هذا القول افتراء وكذب. ¶ إذن فهم لا يعملون بعلمهم ولا يتقون الله فيما آتاهم من الكتاب، ومع ذلك يزكون أنفسهم، وكفى به إثما مبينا. ¶ فهم في الإثم غارقون، وفي الافتراء يعمهون. ¶ وهكذا يعلن الله عليهم استحقاقهم للعن فيقول عقب ذلك: (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) [النساء:52]. (أم لهم نصيب من الملك) نعم (من الملك) فماذا تعني كلمة ملك؟ ¶ إنها تعني: هل يدعون أن لهم نصيبا من العلم والمعرفة بآيات الله؟ ¶ إذا كان هذا هو دعواهم وزعمهم فأين هذا العلم؟ ولماذا لا يؤتون الناس منه كما أنزله الله؟ ¶ إنهم لا يظهرون ما آتاهم الله بل ينبذونه وراء ظهورهم ويكتمونه ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. ¶ ولهذا ختم الآية بقوله: ¶ (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) ¶ أي إذا كانوا يزعمون أن لهم نصيبا من الملك ومع ذلك يفتون بهذه الفتوى المخالفة لكل مظاهر العلم؛ فإنهم والحال هذه لا يمكن أن يؤتوا الناس من العلم الذي لديهم شيئا ولا حتى ما يساوي النقير، والنقير هو النقطة الصغيرة التي تعلوا رأس نواة التمر. ¶ فهم يكتمون العلم ويخفونه عن الناس وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهكذا جاء عنهم في سورة البقرة ما يؤكد هذا وهو أنهم يمنعون بعضهم عن تحديث الناس بما لديهم، فقال الله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) [البقرة:76-77]. ¶ وهم يظنون بهذا أنهم بمنجاة من الله لكن الله يرد عليهم بقوله: ¶ (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) [البقرة:78-79]. ¶ ومثل هذه الآيات جاءت في سورة آل عمران في الآيات: [71و72و73]، وقد جاء فيها قوله تعالى عنهم: ¶ (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) ¶ هكذا قالوا ولكن الله يرد عليهم (قل إن الهدى هدى الله) فليس ما عندكم هو الهدى ولكن الهدى الحق هو هدى الله الذي يتلقاه محمد ثم يعود لحكاية قولهم لبعضهم وهو قولهم: ¶ (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) ¶ فيرد الله عليهم في ختام الآية بقوله: ¶ (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) [آل عمران: 73]. ¶ لا تؤاخذوني على هذا الاستطراد فذلك أمر ضروري دعت إليه القضية وهي قضية إخفاء اليهود للعلم الذي لديهم فهم لا يؤتون الناس من الملك نقيرا. ¶ وهنا نعود إلى سياق آيات النساء فيقول الله بعدئذ عنهم: ¶ (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) [النساء:54]. ¶ يعني أنهم يحسدون المسلمين على ما آتاهم الله من الملك (العلم) الذي أنزله على رسوله محمد في القرآن، هل يحسدونهم على هذا الفضل الذي آتاهم الله؟ ¶ ثم وما داموا يعلمون أنه علم وفضل فإن الواجب عليهم أن يتبعوا لا أن يحسدوا ولكن لا عجب فهذا هو ديدن اليهود وهذا شأنهم مع كل علم يأتي من الله على رسله إنهم يكذبون به وعنه يصدون ولا يتبعون إلا الذين يفترون، ولهذا قال الله في ختام الآية محتجا عليهم ومسجلا عنهم هذا الشأن الدائم: ¶ (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما)[النساء: 54]. ¶ أسمعتم ماذا آتاهم. . بماذا ختمت الآية؟ (ملكا عظيما) فماذا يعني بالملك يا ترى؟ ¶ تعالوا معي نتأمل ونتدبر. ¶ نتأمل نهاية الآية وبدايتها للتعرف أن القضية المثارة هنا هي قضية علم وكتاب وهل في الكتاب غير العلم ولكن اليهود لا يعملون بالكتاب ولا يتبعون العلم. ¶ إذا كانوا ممن يتبع العلم ويدعي أن له نصيبا من الملك ويزعم أنه مختص بهذا الفضل من الله؛ فلماذا لم يتبعوا إبراهيم وآل إبراهيم وهم يدعون أنهم أبنائه وحملة دينه؟ ¶ فقد أوتي هؤلاء من الله الكتاب والحكمة بل وأوتوا مع ذلك (ملكا عظيما) واختصوا به سوى الناس فماذا كان موقف اليهود ؟ ها هو الله يسجل موقفهم من هذا الملك الذي هو العلم فيقول: ¶ (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) [النساء:55]. ¶ فقد انقسموا فريقين فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه. ¶ وهنا أسألكم، إلى أين يعود الضمير في "آمن به، وصد عنه"؟ ¶ إنه لا شك يعود إلى الملك الذي أوتيه آل إبراهيم، وهل الإيمان يكون بالملك بالمفهوم المتعارف عليه؟ ¶ وهل الصد يكون عن الملك بالمفهوم المعتاد لديكم؟ ¶ كلا لا يكون الإيمان إلا بالعلم ولا يكون الصد إلا عن العلم وهذا يؤكد أن المراد بالملك في الآيات هو العلم سواء في الآية 53 أو الآية 55. ¶ ثم إني أسأل من ذا من آل إبراهيم أوتي الملك بالمفهوم المتعارف عليه؟ ¶ قد تقولون أوتيه يوسف وأوتيه داوود وسليمان. ¶ لكني أقول لكم لا تتعجلوا فإني سأوضح لكم كيف تفهم المراد بما جاء من الآيات عن هؤلاء ولكن بعد أن نعود إلى إبراهيم أولا. ¶ فأسألكم هل إبراهيم أوتي ملكا بالمعنى المتعارف؟ ¶ لا شك أنكم تقولون لا لم يؤت ذلك. ¶ ثم أسألكم هل إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وإمامهم يدخل في هذه الآية أم لا يدخل؟ ¶ لا شك أنكم ستقولون أنه داخل فيهم فهو الرأس من الجسد وهو البداية والمنطلق لهذا العطاء الذي أوتيه ذريته وآله من بعده فالله يقول عنه: ¶ (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [العنكبوت:26]. ¶ ويقول عنه في سورة البقرة: ¶ (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [البقرة:130-131]. ¶ ألا ترون أنه الأساس في هذا الملك وهذا العلم الذي أوتيه هو وآل إبراهيم؟ ¶ فهو إذن داخل فيهم وهو ممن أوتي (ملكا عظيما) فماذا نفهم من هذه الكلمة؟ ¶ إننا نعرف أن إبراهيم لم يعرف الملك بالمفهوم المتعارف. ¶ فهل يمكن أن نفهم الآية في النساء على الملك المتعارف عليه؟ وهل يمكن أن يخبر الله بما لا يكون أو بما لم يكن؟ ¶ كلا، إذن فما المراد بالملك هنا؟ ¶ إنه لا شك العلم الذي أوتيه إبراهيم من ربه، فكان للناس إماما وكان قدوة كل الأنبياء والرسل ويدعو إلى ملته كل امرأة ورجل في كل مكان وزمان. ¶ ألم يقل لأبيه في سورة مريم: ¶ (ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) [مريم:43]. ¶ أسمعتم لقد جاءه علم لم يؤت أباه ولم يؤت سواه فهو مختص به وبه ربه اصطفاه. ¶ إنه علم عظيم جعله يطلب من أبيه أن يتبعه ليهديه الصراط المستقيم. فما أعظمه من علم، وما أسماه، إنه من علم الله. وعليه: فإنه هو الملك العظيم لا سواه. ¶ لنقرأ آية النساء من جديد لنخرج منها بشيء جديد وفهم مفيد بإذن الله المجيد. ¶ (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) ¶ ولنقرأ ما بعدها لننال المزيد من المقصود، عن جهل اليهود، (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) [النساء: 55]. ¶ وبعد فإني هنا أكون قد أخذتكم لطريق واضح إلى فهم للكلمة واضح، وإلى معنى جديد لديكم لكنه أصيل لو تدبرتم، وإن أرتم المزيد من البيان فلنعد إلى القرآن ولن نغادر إبراهيم عليه السلام حتى يتضح أن الملك لديه من البداية حتى الختام. ¶ أليس هو للناس الإمام وهو الذي علمه الله دون الأنام، كيف يحيي الموتى ويجمع العظام. ¶ ألم يريه الله ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. إن هذا هو الملك الحق إنه معرفة الله مالك الملك الملك الحق واليقين بأنه له وحده العلم بالخلق وأن الملك له وحده في اليوم الحق، إن إبراهيم قد أيقن بهذا ومنه تحقق وتوثق. ولهذا كان في قراع وحجاج الطغاة المكذبين، لا يضعف ولا يلين، بل يعتصم برب العالمين. (الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين) ¶ لقد كان علمه من ربه عظيما، وعلمه بربه عظيما، وكان يقينه بربه وثيقا، وكان رشده من ربه حقيقا. ¶ ولهذا فإنه يقف أمام الأصنام محطما ليحطم كل صنم في النفوس والقلوب، وكان حجاجه مع قومه هو الغالب لا المغلوب، وكان هو الآمن مما يخوفه القوم المشركون، وهم الخائفون لأنهم بغير الله يعتصمون. ¶ (فأي الفريقين أحق بالآمن) إنه إبراهيم بلا شك، وكيف لا والله يصدر حكما حاسما في ذلك فيقول: ¶ (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الآمن وهم مهتدون) [الأنعام:82]. ¶ وعلى هذا لا عجب أن تكون النار بردا وسلاما على إبراهيم، لأن معه ربه الله السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار العلي العظيم، الذي آتاه الملك العظيم. ¶ ولأن إبراهيم صاحب علم ويقين، وملك من رب العالمين، فإن الحجاج يتواصل معه من القوم المشركين وها هو كبيرهم الطاغية اللعين يحاج إبراهيم في هذا العلم الذي جاءه من ربه العليم. ¶ فلنسمع الحوار بينه وبين إبراهيم كما جاء في القرآن الكريم. ¶ (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) ¶ إنها دعوة من الله إلى كل عبد ذي لب ليتدبر هذا الحوار العجيب. ¶ فها هو الطاغية يدعو إبراهيم إليه ليحاجه في العلم الذي أصبح يعلنه على الناس ويصر عليه. ¶ إذن فأسباب المحاجة هي لأن إبراهيم عنده علم منير فأراد الطاغية أن يرده عن هذا الطريق المثير. ¶ ولهذا يقول الله بعد ذلك معللا هذا الحجاج: ¶ (أن آتاه الله الملك) كثير من المفسرين يقولون بدون تدبر أن الضمير في (آتاه الله) يعود إلى الكافر الأثيم، فهل هذا صحيح؟ ¶ كلا إن الضمير يعود إلى إبراهيم الحليم الذي عنده علم عظيم فهو الذي آتاه الله الملك، وكان سببا في الحجاج معه. ¶ لأن الحجاج لا يكون إلا مع عالم أو مع رجل عنده شيء جديد لا يقبله المجتمع الغافل فهو يثير معه الجدال العنيد. ¶ هذا أدل دليل على عودة الضمير إلى إبراهيم وهو دليل عقلي، ثم إن الضمير لا بد أن يعود عادة إلى الأقرب إليه وهذه قاعدة نحوية معروفة وإبراهيم في الآية هو الأقرب ذكرا من سواه ولنقرأها مرة ثانية، (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك) ¶ إذا فالضمير لا بد أن يعود إلى إبراهيم نحويا ولغويا وعقليا ثم لنتأمل بعد ذلك سياق الآية. ¶ لنجد أن الله يغفل ذكر الكافر المحاجج بالإسم. ¶ ويكرر ذكر إبراهيم بالإسم مما يدل على أن المحور في الآية هو إبراهيم لأنه هو المحاور العليم. ¶ ولنقرأ بعد ذلك بقية الآية، (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت) ¶ وهذا جزء من العلم الذي لدى إبراهيم وهذا النوع من الملك الذي أوتيه فالله هو المحيي والمميت. ¶ وإذا كان كذلك فهو الرب الذي يرزق وهو الذي يرجى ويدعى ويخشى وهو الذي إليه الرجعى وعليه الجزاء، وشتان بين جزاء من اتقى وجزاء من طغى. ¶ لكن الكافر يلج في الحجاج بالباطل ويتطاول في الدعوى (قال أنا أحيي وأميت) وهو أسلوب يتقنه الطغاة أبدا ليغروا الناس الأغبياء ،والأتباع الجهلاء. ¶ لكن إبراهيم العليم الذي عنده ملك عظيم لا ينهزم للمكر اللئيم، بل ينبري بحجة تبطل دعوى الكافر الجاهل الأثيم، وتنبه كل غافل أنها حجة لا تخفى على كل عاقل. ¶ لنسمع إبراهيم: (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) ¶ إنها حجة تثبت ربوبية الله وتبطل دعوى كل أحد سواه وتفرده بالربوبية وتدفن كل الدعاوى الشركية، وهنا يقف أمامه الكافر والمدعي الماكر عاجزا عن الرد ولهذا يقول الله (فبهت الذي كفر) ¶ وكيف لا يبهت وهو الجاهل الغبي والغافل المدعي، والضال الغوي إلى الطريق السوي لا يهتدي (والله لا يهدي القوم الظالمين) [ البقرة:258]. ¶ والآن وقد استعرضنا الآية الكريمة أرجو أنه قد بان واتضح لكم أن الملك هو العلم. وأن الذي آتاه الله الملك هو إبراهيم. ¶ ولن أغادر البقرة حتى نعرج على آية أخرى في السورة تتحدث عن بني إسرائيل فعندهم كتاب من الله وفيه علم من الله ولكنهم نبذوه واتبعوا الهوى ولهذا لم يصدقوا بالرسول الذي جاء مصدقا لما معهم من عند الله (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) [البقرة:101]. ¶ من المعروف أن كتاب الله هو العلم الذي ينزله على عباده ليهتدوا به إلى الحق والسلام. ¶ ولكن هؤلاء القوم الذين أوتوا الكتاب فضلا من الله نبذوا هذا الكتاب، كتاب الله وراء ظهورهم فأصبحوا بذلك السلوك كأنهم لا يعلمون، أو أنهم تجاهلوا ما أنزل عليهم مظهرين أنهم لا يعلمون، وكلا الحالين ضلال وخسران مبين. ¶ وليس هذا فقط بل كذبوا بالرسول الذي جاء من عند الله مصدقا لما معهم واستمروا في غيهم وباطلهم وجهلهم وتجاهلهم فهم كأنهم لا يعلمون. ¶ وعلى هذا الحال العاطل أصبح هواهم هو الباطل، وهمهم هو العرض العاجل، فاتجهوا إلى أعمال لا تنفع في العاجل ولا الآجل، ذلك ما يوضحه الله في الآية التالية: ¶ (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان) ¶ لقد تركوا العلم الحق واتبعوا الباطل والبهتان وانطلقوا يدعون أن السحر هو العلم الذي تركه سليمان وهو وهم روجه الشياطين منهم بين الناس ليتعلموه زاعمين أن هذا هو الطريق الذي تفوق به سليمان وسخر به الريح والجان. ¶ ومن المعروف أن سليمان لم يكن ما ناله من الله هو السحر والوهم بل هو العلم فلقد أوتي علما وفضلا من ربه يفهم به منطق الطير والحيوان ويسمع النمل في أعماق الوديان، حتى لما أوتي بعرش ملكة سبأ لم يؤت به إلا بالعلم. ¶ (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) ¶ فسليمان ما ادعى قدرته للتدبير ولا افتخر بأنه يشارك الله القدير في التأثير. بل قال: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) فهو ما ادعى ولا كذب ولا كفر ولا سحر بل اعترف بفضل ربه وشكر. ¶ فكيف يدعي هؤلاء أنهم على علمه يمضون ولطريقه يتلون؟ كلا فهم للسحر الباطل يمارسون، وبالله يكفرون ويشركون، ويخدعون الناس بأنهم مؤثرون قادرون، وهذا هو الكفر والضلال المبين والجهل المهين. ¶ (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) وعلى هذا الفهم للآية يتضح لنا أن المراد بكلمة ملك سليمان هو علم سليمان لأننا قد عرفنا أنه قد أوتي علما وفضلا من ربه وأوتي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. ¶ فهؤلاء الكفرة زعموا أنهم على علمه يمضون، وهم كاذبون كافرون، مدعون المشاركة لله فيما يعملون. ¶ ثم نمضي في الآية لنجد أنهم مع ذلك اتبعوا شيئا آخر من العمل الضار، والسلوك الضال، ما هو؟ ¶ إنه (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) ¶ إن لكلمة الملكين قراءتين هي بفتح اللام وبكسر اللام والأخيرة هي قراءة الحسن وهي قراءة مشهورة وصحيحة. ¶ فماذا تعني كلمة الملكين؟ ¶ إنها لا تعني إلا شيئا واحدا هو أنهما عالمين ولهذا جاء بعد ذلك قوله: ¶ (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) إلى آخر الآية. ¶ فلديهما علم يغري الناس وقد أنزل عليهما علم من الله ليكونا فتنة للناس من اقترب منها كفر، ولكن بني إسرائيل فتنوا ورضوا بالكفر، واطمأنوا بالفتنة (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) [البقرة:102]. ¶ إن الرجلين ليسا ملكين نزلا من السماء كما يقال وإلا لم يقل الله (وما أنزل على الملكين) ¶ بل هما رجلان عالمان أنزل الله عليهما علما يؤثر في الناس من تعلمه مؤمنا انتفع به ومن تعلمه فاجرا ضر نفسه وأضر بالناس. ¶ وهذا ما اختاره بنو إسرائيل مع علمهم بأنه كفر وضلال ولكنهم نبذوا كتاب الله ومن هذا حاله فلا يبالي باتخاذ كل الأعمال الباطلة وسيلة لكسب الحياة العاجلة لأن نفسه جاهلة (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ¶ فلو كانوا يعلمون العلم الحق لما اختاروا السحر ولما باعوا أنفسهم بثمن بخس هو متاع الدنيا القليل ولكنهم لا يعلمون. ¶ ولكي نؤكد أن العلم ملك وأن الملك علم ناله عباد الله وأوتيه آل إبراهيم ننتقل بكم من سورة البقرة إلى المائدة فسنجد على المائدة طعاما سهل الهضم في هذا الموضوع نافع الأثر في تأكيد المعنى المقصود. ¶ لنقرأ معا الآية 20 من السورة: ¶ (وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) [المائدة:20]. ¶ إن هذا الخطاب من موسى لقومه بعد خروجهم من مصر ولهذا يقول بعدها (ياقوم ادخلوا الآرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) [المائدة:21]. ¶ إذن فالخطاب لهم وهم في الصحراء وهم لم يستقروا في أرض ولم يهبطوا مدينة أو مصرا ليؤسسوا ما نسميه (ملكا) أو دولة بل لا يزالون مهاجرين مسافرين. ¶ ولكنا مع ذلك نسمع موسى عليه السلام يقول لهم في الآية الأولى (اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا). ¶ فماذا تعني كلمة (ملوكا)؟ وحالهم كما عرفنا وكما تدل الآية أنها لا تعني إلا العلم أي أن الله أنعم عليهم بالدين وأنعم عليهم بأن جعلهم أبناء الأنبياء يوسف وإخوته وآبائهم يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام. ¶ وإذن فهم ورثوا الملك أي العلم من هؤلاء الملوك أي العلماء ومن المعروف أنهم جميعا قد أوتوا العلم من ربهم واختصهم الله بأن جعل في ذرية إبراهيم النبوة والكتاب فلا غرو أن يكون بنو إسرائيل في عصر موسى وارثين بعض هذا العلم والنبوة من آبائهم الذين أوتوا الملك فهم ملوك فعلا لأنهم علماء وكيف لا والعلم الذي لديهم يفوق علم الناس الذين لا يعلمون شيئا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا (وهم عن الآخرة هم غافلون) وبهذا يختم الآية بقوله: ¶ وهكذا ننال المراد في المائدة هنيئا مريئا ونقطف المعنى واضحا سهلا ونسلم من المتاهات التي تاه فيها المفسرون حول معنى الكلمة في الآية، واحتاروا فيا حيرة خرجوا معها بدون معنى ولا مراد واحتاروا في كل آية وردت فيها هذه الكلمة. ¶ إن التفسير الذي رجحناه للكلمة بالتأمل والإمعان هو الذي يتفق مع سياق القرآن فالله لا يمتن على عباده الصالحين إلا بالعلم وهو الملك الحقيقي الذي يعتز به ويسمو به الإنسان. ¶ وقد تتساءلون كيف أتيت بهذا المعنى للكلمة؟ ¶ إني لم أجزم بهذا المعنى للكلمة إلا بعد تأمل وإمعان في كلما وردت فيه الكلمة من آيات القرآن. ¶ ثم إن الباحث المدقق في اللغة وفي القرآن سيجد أن القرآن يستعمل الكلمات في الآيات بحسب مدلولها اللغوي الأصلي لا بحسب مدلولها العرفي المتداول. ¶ فالناس مثلا قد تعارفوا أن السكر ملازم لشرب الخمر وأن كلمة سكارى تعني متأثرين بالخمر، لكن المتأمل في أصل اللغة يجد أن الكلمة تعني الإغلاق والحجب والحيلولة بين شيء وشيء فالتسكير هو الحجب والحيلولة بينهم. ¶ ولهذا جاء (إنما سكرت أبصارنا) أي حجب بينها وبين الرؤية الحقيقية أو حيل بينها وبين الرؤية السليمة وعلى هذا وردت كلمة سكارى في آية النساء. ¶ (ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) [النساء:43]. ¶ أي لا تقربوها وعقولكم محجوبة عن الوعي بمشاغل الحياة والوسواس في أمر المعاش والناس. ¶ بل استحضروا عقولكم وأذهانكم في الصلاة وكفوا عنها كل حاجب ومانع عن الحضور والخشوع، ويحول بينكم وبين وعي ما تقولون. ¶ ولهذا جاء بعدها ما يكون معللا للنهي ومبررا له، وهو قوله تعالى: (حتى تعلموا ما تقولون) ¶ فالكلمة قد استعملت في معناها اللغوي الأصلي لا العرفي. ¶ وعليها نقيس كل الكلمات في القرآن، ومنها كلمة الملك بضم الميم. ¶ فلا شك أن المراد الأصلي لها في اللغة هو العلم والمعرفة فالذي يعلم يسمى ملكا بكسر اللام. ¶ ولما كان من يتولى أمر الناس والحكم بينهم والزعامة فيهم لا بد أن يتوفر فيه نوع من العلم والمعرفة ونوع من التميز عمن سواه في العلم في أي نوع من أنواع العلم الذي يحتاجه أي مجتمع بحسب حاجته. ¶ أقول لما كان من يتولى ذلك لا بد أن يتوفر فيه نوع من العلم أطلق الناس عليه اسم ملك بكسر اللام ويقال: نال فلان الملك بضم الميم. أي: أصبح زعيما أو حاكما في أي مكان. ¶ وهكذا تعارف الناس على أن الملك هو السلطة والزعامة وأن الملك هو الزعيم والسلطان وأصبحت الكلمة حقيقة فيه فأصبحت الحقيقة العرفية شائعة ومعروفة وتغلبت على الكلمة الأصلية أو بالأصح تغلبت الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية الأصلية، لكن القرآن أعادها إلى الأصل. ¶ وقد وردت كلمات في القرآن في سورة يوسف استخدمت هناك باعتبار الحقيقة العرفية جريا مع عرف الناس ولأن الموضوع يفسر في هذا الاستعمال المتعارف عليه ليتضح البيان، فقد وردت كلمات في السورة بهذا المعنى المتعارف مثل: ¶ (وقال الملك إني أرى سبع بقرات) (وقال الملك ائتوني به) (نفقد صواع الملك) (في دين الملك) وسواها ذلك لأن السياق بغرض استعمالها ولأن هذا هو الإسم الذي يطلق على حاكم مصر في ذلك الزمان كما عليه تعارف الناس قبله وبعده. ¶ لكن الكلمة تعود إلى معناها الأصلي وإلى الحقيقة اللغوية في نهاية السورة حيث قال يوسف: (رب قد آتيتني من الملك) ¶ إذن إنما استعملت كلمة (ملك) بكر اللام جريا مع العرف لكن الله عاد بها إلى أصلها الحقيقي واللغوي وهو العلم لتيضح لكم الفرق بين الأصل والعرف وبين المعنى الحقيقي والمعنى العرفي. ¶ وعلى هذا أقول لكم فهل تظنون أن ما ناله يوسف من التمكين في الأرض والخزائن هو الملك الذي أراده يوسف في قوله (قد آتيتني من الملك) إنما الملك الذي أوتيه يوسف وأراده إنما هو العلم وبه استطاع أن يتمكن في الأرض، وبه تأهل لهذا العمل الهام، ألا تذكروا أن مسيرته مع العلم برر هذا الطلب بقوله (إني حفيظ عليم) فهو العلم الذي أهله للعمل ومكنه في الأرض وبوأه منها حيث يشاء وعلى هذا فالملك هو العلم لا سواه وهو الذي أراده يوسف وبهذا المعنى نفهم قول يوسف عليه السلام في آخر السورة وقد جمعه الله العليم الحكيم بأبويه وإخوته وتحقق له تعبير رؤيا طفولته، فماذا قال؟ ¶ لنقرأ معا الآيات: ¶ (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم) [يوسف:100]. ¶ نعم إن ربه هو العليم وأن ربه هو الحكيم. ¶ وفي هذا العلم الرباني والحكمة الإلهية أوتي يوسف وأنعم الله عليه نعمته وعلى آل يعقوب معه فكانوا يعلمون من علم الله ما لا يعلمه الناس وعلى هذا الأساس نجد يوسف وهو في هذه الحال السامية والمشاعر الراقية ونعمة الله عليه متوالية؛ يتجه إلى ربه بنفس خاشعة راضية ويعلن اعترافه بما آتاه ربه من العطايا التي لا تحصى لكنه يحدد أهمها وأبرزها وأساسها لكل خير وهو العلم فيقول في خشوع لربه العليم: ¶ (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الآحاديث فاطر السماوات والآرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) ¶ هل تظنون أن كلمة الملك هنا تعني كونه أمينا على خزائن الأرض وكونه متمكنا منها؟ ¶ هذا هو الفهم العرفي وهو الفهم السطحي الذي لا يتفق مع جلال عطاء الله ومع عظمة ما أوتيه آل إبراهيم من ملك الله أي من علمه العظيم. ¶ إن المراد هنا وبلا شك هو العلم، فهو يعترف بالعلم الذي أوتيه ويعلن أن كل فضل هو فيه وكلما يراه أمامه من خير يشمله مع أبويه وإخوته إنما هو بالعلم والإيمان والصبر والإحسان وخشية الله والإذعان والتوكل عليه في كل حال وآن، وتلك صفات العلماء لدى الرحمن، (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر:28]. ¶ إن يوسف الصديق الذي صبر على السجن موقنا بربه متوكلا عليه داعيا إليه والذي رفض الإغراء والإغواء في قصر امرأة العزيز مستعيذا بربه القوي العزيز. ¶ إن هذا الصديق لا يمكن أن يفخر بالمتاع الدنيوي والسلطان، إن هذا الصديق العليم لا يمكن أن يفخر بالسلطة، ولا أن يعتبر مقاليد الولاية في الأرض مقاما يحرص عليه ويزهو به. ¶ كلا بل حرصه على أن يتوفاه مسلما ويلحقه بالصالحين. ¶ ومن كان هذا حاله، فإنما الملك لديه هو العلم وهذا هو ما يفخر به ويعتز ويستأنس به ويحرص عليه منذ بداية حياته حتى اليوم، فها هو أبوه يقول له بعد أن عرض عليه رؤياه في طفولته أو في بداية فتوته. ¶ (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الآحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم) [يوسف:6]. ¶ فالعلم والحكمة ميراث من آبائه له ولكل آل يعقوب معه ولهذا فنعمة الله سابقة عليه كما هي على آبائه وعلى آله معه، ونحن نعرف عن آل إبراهيم في سورة النساء أنهم قد أوتوا ملكا عظيما وها هو الملك العظيم يظهر اليوم على يوسف الصديق من ربه العليم الحكيم لأنه من آل إبراهيم فليس بينه وبين إبراهيم إلا يعقوب وإسحاق فهو الحفيد الأقرب لإبراهيم والوريث الأسبق لهذا الملك العظيم وبهذا العطاء الكريم يبشره أبوه يعقوب الذي يصفه الله بقوله (وإنه لذو علم لما علمناه) ¶ ولقد صدق ما بشره به أبوه وكان الله معه يرعاه ويكرمه ويعطي. ¶ فها نحن نجده في دار الذي اشتراه من مصر وقد أصبح فتى يتفيأ ظل رحمة الله وينمو في عطاه، (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) [يوسف:22]. ¶ فالعلم معه حيث حل والحكمة معه في كل حال بل وبرهان ربه يسكن في قلبه. ¶ وبهذا العلم والبرهان يقاوم الإغواء والإغراء ويرد مراودة التي أكرمت مثواه ويستعيذ بربه الذي أحسن مثواه. ¶ وهكذا ينجو من الهم بها ويعلو على فتنة إغرائها بعون ربه (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) إنه عند ربه عبد مخلص قد اصطفاه ربه للإخلاص وللإحسان، ولهذا فإنه يؤثر وحشة السجن وقسوة السجان على ما تدعوه إليه امرأة العزيز مع النسوان، ويدعو ربه أن يصرف عنه كيدهن فهو الحامي والمستعان، (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) ¶ نعم إنه هو السميع العليم؛ ألا تلاحظون هذه الصفة من صفات الله تلازم يوسف في كل حال فلقد استجاب السميع العليم لعبده الذي يطيع ويسمع ويعمل بما علمه ربه ويخضع. ¶ وبالعلم يدخل يوسف السجن باطمئنان (ودخل معه السجن فتيان) ¶ وتستمر إقامته في السجن محسنا، ويعيش فيه بالعلم مطمئنا، فإذا السجناء يلوذون به في كل أمورهم ويكشفون عليه أسرارهم ويضعون أمامه أحلامهم وآمالهم وخواطرهم مطمئنين إلى علمه وإحسانه، واثقين من حسن خلقه وإيمانه. ¶ فلقد لاحظوا عليه سلوكا لا يتوفر في سواه، وسكينة تدل على علمه وتقواه، تجدب إليه من يراه، وتدعو لمحبته واستفتاه. ¶ ها هما الفتيان يحتاجان إليه في موضوع هام يشغلهما في المنام، ويعرضانه عليه مطمئنين إلى أن الجواب لديه ، ولهذا قالا: (إنا نراك من المحسنين) ¶ لقد أصبح محط ثقة للفتوى وملجأ اطمئنان لكشف أسرار الرؤيا، والإنباء عما يخفى. ¶ لكن يوسف لا يخفي ما لديه من علم بل يبديه، ولا يكتفي بذلك بل يستغل سؤال الفتيين للفتيا، ويستعرض أمامهما ما لديه من علم وعطاء، لا يقصد بذلك الرياء والخيلاء ولكن يريد بذلك إظهار نعمة الله عليه ليتمكن من دعوتهما إليه. ¶ ومن هنا ندرك أن ما لديه من علم وحكمة قد عززا في السجن بالنبوة فإذا به يدعو إلى الله على بصيرة. ¶ فالعلم معه رفيق، وهو بربه معتصم بشكل وثيق وإليه يدعو بأسلوب لطيف رفيق. ¶ لنستمع إليه كيف يستعرض ما لديه من ربه قبل أن يفتي الفتيين في الأمر الذي قصداه بسببه: ¶ (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) فلقد أصبح في السجن رسولا نبيا. ¶ ألا تراه قد أصبح يخبر الناس بما كان غيبا خفيا وهو من علم ربه الذي كان به حفيا، فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول. ¶ وهكذا نجد يوسف بعد أن يفاجئ الفتيين بهذا الخبر الهام وبهذا العلم العظيم يعيد ذلك إلى ربه الكريم فيقول: (ذلكما مما علمني ربي) فهو علم علمه ربه وليس له من سبب إلا توحيده وعدم الشرك به، (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) ¶ فهو عبد شاكر موحد ولربه ذاكر عابد، والناس مدعوون لهذا المقام بشكل عام فإن فضل الله متاح لكل من قال ربي الله ثم استقام، ولكن أكثر الناس غافلون عن هذا الطريق الشاكر، جاهلون لهذا المقام العامر، ولهذا فها هو يوسف يدعو الفتيين إلى هذا الطريق المحبوب، ويحثهما عليه بأروع أسلوب فيقول: (ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [وسف:40]. ¶ فعبادة الله وحده هو العلم الذي يدعو إليه يوسف، وهو شأن كل ذي عقل ولب، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ¶ وهكذا فإن العلم هو الذي يدعو به يوسف. ¶ والعلم هو الذي أوتيه يوسف. ¶ والعلم هو الذي جعله من المحسنين. ¶ وهو الذي حببه لدى المسجونين. ¶ وجعلهم يستفتونه مطمئنين. ¶ وكما أن هذا العلم الذي أوتيه يوسف سيكون هو السبب فيما هو قادم عليه، ¶ ولنمض معه في السجن والسجناء. ¶ لنجده مرجع العلم والفتيا. ¶ فبعد أن أفتى صاحبي السجن في الرؤيا. ¶ وبعد أن كان يفتي في دائرة صغرى. ¶ إذا بالدائرة تتوسع بإذن الله إلى مجال أوسع ومقام أعلى، ليصبح مرجعا للفتيا في مصر كلها وفي بلاط الملك ومن معه من الملأ. ¶ فيأذن الله للملك أن يرى، ¶ ماذا يرى؟ ¶ إنها رؤيا تتكرر عليه وتتعاود مرات لديه، ولهذا جاء الفعل مضارعا في قوله تعالى: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملا أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) [يوسف: 43]. ¶ إن الفعل المضارع في أرى يفيد التجدد والحدوث كما أن الجملة الإسمية تفيد الاستمرار والثبوت. ¶ فالرؤيا لا تفارق منام الملك بل تلح عليه في البال متباعدة حتى جعلته يبحث عن تعبيرها بشكل ملهوف وملح. ¶ فكن الملأ يروون عليه بما يدعو لليأس والحيرة (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الآحلام بعالمين) [يوسف:44]. ¶ وهنا تأتي إرادة الله ليكون يوسف هو المرجع للفتيا في البلاد كلها، ¶ (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلوني) [يوسف:45] ¶ وتتوالى الأحداث كما في الآيات، وكلها تؤكد على أن يوسف أوتي العلم والحكمة مع النبوة. ¶ فها هو يفتي في تعبير رؤيا الملك بشكل رائع وبما هو أوسع من التعبير للواقع. ¶ بحيث يتجاوز ذلك إلى وضع خطة تطول لمدة خمسة عشر عاما، وهي خطة علمية متقنة وطريقة اقتصادية محكمة. ¶ فإن حفظ الحبوب في السنابل، وسيلة هامة لحفظ الحبوب من التآكل. ¶ ثم إن تعميم تطبيق ذلك في الأرض المصرية كلها تحتاج إلى خبرة وعدل وحكمة وعلم وأمانة وإلا فلا يمكن أن يثق بها الشعب ويلتزم بها وهذه هي الصفات التي لا تتوافر إلا في يوسف الصديق والمحسن والأمين وكيف لا وهو وحده العالم الذي هو من عباد ربه المخلصين. ¶ ولهذا حرص على البقاء في السجن وقد جاءه الاستدعاء من الملك بواسطة رسول خاص مكلف بإحضاره، (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك [أي إلى الملك] فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم) [يوسف:50]. ¶ وهكذا يستدعي الملك النسوة إلى مقامه ويسألهن عن يوسف وعن حقيقة اتهامه فإذا بهن يقلن: (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) ¶ وكيف لا والله يقول عنه قبل ذلك: ¶ (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) ¶ وهنا تبرز بطلة القصة ومحور التهمة لتصدع بالحقيقة الهامة: ¶ (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) [يوسف:51]. ¶ يا للعظمة! كيف يشمخ الصدق والإخلاص لله؟ وكيف يتصاغر المكر والكيد بعباد الله؟! ¶ ولهذا يعلن يوسف إنه لم يصر على سؤالهن قبل الخروج إلا ليؤكد للناس أنه لم يخن أمانته في قصر العزيز: ¶ (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) [يوسف:52]. ¶ ولكنه مع ذلك لا يعيد الفضل لقوته وعزمه، بل يعيده إلى الله، أما نفسه فهي ضعيفة فلولا عون الله لها لتلونت بالسوء كغيرها: ¶ (وما أبرئ نفسي إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) [يوسف:53]. ¶ إن ربه في نفسه فهو به معتصم وهو به يسترحم فكان معه عاصما راحما وغافرا عليما. ¶ وهذا مقام يدعو إلى الإعجاب والذهول والاشتياق لرؤية هذا الرجل النادر المثيل، وإنه لجدير بأن يكون في مقام خاص به وفي مكان يعتمد عليه ويوثق به: ¶ (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) [يوسف:54]. ¶ نعم هذا هو الذي يجب ويكون مع هذا النوع من الرجال، وهذا هو الذي تدلي إليه الأحداث، وتدل عليه الأعمال، فهو لم يتغير في كل حال، بل ظل متمسكا بربه ذي الجلال، فأصبح يتصف بأجمل الصفات ويختص بأرقى الخصال، فهو مكين أمين عند الملك مقبول المقال، مصدق في كل حال. ¶ وأمام هذه الثقة المطلقة التي لمسها يوسف الصديق تقدم لتنفيذ الخطة والتطبيق، فليس إلا هو يتحمل ويطيق. أليس هو المكين الأمين والصديق؟ ¶ لم يطلب العمل ليعلو مكانه والجاه، ولكن ليتحمل مسئولية ما أشار به وأبداه، وليؤدي الواجب فيما سيتولاه، بعلم وحكمة وأمانة كما علمه الله. ¶ نعم إنه لم يطلب المهمة إلا لأنه مؤهل لها ولا يقدر عليها سواه. وهكذا نسمعه يقدم نفسه معتزا بما آتاه الله: ¶ (قال اجعلني على خزائن الآرض إني حفيظ عليم) [يوسف:55]. ¶ هل تظنون هذا الطلب كان كالمكافأة على تعبير الرؤيا الملكية؟ هل تظنونه هو المواساة لما عاناه في السجن بلا ذنب ولا خطيئة؟ ¶ كلا؛ ليس هذا، بل هو الحكمة والعلم والأمانة الربانية، وهكذا أصبح يوسف رئيسا للوزراء في مصر يتصرف في الغلال ويصون المال، كما رسمه للناس بلا تفريط ولا اختلال، ولكن بعدل وحزم وكمال، كما علمه ذو الجلال. ¶ (وكذلك مكنا ليوسف في الآرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) [يوسف:56]. ¶ وهل الدنيا هي المبتغى وهل هي الهدف للعلماء أولي التقوى؟ ¶ كلا؛ إنما أعمالهم في الدنيا هي السلم والمعراج للدرجات العليا في جنات المأوى. ¶ (ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) [يوسف:57]. ¶ وبعد فإني أصل بكم إلى نتيجة هامة هي أن صفات المحسنين والذين آمنوا وكانوا يتقون التي وصف الله بها يوسف بالإضافة إلى ما سبقها من صفات العلم والحكمة عبر هذا والاستعراض السريع للآيات. ¶ كلها تؤكد أن هذه الصفات ملازمة للعلم والحكمة التي تفضل الله بها عليه وهي صفات كل العلماء وأولي العلم الذين يخشون الله ولا يخشون أحدا إلا الله ويريدون الآخرة ويسعون لها سعيها وهذا هو ما أوتيه الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين وما أوتيه يوسف وآبائه الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب (أولي الآيدي والآبصار) الموصوفون بقوله تعالى: (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) وهي الدار الآخرة والقرار فهم لها على ذكر دائم وعمل دائب ليل نهار ولهذا فهم عند الله كما يقول: (وإنهم عندنا لمن المصطفين الآخيار) [سورة ص: 45-47]. ¶ ونعم المقام العالي للعلماء. ¶ وهم هم الذين أوتوا ملكا عظيما كما جاء في سورة النساء وعرضناه قبل هذا ومن خلال هذا العرض الواضح للآيات فالملك الذي أراده يوسف عليه السلام في قوله (رب قد آتيتني من الملك) إنما هو العلم لا سواه لأن الأنبياء هم الذين أوتوا العلم وهم الذين لا يفخرون بالمال والسلطان ولا بالجاه والصولجان وإنما يذعنون لله الذي علمهم وبما أوتوا منه يعملون بما أمرهم ولا يهمهم إلا رضاه عنهم، ولأجله يعملون في كل حال وحين واثقين مطمئنين وعلى ربهم يتوكلون، وهذه هي ميزة العلماء في كل زمان ومكان وهي صفات عباد الرحمن. ¶ هل أستطيع بعد هذا أن أحصل على موافقتكم معي على أن الملك بضم الميم في هذه الآية وسواها هو العلم؟ ¶ لعل بعضكم لا يزال في نفسه شيء ما عن معنى الكلمة وسيقول ها هو يوسف يقول بعد ذلك (وعلمتني من تأويل الآحاديث) فعطف هذه الجملة على الأولى تعني المغايرة بين الأولى والثانية وعليه فالأولى لا يراد بها العلم وإنما هو الملك المتعارف عليه. ¶ لأن تعليم تأويل الأحاديث علم فكيف يعطف الشيء على نفسه؟ هكذا سيقول القائل في احتجاجه. ¶ لكني أقول له أن هذا دليل لي لا دليل علي. ¶ فهذا العطف يؤكد أن الأولى وهي (رب قد آتيتني من الملك) لا تقصد إلا العلم ولكن العلم بشكل عام. ¶ علم الدنيا وعلم الآخرة، علم النبوة وعلم الحياة الصالحة. ¶ فهو قد أوتي من هذا العلم كما أوتي سواه ورغم ذلك فهو لم يؤت كل شيء ولكن ما شاء له الله منه ولهذا قال: (من الملك) ولم يقل: (قد آتيتني الملك) فهو بعض من علم الله (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وهذا فضل يؤتاه من شاء الله وأرضاه. ¶ ولقد أوتيه كل الأنبياء لكن يوسف اختص بشيء هام وهو بعض من علم الله ذلك هو قوله ¶ (وعلمتني من تأويل الآحاديث) فهو علم تميز به عن سواه وله خصوصية لديه وعليه في الحياة ولهذا فقد عطفه في الآية من باب عطف الخاص على العام للاهتمام بشأنه وتميزه عن غيره وحسن أثره فهو لا يعدد هنا إلا نعم الله الكبرى التي فاز بها في الدنيا وسيفوز بها في الأخرى وهي العلم والحكمة وتأويل الأحاديث والرؤيا. ¶ ولهذا لم يستخدمها إلا فيما ينفع الناس أفرادا وجماعات وفي كل الظروف والحالات ليرجو بها رضاء الله والفوز بالجنات. ¶ ولتأكيد أن المفهوم السليم للفوز العظيم لديه هو الآخرة وأن الإيمان بالله ربه واليقين بالآخرة هو مبتغاه فإنه يختم توسله إلى ربه بقوله في الآية: ¶ (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) ¶ ومن هذا هو منتهى أمله ورجواه فإن الملك عنده ليس السلطان والجاه بل هو العلم لا سواه وهو الذي به يكون الله ربه ومولاه. ¶ أليس هو الذي يصف ربه بقوله مناديا له: ¶ (فاطر السماوات والآرض) ¶ وبهذا الوصف العظيم لربه يعلن استسلامه له وركونه عليه وإذعانه لولايته فيقول: ¶ (أنت ولي في الدنيا والآخرة) ¶ فهو النصير والمجير وهو الملاذ وإليه المصير وهو المعين القوي الغني لعبده الضعيف الفقير، وأن يوسف بأن يكون الله وليه لجدير، فهذا هو الملك الكبير، (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) [يونس: 62-64]. ¶ ولا شك أن يوسف بأن يكون من أولياء الله لجدير، وذلك هو الفوز العظيم الذي حرص عليه في دعائه فتمكينه في الأرض وتصرفه في خزائنها وغلالها وتصريف أمورها حيث يشاء لا يعني له شيئا سوى ابتغاء وجه ربه الأعلى، والفوز برضاه في الأخرى، ولسوف يرضى. ¶ أليس هذا هو ميزان العلم والعلماء؟ لا من صفات الملوك والأثرياء الذين عهدناهم يرضون بالحياة الدنيا ويطمئنون بها. ¶ بلى بلى، وعلى هذا فالملك الذي أعلنه يوسف واعترف لله بأنه قد أوتي منه إنما هو العلم الذي عرفناه معه من بداية الرحلة ومستهل القصة حتى نهايتها الكريمة. ¶ هل بعد هذا البيان أستطيع أن أحصل منكم على الموافقة على أن الملك بضم الميم هو العلم والعرفان لا بالجاه والسلطان؟ ¶ وهذا هو الملك العظيم الذي ناله آل إبراهيم من ربهم العليم الحكيم وهو فضل يختص به الله كل عبد جاءه بقلب سليم. ¶ قد يقول قائل: ¶ قد نسلم لك أن الملك الذي أوتيه إبراهيم ويوسف هو العلم كما عرضت ذلك علينا. ¶ لكنا نجد السورة هنا سورة يوسف تذكر (الملك) وتعني به صاحب الأمر والسلطة في مصر، وهو الذي استوزر يوسف وجعله على خزائن الأرض فيوسف يقصد بالملك هذا المنصب الذي تولاه. ¶ ولكني أقول: إن كلمة ملك من كل السورة استعملت في معناها المتعارف عليه فهي حقيقة عرفية وهذا معمول به في اللغة العربية، ثم كان يوسف هنا لا يقصد إلا العلم ولهذا قال: (من الملك) مع أنه قد أوتي بالمفهوم العرفي كل الملك فهو المتصرف في أمور مصر كلها يتبوأ من أرضها حيث يشاء ويدبر الحكم كما رسم ابتغى. ¶ لا يعترض عليه بل يعان ولا يصد بل يجاب. ¶ أليس هو قد أصبح عند الملك وعند أهل مصر موصوفا بأنه الصديق والمكين والأمين ثم هو عندهم مستحقا للملك وهو كما وصف نفسه حفيظ عليم، فهل بعد هذا يعطى من السلطات بعضها ويحجب عنه أهمها وهو قد تكفل بحفظ الأرض والناس في الشدة والبلاء وبأن يجعل السنوات العجاف سنوات رخاء بالعدل والوفاء. ¶ وهل يستطيع أن يقوم بهذه المهمة العظمى من حجب عنه البعض من الأمور وأطلق في بعضها؟ كلا، بل لا بد أن تطلق يده في كل شأن ومكان وكما شاء وحيث يشاء. ¶ أليس هو لنفس الملك مستخلصا فهو قائم مقام نفس الملك في كل الأمور والأشياء بلا استثناء. ¶ إذن فكلمة الملك لا تعني إلا أنه نال البعض من علم الله ولكنه كثير كثير في مقام الله. فله الحمد على ما أعطى وله المنة أبدا. وهذا ما أراده يوسف واعترف به لربه علنا وشكرا وحمدا. ¶ وبعد: فقد يعترض ثالث ويقول: قد نسلم بهذا في إبراهيم ويوسف فالملك هو العلم في شأنهما ولكن لا نسلم في شأن داوود وسليمان وهما من ذرية إبراهيم ومن آل إبراهيم المتأخرين فداوود كان ملكا فعلا بالمفهوم المتعارف عليه عرفا وكذلك سليمان كان ملكا مشهورا وبالمعنى المتعارف عليه، وهو الحكم والسلطان والتصرف والصولجان، ألم يكن متصرفا في الإنس والجان والريح والطير والحيوان؟. ¶ فكيف تفعل في هذا الشأن المعروف للناس في كل زمان، وبالآيات في القرآن، إن ما أوردته في عرضك من الحجج والبرهان، ينقض بداوود وسليمان. ¶ لكني لا أتعجل ولا أرتبك ولا أفاجأ بهذا بل أواصل المشوار واثقا مما أقول، وأؤيده بالحجة والدليل. فهيا معي إلى ملك سليمان ووالده داوود الجليل، فماذا نجد في هذا الملك من المعاني الراجحة، وماذا نلمسه من العلامات الواضحة. ¶ سنجد الكثير المنير، ونلمس القوي المثير، ولكن بالتأمل والإمعان، والصبر على البحث في آيات القرآن، فأمعنوا وتأملوا معي، واصبروا وابحثوا لكي نفقه الحديث ونعي. ¶ ولنبدأ من حيث يسر الله وأراد، وسنجد بعونه المقصد والمراد، فهيا معنا وليكن الحق هو الذي نقصد ونرتاد، ولنطهر قلوبنا من المراء والعناد، ولنتحر السداد، ولنذعن للحق إذا اتضح للنداد، فذلك هو الرشاد، ولنسر معا على هدى الله فهو خير هاد، ولتكن البداية والمنطلق من سورة (ص)، فإنها في انتظار من تأمل وتدبر، وهي التي لديها الذكرى لمن تذكر، أليست تبدأ بقوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر) وتنتهي بقوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) [ص: 87-88] فهي سورة تشع بالذكر والعلم، وبأخبار أولي الذكر والعلم.
مقام إبراهيم
إن الناس يظنون كما قال المفسرون أن مقام إبراهيم هو المكان الذي يقع على يمين المبنى الذي بناه إبراهيم أو رفع قواعده. ولأن الناس يظنون هذا الظن فإنهم يزدحمون فيه عند الطواف ويشكلون أزمة تجعل الطواف عسيرا وهو سهل يسير. يا إخواني إن المراد بقوله تعالى (مقام إبراهيم) ليس إلا المنطقة كاملة فهي مقام ووطن لإبراهيم فيها أقام ، وفيها سكن ، بعضا من الزمن ، ولقد أشار الله إلى هذا بقوله حاكيا عن إبراهيم : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) إبراهيم 37 هذا يدل أن المسكن هو الوادي الواقع ضمن البيت الحرام ، إذن فالمنطقة كلها هي السكن وهي المقام ، ولقد علل إبراهيم إسكان بعض ذريته هنا في هذا الوادي الغير ذي زرع ، علل هذا الإسكان بقوله (ليقيموا الصلاة) فالإقامة ليست لمجرد العيش والعمران ، وليست لمجرد السعي والبحث عن المتاع ، كلا . بل المراد هو الطاعة لله واتباع هداه وتطهر البيت من الشرك والضلال ، ومن الظلم والإلحاد ، وإذا أقام الناس على هذا الطريق الجاد ، فإن الله يكفل لهم المعاش والزاد ، ولهذا جاء دعاء إبراهيم عقب التعليل فقال : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهكذا أجاب الله دعاء إبراهيم وجعل البلد آمنا لكل باد ومقيم ،وجعله حرما آمنا ، وعلى هذا الأساس الذي علل به إبراهيم إسكان ذريته وهو إقامة الصلاة والطاعة والشكر لله ، جاءت آية البقرة ، جاءت الآية تؤكد هذه المعاني بشكل واضح البيان فاقرءوا بإمعان (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) إنه نفس ما دعا به إبراهيم ، فها هو البيت الحرام ، والبلد الحرام ، قد أصبح مثابة للناس ، فيتوبون إليه ، ويتعلمون منه ، ويقتدون بسلكه ومنسكه ، ثم هو مع المثابة آمن ، فمن دخله شكر وأقام الصلاة وهو في أمن لا يزول ، وسكون لا يتزلزل ، وسلوك جميل لا يتحول. إن كلمة (أمنا) في قوله (مثابة للناس وأمنا) تفصح بأن المنطقة كلها قد تجسد فيها الأمن وتجذر ، وتوارث الناس هذا السلوك فيه ، فهو بتغير حتى أصبح البلد كأنه هو الأمن بذاته ، وكأن كل ذرة فيه وكل شبر يشع بالأمن وكل شجرة وعشبة تثمر أمنا وكل نسائمه واحواشه تهب أمنا ، وفي هذا الحال والجو الجميل والأمن الأصيل والسكن الظليل لا بد أن يكون للناس فيه سلك جليل ، يليق بهذه الصفات التي لا تحول ، وعليه جاء الأمر المعجول.
وقبل أن تكمل الايات السياق وقبل أن يصل الوصف للبيت إلى نهاية المطاف انقطع السياق وانطلق الأثر بأجمل انطلاق ليؤكد أن الحال يستحق هذا أشد استحقاق فقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي اتخذوا من هذا البيت أي من هذا البلد أي من هذه المنطقة الحرام ، كما عرفنا ذلك من سياق الكلام ، اتخذوا من هذا البيت الذي هو مقام إبراهيم مصلى ، أي مقاما للعبادة والشكر والطاعة والذكر والتوحيد لله الواحد بلا شرك ولا زور. نعم هذا هو المراد ، إنه يعني أن تكون المنطقة كلها مصلى ، لكل الناس الذين جعل الله لهم البيت مثابة وأمنا ، أليس إبراهيم قد أسكن أهله هناك ليقيموا الصلاة ، إذن فهو القدوة ومثله فلنقم الصلاة ، ولنتخذ مقامه الواسع الكامل مصلى على الدوام تماما كما كان إبراهيم الإمام ، وإذن فليس المراد بمقام إبراهيم هو ذلك الموقع الذي نزدحم فيه بلا جدوى ، بل المراد به كل المنطقة الحرام التي أقام فيها إبراهيم واتخذها مصلى له ولذريته ، ولمن تبعه وبه اقتدى ،
ولهذا عاد السياق من جديد في الآية ليواصل البيان فيوضح لنا أن المقام مقام طاعة وإذعان وتوحيد وإيمان وطهر وتقوى وإحسان فجاء بعد الأمر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فالعهد هذا يؤكد أن المقام هو البيت بكله وبكامله المعروف الحدود (للطائفين والعاكفين والركع السجود) فهو مقام واسع الأرجاء يشمل المنطقة الحرام بلا مراء وليس ذلك المقام المعهود للملأ . ثم إني أسألكم سؤالا لو سلمنا أن المراد بمقام إبراهيم هو ذلك المكان الذي يقابل الحجر الأسود وأن إبراهيم كما قيل كان يقوم فيه ليبني المبنى الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه كان يضع الأحجار على المدماك ويرفعه ، وابنه إسماعيل يمكنه الأحجار ويناوله ، إذا سلمنا بهذا فكم كان طول ذراع إبراهيم وكم كان طول قامته حتى يتمكن من البناء وهو على هذا البعد من المبنى ؟؟ إن هذا ينفي الظنون ويؤكد أن المقام المدعى وهم موروث ، لا يعتمد على اليقين ، قد يقال أن عمر بن الخطاب أزاح مقام إبراهيم من جوار مبنى الحجر الأسود عدة أمتار ، وإلا فالأصل أنه كان قريبا من الجدار بحيث يمكن العمار من وضع الأحجار ، وإذا صح هذا فلماذا أزاحه عمر وهو يعلم أن هذا المقام شعيرة لا تغير ، وأثر لا تحول عما يؤثر ، إن إزاحته تؤكد أن الموضع ليس مقام إبراهيم وإنما هو شعيرة توارثها الناس غابرا عن غابر ، حتى أصبحت من الشعائر ، قد يقال أن النبي صلى هناك حينما اعتمر وتلى الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لكن الحديث ليس متواتر السند بل هو أحادي ، والأحادي معروف أن عمله ظني ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الصلاة في محاذاة الحجر الأسود ، فكان المكان هو هذا المقام المدعى ، ثم أنه قد أراد بتلاوة الآية : أن مكة كلها تصلح مصلى ما دامت مقام إبراهيم المقتدى الذي اتخذها كلها له ولذريته مقاما لإقامة الصلاة فالنبي محمد به اقتدى لا لتحديد الصلاة في ذاك المكان ولكن ليذكر بإبراهيم الإمام ، وليؤكد أنه على ملته أتم الالتزام ، وبعد فهل نستطيع أن نبني على هذا ، إن مقام إبراهيم هو البلد الحرام كله وهو البيت الحرام بأكمله؟؟
لعلنا قد اتضح لنا أن هذا هو المراد وإذا أردتم المزيد من البرهان فها هو إبراهيم يأتي بالبيان في الآيات التي تلي فاقرءوا بإمعان: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 إن البلد هنا هو البيت وهو المقام ها هو إبراهيم يشير إلى المقام ويقول رب اجعل هذا بلدا آمنا ويدعو لأهله بالرزق ويشترط الإيمان بالله واليوم الآخر فهل يمكن أن للمقام الصغير أهل وهم يسكنون فيه ويأكلون وهل يمكن أن ترد الثمرات إلى ذلك المقام الصغير المضنون كلا بل الذي يسكنه أهل وتأتيه ثمرات إنما مكان واسع الأرجاء ، في البلاد يتسع للمقيم والباد وله حدود من دخلها كان في حرم آمن من كل ظلم وإلحاد ومن كل باغ وعاد ، وعلى هذا فإن المقام هو هذا الذي أراده إبراهيم ملاذا . فكان الله معه مجيبا وجعل البيت مثابة وأمنا وجعل المقام مصلى طاهرا وجعل البلد آمنا موفور الأرزاق والأثمار تجيء إليه من كل الأقطار رزقا من لدن الله الغفار .
