أصبحت غريبة على روحه التي ارتفعت فوق حظوظ هذه الدنيا وتخلت عن كل طموح وعاشت للشعر وحده وفنيت فيه وحده. وأشفق شيلر عليه ورعاه رعاية إنسانية ثم بدأ يضيق به وانصرف عنه. ولا شك أن هذه التجربة كانت من أمر التجارب التي ذاقها في حياته؛ إذ كان شيلر موضع إعجابه واحترامه ومثله الأعلى. وعاد يجرب حظ المعلم الخصوصي البائس بعد أن أخفق في الاستقلال بنفسه والتفرغ الكامل لشعره. وقضى ما يقرب من ثلاث سنين في مدينة فرانكفورت في بيت رجل من رجال المال والبنوك يدعى جونتار. وهناك لقي من المهانة ما لا تحتمله نفسه الحساسة المتكبرة، ولكن القدر عوضه عن ذلك حين وهبه النعمة الوحيدة التي عرفها في حياته. فقد أحب سوزيته جونتار زوجة رجل البنوك والأعمال وبادلته السيدة الرقيقة حبه اليائس، ومدت يدها الحنون إلى روحه الغريقة في الكآبة والظلام. ووجد فيها مثال الإنسانية الجميلة الطاهرة التي جعلته يشعر أنه قريب من الروح الإلهي الخالد، لا بل يشعر أنه تجسد حيا فيها! إن الروح الإلهي لا يستطيع أن يؤمن به إلا الإلهيون كما سيقول في إحدى قصائده المتأخرة. ولقد تمثل له الروح الإلهي في الطبيعة والعناصر، والسماء والأثير، والأرض والنهر، كما تمثل له في «ديوتيما» التي يعيش الآن بقربها ويعبدها ويقدسها. كانت سوزيته هي «ديوتيما» نموذج الجمال والانسجام والحكمة الإغريقية الذي طالما داعب أحلامه وهو يكتب روايته الوحيدة أو يفكر فيها، بل كانت هي الروح الإغريقية نفسها التي طالما اشتاق إليها وانتظر ميلادها الجديد وتعزى بها عن محنة الظلم والفساد والاستبداد الذي انتشرت ظلماته من حوله. ولكنه اضطر أن يغادر البيت مهانا مدحورا، وافترق عن حبيبته التي لم تجد حيلة في الفراق فحبست حبها في صدرها الذي عشش فيه السل وافترس حياتها بعد ذلك بسنوات قليلة. وتعلقت عينه الباكية بتراث ذلك الشعب الذي أتاحت له طبيعته الحرة المتجانسة أن يتحد بالقوى الإلهية الغريبة على عصر يحيا ممزقا بين الطبيعة والروح، والواقع والمثال، والشعور والوعي، والموضوع والذات .. وكان شيلر قد ألم بنفس المشكلة في رسائله الجمالية وقصائده الفلسفية وحاول أن يتغلب عليها بالدعوة إلى التربية الجمالية التي تعيد للإنسان توازنه وانسجامه.
ولكن المشكلة أصبحت عند هلدرلين هي مأساة وجوده كله. وأصبح العالم الأسطوري الذي يحلم بإحيائه هو تجربته الكبرى، ورمز الطهر والقداسة التي يراها ماثلة في كل مظاهر الحياة والطبيعة. وصارت رسالة الشاعر في رأيه هي إعادة القوى الإلهية إلى الحياة عن طريق التغني «بالخالدين» ومناجاتهم بالكلمة الشاعرة. ولم تنفصل هذه التجربة عن تجربة الحزن العميق الذي أحسه وهو يعيش أسير قدر غريب على عالم الآلهة؛ قدر يحطمه ويقهره ويدنس قداسته. لقد حكم على الإنسان أن ينتزع من أحضان الكل الذي كان يحيا معه في سلام وألقى به في هاوية الوحدة والضياع، كما حكم على الشاعر أن يواجه محنته ومحنة عصره البعيد عن نور الخالدين وحكمتهم وجلالهم، وأن يتغنى بهذا العالم وينتظره ويذكر به البشر اللاهين عنه.