والآن أكتفي بهذا المقال حول المقام وأرجو أن القارئ قد اقتنع بالبرهان وبالكلام وإني لأدعو لي وله أن يكون إبراهيم لنا هو الإمام وأن تكون ملته لنا هي الملة فهي الإسلام .مقام إبراهيم ¶ إن الناس يظنون كما قال المفسرون أن مقام إبراهيم هو المكان الذي يقع على يمين المبنى الذي بناه إبراهيم أو رفع قواعده. ولأن الناس يظنون هذا الظن فإنهم يزدحمون فيه عند الطواف ويشكلون أزمة تجعل الطواف عسيرا وهو سهل يسير. يا إخواني إن المراد بقوله تعالى (مقام إبراهيم) ليس إلا المنطقة كاملة فهي مقام ووطن لإبراهيم فيها أقام ، وفيها سكن ، بعضا من الزمن ، ولقد أشار الله إلى هذا بقوله حاكيا عن إبراهيم : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) إبراهيم 37 هذا يدل أن المسكن هو الوادي الواقع ضمن البيت الحرام ، إذن فالمنطقة كلها هي السكن وهي المقام ، ولقد علل إبراهيم إسكان بعض ذريته هنا في هذا الوادي الغير ذي زرع ، علل هذا الإسكان بقوله (ليقيموا الصلاة) فالإقامة ليست لمجرد العيش والعمران ، وليست لمجرد السعي والبحث عن المتاع ، كلا . بل المراد هو الطاعة لله واتباع هداه وتطهر البيت من الشرك والضلال ، ومن الظلم والإلحاد ، وإذا أقام الناس على هذا الطريق الجاد ، فإن الله يكفل لهم المعاش والزاد ، ولهذا جاء دعاء إبراهيم عقب التعليل فقال : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهكذا أجاب الله دعاء إبراهيم وجعل البلد آمنا لكل باد ومقيم ،وجعله حرما آمنا ، وعلى هذا الأساس الذي علل به إبراهيم إسكان ذريته وهو إقامة الصلاة والطاعة والشكر لله ، جاءت آية البقرة ، جاءت الآية تؤكد هذه المعاني بشكل واضح البيان فاقرءوا بإمعان (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) إنه نفس ما دعا به إبراهيم ، فها هو البيت الحرام ، والبلد الحرام ، قد أصبح مثابة للناس ، فيتوبون إليه ، ويتعلمون منه ، ويقتدون بسلكه ومنسكه ، ثم هو مع المثابة آمن ، فمن دخله شكر وأقام الصلاة وهو في أمن لا يزول ، وسكون لا يتزلزل ، وسلوك جميل لا يتحول. إن كلمة (أمنا) في قوله (مثابة للناس وأمنا) تفصح بأن المنطقة كلها قد تجسد فيها الأمن وتجذر ، وتوارث الناس هذا السلوك فيه ، فهو بتغير حتى أصبح البلد كأنه هو الأمن بذاته ، وكأن كل ذرة فيه وكل شبر يشع بالأمن وكل شجرة وعشبة تثمر أمنا وكل نسائمه واحواشه تهب أمنا ، وفي هذا الحال والجو الجميل والأمن الأصيل والسكن الظليل لا بد أن يكون للناس فيه سلك جليل ، يليق بهذه الصفات التي لا تحول ، وعليه جاء الأمر المعجول. ¶ وقبل أن تكمل الايات السياق وقبل أن يصل الوصف للبيت إلى نهاية المطاف انقطع السياق وانطلق الأثر بأجمل انطلاق ليؤكد أن الحال يستحق هذا أشد استحقاق فقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي اتخذوا من هذا البيت أي من هذا البلد أي من هذه المنطقة الحرام ، كما عرفنا ذلك من سياق الكلام ، اتخذوا من هذا البيت الذي هو مقام إبراهيم مصلى ، أي مقاما للعبادة والشكر والطاعة والذكر والتوحيد لله الواحد بلا شرك ولا زور. نعم هذا هو المراد ، إنه يعني أن تكون المنطقة كلها مصلى ، لكل الناس الذين جعل الله لهم البيت مثابة وأمنا ، أليس إبراهيم قد أسكن أهله هناك ليقيموا الصلاة ، إذن فهو القدوة ومثله فلنقم الصلاة ، ولنتخذ مقامه الواسع الكامل مصلى على الدوام تماما كما كان إبراهيم الإمام ، وإذن فليس المراد بمقام إبراهيم هو ذلك الموقع الذي نزدحم فيه بلا جدوى ، بل المراد به كل المنطقة الحرام التي أقام فيها إبراهيم واتخذها مصلى له ولذريته ، ولمن تبعه وبه اقتدى ، ¶ ولهذا عاد السياق من جديد في الآية ليواصل البيان فيوضح لنا أن المقام مقام طاعة وإذعان وتوحيد وإيمان وطهر وتقوى وإحسان فجاء بعد الأمر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فالعهد هذا يؤكد أن المقام هو البيت بكله وبكامله المعروف الحدود (للطائفين والعاكفين والركع السجود) فهو مقام واسع الأرجاء يشمل المنطقة الحرام بلا مراء وليس ذلك المقام المعهود للملأ . ثم إني أسألكم سؤالا لو سلمنا أن المراد بمقام إبراهيم هو ذلك المكان الذي يقابل الحجر الأسود وأن إبراهيم كما قيل كان يقوم فيه ليبني المبنى الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه كان يضع الأحجار على المدماك ويرفعه ، وابنه إسماعيل يمكنه الأحجار ويناوله ، إذا سلمنا بهذا فكم كان طول ذراع إبراهيم وكم كان طول قامته حتى يتمكن من البناء وهو على هذا البعد من المبنى ؟؟ إن هذا ينفي الظنون ويؤكد أن المقام المدعى وهم موروث ، لا يعتمد على اليقين ، قد يقال أن عمر بن الخطاب أزاح مقام إبراهيم من جوار مبنى الحجر الأسود عدة أمتار ، وإلا فالأصل أنه كان قريبا من الجدار بحيث يمكن العمار من وضع الأحجار ، وإذا صح هذا فلماذا أزاحه عمر وهو يعلم أن هذا المقام شعيرة لا تغير ، وأثر لا تحول عما يؤثر ، إن إزاحته تؤكد أن الموضع ليس مقام إبراهيم وإنما هو شعيرة توارثها الناس غابرا عن غابر ، حتى أصبحت من الشعائر ، قد يقال أن النبي صلى هناك حينما اعتمر وتلى الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لكن الحديث ليس متواتر السند بل هو أحادي ، والأحادي معروف أن عمله ظني ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الصلاة في محاذاة الحجر الأسود ، فكان المكان هو هذا المقام المدعى ، ثم أنه قد أراد بتلاوة الآية : أن مكة كلها تصلح مصلى ما دامت مقام إبراهيم المقتدى الذي اتخذها كلها له ولذريته مقاما لإقامة الصلاة فالنبي محمد به اقتدى لا لتحديد الصلاة في ذاك المكان ولكن ليذكر بإبراهيم الإمام ، وليؤكد أنه على ملته أتم الالتزام ، وبعد فهل نستطيع أن نبني على هذا ، إن مقام إبراهيم هو البلد الحرام كله وهو البيت الحرام بأكمله؟؟ ¶ لعلنا قد اتضح لنا أن هذا هو المراد وإذا أردتم المزيد من البرهان فها هو إبراهيم يأتي بالبيان في الآيات التي تلي فاقرءوا بإمعان: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 إن البلد هنا هو البيت وهو المقام ها هو إبراهيم يشير إلى المقام ويقول رب اجعل هذا بلدا آمنا ويدعو لأهله بالرزق ويشترط الإيمان بالله واليوم الآخر فهل يمكن أن للمقام الصغير أهل وهم يسكنون فيه ويأكلون وهل يمكن أن ترد الثمرات إلى ذلك المقام الصغير المضنون كلا بل الذي يسكنه أهل وتأتيه ثمرات إنما مكان واسع الأرجاء ، في البلاد يتسع للمقيم والباد وله حدود من دخلها كان في حرم آمن من كل ظلم وإلحاد ومن كل باغ وعاد ، وعلى هذا فإن المقام هو هذا الذي أراده إبراهيم ملاذا . فكان الله معه مجيبا وجعل البيت مثابة وأمنا وجعل المقام مصلى طاهرا وجعل البلد آمنا موفور الأرزاق والأثمار تجيء إليه من كل الأقطار رزقا من لدن الله الغفار . ¶ والآن أكتفي بهذا المقال حول المقام وأرجو أن القارئ قد اقتنع بالبرهان وبالكلام وإني لأدعو لي وله أن يكون إبراهيم لنا هو الإمام وأن تكون ملته لنا هي الملة فهي الإسلام .
المسجد الحرام
إن المسجد الحرام كلمة وردت كثيرا في القرآن وهي في مفهوم المفسرين تعني المكان الذي يطوف فيه الناس ويسجدون وفيه يتعبدون ويجتمعون ، أو فلقد كانوا يعنون بالمسجد الحرام هذا المبنى الذي يحيط بالصحن المعد للطواف ، والذي يتوسطه المبنى الأصغر الذي بناه إبراهيم ورفع قواعده فهل هذا الفهم صحيح ، تعالوا نقرأ القرآن : يقول الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1 ، لنتأمل الآيات بإمعان ولنسأل أولا هل الإسراء تم من المسجد الحرام المتعارف عليه بيننا بأنه المبنى المعد للصلاة والطواف؟؟ إن الجواب على السؤال بلا شك يؤكد أن الإسراء تم من مكة أو من بيت من بيوت مكة ، لا من المسجد الذي للصلاة المعهودة ثم هل كان المبنى الذي كان يجتمع فيه القرشيون حول الأصنام مسجدا لله؟ وهل كان فيه صلاة؟؟ كلا. بل الله يقول (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال 35 إذن (المسجد الحرام) ليس المراد به إلا البلد الأمين بكامله ومحتواه ، ولا يقصد به إلا البيت الحرام بمعناه الذي عرفناه ، لقد أسري بالنبي من المنطقة التي هي مكة أو البلد المسمى بالمسجد الحرام ، قد تسألون ولماذا سمي بالمسجد الحرام ؟ وأنا أسأل هل وصف المسجد بأنه حرام يعني أن الحرم مقصور على المبنى؟؟ إذا كان المسجد هو المبنى فإن هذا يعني أن الحرم محدد به وهذا غير صحيح فالحرم هو البلد الكامل الشامل المناطق الحرام كلها ، التي يعرف الناس حدودها ، وبدايتها ونهايتها ، بلا لبس ولا خلاف ، وعليه فالمسجد المراد به كل المنطقة الحرام .
أما لماذا سمي مسجدا فهو لأنه محل للطاعة والخضوع والانقياد لله والخشوع والتزام سلوك معين معهود للناس مشروع ، فلا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ولا خصام ولا اعتداء ولا قتال ، بل سلام واطمئنان لكل مقيد وباد. ومن يرد فيه بإلحاد ، فأن العذاب له بالمرصاد ، وهكذا سمي البلد مسجدا ، ووصف بأنه الحرام ، لأنه هكذا محكوم فيه بالطاعة والالتزام وهو معهود للناس بشكل عام ، سواء من كفر وغادر الإسلام ، ومن استجاب بعد ذلك للإسلام ، فهو المسجد الحرام ، الذي حكمه معروف ، والتحريم فيه مألوف ، والقتل فيه مكفوف ، وهو بالاحترام محفوف ، فالمسجد الحرام هو البلد بكله ، والمسجد الحرام هو المنطقة الحرام الكاملة.
ثم هل هناك حين أسري بالنبي مسجد في القدس ، كلا بل كان هناك كنائس وأديره لليهود والنصارى ، فلماذا سمي إذن المسجد الأقصى؟ لأنه مقام عبادة وطاعة لله ، ومحط سلام واطمئنان ، فالسجود يعني الخضوع والاستسلام والمسجد يعني موطن التمسك بذلك والالتزام ، فهو المسجد الأقصى ، أي المكان أو البلد الذي يحترم فيه الناس بعضهم بعضا. ثم إذا كان المراد بالمسجد الأقصى هو الكنائس والأديرة والبيع النصرانية فلماذا وصف بالأقصى؟
إن الأقصى لا يوصف إلا بلد كامل أو مقام واسع الأرجاء أو منطقة يسكنها الناس ويعيشون في سلام شامل وعطاء
ولهذا أضاف الله صفة أخرى فقال (الذي باركنا حوله) فالبركة منشورة على كل بقعة فيه وعلى ما حوله ولقد وصفها الله في آيات أخرى بقوله عن إبراهيم (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71 ويقول عن سبأ :(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)سبأ 18 ويقول عن سليمان وهو كان في القدس (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء 81 إذن فهي أرض ، وسماها الله مسجدا فقال (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وعليه فالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة ، وهي التي حرمها الله ،
وبعد تعالوا إلى آية أخرى هي قولة تعالى : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) الفتح 27 وقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 فهل المسجد الحرام هنا يعني المبنى الذي للطواف أم البلد والأرض الحرام كاملة لا شك أن المراد به مكة الأرض المحرمة المحددة المعروفة الطول والعرض ، وهكذا فإن المسجد الحرام هو البلد الحرام هو البيت الحرام هو الكعبة الحرام. فالرسول لم يرد دخول المسجد فقط الذي فيه يتعبد ، ولكن أراد الأرض والبلد الذي هو حرام ، وله حد محدد ، معروف من الأبد. إذا أردتم المزيد من الأدلة ، فاسمعوا هذه الآية :(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) التوبة 7 والمراد بهذا العهد هو ما عقده النبي مع بعض القبائل القاطنة على حدود الأرض الحرام ، ويقول الله عن الحديبية التي تم فيها الصلح مع قريش (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) الفتح 24 فسمى الحديبية بطن مكة ، أي أنها على حدود البلد الحرام. ثم أن هناك آية تؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو البلد أو الأرض المسكونة ضمن المنطقة الحرام ، يقول الله في سورة البقرة عن من حج متمتعا بالعمرة إلى الحج (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فهل الأهل يسكنون في المسجد المصلى أم في البلد الذي جعله الله للناس حراما. وقبلها يقول الله للمؤمنين (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) البقرة191 فهل القتال يكون عند الأرض التي تسكن فيها ، أم عند المسجد الذي يصلى فيه؟ إن المراد الأرض المسكونة. إذن فالمراد بالمسجد الحرام الأرض التي هي محرمة أو البلد الحرام . ثم تعالوا إلى سورة الحج .. يقول الله :(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ثم يصفه بقوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) ثم يقول (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25 فهل العاكف والباد من الناس يسكن في المسجد المصلى ، أم في البلد الذي يسع الجميع ويكون للناس سواء؟ إن الوصف يؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة المسماة بالبيت الحرام ، الذي هو (أول بيت وضع للناس) وهو (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) فالمسجد الحرام هو البيت الحرام. ثم تعالوا أخيرا إلى سورة الأنفال :(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) الأنفال34 ، لا شك أن المراد هنا هو البلد الحرام بأكمله لا مجرد المسجد الصغير بداخله. وهكذا نصل إلى النهاية في هذا الموضوع عسى أن يكون مقبولا عندكم باقتناع.المسجد الحرام ¶ إن المسجد الحرام كلمة وردت كثيرا في القرآن وهي في مفهوم المفسرين تعني المكان الذي يطوف فيه الناس ويسجدون وفيه يتعبدون ويجتمعون ، أو فلقد كانوا يعنون بالمسجد الحرام هذا المبنى الذي يحيط بالصحن المعد للطواف ، والذي يتوسطه المبنى الأصغر الذي بناه إبراهيم ورفع قواعده فهل هذا الفهم صحيح ، تعالوا نقرأ القرآن : يقول الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1 ، لنتأمل الآيات بإمعان ولنسأل أولا هل الإسراء تم من المسجد الحرام المتعارف عليه بيننا بأنه المبنى المعد للصلاة والطواف؟؟ إن الجواب على السؤال بلا شك يؤكد أن الإسراء تم من مكة أو من بيت من بيوت مكة ، لا من المسجد الذي للصلاة المعهودة ثم هل كان المبنى الذي كان يجتمع فيه القرشيون حول الأصنام مسجدا لله؟ وهل كان فيه صلاة؟؟ كلا. بل الله يقول (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال 35 إذن (المسجد الحرام) ليس المراد به إلا البلد الأمين بكامله ومحتواه ، ولا يقصد به إلا البيت الحرام بمعناه الذي عرفناه ، لقد أسري بالنبي من المنطقة التي هي مكة أو البلد المسمى بالمسجد الحرام ، قد تسألون ولماذا سمي بالمسجد الحرام ؟ وأنا أسأل هل وصف المسجد بأنه حرام يعني أن الحرم مقصور على المبنى؟؟ إذا كان المسجد هو المبنى فإن هذا يعني أن الحرم محدد به وهذا غير صحيح فالحرم هو البلد الكامل الشامل المناطق الحرام كلها ، التي يعرف الناس حدودها ، وبدايتها ونهايتها ، بلا لبس ولا خلاف ، وعليه فالمسجد المراد به كل المنطقة الحرام . ¶ أما لماذا سمي مسجدا فهو لأنه محل للطاعة والخضوع والانقياد لله والخشوع والتزام سلوك معين معهود للناس مشروع ، فلا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ولا خصام ولا اعتداء ولا قتال ، بل سلام واطمئنان لكل مقيد وباد. ومن يرد فيه بإلحاد ، فأن العذاب له بالمرصاد ، وهكذا سمي البلد مسجدا ، ووصف بأنه الحرام ، لأنه هكذا محكوم فيه بالطاعة والالتزام وهو معهود للناس بشكل عام ، سواء من كفر وغادر الإسلام ، ومن استجاب بعد ذلك للإسلام ، فهو المسجد الحرام ، الذي حكمه معروف ، والتحريم فيه مألوف ، والقتل فيه مكفوف ، وهو بالاحترام محفوف ، فالمسجد الحرام هو البلد بكله ، والمسجد الحرام هو المنطقة الحرام الكاملة. ¶ ثم هل هناك حين أسري بالنبي مسجد في القدس ، كلا بل كان هناك كنائس وأديره لليهود والنصارى ، فلماذا سمي إذن المسجد الأقصى؟ لأنه مقام عبادة وطاعة لله ، ومحط سلام واطمئنان ، فالسجود يعني الخضوع والاستسلام والمسجد يعني موطن التمسك بذلك والالتزام ، فهو المسجد الأقصى ، أي المكان أو البلد الذي يحترم فيه الناس بعضهم بعضا. ثم إذا كان المراد بالمسجد الأقصى هو الكنائس والأديرة والبيع النصرانية فلماذا وصف بالأقصى؟ ¶ إن الأقصى لا يوصف إلا بلد كامل أو مقام واسع الأرجاء أو منطقة يسكنها الناس ويعيشون في سلام شامل وعطاء ¶ ولهذا أضاف الله صفة أخرى فقال (الذي باركنا حوله) فالبركة منشورة على كل بقعة فيه وعلى ما حوله ولقد وصفها الله في آيات أخرى بقوله عن إبراهيم (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71 ويقول عن سبأ :(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)سبأ 18 ويقول عن سليمان وهو كان في القدس (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء 81 إذن فهي أرض ، وسماها الله مسجدا فقال (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وعليه فالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة ، وهي التي حرمها الله ، ¶ وبعد تعالوا إلى آية أخرى هي قولة تعالى : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) الفتح 27 وقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 فهل المسجد الحرام هنا يعني المبنى الذي للطواف أم البلد والأرض الحرام كاملة لا شك أن المراد به مكة الأرض المحرمة المحددة المعروفة الطول والعرض ، وهكذا فإن المسجد الحرام هو البلد الحرام هو البيت الحرام هو الكعبة الحرام. فالرسول لم يرد دخول المسجد فقط الذي فيه يتعبد ، ولكن أراد الأرض والبلد الذي هو حرام ، وله حد محدد ، معروف من الأبد. إذا أردتم المزيد من الأدلة ، فاسمعوا هذه الآية :(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) التوبة 7 والمراد بهذا العهد هو ما عقده النبي مع بعض القبائل القاطنة على حدود الأرض الحرام ، ويقول الله عن الحديبية التي تم فيها الصلح مع قريش (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) الفتح 24 فسمى الحديبية بطن مكة ، أي أنها على حدود البلد الحرام. ثم أن هناك آية تؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو البلد أو الأرض المسكونة ضمن المنطقة الحرام ، يقول الله في سورة البقرة عن من حج متمتعا بالعمرة إلى الحج (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فهل الأهل يسكنون في المسجد المصلى أم في البلد الذي جعله الله للناس حراما. وقبلها يقول الله للمؤمنين (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) البقرة191 فهل القتال يكون عند الأرض التي تسكن فيها ، أم عند المسجد الذي يصلى فيه؟ إن المراد الأرض المسكونة. إذن فالمراد بالمسجد الحرام الأرض التي هي محرمة أو البلد الحرام . ثم تعالوا إلى سورة الحج .. يقول الله :(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ثم يصفه بقوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) ثم يقول (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25 فهل العاكف والباد من الناس يسكن في المسجد المصلى ، أم في البلد الذي يسع الجميع ويكون للناس سواء؟ إن الوصف يؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة المسماة بالبيت الحرام ، الذي هو (أول بيت وضع للناس) وهو (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) فالمسجد الحرام هو البيت الحرام. ثم تعالوا أخيرا إلى سورة الأنفال :(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) الأنفال34 ، لا شك أن المراد هنا هو البلد الحرام بأكمله لا مجرد المسجد الصغير بداخله. وهكذا نصل إلى النهاية في هذا الموضوع عسى أن يكون مقبولا عندكم باقتناع.
مفردة الكعبة
أدعوكم الآن إلى كلمة أخرى هي (الكعبة) فلقد وردت في القرآن. فهل هي تعني هذا المبنى الذي رفع قواعده إبراهيم؟ وهل هي إذا وردت تطلق عليه؟ أم لها معنى آخر تدل عليه؟؟ لعلكم ستفاجئون إذا قلت لكم أن كلمة (الكعبة) لا تعني هذا المبنى الصغير أو المبنى الذي أقامه إبراهيم بل تعني شيئا آخرا. فما هو؟ انتظر الجواب يا أخي القارئ وتأمل الكلام تأمل أولى الألباب ، وأنا لا أسألك أن تستقبل كلامي بالترحاب ، حتى تتأكد من صحة القول وسلامة الأدلة وسأوردها من القرآن الذي هو علم الله .
لقد وردت الكعبة مرتين في القرآن ، أي في آيتين فقط وفي سورة المائدة فقط ، هي أولا قوله تعالى :(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، أما الثانية فهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) المائدة 95 .
إن المفسرين يقولون أن البيت الحرام في الآية الأولى رقم (97) هي عطف بيان للكعبة ، أو هي بدل على جهة المدح لا على جهة التوضيح ، لكن هذا التأويل غير مقنع لأن البيان أو البدل لا يأتي للمدح إلا قليلا أو نادرا ، لكن الواقع هو أن الكعبة هي نفسها البيت الحرام بمعناه العام الذي فهمناه فالبيت الحرام بدل أو عطف بيان للبيان لا للمدح ، فالأسلوب هنا يريد أن يقول لنا أن الكعبة اسم للبيت الحرام الذي يعني كل المنطقة الحرام ، بما يعني أن هذا البيت الحرام موصوف بأنه الكعبة. إذن فالكلام مبني على إشعارنا بمعنى جديد وحقيقة جديدة هي أن الكعبة قد بينت بأنها البيت الحرام ، فكلمة البيت الحرام عطف بيان أو بدل ، وهذا هو الفهم الأمثل ،
وإذا اردنا الدليل فإن الآية الثانية التي وردت فيها كلمة الكعبة تقدم الدليل الذي لا ينكر بل يدعم ما نقوله بشكل واضح وأمثل فاقرءوا معي الآية 95 لتتضح لكم القضية يقول الله مخاطبا المؤمنين : (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إن الله يوجب على من قتل الصيد وهو حرم أن يكون جزاؤه حيوانا مقوما مثل الصيد المقتول ويكون من الأنعام يحكم به ذوا عدل من الناس أولى الأفهام ، فإذا تحدد هذا الجزاء فإنه سياق ينحر في مكان النحر المحدد وبالغا إليه بلا تردد ، ولهذا يقول موضحا هذا (هديا بالغ الكعبة) هذا هو الجزاء لمن صاد وهو حرم. وهنا أسأل هل الهدي الذي ينحر يساق إلى غير منى؟؟ فلماذا قال الله (هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة أو المبنى الصغير بالمعنى الذي تفهمونه من التفاسير؟ هل هذه الكعبة بهذا المعنى هي محل النحر للهدي؟؟ كلا. بل محل نحر الهدي هو منى ، كما هو معروف لنا ولمن قبلنا ، أليس هذا الواقع الذي يعرفه الناس على المدى؟ فلماذا قال (هديا بالغ الكعبة)؟؟
إذن فإن (الكعبة) هي اسم آخر للبيت الحرام وهي اسم أراده الله ليدلنا على أن معاني هذا البيت متنوعة وأسمائه وسماته متعددة ، كما أن آياته غير محدودة ، فهو البيت الحرام وهو الكعبة ، بل وله أسماء أخرى وأوصاف أخرى تدل على الاهتمام ، سيتضح لكم ذلك فيما سيأتي من الكلام. أكتفي هنا بشأن (الكعبة) ، بهذا الدليل الواضح البيان لكل ذي عقل وجنان ، وممن تدبر القرآن بإمعان..
قد يسأل سائل إذا كانت كلمة (الكعبة) لا تعني المبنى الصغير الذي رفعه إبراهيم وأنها تعني كل المنطقة الحرام ، فلماذا تسمى هذه المنطقة كلها (الكعبة) ؟ إنه سؤال جيد .ولهذا تعالوا معي إلى معرفة معنى كعب في اللغة العربية ، ولن نطوف في كتب المعجمات ولكن لنقرأ ما جاء في المنجد فقط ، فمما قال في وسط المادة كعب كعوبا (الجارية نهد ثديها) كعب الأناه ثلاثة ، كعب الشيء جعله مكعبا ، الكعب جمعه كعوب كلما ارتفع من الأرض ، الشرف والمجد ، بل وقال الكعب كل مفصل للعظام : العظم الناشئ ، العظم الذي يلعب به ، العقدة من عقد الرمح ، الكعب في علم الهندسة : المجسم الذي له ستة سطوح مربعه متساوية ، كل بيت مربع الغرفة ، أكعاب نصوص النرد ، الكعبة بكارة الجارية جمعه كعاب ، يقال جاء به كعاب وكعب إذا نهد ثديها ، ويقال وجه مكعب إذا كان جافيا ناتئا ، ثم قال أخيرا "وهذا شيء هام في الموضوع" المكعب المجسم الذي له ستة سطوح مربعة متساوية وما كان على هيئته. وختم المادة بقوله : وفي الحساب (مكعب العدد) هو الحاصل من ضربه بمربعة ، فثمانية هو مكعب اثنين.هذا هو أهم ما جاء في المادة كعب وقد جاء ضمنها (الكعبة البيت الحرام بمكة) وليس المهم ما قاله عن الكعبة أو أين وضعها من المادة لكن المهم هو معنى المادة واشتقاقاتها فلو رجعنا نستقرء المعاني والمشتقات لوجدنا (البكارة) التي تعني البداية ولوجدنا العلو والرفعة ولوجدنا الاستدارة والتسديس والتربيع ولوجدنا البروز والظهور ولوجدنا الجمال والحسن ولوجدنا القوة والجلادة والفتوه والجفاف والتجمع والانضمام ثم التضاعف والتزايد الذي يعني البركة والنماء .
فكل المعاني الجميلة التي أرادها الله لهذا البلد الحرام مجتمعة في كلمة الكعبة فهي البارزة الغير خافية وهي الناهده الغير جافية ، وهي مفصل الأرض ذات النجاح وعقدة اللقاء والانفراج وهي نقطة البداية للتكوير والانبعاج وهي مهد ونهد البسط والامتداد وهي معقد الشق والانشراق .وهي مركز الرتق والانفتاق وهي بكر الأرض (أول بيت وضع للناس) وهي مباركة وهدى للناس وهي قيام الناس ومثابة لأنها بارزة مشهورة رفيعة كاعبة. إن هذه الآثار والآيات الثاقبة ، وهي مهوى الناس قاطبة ، وهي مأمن لكل نفس راهبه ، وهي حاضرة في النفوس رغم أنها غائبة ، هذه بعض معاني الكعبة التي دلت عليها الكلمة ، ولها معاني تستظهر مع الأيام القادمة.
إذن أليس من الواضح أن تكون الكعبة في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام) هو المنطقة الحرام ولهذا قال تعالى بعدها البيت الحرام فهو عطف بيان أو بدل وهذا يعني بلا شك أن الكعبة اسم للمنطقة الحرام كلها وليس للمبنى الصغير الذي تعرض للهدم والإصلاح والتصدع وللانزواء في مساحته وللتوسع كما حكاه لنا التاريخ وكما يعرف ذلك المتتبع.
أليس بعد هذا البيان أيها الأخوان نصل معكم إلى إن اسم الكعبة اسم له سعة وشأن ونصل إلى أن المعنى الأصح للكعبة هو اسم يطلق على كل المنطقة الحرام الواضحة الحدود والأركان المعلومة الشعائر والمكان .أرجو أن تقتنعوا بلا ريب ولا تردد بل بترحاب للمعنى الذي تجسد ، لعلي إلى هنا أصل بكم وقد أجهدتكم ولكنه جهد مفيد لي ولكم ، وإنه لجهد محبوب ، مشكور بإذن الله من ربكم ، فهو يحب من تدبر الآيات بإمعان ، وتذكر المعاني باطمئنان ، لقد اعتمد على القرآن ، الذي فيه البيان.ولعلي قبل الوداع أعود بكم إلى الدليل الواضح من القرآن على إرادة المعنى الجديد للكلمة فلقد قال الله عن الذي يقتل الصيد متعمدا وهو حرم قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة بالمعنى المعهود لدينا ، هي التي يبلغها الهدي وينحر فيها ، كلا بل الهدي يبلغ إلى منى ، وهو محل النسك المعهود لنا ، والمعروف لمن نحر قبلنا.وهذا يعني أن منى جزء من الكعبة ، وعليه فالكعبة هي كل المنطقة التي ببكة الحرام ، ولهذا جاءت مبينة بعدها بلا انفصام بقول الله العلام: (البيت الحرام)
ثم وصف الجميع بقوله قياما للناس ثم عطف على الجميع قوله : (والشهر الحرام والهدي والقلائد) ثم بين لنا أن ذلك بعلم منه لأنه العليم بكلما خلق وعليم بما حكم به وأن حكمه هو المعمول به فقال : (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) 97. ثم أكد أن العمل بالتحريم لهذه الكعبة والبيت الحرام أمر هام فقال (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة 98 ، فلنكن حريصين على اجتناب العقاب الشديد الأليم ، ولنحاول التعرض للغفران والرحمة من الغفور الرحيم ، ولنكن على علم أن الله يعلم الظاهر والمكتوم ، ويجازي كل عبد بما يعمله فالرسول قد بلغنا بما أرسله وعلينا أن نتبع ما بلغ (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) المائدة 99
وختاما أقول : وإذا كان معنى (الكعبة) كما عرفنا فإن من المؤكد لهذا المعنى في الأفهام هو أن هذا المقام المكعب البارز ، المبتكر الناهد ، المعروف المشهور ، لكل عابد ، هو مهوى القلوب ، إليه تنهد وتكعب أرحال ، واليه تشد وتكعب الأحمال ، وإليه ترد وتكعب الرجال ، وإليه تأتي كل ضامر يشوق من كل فج عميق ، ويحمل عليها الناس والثمرات بلا تعويق ، فالكعبة كعبة للناس في كل زمان ومكان ، إليها يكعبون ويبرزون ، وإليها ينهدون ويبهزون ، وإليها تقطع الفيافي والحزون ، وإلى مكعبها تتبارك الثمرات وتتواكب الرحلات ، وتتراكب السنوات ، وتتناكب الخطوات ، وتتحرك الأهواء والرغبات ، وتتشارك الجماعات والثبات ، وتتسامك الأحاد والزرافات ، فهي الكعبة التي لا تخفى على الأمم ، وتحفى عنها القدم ، وتحتفي بها الهمم ، وتحف بها القلوب ، وتخف إليها منذ القدم ، وستبقى هكذا إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتخرج الذمم . بارك الله هذا المقام الأكرم ، وتبارك الله الذي جعلها كعبة ، وبهذا نسلم ، وقضى بأنها قيام للناس ومثابة وحرم ، وما حكم به وقضى فهو الحق لأنه بما في السموات والأرض يعلم ، ولأنه محيط علما بما يبدو وما يكتم ، وهو العليم بما يقضي ، والمحيط علما بكل شيء سماوي وأرضي ، ولقد فاز من لربه يرضي ولهداه يتبع باقتناع ، ولحكمه يسلم بحب بلا امتناع ، فالرسول قد بلغ و(ما على الرسول إلا البلاغ) وكل شيء سواه لغو وفراغ ، وكل حكم سوى حكم الله ضلال وظلام ، وكل قول سوى قول الله لباطل وحطام ، ألا إلى الله تصير الأمور ، وهو الرحيم الغفور.مفردة الكعبة ¶ أدعوكم الآن إلى كلمة أخرى هي (الكعبة) فلقد وردت في القرآن. فهل هي تعني هذا المبنى الذي رفع قواعده إبراهيم؟ وهل هي إذا وردت تطلق عليه؟ أم لها معنى آخر تدل عليه؟؟ لعلكم ستفاجئون إذا قلت لكم أن كلمة (الكعبة) لا تعني هذا المبنى الصغير أو المبنى الذي أقامه إبراهيم بل تعني شيئا آخرا. فما هو؟ انتظر الجواب يا أخي القارئ وتأمل الكلام تأمل أولى الألباب ، وأنا لا أسألك أن تستقبل كلامي بالترحاب ، حتى تتأكد من صحة القول وسلامة الأدلة وسأوردها من القرآن الذي هو علم الله . ¶ لقد وردت الكعبة مرتين في القرآن ، أي في آيتين فقط وفي سورة المائدة فقط ، هي أولا قوله تعالى :(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، أما الثانية فهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) المائدة 95 . ¶ إن المفسرين يقولون أن البيت الحرام في الآية الأولى رقم (97) هي عطف بيان للكعبة ، أو هي بدل على جهة المدح لا على جهة التوضيح ، لكن هذا التأويل غير مقنع لأن البيان أو البدل لا يأتي للمدح إلا قليلا أو نادرا ، لكن الواقع هو أن الكعبة هي نفسها البيت الحرام بمعناه العام الذي فهمناه فالبيت الحرام بدل أو عطف بيان للبيان لا للمدح ، فالأسلوب هنا يريد أن يقول لنا أن الكعبة اسم للبيت الحرام الذي يعني كل المنطقة الحرام ، بما يعني أن هذا البيت الحرام موصوف بأنه الكعبة. إذن فالكلام مبني على إشعارنا بمعنى جديد وحقيقة جديدة هي أن الكعبة قد بينت بأنها البيت الحرام ، فكلمة البيت الحرام عطف بيان أو بدل ، وهذا هو الفهم الأمثل ، ¶ وإذا اردنا الدليل فإن الآية الثانية التي وردت فيها كلمة الكعبة تقدم الدليل الذي لا ينكر بل يدعم ما نقوله بشكل واضح وأمثل فاقرءوا معي الآية 95 لتتضح لكم القضية يقول الله مخاطبا المؤمنين : (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إن الله يوجب على من قتل الصيد وهو حرم أن يكون جزاؤه حيوانا مقوما مثل الصيد المقتول ويكون من الأنعام يحكم به ذوا عدل من الناس أولى الأفهام ، فإذا تحدد هذا الجزاء فإنه سياق ينحر في مكان النحر المحدد وبالغا إليه بلا تردد ، ولهذا يقول موضحا هذا (هديا بالغ الكعبة ) هذا هو الجزاء لمن صاد وهو حرم. وهنا أسأل هل الهدي الذي ينحر يساق إلى غير منى؟؟ فلماذا قال الله (هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة أو المبنى الصغير بالمعنى الذي تفهمونه من التفاسير؟ هل هذه الكعبة بهذا المعنى هي محل النحر للهدي؟؟ كلا. بل محل نحر الهدي هو منى ، كما هو معروف لنا ولمن قبلنا ، أليس هذا الواقع الذي يعرفه الناس على المدى؟ فلماذا قال (هديا بالغ الكعبة)؟؟ ¶ إذن فإن (الكعبة) هي اسم آخر للبيت الحرام وهي اسم أراده الله ليدلنا على أن معاني هذا البيت متنوعة وأسمائه وسماته متعددة ، كما أن آياته غير محدودة ، فهو البيت الحرام وهو الكعبة ، بل وله أسماء أخرى وأوصاف أخرى تدل على الاهتمام ، سيتضح لكم ذلك فيما سيأتي من الكلام. أكتفي هنا بشأن (الكعبة) ، بهذا الدليل الواضح البيان لكل ذي عقل وجنان ، وممن تدبر القرآن بإمعان.. ¶ قد يسأل سائل إذا كانت كلمة (الكعبة) لا تعني المبنى الصغير الذي رفعه إبراهيم وأنها تعني كل المنطقة الحرام ، فلماذا تسمى هذه المنطقة كلها (الكعبة) ؟ إنه سؤال جيد .ولهذا تعالوا معي إلى معرفة معنى كعب في اللغة العربية ، ولن نطوف في كتب المعجمات ولكن لنقرأ ما جاء في المنجد فقط ، فمما قال في وسط المادة كعب كعوبا (الجارية نهد ثديها) كعب الأناه ثلاثة ، كعب الشيء جعله مكعبا ، الكعب جمعه كعوب كلما ارتفع من الأرض ، الشرف والمجد ، بل وقال الكعب كل مفصل للعظام : العظم الناشئ ، العظم الذي يلعب به ، العقدة من عقد الرمح ، الكعب في علم الهندسة : المجسم الذي له ستة سطوح مربعه متساوية ، كل بيت مربع الغرفة ، أكعاب نصوص النرد ، الكعبة بكارة الجارية جمعه كعاب ، يقال جاء به كعاب وكعب إذا نهد ثديها ، ويقال وجه مكعب إذا كان جافيا ناتئا ، ثم قال أخيرا "وهذا شيء هام في الموضوع" المكعب المجسم الذي له ستة سطوح مربعة متساوية وما كان على هيئته. وختم المادة بقوله : وفي الحساب (مكعب العدد) هو الحاصل من ضربه بمربعة ، فثمانية هو مكعب اثنين.هذا هو أهم ما جاء في المادة كعب وقد جاء ضمنها (الكعبة البيت الحرام بمكة) وليس المهم ما قاله عن الكعبة أو أين وضعها من المادة لكن المهم هو معنى المادة واشتقاقاتها فلو رجعنا نستقرء المعاني والمشتقات لوجدنا (البكارة) التي تعني البداية ولوجدنا العلو والرفعة ولوجدنا الاستدارة والتسديس والتربيع ولوجدنا البروز والظهور ولوجدنا الجمال والحسن ولوجدنا القوة والجلادة والفتوه والجفاف والتجمع والانضمام ثم التضاعف والتزايد الذي يعني البركة والنماء . ¶ فكل المعاني الجميلة التي أرادها الله لهذا البلد الحرام مجتمعة في كلمة الكعبة فهي البارزة الغير خافية وهي الناهده الغير جافية ، وهي مفصل الأرض ذات النجاح وعقدة اللقاء والانفراج وهي نقطة البداية للتكوير والانبعاج وهي مهد ونهد البسط والامتداد وهي معقد الشق والانشراق .وهي مركز الرتق والانفتاق وهي بكر الأرض (أول بيت وضع للناس) وهي مباركة وهدى للناس وهي قيام الناس ومثابة لأنها بارزة مشهورة رفيعة كاعبة. إن هذه الآثار والآيات الثاقبة ، وهي مهوى الناس قاطبة ، وهي مأمن لكل نفس راهبه ، وهي حاضرة في النفوس رغم أنها غائبة ، هذه بعض معاني الكعبة التي دلت عليها الكلمة ، ولها معاني تستظهر مع الأيام القادمة. ¶ إذن أليس من الواضح أن تكون الكعبة في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام) هو المنطقة الحرام ولهذا قال تعالى بعدها البيت الحرام فهو عطف بيان أو بدل وهذا يعني بلا شك أن الكعبة اسم للمنطقة الحرام كلها وليس للمبنى الصغير الذي تعرض للهدم والإصلاح والتصدع وللانزواء في مساحته وللتوسع كما حكاه لنا التاريخ وكما يعرف ذلك المتتبع. ¶ أليس بعد هذا البيان أيها الأخوان نصل معكم إلى إن اسم الكعبة اسم له سعة وشأن ونصل إلى أن المعنى الأصح للكعبة هو اسم يطلق على كل المنطقة الحرام الواضحة الحدود والأركان المعلومة الشعائر والمكان .أرجو أن تقتنعوا بلا ريب ولا تردد بل بترحاب للمعنى الذي تجسد ، لعلي إلى هنا أصل بكم وقد أجهدتكم ولكنه جهد مفيد لي ولكم ، وإنه لجهد محبوب ، مشكور بإذن الله من ربكم ، فهو يحب من تدبر الآيات بإمعان ، وتذكر المعاني باطمئنان ، لقد اعتمد على القرآن ، الذي فيه البيان.ولعلي قبل الوداع أعود بكم إلى الدليل الواضح من القرآن على إرادة المعنى الجديد للكلمة فلقد قال الله عن الذي يقتل الصيد متعمدا وهو حرم قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة بالمعنى المعهود لدينا ، هي التي يبلغها الهدي وينحر فيها ، كلا بل الهدي يبلغ إلى منى ، وهو محل النسك المعهود لنا ، والمعروف لمن نحر قبلنا.وهذا يعني أن منى جزء من الكعبة ، وعليه فالكعبة هي كل المنطقة التي ببكة الحرام ، ولهذا جاءت مبينة بعدها بلا انفصام بقول الله العلام: (البيت الحرام) ¶ ثم وصف الجميع بقوله قياما للناس ثم عطف على الجميع قوله : (والشهر الحرام والهدي والقلائد) ثم بين لنا أن ذلك بعلم منه لأنه العليم بكلما خلق وعليم بما حكم به وأن حكمه هو المعمول به فقال : (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) 97. ثم أكد أن العمل بالتحريم لهذه الكعبة والبيت الحرام أمر هام فقال (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة 98 ، فلنكن حريصين على اجتناب العقاب الشديد الأليم ، ولنحاول التعرض للغفران والرحمة من الغفور الرحيم ، ولنكن على علم أن الله يعلم الظاهر والمكتوم ، ويجازي كل عبد بما يعمله فالرسول قد بلغنا بما أرسله وعلينا أن نتبع ما بلغ (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) المائدة 99 ¶ وختاما أقول : وإذا كان معنى (الكعبة) كما عرفنا فإن من المؤكد لهذا المعنى في الأفهام هو أن هذا المقام المكعب البارز ، المبتكر الناهد ، المعروف المشهور ، لكل عابد ، هو مهوى القلوب ، إليه تنهد وتكعب أرحال ، واليه تشد وتكعب الأحمال ، وإليه ترد وتكعب الرجال ، وإليه تأتي كل ضامر يشوق من كل فج عميق ، ويحمل عليها الناس والثمرات بلا تعويق ، فالكعبة كعبة للناس في كل زمان ومكان ، إليها يكعبون ويبرزون ، وإليها ينهدون ويبهزون ، وإليها تقطع الفيافي والحزون ، وإلى مكعبها تتبارك الثمرات وتتواكب الرحلات ، وتتراكب السنوات ، وتتناكب الخطوات ، وتتحرك الأهواء والرغبات ، وتتشارك الجماعات والثبات ، وتتسامك الأحاد والزرافات ، فهي الكعبة التي لا تخفى على الأمم ، وتحفى عنها القدم ، وتحتفي بها الهمم ، وتحف بها القلوب ، وتخف إليها منذ القدم ، وستبقى هكذا إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتخرج الذمم . بارك الله هذا المقام الأكرم ، وتبارك الله الذي جعلها كعبة ، وبهذا نسلم ، وقضى بأنها قيام للناس ومثابة وحرم ، وما حكم به وقضى فهو الحق لأنه بما في السموات والأرض يعلم ، ولأنه محيط علما بما يبدو وما يكتم ، وهو العليم بما يقضي ، والمحيط علما بكل شيء سماوي وأرضي ، ولقد فاز من لربه يرضي ولهداه يتبع باقتناع ، ولحكمه يسلم بحب بلا امتناع ، فالرسول قد بلغ و (ما على الرسول إلا البلاغ) وكل شيء سواه لغو وفراغ ، وكل حكم سوى حكم الله ضلال وظلام ، وكل قول سوى قول الله لباطل وحطام ، ألا إلى الله تصير الأمور ، وهو الرحيم الغفور.
مفردة البيت
هل المراد به تلك العمارة الصغيرة المربعة وسط المباني المستحدثة المحيطة بها؟؟ هذا ما يفهمه الناس ، وهذا ما شاع بين المفسرين ، ولكن هل هذا فهم صحيح يتفق مع القرآن المبين؟؟ تعالوا معي نتبين الآيات ولا بد أن نصل إلى معنى آخر يخالف فهم الأولين . البيت في اللغة أولا هو المكان الذي يؤمن للإنسان البيات في أمان ، والسكن باطمئنان ، فهو مأخوذ من البيات أي السكون ليلا فأطلق على كل مكان يؤمن الليل للإنسان بيتا ، فهو مصدر بات يبيت يقال بات يبيت بياتا ، ولهذا جاء قولة تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون) الأعراف 97 . ثم أطلق البيت بشكل موسع على كل مكان يضمن للإنسان الأمان والسلام في الأرض ولو في الليل أو النهار ولهذا قال الله لقوم صالح (وتنحتون الجبال بيوتا) الأعراف 74 (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) الشعراء 149 (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل 80 ، ومع هذا التحول في معنى البيت فقد تحول إلى معنى أوسع هو المنطقة أو المدينة أو القرية التي يسكنها الإنسان ولهذا قال الله عن النحل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68 ، وليس المراد هنا إلا أن تتخذ الجبال والشجر بيوتا ومن ما يعمله لها الناس من المزارع والمواقع الواسعة ، إذن فليس المراد بالبيت هنا هو مكان الخلية الصغير للنحل ولكن مكان الإنطلاق والأمان والسلوك في الأماكن بإطمئنان . فالجبال الشامخة وما حولها قد تتخذها وتختارها لها بيوتا آمنه وقد تختار الأشجار والغابات الملتفة بيوتا تكون فيها منطلقة وكامنة وسالكة وآمنة .
وعلى هذا الأساس يقول الله لرسوله محمد وهو يخرج إلى بدر (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الأنفال 5 ، فالمراد بالبيت هنا هو المدينة بأكملها لأنها أهله وأحبابه وأنصاره وأصحابه ولهذا قال له في آية أخرى عند خروجه إلى أحد (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121، وهكذا أطلق البيت على الأهل ثم المدينة بأكملها لأنها محببة إليه كأهله ومأمنه كبيته وإذا كان هذا في شأن النبي وحده وفي شأن النحل وحدها فكيف يكون فهمنا لمعنى البيت الذي هو للناس أجمعين. إنه لا بد أن يكون معناه مكانا كبيرا واسع الأبعاد ، له حدود معروفه متباعدة ، وعلى هذا الأساس نفهم أن البيت حين يطلق في الآيات المتعلقة بمكة لا يعني إلا المنطقة الحرام كلها ولا يعني إلا كل المواقع التي تقام فيها المناسك وتؤدى ،
فالبيت يطلق على ما يقع داخل حدود مواقيت الإحرام المعروفة للشامي واليماني والعراقي وسواها والمحددة في كتب الفقه فالبيت هو مكة وما حولها من المناطق الحرام ومن مشاعر الحج والإحرام .هكذا يجب أن نفهم البيت وهكذا يجب أن يكون معلوما لذوي الأفهام . فهو لا يعني البناية والحجرة الصغيرة التي تتوسط المباني المعدة للصلاة (المسماة بالحرم) ولا يعني أيضا المباني المستحدثة المحيطة لأنها تستحدث وتتوسع في كل زمان فلو أطلقنا البيت عليها لكان المعنى أن من هدم جدارا ووسع فكأنما هدم البيت الحرام ، وهذا غير صحيح ولصار المعنى أن من صلى قبل التوسع في المباني الحالية لم يصل في البيت الحرام وهذا غير صحيح ، إن البيت الحرام هو كل المنطقة الحرام وكل المشاعر الحرام المحددة المعالم منذ أقدم الأيام ومنذ آلاف الأعوام .
قد تسألون عن الدليل على ما أقول ،، وأنا أسألكم أولا :هل أنت أيها الحاج تنحر الهدي في المبنى الصغير المسمى الكعبة أو تحمله إليه؟؟ كلا إنما تنحره في منى وتحمله وتنحره هناك وإذا كان الأمر كذلك فاسمع ما يقول الله "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 33 ، أين هو البيت العتيق هل هو الكعبة الصغيرة إذن فقد سمى الله محل النحر وهو منى البيت العتيق ، يعني أنه من البيت العتيق.فللحاج أن ينتفع بالهدي ما دام سائر إلى مكة ثم إذا نحره فلا ينحره إلا في المحل المحدد للإحلال وهو منى والذي هو كائن بشكل جزء من (البيت) فإذا نحرت فيه فقد نحرت في البيت.. وبعد فهل في هذا بيان أم تريدون المزيد من البيان .ها أنذا أتلو عليكم قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37، فقل لي هل يريد إبراهيم بالإسكان لبعض ذريته عند البيت هذا المبنى الذي نراه الآن ؟؟ إذا كان يريد ذلك فلما قال (بواد غير ذي زرع) إذن فالإسكان كان في مكة كاملة التي هي محرمة ، بحدود معلمه ، وهي البيت المحرم الذي أراده إبراهيم. قد تقولون ألم يقل (عند بيتك) فمعنى هذا أن الإسكان كان عند أو قرب هذا المكان الصغير الذي نراه يتوسط العمران .ولكن كلمة عند لا تعني القرب ولكنها تعني الظرفية أي في بيتك المحرم لكنه استعمل كلمة عند ليؤكد اختلاطه بالمكان المحرم كله والتزامه به وحصر إقامته عليه (بواد غير ذي زرع ) ولذلك فهو يسأل الله أن يرزق ذريته من الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ثم يعلل الإقامة بأنها ليقيموا الصلاة والصلاة هي الطاعة والالتزام بحرمة المقام. فلا يعتدون ولا يصطادون ولا يفسدون ولا يطلمون .ولا يريدون إلحادا لظلم ولا يتجاوزون ما هو محرم بل يتقون ويشكرون المنعم ويتطهرون ويطهرون الحرم وهكذا عهد الله إليه بما يدل على أن المراد بالبيت هو الحرم كله (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125، فهل المراد بالبيت هو المكان الصغير؟ أم المنطقة الحرام كلها إلى أطراف حدودها؟ إن الثاني هو المراد بلا شك والدليل عليه قوله للطائفين وهم الذي يطوفون عند الوصول إلى مكة والعاكفين وهم الذي يقفون في عرفات والركع والسجود وهما الذين يذكرون الله في منى أيام التشريق. وعلى هذا الأساس فإن علينا أن نفهم قول الله تعالى في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحج 26 بأن المعنى : عرفنا لإبراهيم مكان البيت أو حددنا لإبراهيم مكان البيت لأن بوأ تعني أسكن لقوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) لكن حرف الجر "وهو اللام" في آية الحج (بوأنا لإبراهيم) ضمن الفعل معنى جديدا مضافا إلى معناه الأصلي ذلك المعنى الجديد هو(عرفنا أو حددنا) على أن الفعل قد يكون بمعنى مكناه إذا جاء بعده حرف الجر (في) مثل قوله تعالى لقوم صالح (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) الأعراف 74. أي مكنه في الأرض وعليه فإن آية الحج تعني (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي عرفناه حدود هذا البيت بحيث يكون ما بين هذه الحدود هو البيت الحرام ولهذا جاء بعدها : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26 ولا يمكن أن يكون المراد بالبيت هو المبنى الصغير لأن الطائفين والعاكفين والركع والسجود هم الذي يقودون مناسك الطواف والوقوف بعرفات والإقامة للصلاة والذكر والنحر في منى وهذه هي المشاعر الحرام ، أو هذه هي مكونات البيت الحرام .
وإذا تأكد هذا الفهم فإننا ندرك معنى آية البقرة التي يقول الله فيها : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125. فالمراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة لأنها هي المثابة وهي الأمن كاملة ، لا مجرد المبنى الصغير المربع المعروف ، وهو البناء الذي يتوسط المقامة حوله للصلاة والطواف.وإذا كنت يا أخي في ريب من هذا الفهم فاقرأ قوله تعالى بعده بقليل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125 فهي تعني أن الأب وابنه قد عهد الله إليهما أن يطهرا المنطقة كاملة من كل ظلم وإلحاد ، إلا أنه استبدل بكلمة القائمين كلمة العاكفين وكلاهما تعني الواقفين بعرفات وإذا لم يكن كذلك فهو يعني والعاكفين والمقيمين في هذا البلد الأمين. ثم اقرأ بعد ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 ، فلقد أطلق كلمة (بلد) على البيت ، وهذا يدل على ما قلناه من أن المراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة وإذا لم يكن كذلك فكيف يكون له أهل ولهم رزق وثمرات؟ هل يمكن أن يسكن الناس في المبنى الصغير (المكعب) وهل هم أهله وسكانه؟؟ ثم استمر معي في القراءة لنجد قوله تعالى في آية تدل على أن كلمة البيت أطلقت على المنطقة قبل رفع قواعد المبنى الصغير .. تلك الآية هي قوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 ، نعم إن إبراهيم بعد أن بوأ الله له مكان البيت وحدوده وعرفه بداية المنطقة الحرام ونهايتها من كل الجوانب . بدأ إبراهيم في بناء مركز يكون هو بعلم الله مركز الدائرة للبيت الحرام وللأرض كلها كما سيتضح ذلك فيما بعد.
فالمركز هذا أو مركز الدائرة هو الذي رفع إبراهيم قواعده لكنه ليس البيت ولكنه جزء من البيت ولهذا قال (القواعد من البيت) فأتى بحرف الجر (من) ولو كان هذا المبنى هو البيت لقال (قواعد البيت) بدون حرف من . وبعد فهل اقتنعت يا أخي أن المراد بالبيت في آيات القرآن الخاصة بمكة والحج هو المنطقة الحرام كاملة؟؟ لعلك قد اقتنعت أو قريب من الاقتناع وعلى هذا الأساس من الفهم لمعنى الكلمة أدعوك إلى الآية الهامة التي وردت في سورة آل عمران وهي قوله تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران 96
نعم إن أول بيت وضع للناس هو هذا الذي ببكة مباتا ومأمنا ومثابة وقياما .ولهذا قال وضع والوضع لا يعني إلا البسط والتمهيد والمد والتسخير ولهذا قال في سورة الرحمن (والأرض وضعها للأنام) 10. أي بسطها ومهد، إذن فالمنطقة التي بمكة هي أول بيت وضع للناس.
وهنا آخذك لمعنى جديد وهام وفهم جميل يدل على السلام؛ ذلك أن كلمة أول بيت تدل على أنه قد لحقه بيوت وبيوت للناس وقد تبعته مواقع ومناطق للسكن والاستئناس، هذا ما تدل عليه كلمة (أول) فما هي البيوت التي تلته؟ إن هذا يجرنا إلى أن نفهم أن المعنى أن مكة أو بالأصح بكه هي أول منطقة أرضيه صلحت للإنسان ليسكن ويستقر بعد أن كانت الأرض مغمورة بالمياه والمحيطات المتأججة الحرارة لكن مكة أو بالأصح بكه هي أول بقعة في الأرض جفت وانحسر عنها الماء المضطرب الأمواج بشكل هائج .فأصبحت هذه المنطقة آمنة من الهياج وبيتا صالحا للإنسان القادم إلى الأرض خليفة بعد أن لم يكن له ذكر قبل ذلك من الأزمان.وللتدليل على هذا المعنى جاءت كلمة بكه ولم تأت كلمة مكه ، والبك هو المص والشفط والتجفيف فهي منطقة انبك عنها الماء وجف وأصبحت صالحة للإنسان المستخلف فهي أول بيت وضع ولا بد أن تليه بيوت وتوسع وهكذا استمر البك في مواقع أخرى وتوالى الانحسار المائي حتى أصبح للإنسان بيوتا ومواقع وقطع في الأرض صالحة للحياة والسكن وفيها له مأمن ومأوى من الماء الهائج الغامر لما تبقى ، وهكذا بقيت المحيطات والبحار الصغرى تحيط بالأرض الجافة الصالحة المرتفعة عن سطح الماء لتصلح للسكن ولتستمد من البحار الرطوبة والرخاء والبخار الذي يجعل الجو ناعما سلسلا طريا ، الهواء منعشا للحياة والأحياء ، وهكذا يتضح لنا أن مكة أو بكه هي أول أرض وضعت للإنسان بإذن الرحمن، وتلتها العديد من الأوطان ، لتصلح لنمو الناس وتكاثر السكان وعليه فلا غرو ولا غرابة أن يجعل الله في بكة هذه آية للناس ، ذلك هو هذا البيت الحرام الذي يستحق أن يحج إليه الناس بشكل عام وأن يجعلوه هو المثابة لهم والقيام وأن يكون أنموذجا للأمن والسلام ، ليصبح أنموذجه معمما في كل الأوطان ، فتكون بيوتا آمنة للخاص والعام ، على مدى الأيام. ولهذا كان البيت الأول أو أول بيت موصوفا بأنه (مباركا) ، (وهدى للعالمين)، وأن يوصف بأنه (فيه آيات بينات)، ثم أن يلزم الله الناس أن يجعلوه أبدا ، متسما بسمة هامة ، وعلامة عامة ، هي : (ومن دخله كان آمنا) ولأنه هكذا فهو (مقام إبراهيم) وما هو إبراهيم؟ إنه الإنسان الذي جعله ربه العلام ، للناس الإمام ، على مدى الأجيال والأعوام ، إلى يوم القيام .ولأن هذا البيت الأول المبارك ، والهدي الأمثل، له هذا الصفات التي لا تماثل ، فإن لله على الناس واجبا به تنصل هو قوله : (ولله على الناس حج البيت) فهل كلهم مدعو لهذا الحج بلا عذر كلا بل أن فضل الله تضاعف فقال (من استطاع إليه سبيلا) فمن استطاع فقد وجب عليه الحج ، وليس له أي عذر أو حجج ، فإذا تخلف فقد استغنى ، وعن فضل الله خرج ، ولهذا قال الله ببيان أبلج (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) نعم إنه إنما يدعونا لفضله وعطائه ولنتعلم بالحج من هداه ولننال من بركاته وآياته ما يرضاه ، فإذا أبينا ذلك الفضل المبين ، فإنما حرمنا أنفسنا وكنا لها ظالمين ، وكفرنا بالله ذي القوة المتين ، واعتمدنا على المتاع التافه المهين .أما الله فهو الذي لا يزيد في ملكه العظيم كل العباد العابدين ، ولا ينقصه كفر الكافرين (فإن الله غني عن العالمين) أليس هذا هو البيان التام الذي يدلنا على أن البيت هو المنطقة الحرام وليس هو المبنى الصغير الذي لقواعده إبراهيم رفع وأقام بل أنه جزء من البيت ومركز الدائرة الهام .