عاش هلدرلين من شهر أكتوبر سنة 1798م إلى شهر يونية سنة 1800م مع صديقه ورفيق دراسته الحميم إسحاق فون سنكلير في مدينة هومبورج القريبة من فرانكفورت. وأتم رواية «هيبريون» وبدأ العمل في مسرحية «موت أنبادوقليس»، وكتب عددا كبيرا من قصائده الغنائية الكبرى ومقالاته الفلسفية. وحاول أن يؤسس مجلة «أيدونا» لنشر المبادئ الإنسانية التي يؤمن بها ، ولكن المشروع مات قبل ولادته. وعاد يهيم في البلاد بحثا عن لقمة العيش فعمل فترة قصيرة في بلدة «هاوبتفيل» بسويسرا ثم هجرها وقام برحلته الأخيرة إلى مدينة «بوردو» الفرنسية ليتولى تعليم أبناء القنصل الألماني المقيم فيها. ولكنه لم يلبث أن ترك عمله في ظروف غامضة، وعبر الحدود على قدميه حتى وصل إلى وطنه وقد ظهرت عليه أمارات الاضطراب النفسي والعقلي ... ورجع إلى بلدته «نورتنجن» وعاش مع أمه حتى سنة 1804م، وهناك عكف على ترجمة مسرحيتي أوديب ملكا وأنتيجونا لسوفوكليس، وبعض قصائد «بندار» وأناشيده الأوليمبية والبيثية، وكتب مجموعة من أنضج أشعاره. وازداد عليه المرض فغادر بيت الأم وعاد يتنقل بين البلاد حتى استقر في مصحة الأمراض العقلية في مدينة «توبنجن». ولما تأكد الأطباء من خطورة مرضه ويئسوا من شفائه تسلمه النجار الطيب «تسيمر» وآواه في بيته فعاش فيه بقية عمره كالشبح الهادئ الهائم في ليل الجنون. وأقبل الموت فخلصه من حلمه أو من نومه الطويل في اليوم السابع من شهر يونيو سنة 1843م.
ظل هلدرلين يقول الشعر حتى بعد أن غاب عن الوعي والحياة ولم يعد يهزه شيء مما يجري حوله في عالم السياسة أو الأدب.
6
ولكنه لم يزد عن بضع قصائد قصيرة أو أبيات قليلة كتبها مرضاة لزواره المحبين أو المتطفلين، وكانت أشبه بالبروق المفاجئة أو الكلمات التي تند عن شفتي أخرس. أما قصائده الكبرى المتأخرة التي كتبها خلال صراعه مع المرض بين سنتي 1801م و1804م (كالعودة للوطن والتجوال ونهر الراين والاحتفال بالسلام والوحيد وباطموس وذكرى وإلى العذراء ... إلخ، وغيرها من القصائد التي ستجد مقتطفات منها في هذا الكتاب) فقد أخذت تحلق في أجواء بعيدة موغلة في الغموض والوحشة والظلام، وصارت كلماتها أشد وحدة وكتمانا مما كانت في قصائده السابقة، وطرقت معاني جديدة وصورا ورموزا كثيفة توشك أن تستعصي على الفهم. إنها الآن تأتي من بعد سحيق، وتعبر عما يتعذر التعبير عنه، وتحطم القواعد المنطقية والنحوية، وتميل إلى التركيز والانغلاق حتى تكاد الجملة أن تكون قوقعة مستقلة عن جاراتها، وتكاد الكلمة أن تحمل من المعاني أكثر مما تحتمل، وتتعمد أن تخفي وتكتم أكثر مما تعبر وتفصح. ويبدو أن هلدرلين في هذه الحالة العصيبة من حياته قد ازداد وعيا برسالته كشاعر عراف ملهم ومنشد وبشير ونذير، بالمعنى الأصيل الذي أشرت إليه من كلمة الشاعر. لقد ابتعد عن عذابه الذاتي، وأصبح شعره - إن جازت هذه الصفة! - شعرا «موضوعيا» يعبر عن قوى كونية وإلهية أكبر منه ومن قدره، واتحدت في رؤيته صورة شعبه بصورة الشعب اليوناني القديم، وتعانقت الروح الكلاسيكية والروح المسيحية، وديوتيما والعذراء، وديونيزيوس والمسيح، وآسيا وأوروبا. لم يعد في الحقيقة يكتب الشعر، بل صار الشعر - كما قال رامبو عن نفسه - يملى عليه وينطق بلسانه، كما أصبح كل ما يعنيه أن يقول كلمته، سواء سمعها الناس أو لم يسمعوها:
لأن كل السماويين يطلبون الضحايا،
وكلما توانى الناس عن تقديمها
لم ينتج عن ذلك خير أبدا؛
لقد خدمنا أمنا الأرض
Halaman tidak diketahui