ثم هل أزيدكم تأكيدا على أن البيت هو المنطقة الحرام؟!اقرءوا معي من سورة قريش قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت) 3 ، ثم قوله تعالى في سورة النمل ملقنا رسوله محمدا أن يقول : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) 91 ، إذن فالبيت الذي في سورة قريش وفي سورة النمل هو البلد كاملا ورب ذلك وهذا هو الله الذي حرمها وله كل شيء والذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم لنقرأ معا سورة التين :(والتين والزيتون ?1? وطور سينين ?2? وهذا البلد الأمين ?3?) 1-3 فالبلد الأمين هو البيت الأمين ، وهو الذي من دخله كان آمنا ، ثم لنقرأ سورة البلد : (لا أقسم بهذا البلد ?1? وأنت حل بهذا البلد ?2?) 1,2 فهل كان النبي حالا في البيت الذي يتعهدون أم في البلد الحرام الذي هو البيت الحرام ، أي الذي هو المنطقة الحرام . وهو الذي يقول الله عنه في سورة القصص (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) هكذا قال أهل مكة مدعين أنهم حماة أنفسهم لكن الله يجيب (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) القصص 57 فهل الثمرات تجنى إلى البيت بمعنى المبنى المحدد والمعروف؟ كلا . ولكن إلى البلد كلها وأهلها. ثم قال الله في سورة العنكبوت :(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) 67. فالحرم الآمن هو البيت الآمن ، وهو المنطقة الحرام كلها فمن دخلها من أي اتجاه ومن أي زاوية ومن أي مكان كان آمنا ، ولهذا كان سوق عكاظ مكانا آمنا ، فمن دخله كان آمنا ولم يتعرض لأذى .
والآن وقد عرفنا أن هذا هو أول بيت وضع للناس بالمعنى الذي شرحناه أفليس من المتوقع أن يكون - بل من اليقين أن يكون (فيه آيات بينات) ولا بد أن تتضح للناس على السنوات لاسيما للباحثين في هذه الآيات والمسلحين بعلم الجيولوجيا وعلم ما في الأرض من طبقات. ولعلي بهذا أكتفي لأختم قولي بأن من المناسب جدا أن يسمى البيت العتيق ، أو أن يوصف بأنه (البيت العتيق) كما جاء مرتين في سورة الحج (ثم محلها إلى البيت العتيق) (وليطوفوا بالبيت العتيق) فهو العتيق أي القديم الأصيل ، الأول على سواه كما وصفه الله الجليل (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات).مفردة البيت ¶ هل المراد به تلك العمارة الصغيرة المربعة وسط المباني المستحدثة المحيطة بها؟؟ هذا ما يفهمه الناس ، وهذا ما شاع بين المفسرين ، ولكن هل هذا فهم صحيح يتفق مع القرآن المبين؟؟ تعالوا معي نتبين الآيات ولا بد أن نصل إلى معنى آخر يخالف فهم الأولين . البيت في اللغة أولا هو المكان الذي يؤمن للإنسان البيات في أمان ، والسكن باطمئنان ، فهو مأخوذ من البيات أي السكون ليلا فأطلق على كل مكان يؤمن الليل للإنسان بيتا ، فهو مصدر بات يبيت يقال بات يبيت بياتا ، ولهذا جاء قولة تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون) الأعراف 97 . ثم أطلق البيت بشكل موسع على كل مكان يضمن للإنسان الأمان والسلام في الأرض ولو في الليل أو النهار ولهذا قال الله لقوم صالح (وتنحتون الجبال بيوتا) الأعراف 74 (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) الشعراء 149 (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل 80 ، ومع هذا التحول في معنى البيت فقد تحول إلى معنى أوسع هو المنطقة أو المدينة أو القرية التي يسكنها الإنسان ولهذا قال الله عن النحل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68 ، وليس المراد هنا إلا أن تتخذ الجبال والشجر بيوتا ومن ما يعمله لها الناس من المزارع والمواقع الواسعة ، إذن فليس المراد بالبيت هنا هو مكان الخلية الصغير للنحل ولكن مكان الإنطلاق والأمان والسلوك في الأماكن بإطمئنان . فالجبال الشامخة وما حولها قد تتخذها وتختارها لها بيوتا آمنه وقد تختار الأشجار والغابات الملتفة بيوتا تكون فيها منطلقة وكامنة وسالكة وآمنة . ¶ وعلى هذا الأساس يقول الله لرسوله محمد وهو يخرج إلى بدر (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الأنفال 5 ، فالمراد بالبيت هنا هو المدينة بأكملها لأنها أهله وأحبابه وأنصاره وأصحابه ولهذا قال له في آية أخرى عند خروجه إلى أحد (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121، وهكذا أطلق البيت على الأهل ثم المدينة بأكملها لأنها محببة إليه كأهله ومأمنه كبيته وإذا كان هذا في شأن النبي وحده وفي شأن النحل وحدها فكيف يكون فهمنا لمعنى البيت الذي هو للناس أجمعين. إنه لا بد أن يكون معناه مكانا كبيرا واسع الأبعاد ، له حدود معروفه متباعدة ، وعلى هذا الأساس نفهم أن البيت حين يطلق في الآيات المتعلقة بمكة لا يعني إلا المنطقة الحرام كلها ولا يعني إلا كل المواقع التي تقام فيها المناسك وتؤدى ، ¶ فالبيت يطلق على ما يقع داخل حدود مواقيت الإحرام المعروفة للشامي واليماني والعراقي وسواها والمحددة في كتب الفقه فالبيت هو مكة وما حولها من المناطق الحرام ومن مشاعر الحج والإحرام .هكذا يجب أن نفهم البيت وهكذا يجب أن يكون معلوما لذوي الأفهام . فهو لا يعني البناية والحجرة الصغيرة التي تتوسط المباني المعدة للصلاة (المسماة بالحرم) ولا يعني أيضا المباني المستحدثة المحيطة لأنها تستحدث وتتوسع في كل زمان فلو أطلقنا البيت عليها لكان المعنى أن من هدم جدارا ووسع فكأنما هدم البيت الحرام ، وهذا غير صحيح ولصار المعنى أن من صلى قبل التوسع في المباني الحالية لم يصل في البيت الحرام وهذا غير صحيح ، إن البيت الحرام هو كل المنطقة الحرام وكل المشاعر الحرام المحددة المعالم منذ أقدم الأيام ومنذ آلاف الأعوام . ¶ قد تسألون عن الدليل على ما أقول ،، وأنا أسألكم أولا :هل أنت أيها الحاج تنحر الهدي في المبنى الصغير المسمى الكعبة أو تحمله إليه؟؟ كلا إنما تنحره في منى وتحمله وتنحره هناك وإذا كان الأمر كذلك فاسمع ما يقول الله "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 33 ، أين هو البيت العتيق هل هو الكعبة الصغيرة إذن فقد سمى الله محل النحر وهو منى البيت العتيق ، يعني أنه من البيت العتيق.فللحاج أن ينتفع بالهدي ما دام سائر إلى مكة ثم إذا نحره فلا ينحره إلا في المحل المحدد للإحلال وهو منى والذي هو كائن بشكل جزء من (البيت) فإذا نحرت فيه فقد نحرت في البيت.. وبعد فهل في هذا بيان أم تريدون المزيد من البيان .ها أنذا أتلو عليكم قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37، فقل لي هل يريد إبراهيم بالإسكان لبعض ذريته عند البيت هذا المبنى الذي نراه الآن ؟؟ إذا كان يريد ذلك فلما قال (بواد غير ذي زرع) إذن فالإسكان كان في مكة كاملة التي هي محرمة ، بحدود معلمه ، وهي البيت المحرم الذي أراده إبراهيم. قد تقولون ألم يقل (عند بيتك) فمعنى هذا أن الإسكان كان عند أو قرب هذا المكان الصغير الذي نراه يتوسط العمران .ولكن كلمة عند لا تعني القرب ولكنها تعني الظرفية أي في بيتك المحرم لكنه استعمل كلمة عند ليؤكد اختلاطه بالمكان المحرم كله والتزامه به وحصر إقامته عليه (بواد غير ذي زرع) ولذلك فهو يسأل الله أن يرزق ذريته من الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ثم يعلل الإقامة بأنها ليقيموا الصلاة والصلاة هي الطاعة والالتزام بحرمة المقام. فلا يعتدون ولا يصطادون ولا يفسدون ولا يطلمون .ولا يريدون إلحادا لظلم ولا يتجاوزون ما هو محرم بل يتقون ويشكرون المنعم ويتطهرون ويطهرون الحرم وهكذا عهد الله إليه بما يدل على أن المراد بالبيت هو الحرم كله (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125، فهل المراد بالبيت هو المكان الصغير؟ أم المنطقة الحرام كلها إلى أطراف حدودها؟ إن الثاني هو المراد بلا شك والدليل عليه قوله للطائفين وهم الذي يطوفون عند الوصول إلى مكة والعاكفين وهم الذي يقفون في عرفات والركع والسجود وهما الذين يذكرون الله في منى أيام التشريق. وعلى هذا الأساس فإن علينا أن نفهم قول الله تعالى في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحج 26 بأن المعنى : عرفنا لإبراهيم مكان البيت أو حددنا لإبراهيم مكان البيت لأن بوأ تعني أسكن لقوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) لكن حرف الجر "وهو اللام" في آية الحج (بوأنا لإبراهيم) ضمن الفعل معنى جديدا مضافا إلى معناه الأصلي ذلك المعنى الجديد هو(عرفنا أو حددنا) على أن الفعل قد يكون بمعنى مكناه إذا جاء بعده حرف الجر (في) مثل قوله تعالى لقوم صالح (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) الأعراف 74. أي مكنه في الأرض وعليه فإن آية الحج تعني (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي عرفناه حدود هذا البيت بحيث يكون ما بين هذه الحدود هو البيت الحرام ولهذا جاء بعدها : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26 ولا يمكن أن يكون المراد بالبيت هو المبنى الصغير لأن الطائفين والعاكفين والركع والسجود هم الذي يقودون مناسك الطواف والوقوف بعرفات والإقامة للصلاة والذكر والنحر في منى وهذه هي المشاعر الحرام ، أو هذه هي مكونات البيت الحرام . ¶ وإذا تأكد هذا الفهم فإننا ندرك معنى آية البقرة التي يقول الله فيها : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125. فالمراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة لأنها هي المثابة وهي الأمن كاملة ، لا مجرد المبنى الصغير المربع المعروف ، وهو البناء الذي يتوسط المقامة حوله للصلاة والطواف.وإذا كنت يا أخي في ريب من هذا الفهم فاقرأ قوله تعالى بعده بقليل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125 فهي تعني أن الأب وابنه قد عهد الله إليهما أن يطهرا المنطقة كاملة من كل ظلم وإلحاد ، إلا أنه استبدل بكلمة القائمين كلمة العاكفين وكلاهما تعني الواقفين بعرفات وإذا لم يكن كذلك فهو يعني والعاكفين والمقيمين في هذا البلد الأمين. ثم اقرأ بعد ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 ، فلقد أطلق كلمة (بلد) على البيت ، وهذا يدل على ما قلناه من أن المراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة وإذا لم يكن كذلك فكيف يكون له أهل ولهم رزق وثمرات؟ هل يمكن أن يسكن الناس في المبنى الصغير (المكعب) وهل هم أهله وسكانه؟؟ ثم استمر معي في القراءة لنجد قوله تعالى في آية تدل على أن كلمة البيت أطلقت على المنطقة قبل رفع قواعد المبنى الصغير .. تلك الآية هي قوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 ، نعم إن إبراهيم بعد أن بوأ الله له مكان البيت وحدوده وعرفه بداية المنطقة الحرام ونهايتها من كل الجوانب . بدأ إبراهيم في بناء مركز يكون هو بعلم الله مركز الدائرة للبيت الحرام وللأرض كلها كما سيتضح ذلك فيما بعد. ¶ فالمركز هذا أو مركز الدائرة هو الذي رفع إبراهيم قواعده لكنه ليس البيت ولكنه جزء من البيت ولهذا قال (القواعد من البيت) فأتى بحرف الجر (من) ولو كان هذا المبنى هو البيت لقال (قواعد البيت) بدون حرف من . وبعد فهل اقتنعت يا أخي أن المراد بالبيت في آيات القرآن الخاصة بمكة والحج هو المنطقة الحرام كاملة؟؟ لعلك قد اقتنعت أو قريب من الاقتناع وعلى هذا الأساس من الفهم لمعنى الكلمة أدعوك إلى الآية الهامة التي وردت في سورة آل عمران وهي قوله تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران 96 ¶ نعم إن أول بيت وضع للناس هو هذا الذي ببكة مباتا ومأمنا ومثابة وقياما .ولهذا قال وضع والوضع لا يعني إلا البسط والتمهيد والمد والتسخير ولهذا قال في سورة الرحمن (والأرض وضعها للأنام) 10. أي بسطها ومهد، إذن فالمنطقة التي بمكة هي أول بيت وضع للناس. ¶ وهنا آخذك لمعنى جديد وهام وفهم جميل يدل على السلام؛ ذلك أن كلمة أول بيت تدل على أنه قد لحقه بيوت وبيوت للناس وقد تبعته مواقع ومناطق للسكن والاستئناس، هذا ما تدل عليه كلمة (أول) فما هي البيوت التي تلته؟ إن هذا يجرنا إلى أن نفهم أن المعنى أن مكة أو بالأصح بكه هي أول منطقة أرضيه صلحت للإنسان ليسكن ويستقر بعد أن كانت الأرض مغمورة بالمياه والمحيطات المتأججة الحرارة لكن مكة أو بالأصح بكه هي أول بقعة في الأرض جفت وانحسر عنها الماء المضطرب الأمواج بشكل هائج .فأصبحت هذه المنطقة آمنة من الهياج وبيتا صالحا للإنسان القادم إلى الأرض خليفة بعد أن لم يكن له ذكر قبل ذلك من الأزمان.وللتدليل على هذا المعنى جاءت كلمة بكه ولم تأت كلمة مكه ، والبك هو المص والشفط والتجفيف فهي منطقة انبك عنها الماء وجف وأصبحت صالحة للإنسان المستخلف فهي أول بيت وضع ولا بد أن تليه بيوت وتوسع وهكذا استمر البك في مواقع أخرى وتوالى الانحسار المائي حتى أصبح للإنسان بيوتا ومواقع وقطع في الأرض صالحة للحياة والسكن وفيها له مأمن ومأوى من الماء الهائج الغامر لما تبقى ، وهكذا بقيت المحيطات والبحار الصغرى تحيط بالأرض الجافة الصالحة المرتفعة عن سطح الماء لتصلح للسكن ولتستمد من البحار الرطوبة والرخاء والبخار الذي يجعل الجو ناعما سلسلا طريا ، الهواء منعشا للحياة والأحياء ، وهكذا يتضح لنا أن مكة أو بكه هي أول أرض وضعت للإنسان بإذن الرحمن، وتلتها العديد من الأوطان ، لتصلح لنمو الناس وتكاثر السكان وعليه فلا غرو ولا غرابة أن يجعل الله في بكة هذه آية للناس ، ذلك هو هذا البيت الحرام الذي يستحق أن يحج إليه الناس بشكل عام وأن يجعلوه هو المثابة لهم والقيام وأن يكون أنموذجا للأمن والسلام ، ليصبح أنموذجه معمما في كل الأوطان ، فتكون بيوتا آمنة للخاص والعام ، على مدى الأيام. ولهذا كان البيت الأول أو أول بيت موصوفا بأنه (مباركا) ، (وهدى للعالمين)، وأن يوصف بأنه (فيه آيات بينات)، ثم أن يلزم الله الناس أن يجعلوه أبدا ، متسما بسمة هامة ، وعلامة عامة ، هي : (ومن دخله كان آمنا) ولأنه هكذا فهو (مقام إبراهيم) وما هو إبراهيم؟ إنه الإنسان الذي جعله ربه العلام ، للناس الإمام ، على مدى الأجيال والأعوام ، إلى يوم القيام .ولأن هذا البيت الأول المبارك ، والهدي الأمثل، له هذا الصفات التي لا تماثل ، فإن لله على الناس واجبا به تنصل هو قوله : (ولله على الناس حج البيت) فهل كلهم مدعو لهذا الحج بلا عذر كلا بل أن فضل الله تضاعف فقال (من استطاع إليه سبيلا) فمن استطاع فقد وجب عليه الحج ، وليس له أي عذر أو حجج ، فإذا تخلف فقد استغنى ، وعن فضل الله خرج ، ولهذا قال الله ببيان أبلج (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) نعم إنه إنما يدعونا لفضله وعطائه ولنتعلم بالحج من هداه ولننال من بركاته وآياته ما يرضاه ، فإذا أبينا ذلك الفضل المبين ، فإنما حرمنا أنفسنا وكنا لها ظالمين ، وكفرنا بالله ذي القوة المتين ، واعتمدنا على المتاع التافه المهين .أما الله فهو الذي لا يزيد في ملكه العظيم كل العباد العابدين ، ولا ينقصه كفر الكافرين (فإن الله غني عن العالمين) أليس هذا هو البيان التام الذي يدلنا على أن البيت هو المنطقة الحرام وليس هو المبنى الصغير الذي لقواعده إبراهيم رفع وأقام بل أنه جزء من البيت ومركز الدائرة الهام . ¶ ثم هل أزيدكم تأكيدا على أن البيت هو المنطقة الحرام؟!اقرءوا معي من سورة قريش قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت) 3 ، ثم قوله تعالى في سورة النمل ملقنا رسوله محمدا أن يقول : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) 91 ، إذن فالبيت الذي في سورة قريش وفي سورة النمل هو البلد كاملا ورب ذلك وهذا هو الله الذي حرمها وله كل شيء والذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم لنقرأ معا سورة التين :(والتين والزيتون ?1? وطور سينين ?2? وهذا البلد الأمين ?3?) 1-3 فالبلد الأمين هو البيت الأمين ، وهو الذي من دخله كان آمنا ، ثم لنقرأ سورة البلد : (لا أقسم بهذا البلد ?1? وأنت حل بهذا البلد ?2?) 1,2 فهل كان النبي حالا في البيت الذي يتعهدون أم في البلد الحرام الذي هو البيت الحرام ، أي الذي هو المنطقة الحرام . وهو الذي يقول الله عنه في سورة القصص (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) هكذا قال أهل مكة مدعين أنهم حماة أنفسهم لكن الله يجيب (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) القصص 57 فهل الثمرات تجنى إلى البيت بمعنى المبنى المحدد والمعروف؟ كلا . ولكن إلى البلد كلها وأهلها. ثم قال الله في سورة العنكبوت :(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) 67. فالحرم الآمن هو البيت الآمن ، وهو المنطقة الحرام كلها فمن دخلها من أي اتجاه ومن أي زاوية ومن أي مكان كان آمنا ، ولهذا كان سوق عكاظ مكانا آمنا ، فمن دخله كان آمنا ولم يتعرض لأذى . ¶ والآن وقد عرفنا أن هذا هو أول بيت وضع للناس بالمعنى الذي شرحناه أفليس من المتوقع أن يكون - بل من اليقين أن يكون (فيه آيات بينات) ولا بد أن تتضح للناس على السنوات لاسيما للباحثين في هذه الآيات والمسلحين بعلم الجيولوجيا وعلم ما في الأرض من طبقات. ولعلي بهذا أكتفي لأختم قولي بأن من المناسب جدا أن يسمى البيت العتيق ، أو أن يوصف بأنه (البيت العتيق) كما جاء مرتين في سورة الحج (ثم محلها إلى البيت العتيق) (وليطوفوا بالبيت العتيق) فهو العتيق أي القديم الأصيل ، الأول على سواه كما وصفه الله الجليل (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات).
لفتات بيانية
تأملات في المعاني البلاغية القرآنيةلفتات بيانية ¶ تأملات في المعاني البلاغية القرآنية
بيان اطلاق المفرد ليراد به الجمع
قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم(كما بينا في بحث الحج أربع مرات في العام) ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 ، فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ، لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة .
وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة).
ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا .
ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ، ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ، ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.بيان اطلاق المفرد ليراد به الجمع ¶ قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم(كما بينا في بحث الحج أربع مرات في العام) ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 ، فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ، لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة . ¶ وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة). ¶ ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا . ¶ ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ، ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ، ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد
إن للقلم بعد مابيناه من معنى (مفردتي نزل وأنزل) بناء خاصا حول معنى كلمة "أنزل" مع كلمة "نزل" من حيث الموضع الأصلي لهما أي من حيث ما يدلان عليه في أصل وضع اللغة وفي مبتدأ مفهوم الكلمة. لا شك أن المتبادر إلى الذهن أن كلمة أنزل ونزل تعني أن شيئا ما قد أتى إلى الناس من أعلى إلى أسفل أو قد تناوله المتناول من مصدر عال وهو في مكان أسفل من المناول. ولهذا فإن القرآن أنزل من الله إلى الرسول والمطر ينزل من السماء إلى الأرض فالكلمة تعني انتقال الشيء من حال الارتفاع إلى الهبوط أو من صدر عال إلى مهبط سافل.
هذا هو المتبادر من الاستعمال، نعم لقد استعملت لهذا المعنى تعظيما لله المعطي وتهوينا للعبد المعطى وتجليلا لله المتفضل وتقليلا للعبد المستقبل، فالله يليق به العلو والتعظيم، والجلال والتفخيم، فهو العلي العظيم، وهو الرفيع الدرجات، وهو الوهاب ذو المعارج والهبات، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، ولهذا يحق له أن يستعمل فيما يعطيه ويظهره كلمة "أنزل ونزل" معا.ولكن: هل الله حقا في مكان محسوس الارتفاع وفي مقام ملموس العلو. كلا: إن علوه وارتفاعه معنوي، فهو قريب من كل شيء وهو معنى أينما كنا وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].
وإذن فإن كلمة "أنزل" لا تعني في حقه تعالى أن ما يأتي منه ينزل من أعلا إلى أدنى أو من عال إلى سافل، كلا ولكنه يأتي بشكل أسهل وأجمل. وعليه: فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأبان؛ لأن الله عنده خزائن الأشياء والأكوان وهو يوجدها بكلمة كن فكان، وليس معنى الخزائن أن عنده مخازن مكدسة وخزائن، فهو يكون الأشياء ثم يظهرها من العدم إلى العيان. ولا يصرفها من مخازن مكدسة بالأجسام كما يفعل الإنسان، وليس لديه أمر صرف ولا خزان للمخزون بل يقول للشيء كن فيكون. وعليه فإن الله حين يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. فإنما يعني أنه الخبير بالمكونات والأكوان وفي علمه كل أسرار الخلق والإتقان، وكل خفايا الإيجاد والإحسان. فإذا أراد للشيء الوجود والتكوين قال له كن فيكون، فإذا هو ظاهر بين أيدي الناس به ينعمون وهو أخبر بما يريدون وبمقدار ما يحتاجون، وهذا هو معنى قوله: (وما ننزله إلا بقدر معلوم). أي نظهره ونبرزه للوجود بقدر ما يحتاجه الخلق وبما يفيد ولا ينقص ولا يزيد، وكيف لا وهو الخبير بما يخفى وأقرب إلينا من حبل الوريد. وهكذا فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأخرج وأوجد وقدر. وعلى هذا المعنى قال الله في سورة هود: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) [هود: 12]. فإن قوله: (أنزل عليه كنز) يعني أظهر عليه أو أخرج له بدليل أن بعدها (أو جاء معه ملك) فلقد استعمل كلمة جاء مع الملك مع أن الملك في مفهومنا يتنزل من أعلى إلى أسفل لكن الواقع أنه يجيء من حيث لا ندري وهذا هو التعبير اللائق بالله العظيم.
فليس له عرش محسوس وكرسي ولكنه قريب من كل شيء. ثم إن كلمة "أنزل" قد جاءت في مقام تدل على أصلها وفي سياق يؤكد معناها الأصلي ذلك هو قوله في سورة الأنعام: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). إن قول هذا الظالم المفتري (سأنزل مثل ما أنزل الله) وهو عربي اللسان يعني ما يقول ويعرف معنى الكلام. إن قوله هكذا لا يعني أنه يزعم ويدعي أنه سينزل كلاما من السماء ولكن يعني أنه سيقول ويظهر لنا كلاما من فمه ولسانه الماثل أمامنا على الأرض فلماذا استعمل كلمة (سأنزل) ثم (مثلما أنزل الله). إن هذا يعني أن "أنزل" تعني أظهر وأخرج وهو المعنى الأصح وعليه جاءت الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة متعلقة بأشياء أرضية محسوسة كقوله تعالى: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا).فإن الإنزال هنا يعني الإظهار والإخراج في الأرض بلا شك، وكيف لا ولله ملك السماوات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر مخاطبا بني آدم: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) [الزمر:6].
هل الأنعام أنزلت؟ وكيف أن المراد أظهرت وأخرجت بكلمة كن التي يتكون بها كل شيء فالله له الملك لا إله إلا هو الحي القيوم وبيده ملكوت كل شيء وسر كل شيء ولا يعجزه شيء؟ وبهذا العلم والقدرة والحكمة والخبرة قال في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [الحديد:25]. فهل الحديد كما يقول بعض السطحيين جاءنا منزل من أعلى إلى الأرض أو من نجم يتوفر فيه الحديد أكثر من الأرض كما يقول بعض السطحيين؟ كلا، بل إن الحديد أظهر للناس في الأرض وبقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون ومن خزائنه التي هي العلم والقدرة وسرعة الحساب في التكوين فبعلمه وقدرته أظهر الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليبتلي الناس كيف يستخدمون هذه البأس هل للحق أم للباطل. هل لله أم للطاغوت، ولكنه مع ذلك (قوي عزيز) فهو لا يعجزه شيء وهو الغني عن كل شيء وهو الغالب على أمره وكل شيء إليه فقير وبه مقهور.
وعلى هذا المعنى يحمل إنزال القرآن وبه يحمل تساؤل المفسرين عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). كيف قال أنزلناه في ليلة القدر مع أنه أنزل على فترة ربع قرن؟ ثم حاولوا حل الإشكال، والإجابة على السؤال، بأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في ليلة القدر ثم استمر جبريل يتنزل به على الرسول بحسب ما استجد من أحداث وأمر، وهذا كلام لا يصح في حق الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولا يليق بمن يعلم ما نسر وما نعلن، بل القرآن كان يتنزل بعلمه في كل حال وزمن، عاشه الرسول المؤتمن. وإذن فالمراد بكلمة "أنزلناه" أظهرناه في ليلة القدر وهكذا تحمل الآية التي تقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]. فإنها تعني أن شهر رمضان كان موعدا لإظهار القرآن فشهر رمضان أظهر فيه القرآن وقد كان ذلك في ليلة منه هي ليلة القدر وهكذا يتضح الأمر. ولتأكيد أن المراد بالإنزال الإظهار نجد الله يقول عن الرسول: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف:157]. فهل محمد الرسول أنزل حتى يكون النور منزلا معه؟ الحقيقة أنه أظهر وأخرج للناس وأمته والمتبعون له هم خير أمة أخرجت للناس ودين الحق هو الذي أظهره الله. ولهذا يقول الله في سورة الطلاق: (فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا(10) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات..) [الطلاق: 10-11]. فالذكر هو القرآن وها هو قد أبدل منه الرسول فكلاهما منزلان فكيف يكون الرسول منزلا وهو معنا في الأرض؟!إن المراد ظهوره وقيامه بالإنذار، وهكذا فإن النور قد ظهر معه، ولهذا فهو يتلو آيات الله مبينات. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) [الطلاق: 11]. ولتأكيد ما أقول تعالوا نقرأ آخر سورة الطلاق، وكيف يصف الله نفسه بأنه العليم الخلاق: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [الطلاق:12]. أسمعتم؟! أفهمتم؟! فهو الخلاق العليم وكل شيء في السماوات والأرض يسير بأمره وسائر على هداه المستقيم وكيف لا فهو القدير على كل شيء ، المحيط بكل شيء وهو العلي العظيم. وبهذا فإن كل ما يتنزل إنما هو إظهار للموجود، من الغيب إلى المشهود، فالله ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون(82)فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون(83)) [سورة يس].وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ¶ إن للقلم بعد مابيناه من معنى (مفردتي نزل وأنزل) بناء خاصا حول معنى كلمة "أنزل" مع كلمة "نزل" من حيث الموضع الأصلي لهما أي من حيث ما يدلان عليه في أصل وضع اللغة وفي مبتدأ مفهوم الكلمة. لا شك أن المتبادر إلى الذهن أن كلمة أنزل ونزل تعني أن شيئا ما قد أتى إلى الناس من أعلى إلى أسفل أو قد تناوله المتناول من مصدر عال وهو في مكان أسفل من المناول. ولهذا فإن القرآن أنزل من الله إلى الرسول والمطر ينزل من السماء إلى الأرض فالكلمة تعني انتقال الشيء من حال الارتفاع إلى الهبوط أو من صدر عال إلى مهبط سافل. ¶ هذا هو المتبادر من الاستعمال، نعم لقد استعملت لهذا المعنى تعظيما لله المعطي وتهوينا للعبد المعطى وتجليلا لله المتفضل وتقليلا للعبد المستقبل، فالله يليق به العلو والتعظيم، والجلال والتفخيم، فهو العلي العظيم، وهو الرفيع الدرجات، وهو الوهاب ذو المعارج والهبات، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، ولهذا يحق له أن يستعمل فيما يعطيه ويظهره كلمة "أنزل ونزل" معا.ولكن: هل الله حقا في مكان محسوس الارتفاع وفي مقام ملموس العلو. كلا: إن علوه وارتفاعه معنوي، فهو قريب من كل شيء وهو معنى أينما كنا وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3]. ¶ وإذن فإن كلمة "أنزل" لا تعني في حقه تعالى أن ما يأتي منه ينزل من أعلا إلى أدنى أو من عال إلى سافل، كلا ولكنه يأتي بشكل أسهل وأجمل. وعليه: فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأبان؛ لأن الله عنده خزائن الأشياء والأكوان وهو يوجدها بكلمة كن فكان، وليس معنى الخزائن أن عنده مخازن مكدسة وخزائن، فهو يكون الأشياء ثم يظهرها من العدم إلى العيان. ولا يصرفها من مخازن مكدسة بالأجسام كما يفعل الإنسان، وليس لديه أمر صرف ولا خزان للمخزون بل يقول للشيء كن فيكون. وعليه فإن الله حين يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. فإنما يعني أنه الخبير بالمكونات والأكوان وفي علمه كل أسرار الخلق والإتقان، وكل خفايا الإيجاد والإحسان. فإذا أراد للشيء الوجود والتكوين قال له كن فيكون، فإذا هو ظاهر بين أيدي الناس به ينعمون وهو أخبر بما يريدون وبمقدار ما يحتاجون، وهذا هو معنى قوله: (وما ننزله إلا بقدر معلوم). أي نظهره ونبرزه للوجود بقدر ما يحتاجه الخلق وبما يفيد ولا ينقص ولا يزيد، وكيف لا وهو الخبير بما يخفى وأقرب إلينا من حبل الوريد. وهكذا فإن كلمة "أنزل" تعني أظهر وأخرج وأوجد وقدر. وعلى هذا المعنى قال الله في سورة هود: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) [هود: 12]. فإن قوله: (أنزل عليه كنز) يعني أظهر عليه أو أخرج له بدليل أن بعدها (أو جاء معه ملك) فلقد استعمل كلمة جاء مع الملك مع أن الملك في مفهومنا يتنزل من أعلى إلى أسفل لكن الواقع أنه يجيء من حيث لا ندري وهذا هو التعبير اللائق بالله العظيم. ¶ فليس له عرش محسوس وكرسي ولكنه قريب من كل شيء. ثم إن كلمة "أنزل" قد جاءت في مقام تدل على أصلها وفي سياق يؤكد معناها الأصلي ذلك هو قوله في سورة الأنعام: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). إن قول هذا الظالم المفتري (سأنزل مثل ما أنزل الله) وهو عربي اللسان يعني ما يقول ويعرف معنى الكلام. إن قوله هكذا لا يعني أنه يزعم ويدعي أنه سينزل كلاما من السماء ولكن يعني أنه سيقول ويظهر لنا كلاما من فمه ولسانه الماثل أمامنا على الأرض فلماذا استعمل كلمة (سأنزل) ثم (مثلما أنزل الله). إن هذا يعني أن "أنزل" تعني أظهر وأخرج وهو المعنى الأصح وعليه جاءت الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة متعلقة بأشياء أرضية محسوسة كقوله تعالى: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا).فإن الإنزال هنا يعني الإظهار والإخراج في الأرض بلا شك، وكيف لا ولله ملك السماوات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر مخاطبا بني آدم: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) [الزمر:6]. ¶ هل الأنعام أنزلت؟ وكيف أن المراد أظهرت وأخرجت بكلمة كن التي يتكون بها كل شيء فالله له الملك لا إله إلا هو الحي القيوم وبيده ملكوت كل شيء وسر كل شيء ولا يعجزه شيء؟ وبهذا العلم والقدرة والحكمة والخبرة قال في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [الحديد:25]. فهل الحديد كما يقول بعض السطحيين جاءنا منزل من أعلى إلى الأرض أو من نجم يتوفر فيه الحديد أكثر من الأرض كما يقول بعض السطحيين؟ كلا، بل إن الحديد أظهر للناس في الأرض وبقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون ومن خزائنه التي هي العلم والقدرة وسرعة الحساب في التكوين فبعلمه وقدرته أظهر الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليبتلي الناس كيف يستخدمون هذه البأس هل للحق أم للباطل. هل لله أم للطاغوت، ولكنه مع ذلك (قوي عزيز) فهو لا يعجزه شيء وهو الغني عن كل شيء وهو الغالب على أمره وكل شيء إليه فقير وبه مقهور. ¶ وعلى هذا المعنى يحمل إنزال القرآن وبه يحمل تساؤل المفسرين عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). كيف قال أنزلناه في ليلة القدر مع أنه أنزل على فترة ربع قرن؟ ثم حاولوا حل الإشكال، والإجابة على السؤال، بأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في ليلة القدر ثم استمر جبريل يتنزل به على الرسول بحسب ما استجد من أحداث وأمر، وهذا كلام لا يصح في حق الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ولا يليق بمن يعلم ما نسر وما نعلن، بل القرآن كان يتنزل بعلمه في كل حال وزمن، عاشه الرسول المؤتمن. وإذن فالمراد بكلمة "أنزلناه" أظهرناه في ليلة القدر وهكذا تحمل الآية التي تقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185]. فإنها تعني أن شهر رمضان كان موعدا لإظهار القرآن فشهر رمضان أظهر فيه القرآن وقد كان ذلك في ليلة منه هي ليلة القدر وهكذا يتضح الأمر. ولتأكيد أن المراد بالإنزال الإظهار نجد الله يقول عن الرسول: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف:157]. فهل محمد الرسول أنزل حتى يكون النور منزلا معه؟ الحقيقة أنه أظهر وأخرج للناس وأمته والمتبعون له هم خير أمة أخرجت للناس ودين الحق هو الذي أظهره الله. ولهذا يقول الله في سورة الطلاق: (فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا(10) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات..) [الطلاق: 10-11]. فالذكر هو القرآن وها هو قد أبدل منه الرسول فكلاهما منزلان فكيف يكون الرسول منزلا وهو معنا في الأرض؟!إن المراد ظهوره وقيامه بالإنذار، وهكذا فإن النور قد ظهر معه، ولهذا فهو يتلو آيات الله مبينات. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) [الطلاق: 11]. ولتأكيد ما أقول تعالوا نقرأ آخر سورة الطلاق، وكيف يصف الله نفسه بأنه العليم الخلاق: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [الطلاق:12]. أسمعتم؟! أفهمتم؟! فهو الخلاق العليم وكل شيء في السماوات والأرض يسير بأمره وسائر على هداه المستقيم وكيف لا فهو القدير على كل شيء ، المحيط بكل شيء وهو العلي العظيم. وبهذا فإن كل ما يتنزل إنما هو إظهار للموجود، من الغيب إلى المشهود، فالله ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون(82)فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون(83)) [سورة يس].
الفصل والوصل في القصص القرآني
بعض من الآيات التي وردت في قصص الأنبياء وفي حوارهم مع أقوامهم يظنها المفسرون الأقدمون أنها من كلام الأنبياء مع أن المتأمل بإمعان يعرف أنها من كلام الله ولكن الأسلوب القرآني الجميل يدمج كلام الله مع كلام أوليائه ورسله وعباده الصالحين ليؤكد لنا أنهم مع ربهم فريق واحد وجهة واحدة ولا تفريق بين الله ورسله ولا نريد أن نستمر في الحديث النظري ولكن ندخل في التمثيل والإيضاح وتحديد هذه الآيات التي نريد وهي كما يلي:
(أ) سورة الأنعام
الآية (81) والتي تنتهي بقول إبراهيم عليه السلام لقومه: (فأي الفريقين أحق بالأمن). هنا ينتهي كلام إبراهيم أما الآية التي تلي فهي من قول الله وهي: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).[82]. وهكذا يستمر كلام الله ويتوالى.
(ب) سورة إبراهيم
سنقرأ في الآيات الأول وهذه السورة الآية السادسة وهي قول موسى: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم). هنا ينتهي قول موسى، أما الآية التي بعدها وهي قوله: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). [إبراهيم : 7]. أما هذه الآية فهي قول الله ولا تلحق بكلام موسى أنها خطاب من الله لنا وللناس أجمعين ولقد جاءت هنا معترضة بين حديث موسى إلى قومه للتنبيه على أن الشكر هو العصمة من عذاب الإنسان للإنسان وهو الحامي من الطغيان. وهو أسلوب جميل للتذكير ولهذا فلما عاد إلى حوار موسى مع قومه أعاد اسم موسى عليه السلام ولم يجعله ضميرا بل أعاده ظاهرا فقال: (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) [إبراهيم: 8]. وهنا ينتهي كلام موسى نهائيا. وفي آخر الآية الثانية من السورة بقوله (وويل للكافرين من عذاب شديد)ثم يبدأ خطاب جديد للقوم الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم الذين وصفهم الله بقوله قبل ذلك في الآية (3) من السورة: (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد). ثم تخلل ذلك حكاية موسى ثم عاد إليهم ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب فقال : (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) [إبراهيم:9].وهكذا يستمر الحوار بينهم وبين رسلهم ولا نهاية. فإذا هو يختم بجملة هامة للبت في كلام الرسل ولكن من كلام الله ختم بها كلام رسله وأكد على قولهم ولنقرأه: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا) هنا ينتهي كلام الرسل فيختمه الله بقوله (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) ليؤكد لنا أن إعلانهم التوكل عليه أولا هو الحق الذي يجب أن يتبعه كل المتوكلين عبر الزمن.
ولن نغادر سورة إبراهيم عليه السلام حتى نقف عند دعاء إبراهيم عليه السلام. فلقد قال ضمن دعائه (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن)فأيد الله كلمته هذه بقوله (وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) [إبراهيم:38].فالجزء الثاني من الآية هو من كلام الله هكذا يتضح وإن كان لا مانع من أن تكون من كلام إبراهيم.
(ج) سورة طه
لنقرأ قصة موسى في السورة لنجد حواره مع فرعون قد تخلله كلام ليس من كلام موسى ولكنه من كلام الله تأكيدا لقول موسى وإيضاحا لنا أن الخطاب من أي رسول كان هو خطاب لكل إنسان في كل زمان ومكان وأن ما يقوله الرسل إنما هو قول منه للعالمين. ولنقرأ: (قال فمن ربكما ياموسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) [طه: الآيات 49-50]. وهنا ينتهي كلام موسى ليبدأ كلام الله للعالمين فيقول:( الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) [طه:53-55].ثم نعود إلى سياق الحواريين موسى وفرعون فيقول: (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) [طه:56]. وهكذا نستمر حتى نصل إلى موقف السحرة الصلب وإيمانهم الصادق وقولهم لفرعون: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا(72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) [طه: الآيات72-73].هنا ينتهي كلامهم ويبدأ كلام الله بقوله (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) [طه: الآيات:72-73].
(د) سورة الشعراء
لنقرأ ما ورد فيها من قصة إبراهيم عليه السلام ولنصل إلى قوله لقومه مسفها عبادتهم الأصنام (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهديني * والذي هو يطعمني ويسقيني * وإذا مرضت فهو يشفيني * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) [الشعراء: الآيات77-82].ثم يلتفت لخطاب ربه فيقول: (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم * واغفر لأبي إنه كان من الضالين * ولا تخزني يوم يبعثون) [الشعراء:83-87].وهنا ينتهي كلام إبراهيم بعد كلام الله سبحانه وتعالى الذي يعرفنا بحقيقة هذا اليوم (يوم يبعثون) وبأسلوب لا يعرفه سواه فيقول (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم * وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم). [الشعراء:88-104].
إن وصف هذا اليوم (بيوم يبعثون) بهذا الإيضاح والتفصيل وبهذا الأسلوب الجميل لا يمكن إلا أن يكون من لدن الله الذي له العلم بما يكون وله الملك يوم الدين وإليه كلنا راجعون ولقد دمج كلامه بكلام خليله إبراهيم ليشعرنا بلطفه ووده ويقربه من عباده الصالحين وأنهم مع ربهم غير مفترقين وكيف لا وهو يقول (والله مع المحسنين) وهذا الأسلوب متكرر وملموس في كثير من المواقع القرآنية ذات القصص الحوارية بين الصالحين وبين المكذبين وإنه لأسلوب لطيف كريم وفضل من ذي الجلال عظيم على كل عبد صالح مستقيم. والملاحظ أن هذا الأسلوب يتكرر كثيرا مع إبراهيم ولكن أليس هو للناس الإمام ولله الخليل فنعم المقام السامق الجليل ولنأخذ موقفا آخر لنجده مندمجا مع ربه فيما يقول في سورة العنكبوت.
(ه) سورة العنكبوت
لنقرأ حوار إبراهيم لقومه كما يحكيه ربه ويعلمه: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون[16] إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون[17]).هل تظنون أن إبراهيم واصل الحوار؟كلا: بل بدأ هنا كلام آخر هو خطاب من الله لقوم الرسول الختام عليه الصلاة والسلام لأن السورة خطاب لهم وللعالمين ولهذا جاء فيها الاستقراء بحكاية نوح وبعض من حوار إبراهيم ثم عاد ليخاطب المكذبين من قوم محمد الأمين فقال: (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين[18])وهكذا إلى قوله تعالى في الآية 23: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم) ست آيات متوالية من 18-23 جاءت استطرادا بين كلام إبراهيم إنه كلام مسوق لخطاب من أرسل إليهم محمد خاتم النبيين وليس مقولا لإبراهيم مع قومه. ولكن الله أورد هذا الاستطراد ليؤكد أن موقف المكذب واحد في كل جيل ومع كل رسول وأن الناس مدعوون للتفكير والنظر في كل عصر وبشكل مستمر (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير[20])كما أن الكافرين بآيات الله ولقائه هم البائسون من رحمته في كل حال وأولئك لهم عذاب أليم بلا جدال.
وهكذا يعود لاستئناف حكاية حوار إبراهيم مع قومه فيقول: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) [العنكبوت: 24].ويتواصل الحوار حتى النهاية ليبدأ مع لوط ومن يليه من المرسلين حتى ينتهي بموسى مع قارون وفرعون وهامان.
(و) سورة لقمان
وفي سورة لقمان نجد الأسلوب واضحا لمن تأمل القرآن فلقد قال الله عنه: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)ثم ينقطع حوار لقمان مع أبيه مؤقتا ليتخلله قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون)ثم يعود السياق لحكاية بقية مواعظ لقمان لابنه (يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) وتستمر المواعظ إلى قوله (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)أليس وجود توصية الله للإنسان وفي خلال موعظة لقمان لابنه ما يؤكد عل أن الله يريد أن يقول للناس أن أقوال عبادي المخلصين تعبر عن حكمتي التي آتيتهم كما أن توضيحي تتويج لما أفصح عنه عبدي من الحكمة فالله وعبده الصالح فريق واحد يشع نورا والذي هو نور الله وهداه للعالمين.
ز- سورة نوح
لنصل الآن إلى سورة نوح عليه السلام فإذا قرأنا الآيات سنجده قد دعى وأوضح ثم عاد إلى ربه ملتجئا من أمته وشاكيا إليه فرار قومه من دعوته واستكبارهم عن الاستغفار لربهم لنيل رحمته حتى قال (ثم إني دعوتهم جهارا). حتى: (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) [نوح:8-12].إلى هنا ينتهي كلام نوح ليبدأ كلام الله موجها إلى من عاصر النبي محمد خاتم النبيين وإلى كل العالمين وهو قوله (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) [نوح:13و14].(ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا) [الآيات 15-20]وعاد السياق إلى كلام نوح من جديد وأعاد اسم نوح ليوضح أن كلامه قد انقطع أولا ثم عاد الآن فقال:(قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) [الآيات:21-24]وهنا ينتهي كلامه ولكنها آيات توضح أسباب الاستكبار وما بعدها يعلن نهاية الاستكبار ولكنها كلام الله وليس كلام لنوح.(مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) [25]ثم يعود السياق إلى كلام نوح عليه السلام مجددا إلى آخر السورة. (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) .
وبعد فنرجوا أن هذا الموضوع قد استبان بهذه التنبيهات وقد أوضح لكم ما التبس من الآيات على المفسرين الذين لم يتأملوا الموضوع بإمعان. ونحن لا نلومهم ولا ندعي أننا خير منهم ولكنا نقدر جهدهم ونضيف هذا الجهد المتواضع إليهم معهم معترفين بالفضل لهم ومقدرين سبقهم لكن السبق لا يعني السلامة من الخطأ كما أن التأخر لا يعني القصور عن الفهم والأداء فالقرآن كتاب الله المنزل للعالمين وكلهم مدعوين ليكونوا متدبرين ومتذكرين وإنما يتذكر أولوا الألباب.الفصل والوصل في القصص القرآني ¶ بعض من الآيات التي وردت في قصص الأنبياء وفي حوارهم مع أقوامهم يظنها المفسرون الأقدمون أنها من كلام الأنبياء مع أن المتأمل بإمعان يعرف أنها من كلام الله ولكن الأسلوب القرآني الجميل يدمج كلام الله مع كلام أوليائه ورسله وعباده الصالحين ليؤكد لنا أنهم مع ربهم فريق واحد وجهة واحدة ولا تفريق بين الله ورسله ولا نريد أن نستمر في الحديث النظري ولكن ندخل في التمثيل والإيضاح وتحديد هذه الآيات التي نريد وهي كما يلي: ¶ (أ) سورة الأنعام ¶ الآية (81) والتي تنتهي بقول إبراهيم عليه السلام لقومه: (فأي الفريقين أحق بالأمن). هنا ينتهي كلام إبراهيم أما الآية التي تلي فهي من قول الله وهي: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).[82]. وهكذا يستمر كلام الله ويتوالى. ¶ (ب) سورة إبراهيم ¶ سنقرأ في الآيات الأول وهذه السورة الآية السادسة وهي قول موسى: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم). هنا ينتهي قول موسى، أما الآية التي بعدها وهي قوله: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). [إبراهيم : 7]. أما هذه الآية فهي قول الله ولا تلحق بكلام موسى أنها خطاب من الله لنا وللناس أجمعين ولقد جاءت هنا معترضة بين حديث موسى إلى قومه للتنبيه على أن الشكر هو العصمة من عذاب الإنسان للإنسان وهو الحامي من الطغيان. وهو أسلوب جميل للتذكير ولهذا فلما عاد إلى حوار موسى مع قومه أعاد اسم موسى عليه السلام ولم يجعله ضميرا بل أعاده ظاهرا فقال: (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) [إبراهيم: 8]. وهنا ينتهي كلام موسى نهائيا. وفي آخر الآية الثانية من السورة بقوله (وويل للكافرين من عذاب شديد)ثم يبدأ خطاب جديد للقوم الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم الذين وصفهم الله بقوله قبل ذلك في الآية (3) من السورة: (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد). ثم تخلل ذلك حكاية موسى ثم عاد إليهم ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب فقال : (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) [إبراهيم:9].وهكذا يستمر الحوار بينهم وبين رسلهم ولا نهاية. فإذا هو يختم بجملة هامة للبت في كلام الرسل ولكن من كلام الله ختم بها كلام رسله وأكد على قولهم ولنقرأه: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا) هنا ينتهي كلام الرسل فيختمه الله بقوله (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) ليؤكد لنا أن إعلانهم التوكل عليه أولا هو الحق الذي يجب أن يتبعه كل المتوكلين عبر الزمن. ¶ ولن نغادر سورة إبراهيم عليه السلام حتى نقف عند دعاء إبراهيم عليه السلام. فلقد قال ضمن دعائه (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن)فأيد الله كلمته هذه بقوله (وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) [إبراهيم:38].فالجزء الثاني من الآية هو من كلام الله هكذا يتضح وإن كان لا مانع من أن تكون من كلام إبراهيم. ¶ (ج) سورة طه ¶ لنقرأ قصة موسى في السورة لنجد حواره مع فرعون قد تخلله كلام ليس من كلام موسى ولكنه من كلام الله تأكيدا لقول موسى وإيضاحا لنا أن الخطاب من أي رسول كان هو خطاب لكل إنسان في كل زمان ومكان وأن ما يقوله الرسل إنما هو قول منه للعالمين. ولنقرأ: (قال فمن ربكما ياموسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) [طه: الآيات 49-50]. وهنا ينتهي كلام موسى ليبدأ كلام الله للعالمين فيقول:( الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) [طه:53-55].ثم نعود إلى سياق الحواريين موسى وفرعون فيقول: (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) [طه:56]. وهكذا نستمر حتى نصل إلى موقف السحرة الصلب وإيمانهم الصادق وقولهم لفرعون: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا(72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) [طه: الآيات72-73].هنا ينتهي كلامهم ويبدأ كلام الله بقوله (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) [طه: الآيات:72-73]. ¶ (د) سورة الشعراء ¶ لنقرأ ما ورد فيها من قصة إبراهيم عليه السلام ولنصل إلى قوله لقومه مسفها عبادتهم الأصنام (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهديني * والذي هو يطعمني ويسقيني * وإذا مرضت فهو يشفيني * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [الشعراء: الآيات77-82].ثم يلتفت لخطاب ربه فيقول: (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم * واغفر لأبي إنه كان من الضالين * ولا تخزني يوم يبعثون) [الشعراء:83-87].وهنا ينتهي كلام إبراهيم بعد كلام الله سبحانه وتعالى الذي يعرفنا بحقيقة هذا اليوم (يوم يبعثون) وبأسلوب لا يعرفه سواه فيقول (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم * وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم). [الشعراء:88-104]. ¶ إن وصف هذا اليوم (بيوم يبعثون) بهذا الإيضاح والتفصيل وبهذا الأسلوب الجميل لا يمكن إلا أن يكون من لدن الله الذي له العلم بما يكون وله الملك يوم الدين وإليه كلنا راجعون ولقد دمج كلامه بكلام خليله إبراهيم ليشعرنا بلطفه ووده ويقربه من عباده الصالحين وأنهم مع ربهم غير مفترقين وكيف لا وهو يقول (والله مع المحسنين) وهذا الأسلوب متكرر وملموس في كثير من المواقع القرآنية ذات القصص الحوارية بين الصالحين وبين المكذبين وإنه لأسلوب لطيف كريم وفضل من ذي الجلال عظيم على كل عبد صالح مستقيم. والملاحظ أن هذا الأسلوب يتكرر كثيرا مع إبراهيم ولكن أليس هو للناس الإمام ولله الخليل فنعم المقام السامق الجليل ولنأخذ موقفا آخر لنجده مندمجا مع ربه فيما يقول في سورة العنكبوت. ¶ (ه) سورة العنكبوت ¶ لنقرأ حوار إبراهيم لقومه كما يحكيه ربه ويعلمه: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون[16] إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون[17]).هل تظنون أن إبراهيم واصل الحوار؟كلا: بل بدأ هنا كلام آخر هو خطاب من الله لقوم الرسول الختام عليه الصلاة والسلام لأن السورة خطاب لهم وللعالمين ولهذا جاء فيها الاستقراء بحكاية نوح وبعض من حوار إبراهيم ثم عاد ليخاطب المكذبين من قوم محمد الأمين فقال: (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين[18])وهكذا إلى قوله تعالى في الآية 23: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم) ست آيات متوالية من 18-23 جاءت استطرادا بين كلام إبراهيم إنه كلام مسوق لخطاب من أرسل إليهم محمد خاتم النبيين وليس مقولا لإبراهيم مع قومه. ولكن الله أورد هذا الاستطراد ليؤكد أن موقف المكذب واحد في كل جيل ومع كل رسول وأن الناس مدعوون للتفكير والنظر في كل عصر وبشكل مستمر (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير[20])كما أن الكافرين بآيات الله ولقائه هم البائسون من رحمته في كل حال وأولئك لهم عذاب أليم بلا جدال. ¶ وهكذا يعود لاستئناف حكاية حوار إبراهيم مع قومه فيقول: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) [العنكبوت: 24].ويتواصل الحوار حتى النهاية ليبدأ مع لوط ومن يليه من المرسلين حتى ينتهي بموسى مع قارون وفرعون وهامان. ¶ (و) سورة لقمان ¶ وفي سورة لقمان نجد الأسلوب واضحا لمن تأمل القرآن فلقد قال الله عنه: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)ثم ينقطع حوار لقمان مع أبيه مؤقتا ليتخلله قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون)ثم يعود السياق لحكاية بقية مواعظ لقمان لابنه (يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) وتستمر المواعظ إلى قوله (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)أليس وجود توصية الله للإنسان وفي خلال موعظة لقمان لابنه ما يؤكد عل أن الله يريد أن يقول للناس أن أقوال عبادي المخلصين تعبر عن حكمتي التي آتيتهم كما أن توضيحي تتويج لما أفصح عنه عبدي من الحكمة فالله وعبده الصالح فريق واحد يشع نورا والذي هو نور الله وهداه للعالمين. ¶ ز- سورة نوح ¶ لنصل الآن إلى سورة نوح عليه السلام فإذا قرأنا الآيات سنجده قد دعى وأوضح ثم عاد إلى ربه ملتجئا من أمته وشاكيا إليه فرار قومه من دعوته واستكبارهم عن الاستغفار لربهم لنيل رحمته حتى قال (ثم إني دعوتهم جهارا). حتى: (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) [نوح:8-12].إلى هنا ينتهي كلام نوح ليبدأ كلام الله موجها إلى من عاصر النبي محمد خاتم النبيين وإلى كل العالمين وهو قوله (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) [نوح:13و14].(ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا) [الآيات 15-20]وعاد السياق إلى كلام نوح من جديد وأعاد اسم نوح ليوضح أن كلامه قد انقطع أولا ثم عاد الآن فقال:(قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) [الآيات:21-24]وهنا ينتهي كلامه ولكنها آيات توضح أسباب الاستكبار وما بعدها يعلن نهاية الاستكبار ولكنها كلام الله وليس كلام لنوح.(مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) [25]ثم يعود السياق إلى كلام نوح عليه السلام مجددا إلى آخر السورة. (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) . ¶ وبعد فنرجوا أن هذا الموضوع قد استبان بهذه التنبيهات وقد أوضح لكم ما التبس من الآيات على المفسرين الذين لم يتأملوا الموضوع بإمعان. ونحن لا نلومهم ولا ندعي أننا خير منهم ولكنا نقدر جهدهم ونضيف هذا الجهد المتواضع إليهم معهم معترفين بالفضل لهم ومقدرين سبقهم لكن السبق لا يعني السلامة من الخطأ كما أن التأخر لا يعني القصور عن الفهم والأداء فالقرآن كتاب الله المنزل للعالمين وكلهم مدعوين ليكونوا متدبرين ومتذكرين وإنما يتذكر أولوا الألباب.
الاستطراد الاهم والمقدم على مايليه
أخي القارئ إنما نرجوك أن تواصل معنا التأمل بإمعان وانتباه وأن تتفهم معنا هذه اللفتة اللطيفة الهامة ونحن لا نريد منك أن تسلم بما نقول ولكن أن تتأمل ثم أنت مخير بين الرفض أو القبول لن نطيل المقدمة ولكن سندخل إلى المهمة اقرأ معنا الآيات التالية في سورة يس وهي قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) [يس: الآيات: 41 إلى 44].
إنها آيات تابعة لما سبق من الآيات والتي تبدأ بقوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) [33].ثم ما يليها إلى الآيات التي أوردناها قبلها وعلى أي حال فإن الله العليم قد دلل لنا في هذه الآيات المتوالية على ربوبيته وقدرته ؟؟ والرغبة إليه والرهبة منه والاعتماد عليه في كل شأن من شئون الإنسان مهما دق أو جل. وأكد على أنه لو يشاء لما استمرت هذه العطايا تتولى وهذه الآيات تتلالأ ولكنها مستمرة لنا رحمة منه وتنفيذا لقضائه الذي حتم به أن لنا متاعا إلى حين.
وهي آيات واضحة للإنسان في كل زمان وهي مستمرة مسخرة للإنسان بفضل الله رغم جحوده والكفران.
فكلما رأى آية أعرض واستكبر وكلما ذكر بالحشر استبعده وأنكر وحال الإنسان في الدنيا غفلة وإعراض وطاعة للهوى ولهذا انتقل السياق إلى بيان ما سيلقاه الإنسان في الأخرى وكيف سيكون المصير يوم الفصل الكبير.فإذا الناس إلى ربهم ينسلون وإذا هم لدى ربهم محضرون وهو يوم عظيم الحاكم فيه هو الله الحكيم (فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) [يس:54]وعلى هذا الأساس من العدل فالناس فريقان فمنهم أصحاب الجنة ومنهم المجرمون، وكلهم يلقون ما يستحقون، لكنهم في الحال لا يستوون فالمجرمون تدنو منهم جهنم حتى يقال لهم: (هذه جهنم التي كنتم توعدون * اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) [يس:63و64].هو مصير بأعمالهم استحقوه، وهم لا يستطيعون إخفاء ما عملوه، وكيف لا وأدوات العمل هم الشهود (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)[يس:65]إنها مشاهد مذهلة لمن أجرم مبهمة لمن أسلم لربه واستسلم، وإنه لنبأ عظيم خطير ينبئنا به الله العليم الخبير، وهنا ننهي مشاهد ما سيجري للإنسان في الأخرى وكلها تؤكد على قدر ذاته وعدله وحكمته وعلمه الذي يعلم السر وأخفى ليعود السياق إلى استئناف ما انقطع من بيان آيات الله وقدراته في الدنيا فقال الله: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون * ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) [يس:66و67]
وها هنا هي اللفتة اللطيفة التي أردنا توضيحها لكم فلقد اعتقد كل المفسرين الأولين والآخرين أن هاتين الآيتين تحكي ما يصيب الإنسان في الآخرة لأنها جاءت بعد آيات العذاب للمجرمين التي قبلها. مع أن الحديث عن حالة الإنسان في الآخرة قد انتهى عند قوله: (اليوم نختم على أفواههم) إلى آخر الآية:65، أما هذه فهي عودة إلى ما سبقها من الآيات التي انتهت بقوله تعالى: (إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) الآية:44 فهي معطوفة على تلك الآيات التي تقر أن مشيئة الله مطلقة، ولإيضاح ما أقوله ولتحقيق هذه اللفتة في ذهنك فانظر إنه في الآية 43 يقول: (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) هذا في البحر إذن فإن من المناسب أن يعطف عليه قوله تعالى ما يخص البر وهو قوله (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون) أي: فأرادوا الاستباق إلى الطريق فلا يستطيعون لأن أعينهم مطموسة فأنى يبصرون. وهذا يعني أن الإنسان في يد الله وتحت حكمه وفي رحمته في البر والبحر وفي كل حال. فلا البر يحميه ولا البحر يرويه، فهو محروس فيها بالله ولو شاء لأغرق الإنسان في البحر كما أنه لو شاء لطمس الأعين فلا يستطيع الإنسان أن يهتدي في الصراط أي الطريق ولا يبصر ولا يهتدي فهو المسير في البر والبحر وهو الحافظ للإنسان في كل حال ، فهو يسير بإذن الله وهو يبصر بقدرته وهو يتحرك برحمته بل إنه القادر أن يمسخ الإنسان جمادا فلا يتحرك أماما ولا خلفا بل يبقى جامدا جلفا لا يمضي لما يشاء ولا يحقق هدفا وهذا هو الانتكاس الذي ليس له شفاء فالإنسان مسير بالله يتحرك بقدرة الله مسخرة له الأشياء بقوة الله فهو لا يستطيع أن ينال شيئا ولا يجمع، ولا أن يرد عن نفسه ضرا ولا يدفع، إلا بإذن الله، فما باله ينسى ربه الذي بيده ملكوت كل شيء والذي هو الحي القيوم ومنه حياة كل حي وبه يقوم كل شيء. وإذا شاء الإنسان الدليل على عجزه بدون ربه وعلى فقره إلى ربه فلينظر إلى نفسه. فهل يستطيع أن يطيل عمره بغذائه المترف؟ وهل يقدر أن يرد عن جسمه الانتكاس والنقص بأكله المسرف؟ وهل يستطيع بأطباء الأرض أن يحمي جسده من الضعف والهرم؟ وأن يصد عن أعضائه الانتكاس والسقم؟ كلا، فكلما زاد عمره نقص وكلما تقدم به العمر انتكس، وكلما مرت به الأيام أبطأ وعثر، وكلما أسرعت به توقف واندثر، ولكنه لا يعقل ولا يتفكر، أنه بربه مسير، ولهذا يقول الله: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون) [يس:68]
وبعد فهل اتضح لكم يا أخواني: أن الآيات (66و67و68) من سورة يس معطوفة على الآيتين 43و44 من نفس السورة؟ قد تسألون: هل هذا مألوف؟ وهل هذا الأسلوب لدى العرب معروف؟ وأقول: نعم، إنه الاستطراد الذي يكون الداعي إليه إيضاح لأن ما يحتويه هو الأهم، وأنه المقدم على ما يليه. ألا ترون أن من البديهي بعد إيراد تلك الآيات الدالة على قدرة الله وتدبيره والتي تبدأ بقوله: (وآية لهم الأرض الميتة. . الخ) وتنتهي بقوله: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)إن البديهي أن يتأكد الإنسان بلا ارتياب أن الله قادر على إعادته للحساب، وأن آياته تدل على ذلك لأولي الألباب. لكن الناس حالهم غير ذلك (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) [46]وليس هذا فقط ، بل قولهم ما هو أشد: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) [48]وأمام هذا الحال الغافل كان لا بد من الاستطراد الزاخر بكل صور اليوم الآخر وما يحفل به من جنات للبار وجحيم للكافر، فالنعيم للمسلم والجحيم للمجرم، وإنه لفي خزي وندم، فإن فمه عليه يختم، وأعضائه هي التي تتكلم، وهذا هو الهوان الأعظم. أليس في هذا الاستطراد الجميل ما ينبه القلب السليم، إلى الاستعداد لذلك اليوم العظيم؟
ثم إذا ما انتهى من هذا المراد وأدى الغرض من الاستطراد عاد ليذكر الإنسان بعجزه وفقره في شبابه وكبره وأن حاله لا يرد عنه الموت الحق وأن ترفه لا يصد عنه الانتكاس في الخلق، فالموت قارع لمن يأكل الكدمة واللحمة. والضعف ضيف على من يتعالج في تبن أو في لندن، وكلاهما إلى المنية قادم مهما طال الزمن.الاستطراد الاهم والمقدم على مايليه ¶ أخي القارئ إنما نرجوك أن تواصل معنا التأمل بإمعان وانتباه وأن تتفهم معنا هذه اللفتة اللطيفة الهامة ونحن لا نريد منك أن تسلم بما نقول ولكن أن تتأمل ثم أنت مخير بين الرفض أو القبول لن نطيل المقدمة ولكن سندخل إلى المهمة اقرأ معنا الآيات التالية في سورة يس وهي قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) [يس: الآيات: 41 إلى 44]. ¶ إنها آيات تابعة لما سبق من الآيات والتي تبدأ بقوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) [33].ثم ما يليها إلى الآيات التي أوردناها قبلها وعلى أي حال فإن الله العليم قد دلل لنا في هذه الآيات المتوالية على ربوبيته وقدرته ؟؟ والرغبة إليه والرهبة منه والاعتماد عليه في كل شأن من شئون الإنسان مهما دق أو جل. وأكد على أنه لو يشاء لما استمرت هذه العطايا تتولى وهذه الآيات تتلالأ ولكنها مستمرة لنا رحمة منه وتنفيذا لقضائه الذي حتم به أن لنا متاعا إلى حين. ¶ وهي آيات واضحة للإنسان في كل زمان وهي مستمرة مسخرة للإنسان بفضل الله رغم جحوده والكفران. ¶ فكلما رأى آية أعرض واستكبر وكلما ذكر بالحشر استبعده وأنكر وحال الإنسان في الدنيا غفلة وإعراض وطاعة للهوى ولهذا انتقل السياق إلى بيان ما سيلقاه الإنسان في الأخرى وكيف سيكون المصير يوم الفصل الكبير.فإذا الناس إلى ربهم ينسلون وإذا هم لدى ربهم محضرون وهو يوم عظيم الحاكم فيه هو الله الحكيم (فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) [يس:54]وعلى هذا الأساس من العدل فالناس فريقان فمنهم أصحاب الجنة ومنهم المجرمون، وكلهم يلقون ما يستحقون، لكنهم في الحال لا يستوون فالمجرمون تدنو منهم جهنم حتى يقال لهم: (هذه جهنم التي كنتم توعدون * اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) [يس:63و64].هو مصير بأعمالهم استحقوه، وهم لا يستطيعون إخفاء ما عملوه، وكيف لا وأدوات العمل هم الشهود (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)[يس:65]إنها مشاهد مذهلة لمن أجرم مبهمة لمن أسلم لربه واستسلم، وإنه لنبأ عظيم خطير ينبئنا به الله العليم الخبير، وهنا ننهي مشاهد ما سيجري للإنسان في الأخرى وكلها تؤكد على قدر ذاته وعدله وحكمته وعلمه الذي يعلم السر وأخفى ليعود السياق إلى استئناف ما انقطع من بيان آيات الله وقدراته في الدنيا فقال الله: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون * ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) [يس:66و67] ¶ وها هنا هي اللفتة اللطيفة التي أردنا توضيحها لكم فلقد اعتقد كل المفسرين الأولين والآخرين أن هاتين الآيتين تحكي ما يصيب الإنسان في الآخرة لأنها جاءت بعد آيات العذاب للمجرمين التي قبلها. مع أ ن الحديث عن حالة الإنسان في الآخرة قد انتهى عند قوله: (اليوم نختم على أفواههم) إلى آخر الآية:65، أما هذه فهي عودة إلى ما سبقها من الآيات التي انتهت بقوله تعالى: (إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) الآية:44 فهي معطوفة على تلك الآيات التي تقر أن مشيئة الله مطلقة، ولإيضاح ما أقوله ولتحقيق هذه اللفتة في ذهنك فانظر إنه في الآية 43 يقول: (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) هذا في البحر إذن فإن من المناسب أن يعطف عليه قوله تعالى ما يخص البر وهو قوله (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون) أي: فأرادوا الاستباق إلى الطريق فلا يستطيعون لأن أعينهم مطموسة فأنى يبصرون. وهذا يعني أن الإنسان في يد الله وتحت حكمه وفي رحمته في البر والبحر وفي كل حال. فلا البر يحميه ولا البحر يرويه، فهو محروس فيها بالله ولو شاء لأغرق الإنسان في البحر كما أنه لو شاء لطمس الأعين فلا يستطيع الإنسان أن يهتدي في الصراط أي الطريق ولا يبصر ولا يهتدي فهو المسير في البر والبحر وهو الحافظ للإنسان في كل حال ، فهو يسير بإذن الله وهو يبصر بقدرته وهو يتحرك برحمته بل إنه القادر أن يمسخ الإنسان جمادا فلا يتحرك أماما ولا خلفا بل يبقى جامدا جلفا لا يمضي لما يشاء ولا يحقق هدفا وهذا هو الانتكاس الذي ليس له شفاء فالإنسان مسير بالله يتحرك بقدرة الله مسخرة له الأشياء بقوة الله فهو لا يستطيع أن ينال شيئا ولا يجمع، ولا أن يرد عن نفسه ضرا ولا يدفع، إلا بإذن الله، فما باله ينسى ربه الذي بيده ملكوت كل شيء والذي هو الحي القيوم ومنه حياة كل حي وبه يقوم كل شيء. وإذا شاء الإنسان الدليل على عجزه بدون ربه وعلى فقره إلى ربه فلينظر إلى نفسه. فهل يستطيع أن يطيل عمره بغذائه المترف؟ وهل يقدر أن يرد عن جسمه الانتكاس والنقص بأكله المسرف؟ وهل يستطيع بأطباء الأرض أن يحمي جسده من الضعف والهرم؟ وأن يصد عن أعضائه الانتكاس والسقم؟ كلا، فكلما زاد عمره نقص وكلما تقدم به العمر انتكس، وكلما مرت به الأيام أبطأ وعثر، وكلما أسرعت به توقف واندثر، ولكنه لا يعقل ولا يتفكر، أنه بربه مسير، ولهذا يقول الله: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون) [يس:68] ¶ وبعد فهل اتضح لكم يا أخواني: أن الآيات (66و67و68) من سورة يس معطوفة على الآيتين 43و44 من نفس السورة؟ قد تسألون: هل هذا مألوف؟ وهل هذا الأسلوب لدى العرب معروف؟ وأقول: نعم، إنه الاستطراد الذي يكون الداعي إليه إيضاح لأن ما يحتويه هو الأهم، وأنه المقدم على ما يليه. ألا ترون أن من البديهي بعد إيراد تلك الآيات الدالة على قدرة الله وتدبيره والتي تبدأ بقوله: (وآية لهم الأرض الميتة. . الخ) وتنتهي بقوله: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)إن البديهي أن يتأكد الإنسان بلا ارتياب أن الله قادر على إعادته للحساب، وأن آياته تدل على ذلك لأولي الألباب. لكن الناس حالهم غير ذلك (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) [46]وليس هذا فقط ، بل قولهم ما هو أشد: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) [48]وأمام هذا الحال الغافل كان لا بد من الاستطراد الزاخر بكل صور اليوم الآخر وما يحفل به من جنات للبار وجحيم للكافر، فالنعيم للمسلم والجحيم للمجرم، وإنه لفي خزي وندم، فإن فمه عليه يختم، وأعضائه هي التي تتكلم، وهذا هو الهوان الأعظم. أليس في هذا الاستطراد الجميل ما ينبه القلب السليم، إلى الاستعداد لذلك اليوم العظيم؟ ¶ ثم إذا ما انتهى من هذا المراد وأدى الغرض من الاستطراد عاد ليذكر الإنسان بعجزه وفقره في شبابه وكبره وأن حاله لا يرد عنه الموت الحق وأن ترفه لا يصد عنه الانتكاس في الخلق، فالموت قارع لمن يأكل الكدمة واللحمة. والضعف ضيف على من يتعالج في تبن أو في لندن، وكلاهما إلى المنية قادم مهما طال الزمن.
خلقهن العزيز العليم
أهلا أخي القارئ: إننا ندعوك بلطف إلى أوائل سورة الزخرف. فهيا معنا لنقرأ قول الله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) [9]هل ظن أن قوله (خلقهن العزيز العليم) يمكن أن يقوله أولئك المسرفون الذين وصفهم الله بقوله: (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون) [7]؟
كلا ، إنهم لا يفهمون هذا المقام لله لأنهم لا يعرفون أن الله عزيز عليم ولا يفقهون أنه الخلاق العليم بل يعرفون أنه خلاق فقط ولكنه لا يعلم ما خلق ولا يدري بما صعد وبما هبط سبحانه وتعالى عما يقولون. وعليه: فالصفتان في نهاية الآية هي مقرونة بالله العظيم، لقد وصف نفسه بأنه العزيز أي الغالب على أمره الغني عن خلقه الرفيع قدره ومع ذلك فهو العليم بكل شيء وحي بكل دقه وخبره بل هو لا يخفى عليه من الإنسان شيء من سره وجهره، وعليه: فعلى هؤلاء أن يخافوا بطشه الذي أصاب الأولين، وأن يتخذوه ربا وينبذوا اتباع المسرفين فإن الإسراف هو الذي أبعدهم عن الذكر المبين، وجعلهم من الضالين. ثم بعد هذه الصفات التي لا تخفى على الأذكياء، استرسل الله في وصف آلائه، وتعريف عباده بقدرته، فقال موضحا معنى العزيز العليم بطريق الالتفات الجميل فقال: (الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون) [10-11]ثم أضاف ما هو أعظم وأوسع فقال: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون) [12و13و14]
ألا ترى معي أيها القارئ المتتبع معنا لهذا الموقع أن هذا الأسلوب القرآني أسلوب ممتع يأخذ اللب بالجمال، ويسمو به في سماء الجلال. لقد بدأ القضية بسؤال واضح الجواب، هو من خلق السماوات والأرض، فالجواب معروف، إنه الله بلا شك ولا ريب ولكنه لم يلفظ الجلالة بل أتى بأهم صفات الله وهو (العزيز العليم) فهو عزيز غالب على أمره غني وهاب لخلقه، وهو عليم بشأن كل شيء وحي، ولا يخفى عليه شأن ولا شيء، ولكي يوضح هذه العزة وهذا العلم الذي اختص بها الله أتى بالآيات التي تلي هذه الصفات والتي سبق أن أوردناها حتى النهاية، فهي تبدأ بتمهيد الأرض ويتوسطها إنزال الماء من السماء بقدر، فإذا به كل حي يحيا وينشر، ثم وهذا يدل على أننا سنخرج من الموت وسنحشر، فلنكن على استعداد لهذا اليوم الأكبر ثم تنتهي الآيات بخلق الأزواج كلها ومنها الفلك والأنعام التي سخرت لنركبها فكل ذلك مسخر لنا بفضل الله الذي ذللها ويسرها فإذا نحن على ظهورها مستوون وعلى مرساها ومجراها مسيطرون وبهذا فلا بد أن نكون لله ولنعمته ذاكرين ولربنا مسبحين شاكرين فلولاه ما كنا لهذه القوى مقرنين ومن رزقه وفضله بها مبتغين وعليها إلى كل بر وبحر منتقلين، إنه نعمة وفضل للعالمين ومتاع إلى حين فلا نندفع إليه متكاثرين ولا نفخر به متنافسين ولا نفرح به متعادين. لأنه فان ونحن فانون: (وإنا إلى ربنا لمنقلبون)
لنلقى منه الجزاء بما فعلنا، ولنرى حاضرا ما عملنا، فكيف ننسى العزيز العليم؟ الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ثم خلق الإنسان وكرمه وسخر له ما فيهما إنه الجدير بأن يعبد ويحمد ويرجى ويقصد، وعليه يتوكل ويعتمد، فهو الله أحد، الله الصمد.خلقهن العزيز العليم ¶ أهلا أخي القارئ: إننا ندعوك بلطف إلى أوائل سورة الزخرف. فهيا معنا لنقرأ قول الله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) [9]هل ظن أن قوله (خلقهن العزيز العليم) يمكن أن يقوله أولئك المسرفون الذين وصفهم الله بقوله: (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون) [7]؟ ¶ كلا ، إنهم لا يفهمون هذا المقام لله لأنهم لا يعرفون أن الله عزيز عليم ولا يفقهون أنه الخلاق العليم بل يعرفون أنه خلاق فقط ولكنه لا يعلم ما خلق ولا يدري بما صعد وبما هبط سبحانه وتعالى عما يقولون. وعليه: فالصفتان في نهاية الآية هي مقرونة بالله العظيم، لقد وصف نفسه بأنه العزيز أي الغالب على أمره الغني عن خلقه الرفيع قدره ومع ذلك فهو العليم بكل شيء وحي بكل دقه وخبره بل هو لا يخفى عليه من الإنسان شيء من سره وجهره، وعليه: فعلى هؤلاء أن يخافوا بطشه الذي أصاب الأولين، وأن يتخذوه ربا وينبذوا اتباع المسرفين فإن الإسراف هو الذي أبعدهم عن الذكر المبين، وجعلهم من الضالين. ثم بعد هذه الصفات التي لا تخفى على الأذكياء، استرسل الله في وصف آلائه، وتعريف عباده بقدرته، فقال موضحا معنى العزيز العليم بطريق الالتفات الجميل فقال: (الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون) [10-11]ثم أضاف ما هو أعظم وأوسع فقال: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون) [12و13و14] ¶ ألا ترى معي أيها القارئ المتتبع معنا لهذا الموقع أن هذا الأسلوب القرآني أسلوب ممتع يأخذ اللب بالجمال، ويسمو به في سماء الجلال. لقد بدأ القضية بسؤال واضح الجواب، هو من خلق السماوات والأرض، فالجواب معروف، إنه الله بلا شك ولا ريب ولكنه لم يلفظ الجلالة بل أتى بأهم صفات الله وهو (العزيز العليم) فهو عزيز غالب على أمره غني وهاب لخلقه، وهو عليم بشأن كل شيء وحي، ولا يخفى عليه شأن ولا شيء، ولكي يوضح هذه العزة وهذا العلم الذي اختص بها الله أتى بالآيات التي تلي هذه الصفات والتي سبق أن أوردناها حتى النهاية، فهي تبدأ بتمهيد الأرض ويتوسطها إنزال الماء من السماء بقدر، فإذا به كل حي يحيا وينشر، ثم وهذا يدل على أننا سنخرج من الموت وسنحشر، فلنكن على استعداد لهذا اليوم الأكبر ثم تنتهي الآيات بخلق الأزواج كلها ومنها الفلك والأنعام التي سخرت لنركبها فكل ذلك مسخر لنا بفضل الله الذي ذللها ويسرها فإذا نحن على ظهورها مستوون وعلى مرساها ومجراها مسيطرون وبهذا فلا بد أن نكون لله ولنعمته ذاكرين ولربنا مسبحين شاكرين فلولاه ما كنا لهذه القوى مقرنين ومن رزقه وفضله بها مبتغين وعليها إلى كل بر وبحر منتقلين، إنه نعمة وفضل للعالمين ومتاع إلى حين فلا نندفع إليه متكاثرين ولا نفخر به متنافسين ولا نفرح به متعادين. لأنه فان ونحن فانون: (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) ¶ لنلقى منه الجزاء بما فعلنا، ولنرى حاضرا ما عملنا، فكيف ننسى العزيز العليم؟ الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ثم خلق الإنسان وكرمه وسخر له ما فيهما إنه الجدير بأن يعبد ويحمد ويرجى ويقصد، وعليه يتوكل ويعتمد، فهو الله أحد، الله الصمد.
وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها
أهلا بك أيها القارئ المتتبع بإمعان لهذا الموقع الخاص بالقرآن. إننا ندعوك باحتفاء وتلطف، إلى آية أخرى من سورة الزخرف، إنها الآية التي يقول الله فيها: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم) [61] كثير من المفسرين قالوا إن الضمير في (أنه ) يعود إلى (ابن مريم) المذكور في قوله تعالى قبل ذلك: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) [57]وليت شعري ما الذي دعاهم إلى ذلك وما الذي خدعهم بذلك؟ إنه الوهم الذي تسرب إلى أذهانهم من الإسرائيليات بأن المسيح عليه السلام عائد إلى الدنيا وأنه حي وما مات ، ولعمري إنها لفرية انخدع بها الغافلون من ضعفاء المسلمين الذين لم يتأملوا القرآن المبين ولم يتمعنوا في كلام رب العالمين، الذي يقول مخاطبا لخاتم النبيين هو خطاب للناس أجمعين: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون) [الأنبياء:34]والفكرة في سياق النص تفيد العموم فلقد عمت كلمة (البشر) كل الناس بلا استثناء ولو كان المسيح مستثنى من البشر لأوضحه الله ولكنه أكد موته فقال: (إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) لقد توفاه الله ورفع جسده إليه ليطهره من الكافرين وحماه من الذين أرادوا قتله وصلبه حاقدين فهو ميت وليس من الخالدين.
وعليه: فإن عيسى عليه السلام لن يعود إلى الحياة إلا في يوم البعث والقيام واقرأوا الدليل في قول الجليل: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة)إذن فالمتبعون له لن يجدوه إلا يوم القيامة، فلن يروه في الدنيا؟ ولن يكون على الساعة علامة، ثم اقرأوا قول الله في ختام الآية: (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون)
فلم يقل إن الحكم بينهم سيكون حين يعود المسيح وينزل في الدنيا بل إن الحكم بينه وبين الماكرين به إنما سيكون في الأخرى وهذا يؤكد أنه لن يعود في الدنيا أبدا.
فكيف يقول الناس: إنه علم للساعة، إنه كلام لا يقوله إلا الذي لا يعرف اللغة وليس له من لبنها رضاعة، ولا يزجيه للناس إلا فاسد البضاعة. وكيف لا والله يقول عن المسيح ما يحكيه المسيح عن نفسه (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) [مريم:33]إنه تحديد لمراحل رحلته في الوجود بثلاث نقلات لا تزيد فهو كغيره من الناس ولادة ثم موت ثم بعث، وليس قبل الآخرة خلود، ولو كان له حالة زائدة أو حياة خالدة لقال الله: والسلام علي يوم ولدت (ويوم أعود) ويوم أموت ويوم أبعث حيا ، لأن الله لا يفرط في الكتاب من شيء ولا يخفى على الناس من الحقائق الضرورية شيء فكيف يخفى على الناس عودة المسيح بن مريم. إن هذا لا يليق بالله الذي يعلم ما لا نعلم، ومن ادعى علما لم يأت من الله فقد افترى وأجرم، وهو في الناس الأضل الأظلم،
ثم إن أردتم المزيد من التأكيد على أن المسيح لن يعود فإليكم الخبر الشافي المفيد. إنه اجتماع للرسل أجمعين أمام رب العالمين، ملك يوم الدين، في هذا اليوم يوجه إليهم السؤال عن نتائج الإرسال، فاسمعوا الكلام باهتمام واصغوا لقول الله العلام، (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) [المائدة:109]
ثم يتوجه الكلام في ذلك اليوم إلى عيسى بن مريم من ربه الذي أرسله وهو به أعلم، فيذكره بالذي أعطاه له ربه وعليه وعلى أمه أنعم، وهو كلام حق لا ينكر وهو واقع محتم ولهذا فإن عيسى لا يجيب ولا يتكلم لأنه يدري أن قول الله الحق وهو الأعلم. إنه حوار يدور في يوم القيامة فيه تذكير بأحوال ونعم نالها وعايشها رسول الله عيسى في حياة واحدة في الدنيا ، فلو كان له عودة لذكرت في هذا الحوار الرباني الأعظم مع عبده عيسى بن مريم ولو كانت له حياة ثانية ونزول قبل يوم القيامة لأوضحها الله العليم الجليل في هذا الحوار الجميل. ثم لماذا نتوه وننساق في التطويل، والكلام بين أيدينا يحسم الجدال ويفحم الضلال، ذلك هو ما يقوله يوم القيامة ذو الجلال، موجها إلى رسوله عيسى هذا السؤال: (وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) [المائدة:116و117] إن هذا السؤال والجواب لا يدل إلا على حياة واحدة لعيسى بلا شك وبلا ارتياب. فلو كان له عودة إلى الدنيا قبل يوم القيامة لما صح أن يوجه إليه هذا السؤال من ربه ذي الجلال فهو يعلم أن الذين جعلوا عيسى إلها قد ضلوا منتهى الضلال وأنهم سيبقون على ضلالهم إلى يوم القيامة ولقد استمروا كذلك بلا جدال ولهذا صح توجيه السؤال إلى عيسى عليه السلام فكان جوابه هو الحق الذي يجب أن يقال، وعليه فإن القول بعودته إلى الدنيا قبل يوم القيامة هو الغفول الذي يتبع أوهامه فلا دليل له إلا الغوى ولا علم لديه ولا هوى فليس عيسى علما للساعة، ولن يعود قبلها ولو حتى بنصف ساعة، بل هو إنسان كغيره من الرجال كما أخبر الله عنه وقال بحصر وقصر يقفل المجال: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) [59]أفهمتم ما قاله ذو الجلال؟ لقد وصف الله عبده عيسى بأنه لبني إسرائيل فقال والله قادر على أن يخلق ما يشاء في كل حال، ولهذا أردف الآية بالبيان فقال: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) [60]أي لو شاء لجعل بدلا عن الناس في الأرض ملائكة يعيشون فيها ويموتون ويخلف بعضهم بعضا كما هو حال الناس في هذه الدنيا. فكيف لا يقدر أن يخلق عبدا من عباده بلا أب ولكن بأم، ألم يخلق من التراب آدم؟ فكيف تستنكر حال عيسى بن مريم وعلى هذا الأساس جعله الناس إلها فضلوا وعلى ضلالهم جادلوا وفي الخصام العنيد استرسلوا فهم للعقول بالباطل أبطلوا.
بهذا أكتفي في التدليل على عدم عودة عيسى إلى الدنيا ولو استرسلت لطال الكلام وثقل على القراء، ولكني رغم ذلك قد أسمعهم يقولون: إذا كنت تقول: إن قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة) لا تخص عيسى ولا يعود إليه الضمير. فإلى أين يعود الضمير في قوله (وإنه) مع أن الذي يسبق الضمير في الآية إنما هو اسم عيسى عليه السلام. والمعروف لغويا أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور. نعم قد يقول البعض هذا المقال وهو متوقع لمن تعود على اتباع الأقوال، واعتمد على المنقول، وهجر العقل والمعقول، لكن المتأمل بإمعان والمتمرس بأساليب البيان، يدرك أن الضمير في الآية يعود إلى القرآن. ولي على ذلك أدلة راسية البنيان، قوية البرهان:
الدليل الأول:
بقية الآية وما بينها فاقرأوا معي: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم* ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين). [61و62]إن النهي عن الامتراء في الساعة يدل على أن المراد أن القرآن الكريم المنزل من الله العليم، فيه علم بل هو العلم للساعة فلا يصح ولا يقبل بعده الامتراء بها، ثم لا يصح أبدا من المسلم المتبع للرسول الأمين الصادق أن يبعده الشيطان عن اليقين بالساعة فإنه رجيم مارق، هذا أول الأدلة فهو يؤكد أن القرآن فيه العلم اليقين بالساعة، وهو علم من الله الذي عنده علم الساعة، فلا يمتري بها إلا خاسر البضاعة.
أما الدليل الثاني:
فهو قوله تعالى بعد ذلك: (ولما جاء عيسى بالبينات) . . الخ الآية63.إن ذكر اسم عيسى ظاهرا غير مضمر يدل على أن ما جاء من آيات تتحدث عن عيسى قبل هذه الآية وبعدها قد دخلها وقد طرأ عليها استطراد عن موضوع آخر هو موضوع الساعة والتي تبدأ بقوله: (وإنه لعلم للساعة) إنها الآيتان 61و62، التي تنتهي بقوله: (إنه لكم عدو مبين)إن هذا الاستطراد الجملي خلال الآيات المتحدثة عن عيسى قد أوجب إعادة اسم عيسى ظاهرا غير مضمر فقال: (ولما جاء عيسى بالبينات . . الخ). ولو كانت الآية التي نحن بصددها وهي : (وإنه لعلم للساعة) تعني المسيح لما احتاج الموضوع إلى ذكر اسم عيسى ظاهرا بل كان يكفي أن يقول: (ولما جاء عيسى بالبينات) بالضمير فقط وذلك على فرض أن الضمائر كلها تعود إلى عيسى. لكن لما كان ضمير (وإنه لعلم للساعة) لا يعني عيسى بل يعني القرآن كان لا بد أن يعاد اسم عيسى وبشكل ظاهر غير مضمر ليدل على أن الكلام عاد إليه بعد انقطاعه عنه بالاستطراد عن الساعة، أليس هذا ما يدل على ما ذهبت إليه.
وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية لا يجهله أحد ثم لكي تتأكدوا من جديد بأن عيسى إلى الدنيا لن يعود فاقرأوا بقية الآيات بعناية من أولها إلى النهاية لتجدوا أن من خالف من الأحزاب موعودون معه جميعا إلى يوم الحساب وفي هذا فصل الخطاب، فلنقرأ معا بعناية من أول الآيات إلى النهاية، (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعوني * إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) [63و64]هذه هي عقيدة عيسى ودعوته فليس ابنا لله ولا إلها بل عبدا يدعو قومه إلى عبادة الله ربهم وربه، فماذا حدث بعد هذا: (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) [65]فمتى هذا اليوم؟ وماذا ينتظر القوم: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) [66]إن الموعد المنتظر للجميع إنما هو قيام الساعة لا قبلها ولو بنصف ساعة، فمن يدعي عودة المسيح كذاب وهو من جملة الأحزاب الذين اختلفوا فيما بينهم فالويل لهم من عذاب ربهم فالساعة تبغت المنتظرين لعيسى والعذاب يبهت من افترى، إن هذه الآيات تمحو لكل قائل أوهامه، فلا عودة لعيسى قبل يوم القيامة. إن الله يقول: (وإنه لعلم للساعة) بسكون اللام في كلمة (علم) ولم تكن بفتح اللام كما يدعي أولوا الأوهام، فالعلم بالساعة خاص بالله وهو عنده لا سواه، ولكنه رحمة بالعباد جعل القرآن يحتوي على بعض ما يجري لهم يوم المعاد، وبشكل مجمل قليل. وليس موغلا في التفصيل ذلك أن علم الساعة عظيم مهيل لا يحيط به إلا الله الجليل. ولهذا جاءت كلمة علم في الآية نكرة لتدل على التقليل (وإنه لعلم للساعة) إنه علم قليل ولكنه عظيم مهيل، والارتياب به وبيل، فيجب التصديق واليقين لأنه نبأ عظيم من الله رب العالمين، ملك يوم الدين، واليقين بيوم الدين هو طريق المفلحين.
هناك دليل ثالث فيه الإيضاح فلنعد إلى بداية السورة والافتتاح فإن فيها الدليل والمفتاح، ولنقرأ أجمعين، (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [1-4]إن السورة واضحة البيان من بدايتها بأن القرآن موضوعها في بدايتها ونهايتها، بل وفي ثناياها وأوسطها فلقد جاء في وسطها: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) ثم قال: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)وعلى هذا الأساس سيقت بعد هذا قصة فرعون مع موسى حتى انتهت بقوله عن المكذبين والمشركين بالله: (فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) ثم قال: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) إذن فهو قصص يؤكد على وحدانية الله وأنه لا يعبد سواه. وهنا يأتي الاستطراد عن القرآن بقوله: (وإنه لعلم للساعة). . الخ. ثم عاد من جديد ليتحدث عن عيسى فأعاد اسمه الظاهر ليؤكد أن الكلام قبل هذا قد انقطع بالاستطراد فقال: (ولما جاء عيسى بالبينات). . الخ.ولكنه هنا في هذا المقطع المستأنف أكد على قضية التوحيد بشكل شديد فردي عن عيسى قوله: (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) إن كلمة (هو) في قوله: (إن الله هو ربي) لم تأت في غيرها في أمثالها من قول عيسى لقومه، فلقد وردت في آل عمران وفي سورة مريم بدون (هو) مما يدل على أن التأكيد هنا شديد وأن القصة مسوقة لتأييد أن الله لم يجعل من دون الرحمن آلهة يعبدون،
وهكذا تستمر الآيات، لتصل إلى الإخبار عما سيحدث يوم الحساب لمختلف الناس والأحزاب وتبدأ بقوله: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) حتى يقول عن أهل الجنة: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)ثم ينتقل إلى الإخبار عن المجرمين حتى ينتهي بقول: (ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) وبعد: أليس هذا (علم للساعة) أليس هذا ما يؤكد على أنه القرآن فيه علم الساعة المشتمل على البيان الذي لا يعلمه الإنسان إلا من ربه الرحمن والذي تفضل به وفصله في القرآن،
وإذا جلنا سريعا في هذا الكتاب العزيز وبإمعان سنجد علم الساعة والخبر قد ورد في كثير من السور ليعتبر من اعتبر وليتذكر من تذكر وليكون الناس على علم يقين بها ليستعدوا لقدومها. ولن أعدد السور، كلا بل أختار ما العلم بالساعة واضح فيها، ومنها: الوقعة، القارعة، الحاقة، التكوير، الانفطار، المدثر، القيامة، الزمر، بل وهناك: النبأ، والنازعات، والإنسان، والمرسلات. هذه نماذج من السور التي العلم فيها عن الساعة مكرس مكرر، وهناك سور أخرى لم تخل عن التذكير بالأخرى، ولم تخل عن علم للساعة وتكريس للذكرى. فهل بعد هذا تأكدتم أن القرآن علم للساعة وبيان،؟ وأنه لولا القرآن لما علم بها الإنسان؟ (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)فهل بعد هذا البيان اتضح الأمر لكم أيها الإخوان؟ والآن وبعد التأكد أن الضمير في الآية التي في سورة الزخرف هو للقرآن أنتقل بكم إلى سؤال قد يخطر بالأذهان هو:هل هناك أمثال في الآيات القرآنية يعود فيها الضمير للقرآن بهذا الأسلوب وبهذه الصورة؟ والجواب هو: نعم نعم، وبشكل واضح لن يفهم. لنقرأ البقرة لنجد قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) [121]ومع أن هذه الآية تأتي بعد مائة آية من قوله: (يؤمنون به) فالضمير في يتلونه حق تلاوته يعود للكتاب الذي لأهل الكتاب، أما الضمير في قوله: (يؤمنون به) وقوله: (ومن يكفر به) فإنما تعود للقرآن فمعنى الآية أن الذين يتلون الكتاب المنزل قبل القرآن تلاوة الحق واليقين يعلمون أن القرآن من نفس المشكاة فهم به يؤمنون.ولنقرأ في سورة الأنعام آيات يعود فيها الضمير إلى القرآن مع أنه لم يذكر بلفظة قبلها بل بمعناه ومع ذلك عاد إليه الضمير فلنقرأ مثلا : (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) [51](قل إني على بينة من ربي وكذبتم به) [57](وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل) [66]
ولنقرأ في سورة هود لفتة سريعة عن القرآن خلال الحديث عن نوح فقال قبل أن تنتهي قصة نوح بل في بدايتها بشكل مفاجئ: أم يقولون افتراه) . . الخ، ثم عاد من جديد ليواصل الحديث عن نوح، وإذا كان في سورة الزخرف قد جاءت الآية منفردة فلقد عاد الضمير في آية هود إلى القرآن خلال آية لم تكتمل بعد، ولنقرأ في سورة يوسف قوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين) [104]فإلى أين يعود الضمير؟ لا شك أنه إلى القرآن، مع أنه لم يذكر إلا في أولها (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)، بل وفي سورة الحج ورد قوله: (وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد)[16]في حين لم يتقدم في السورة أي ذكر للقرآن بلفظة. بل لقد اختتمت سورة مريم بقوله: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) [97] فالضمير في يسرنا للقرآن، مع أنه لم يسبق له ذكر في السورة بلفظه بل بمعناه وفي مواقع متباعدة وختمت سورة ص بقوله: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين) [86و87] مع أن القرآن لم يذكر إلا في أولها، (ص والقرآن ذي الذكر)[1] وجاء في أواخر سورة يس قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [69]مع أنه لم يذكر إلا في أولها فكيف عاد الضمير بعد هذه الآيات المتوالية؟
ولن أطيل التمثيل، فالموضوع واضح لمن تأمل التنزيل؛ لكني أنبه إلى أنه قد جاء الحديث عن القرآن بشكل مفاجئ في سورة القيامة بدون أي ذكر له فيها ولا علامة، (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) [16-19] بل جاءت سورة كاملة وبدأت بالضمير من البداية ولم يذكر فيها القرآن ولا قبلها، وكأنها تقول: إن القرآن هو الذي لا يخفى على أولي الدراية، (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فإلى أين يعود الضمير في أنزلناه؟ إنه إلى القرآن بلا شك.فكيف نستغرب ونضطرب في الضمير الذي في سورة الزخرف؟ إن الاضطراب إنما هو قصور عن فهم القرآن وانحياز إلى الوهم بدون برهان وإعطاء لعيسى ما لم يقل به الرحمن، فهو ليس علم للساعة ولكنه كما يقول الله عنه في نفس السورة: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) [59]وبعد: فهذا تنبيه احتوى على تصحيح لقضية عيسى بن مريم وتصحيح لمعنى الآيات وتوضيح لأسلوب القرآن الذي جاء بالبينات. وعليه: فإن عودة عيسى بن مريم إلى الدنيا أمر متوهم، ألقاه اليهود في أذهان من لم يفهم، ولم يقدر ربه الأكرم، ولا تدبر القرآن ولا تعلم. لكن من تدبر فإنه يعلم علم اليقين بأن عيسى بن مريم رسول قد خلت من قبله الرسل وهو قد خلا مثلهم ولن يعود إلا يوم يقوم الناس كلهم ليوم المعاد، وفيه سيسأل أمام الأشهاد، وسيجيب بما يدحض كل الأوهام والعناد، ويوضح الأمر للغافلين من العباد، الذين اتخذوا الأهواء آلهة تعبد، وجعلوا العباد أندادا لله الواحد الأحد، تعالى الله وتمجد، (لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) [القصص:88] (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) [الرحمن:26و27]
فهل بعد هذا البيان يرتاب أولوا الألباب؟ وهل بعد آيات القرآن يتردد عقل أو يرتاب؟ كلا كلا إنما هو الحديث الذي يصدق، واليقين الذي يهدي إلى الحق، (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) .وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها ¶ أهلا بك أيها القارئ المتتبع بإمعان لهذا الموقع الخاص بالقرآن. إننا ندعوك باحتفاء وتلطف، إلى آية أخرى من سورة الزخرف، إنها الآية التي يقول الله فيها: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم) [61] كثير من المفسرين قالوا إن الضمير في (أنه ) يعود إلى (ابن مريم) المذكور في قوله تعالى قبل ذلك: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) [57]وليت شعري ما الذي دعاهم إلى ذلك وما الذي خدعهم بذلك؟ إنه الوهم الذي تسرب إلى أذهانهم من الإسرائيليات بأن المسيح عليه السلام عائد إلى الدنيا وأنه حي وما مات، ولعمري إنها لفرية انخدع بها الغافلون من ضعفاء المسلمين الذين لم يتأملوا القرآن المبين ولم يتمعنوا في كلام رب العالمين، الذي يقول مخاطبا لخاتم النبيين هو خطاب للناس أجمعين: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون) [الأنبياء:34]والفكرة في سياق النص تفيد العموم فلقد عمت كلمة (البشر) كل الناس بلا استثناء ولو كان المسيح مستثنى من البشر لأوضحه الله ولكنه أكد موته فقال: (إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) لقد توفاه الله ورفع جسده إليه ليطهره من الكافرين وحماه من الذين أرادوا قتله وصلبه حاقدين فهو ميت وليس من الخالدين. ¶ وعليه: فإن عيسى عليه السلام لن يعود إلى الحياة إلا في يوم البعث والقيام واقرأوا الدليل في قول الجليل: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة)إذن فالمتبعون له لن يجدوه إلا يوم القيامة، فلن يروه في الدنيا؟ ولن يكون على الساعة علامة، ثم اقرأوا قول الله في ختام الآية: (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) ¶ فلم يقل إن الحكم بينهم سيكون حين يعود المسيح وينزل في الدنيا بل إن الحكم بينه وبين الماكرين به إنما سيكون في الأخرى وهذا يؤكد أنه لن يعود في الدنيا أبدا. ¶ فكيف يقول الناس: إنه علم للساعة، إنه كلام لا يقوله إلا الذي لا يعرف اللغة وليس له من لبنها رضاعة، ولا يزجيه للناس إلا فاسد البضاعة. وكيف لا والله يقول عن المسيح ما يحكيه المسيح عن نفسه (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) [مريم:33]إنه تحديد لمراحل رحلته في الوجود بثلاث نقلات لا تزيد فهو كغيره من الناس ولادة ثم موت ثم بعث، وليس قبل الآخرة خلود، ولو كان له حالة زائدة أو حياة خالدة لقال الله: والسلام علي يوم ولدت (ويوم أعود) ويوم أموت ويوم أبعث حيا، لأن الله لا يفرط في الكتاب من شيء ولا يخفى على الناس من الحقائق الضرورية شيء فكيف يخفى على الناس عودة المسيح بن مريم. إن هذا لا يليق بالله الذي يعلم ما لا نعلم، ومن ادعى علما لم يأت من الله فقد افترى وأجرم، وهو في الناس الأضل الأظلم، ¶ ثم إن أردتم المزيد من التأكيد على أن المسيح لن يعود فإليكم الخبر الشافي المفيد. إنه اجتماع للرسل أجمعين أمام رب العالمين، ملك يوم الدين، في هذا اليوم يوجه إليهم السؤال عن نتائج الإرسال، فاسمعوا الكلام باهتمام واصغوا لقول الله العلام، (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) [المائدة:109] ¶ ثم يتوجه الكلام في ذلك اليوم إلى عيسى بن مريم من ربه الذي أرسله وهو به أعلم، فيذكره بالذي أعطاه له ربه وعليه وعلى أمه أنعم، وهو كلام حق لا ينكر وهو واقع محتم ولهذا فإن عيسى لا يجيب ولا يتكلم لأنه يدري أن قول الله الحق وهو الأعلم. إنه حوار يدور في يوم القيامة فيه تذكير بأحوال ونعم نالها وعايشها رسول الله عيسى في حياة واحدة في الدنيا ، فلو كان له عودة لذكرت في هذا الحوار الرباني الأعظم مع عبده عيسى بن مريم ولو كانت له حياة ثانية ونزول قبل يوم القيامة لأوضحها الله العليم الجليل في هذا الحوار الجميل. ثم لماذا نتوه وننساق في التطويل، والكلام بين أيدينا يحسم الجدال ويفحم الضلال، ذلك هو ما يقوله يوم القيامة ذو الجلال، موجها إلى رسوله عيسى هذا السؤال: (وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) [المائدة:116و117] إن هذا السؤال والجواب لا يدل إلا على حياة واحدة لعيسى بلا شك وبلا ارتياب. فلو كان له عودة إلى الدنيا قبل يوم القيامة لما صح أن يوجه إليه هذا السؤال من ربه ذي الجلال فهو يعلم أن الذين جعلوا عيسى إلها قد ضلوا منتهى الضلال وأنهم سيبقون على ضلالهم إلى يوم القيامة ولقد استمروا كذلك بلا جدال ولهذا صح توجيه السؤال إلى عيسى عليه السلام فكان جوابه هو الحق الذي يجب أن يقال، وعليه فإن القول بعودته إلى الدنيا قبل يوم القيامة هو الغفول الذي يتبع أوهامه فلا دليل له إلا الغوى ولا علم لديه ولا هوى فليس عيسى علما للساعة، ولن يعود قبلها ولو حتى بنصف ساعة، بل هو إنسان كغيره من الرجال كما أخبر الله عنه وقال بحصر وقصر يقفل المجال: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) [59]أفهمتم ما قاله ذو الجلال؟ لقد وصف الله عبده عيسى بأنه لبني إسرائيل فقال والله قادر على أن يخلق ما يشاء في كل حال، ولهذا أردف الآية بالبيان فقال: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) [60]أي لو شاء لجعل بدلا عن الناس في الأرض ملائكة يعيشون فيها ويموتون ويخلف بعضهم بعضا كما هو حال الناس في هذه الدنيا. فكيف لا يقدر أن يخلق عبدا من عباده بلا أب ولكن بأم، ألم يخلق من التراب آدم؟ فكيف تستنكر حال عيسى بن مريم وعلى هذا الأساس جعله الناس إلها فضلوا وعلى ضلالهم جادلوا وفي الخصام العنيد استرسلوا فهم للعقول بالباطل أبطلوا. ¶ بهذا أكتفي في التدليل على عدم عودة عيسى إلى الدنيا ولو استرسلت لطال الكلام وثقل على القراء، ولكني رغم ذلك قد أسمعهم يقولون: إذا كنت تقول: إن قوله تعالى : (وإنه لعلم للساعة) لا تخص عيسى ولا يعود إليه الضمير. فإلى أين يعود الضمير في قوله (وإنه) مع أن الذي يسبق الضمير في الآية إنما هو اسم عيسى عليه السلام. والمعروف لغويا أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور. نعم قد يقول البعض هذا المقال وهو متوقع لمن تعود على اتباع الأقوال، واعتمد على المنقول، وهجر العقل والمعقول، لكن المتأمل بإمعان والمتمرس بأساليب البيان، يدرك أن الضمير في الآية يعود إلى القرآن. ولي على ذلك أدلة راسية البنيان، قوية البرهان: ¶ الدليل الأول: ¶ بقية الآية وما بينها فاقرأوا معي: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم* ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين). [61و62]إن النهي عن الامتراء في الساعة يدل على أن المراد أن القرآن الكريم المنزل من الله العليم، فيه علم بل هو العلم للساعة فلا يصح ولا يقبل بعده الامتراء بها، ثم لا يصح أبدا من المسلم المتبع للرسول الأمين الصادق أن يبعده الشيطان عن اليقين بالساعة فإنه رجيم مارق، هذا أول الأدلة فهو يؤكد أن القرآن فيه العلم اليقين بالساعة، وهو علم من الله الذي عنده علم الساعة، فلا يمتري بها إلا خاسر البضاعة. ¶ أما الدليل الثاني: ¶ فهو قوله تعالى بعد ذلك: (ولما جاء عيسى بالبينات) . . الخ الآية63.إن ذكر اسم عيسى ظاهرا غير مضمر يدل على أن ما جاء من آيات تتحدث عن عيسى قبل هذه الآية وبعدها قد دخلها وقد طرأ عليها استطراد عن موضوع آخر هو موضوع الساعة والتي تبدأ بقوله: (وإنه لعلم للساعة) إنها الآيتان 61و62، التي تنتهي بقوله: (إنه لكم عدو مبين)إن هذا الاستطراد الجملي خلال الآيات المتحدثة عن عيسى قد أوجب إعادة اسم عيسى ظاهرا غير مضمر فقال: (ولما جاء عيسى بالبينات . . الخ). ولو كانت الآية التي نحن بصددها وهي : (وإنه لعلم للساعة) تعني المسيح لما احتاج الموضوع إلى ذكر اسم عيسى ظاهرا بل كان يكفي أن يقول: (ولما جاء عيسى بالبينات) بالضمير فقط وذلك على فرض أن الضمائر كلها تعود إلى عيسى. لكن لما كان ضمير (وإنه لعلم للساعة) لا يعني عيسى بل يعني القرآن كان لا بد أن يعاد اسم عيسى وبشكل ظاهر غير مضمر ليدل على أن الكلام عاد إليه بعد انقطاعه عنه بالاستطراد عن الساعة، أليس هذا ما يدل على ما ذهبت إليه. ¶ وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية لا يجهله أحد ثم لكي تتأكدوا من جديد بأن عيسى إلى الدنيا لن يعود فاقرأوا بقية الآيات بعناية من أولها إلى النهاية لتجدوا أن من خالف من الأحزاب موعودون معه جميعا إلى يوم الحساب وفي هذا فصل الخطاب، فلنقرأ معا بعناية من أول الآيات إلى النهاية، (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعوني * إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) [63و64]هذه هي عقيدة عيسى ودعوته فليس ابنا لله ولا إلها بل عبدا يدعو قومه إلى عبادة الله ربهم وربه، فماذا حدث بعد هذا: (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) [65]فمتى هذا اليوم؟ وماذا ينتظر القوم: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) [66]إن الموعد المنتظر للجميع إنما هو قيام الساعة لا قبلها ولو بنصف ساعة، فمن يدعي عودة المسيح كذاب وهو من جملة الأحزاب الذين اختلفوا فيما بينهم فالويل لهم من عذاب ربهم فالساعة تبغت المنتظرين لعيسى والعذاب يبهت من افترى، إن هذه الآيات تمحو لكل قائل أوهامه، فلا عودة لعيسى قبل يوم القيامة. إن الله يقول: (وإنه لعلم للساعة) بسكون اللام في كلمة (علم) ولم تكن بفتح اللام كما يدعي أولوا الأوهام، فالعلم بالساعة خاص بالله وهو عنده لا سواه، ولكنه رحمة بالعباد جعل القرآن يحتوي على بعض ما يجري لهم يوم المعاد، وبشكل مجمل قليل. وليس موغلا في التفصيل ذلك أن علم الساعة عظيم مهيل لا يحيط به إلا الله الجليل. ولهذا جاءت كلمة علم في الآية نكرة لتدل على التقليل (وإنه لعلم للساعة) إنه علم قليل ولكنه عظيم مهيل، والارتياب به وبيل، فيجب التصديق واليقين لأنه نبأ عظيم من الله رب العالمين، ملك يوم الدين، واليقين بيوم الدين هو طريق المفلحين. ¶ هناك دليل ثالث فيه الإيضاح فلنعد إلى بداية السورة والافتتاح فإن فيها الدليل والمفتاح، ولنقرأ أجمعين، (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [1-4]إن السورة واضحة البيان من بدايتها بأن القرآن موضوعها في بدايتها ونهايتها، بل وفي ثناياها وأوسطها فلقد جاء في وسطها: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) ثم قال: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)وعلى هذا الأساس سيقت بعد هذا قصة فرعون مع موسى حتى انتهت بقوله عن المكذبين والمشركين بالله: (فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) ثم قال: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) إذن فهو قصص يؤكد على وحدانية الله وأنه لا يعبد سواه. وهنا يأتي الاستطراد عن القرآن بقوله: (وإنه لعلم للساعة). . الخ. ثم عاد من جديد ليتحدث عن عيسى فأعاد اسمه الظاهر ليؤكد أن الكلام قبل هذا قد انقطع بالاستطراد فقال: (ولما جاء عيسى بالبينات). . الخ.ولكنه هنا في هذا المقطع المستأنف أكد على قضية التوحيد بشكل شديد فردي عن عيسى قوله: (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) إن كلمة (هو) في قوله: (إن الله هو ربي) لم تأت في غيرها في أمثالها من قول عيسى لقومه، فلقد وردت في آل عمران وفي سورة مريم بدون (هو) مما يدل على أن التأكيد هنا شديد وأن القصة مسوقة لتأييد أن الله لم يجعل من دون الرحمن آلهة يعبدون، ¶ وهكذا تستمر الآيات، لتصل إلى الإخبار عما سيحدث يوم الحساب لمختلف الناس والأحزاب وتبدأ بقوله: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) حتى يقول عن أهل الجنة: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)ثم ينتقل إلى الإخبار عن المجرمين حتى ينتهي بقول : (ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) وبعد: أليس هذا (علم للساعة) أليس هذا ما يؤكد على أنه القرآن فيه علم الساعة المشتمل على البيان الذي لا يعلمه الإنسان إلا من ربه الرحمن والذي تفضل به وفصله في القرآن، ¶ وإذا جلنا سريعا في هذا الكتاب العزيز وبإمعان سنجد علم الساعة والخبر قد ورد في كثير من السور ليعتبر من اعتبر وليتذكر من تذكر وليكون الناس على علم يقين بها ليستعدوا لقدومها. ولن أعدد السور، كلا بل أختار ما العلم بالساعة واضح فيها، ومنها: الوقعة، القارعة، الحاقة، التكوير، الانفطار، المدثر، القيامة، الزمر، بل وهناك: النبأ، والنازعات، والإنسان، والمرسلات. هذه نماذج من السور التي العلم فيها عن الساعة مكرس مكرر، وهناك سور أخرى لم تخل عن التذكير بالأخرى، ولم تخل عن علم للساعة وتكريس للذكرى. فهل بعد هذا تأكدتم أن القرآن علم للساعة وبيان،؟ وأنه لولا القرآن لما علم بها الإنسان؟ (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)فهل بعد هذا البيان اتضح الأمر لكم أيها الإخوان؟ والآن وبعد التأكد أن الضمير في الآية التي في سورة الزخرف هو للقرآن أنتقل بكم إلى سؤال قد يخطر بالأذهان هو:هل هناك أمثال في الآيات القرآنية يعود فيها الضمير للقرآن بهذا الأسلوب وبهذه الصورة؟ والجواب هو: نعم نعم، وبشكل واضح لن يفهم. لنقرأ البقرة لنجد قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) [121]ومع أن هذه الآية تأتي بعد مائة آية من قوله: (يؤمنون به) فالضمير في يتلونه حق تلاوته يعود للكتاب الذي لأهل الكتاب، أما الضمير في قوله: (يؤمنون به) وقوله: (ومن يكفر به) فإنما تعود للقرآن فمعنى الآية أن الذين يتلون الكتاب المنزل قبل القرآن تلاوة الحق واليقين يعلمون أن القرآن من نفس المشكاة فهم به يؤمنون.ولنقرأ في سورة الأنعام آيات يعود فيها الضمير إلى القرآن مع أنه لم يذكر بلفظة قبلها بل بمعناه ومع ذلك عاد إليه الضمير فلنقرأ مثلا : (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) [51](قل إني على بينة من ربي وكذبتم به) [57](وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل) [66] ¶ ولنقرأ في سورة هود لفتة سريعة عن القرآن خلال الحديث عن نوح فقال قبل أن تنتهي قصة نوح بل في بدايتها بشكل مفاجئ: أم يقولون افتراه) . . الخ، ثم عاد من جديد ليواصل الحديث عن نوح، وإذا كان في سورة الزخرف قد جاءت الآية منفردة فلقد عاد الضمير في آية هود إلى القرآن خلال آية لم تكتمل بعد، ولنقرأ في سورة يوسف قوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين) [104]فإلى أين يعود الضمير؟ لا شك أنه إلى القرآن، مع أنه لم يذكر إلا في أولها (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)، بل وفي سورة الحج ورد قوله: (وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد)[16]في حين لم يتقدم في السورة أي ذكر للقرآن بلفظة. بل لقد اختتمت سورة مريم بقوله: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) [97] فالضمير في يسرنا للقرآن، مع أنه لم يسبق له ذكر في السورة بلفظه بل بمعناه وفي مواقع متباعدة وختمت سورة ص بقوله: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين) [86و87] مع أن القرآن لم يذكر إلا في أولها، (ص والقرآن ذي الذكر)[1] وجاء في أواخر سورة يس قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [69]مع أنه لم يذكر إلا في أولها فكيف عاد الضمير بعد هذه الآيات المتوالية؟ ¶ ولن أطيل التمثيل، فالموضوع واضح لمن تأمل التنزيل؛ لكني أنبه إلى أنه قد جاء الحديث عن القرآن بشكل مفاجئ في سورة القيامة بدون أي ذكر له فيها ولا علامة، (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) [16-19] بل جاءت سورة كاملة وبدأت بالضمير من البداية ولم يذكر فيها القرآن ولا قبلها، وكأنها تقول: إن القرآن هو الذي لا يخفى على أولي الدراية، (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فإلى أين يعود الضمير في أنزلناه؟ إنه إلى القرآن بلا شك.فكيف نستغرب ونضطرب في الضمير الذي في سورة الزخرف؟ إن الاضطراب إنما هو قصور عن فهم القرآن وانحياز إلى الوهم بدون برهان وإعطاء لعيسى ما لم يقل به الرحمن، فهو ليس علم للساعة ولكنه كما يقول الله عنه في نفس السورة: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) [59]وبعد: فهذا تنبيه احتوى على تصحيح لقضية عيسى بن مريم وتصحيح لمعنى الآيات وتوضيح لأسلوب القرآن الذي جاء بالبينات. وعليه: فإن عودة عيسى بن مريم إلى الدنيا أمر متوهم، ألقاه اليهود في أذهان من لم يفهم، ولم يقدر ربه الأكرم، ولا تدبر القرآن ولا تعلم. لكن من تدبر فإنه يعلم علم اليقين بأن عيسى بن مريم رسول قد خلت من قبله الرسل وهو قد خلا مثلهم ولن يعود إلا يوم يقوم الناس كلهم ليوم المعاد، وفيه سيسأل أمام الأشهاد، وسيجيب بما يدحض كل الأوهام والعناد، ويوضح الأمر للغافلين من العباد، الذين اتخذوا الأهواء آلهة تعبد، وجعلوا العباد أندادا لله الواحد الأحد، تعالى الله وتمجد، (لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) [القصص:88] (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) [الرحمن:26و27] ¶ فهل بعد هذا البيان يرتاب أولوا الألباب؟ وهل بعد آيات القرآن يتردد عقل أو يرتاب؟ كلا كلا إنما هو الحديث الذي يصدق، واليقين الذي يهدي إلى الحق، (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) .
Halaman tidak diketahui