الإهداء
تمهيد
هلدرلين
الوطن
الطفل والصبي
الثائر
الوحيد
العاشق
العابد
الصامت
Halaman tidak diketahui
لوحة بحياة هلدرلين وأعماله وعصره
نصوص مختارة
من قصائده الأولى1
قصائد من مرحلة النضج
من أناشيد الليل
خبز ونبيذ1
المصادر
الإهداء
تمهيد
هلدرلين
Halaman tidak diketahui
الوطن
الطفل والصبي
الثائر
الوحيد
العاشق
العابد
الصامت
لوحة بحياة هلدرلين وأعماله وعصره
نصوص مختارة
من قصائده الأولى1
Halaman tidak diketahui
قصائد من مرحلة النضج
من أناشيد الليل
خبز ونبيذ1
المصادر
هلدرلين
هلدرلين
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى أستاذي الدكتور عبد الرحمن بدوي.
Halaman tidak diketahui
تحية التقدير، للرائد الكبير.
تمهيد
شعره صعب ...
وهو - كحياة صاحبه - يفيض بالألم والعذاب، وتحف به المخاطر والمتاعب والصعاب. هو كالطير الغريب الوحيد الذي يأتي من بلاد بعيدة ويسافر لبلاد مجهولة. وهو كالصوت الجليل المخيف الذي يعلن نبوءة الآلهة على لسان كاهن مذهول إلى إخوته من البشر الحيارى المذهولين. لكنه مع ذلك أو بسبب ذلك يلمس القلب ويهزه وينفذ إلى الأغوار. إنه ينقلك على الفور إلى الشاطئ البعيد، يبكيك شوقا إلى المثل العزيزة المستحيلة، يملؤك إحساسا بالبطولة والانكسار، بالنشوة والعذاب، بالانتصار والاستشهاد. ليس غريبا أن يسمى صاحبه «شاعر الشعر» و«شاعر الشعراء». وليس غريبا أن يتفق أهله وغير أهله على أنه من أعظم من أنشد الشعر في لغته وفي كل اللغات، ومن أعظم من تعذب به وجن بسببه. وكما تسكن جنيات البحر في الماء، سكن هذا الشاعر في نبع الشعر. لم يكتف بالشرب منه أو التطهر بمائه أو سقي الندامى والعطاش. بل سكن فيه طول حياته، حتى أصبحت الحياة عنده هي الشعر، والشعر هو الحياة.
لذلك كان الشعر بيته ولحده، نعمته ونقمته. كان قدره.
ذلك هو فريدريش هلدرلين (1770-1843م) الذي وهب الشعر كل شيء، فأعطاه كل شيء وأخذ منه كذلك كل شيء؛ أعطاه سره الخالص، وامتلك في مقابله كل حياته الواعية وغير الواعية، ثم هوى به في ليل الجنون الطويل فعاش نصف عمره الأخير في ظلامه. ولعله قد عرف أن الفن أشبه بإله أسطوري نهم للدماء، لا يرضى عن الضحية حتى يمتص آخر قطرة في عروقها ؛ عندئذ يمنحها البركة ويلقي عليها وشاح الخلود. وقد أخلص هلدرلين لفنه وخشع في محرابه وقدم حياته قربانا له. وأحس بفطرته النقية الورعة أن شجرة العبقرية تمد جذورها في أرض التعاسة والعذاب والمأساة، فلم تنم شجرته الطيبة حتى دفع الثمن بأكمله؛ تجاهله عصره، وانكسر قلبه، وضاع في المتاهة التي لا يرجع منها أحد.
كانت نفسه الحيية الوديعة تطل من نظرات عينيه الطيبتين الشاردتين اللامعتين ببريق غريب، كما كانت تطل من قسمات وجهه الجميل الرقيق، وكآبته ووحدته وعجزه عن التعامل مع الناس، وإخفاقه المستمر في الحب والحياة. ولكن هذه النفس الوديعة كانت تطوي في أعماقها شاعرية تتأجج بالشوق إلى مثال عال يبدو كالقمة المختفية وراء الغيوم، وتسعى لبعث الحياة في شرايين عالم أسطوري جميل كان يزهو في الزمن القديم بالآلهة والقديسين والأبطال الخالدين. وكانت هذه الشاعرية تنبع من حياة باطنية تائهة في رؤية دينية وأسطورية عميقة، مستغرقة في تجربة كونية محيطة بالقوانين الأبدية المتحكمة في النشوء والتغير والوجود، مستسلمة للقوى الإلهية المسيطرة على القدر؛ القدر الذي شاء له الوحدة والعذاب والجنون، ومع ذلك استسلم له في خشوع وانكسار، وظل يحييه في كل أشعاره وينتظره ويبشر بموكبه الرائع.
وهلدرلين شاعر متوحد ووحيد.
ولا نقصد بتوحده ووحدته أن نرسم له صورة رومانسية حالمة تنشر حولها ظلال الحزن؛ فهذا أبعد شيء عن بالنا وأبعد شيء عن الصواب. ألم يقل في مسرحيته التي سيأتي الحديث عنها إن التوحد هو الموت؟ ألم يقل إن الحالمين يندر ظهورهم في العهود الطيبة؟ ألم يضع الإنسان في قلب الشبكة التي تلتقي عندها خيوط الطبيعة والبشر والسماويين الخالدين؟ ألم يتغن «بالروح الذي يشارك فيه الجميع»، ويتحقق معه السلام بعد كل خصام، والانسجام والتجانس بعد كل نزاع وشقاق، ويرويه الإنسان بعرقه وجهده وجده ونشاطه؟ ألم يؤمن دائما بالفعل، وبأن الشعر يمكن في بعض الأوقات أن يهدي إلى الفعل، بل أن يصبح هو نفسه فعلا ويصبح الشاعر إذا اقتضى الأمر ودعت المحنة ثائرا «يحطم أوتاره التعيسة ويحقق ما كان يحلم به الفنانون»؟
نعم ! كان هلدرلين فردا وحيدا، وكذلك يكون كل فنان وينبغي أن يكون. ولكن الفنان الصادق يعرف أيضا أنه لن يكون فردا بحق إلا إذا كان فردا في مجتمع، ومن أجل مجتمع، يعطيه ويبذل له من نفسه، ويشقى لكي يسعد ويرقى. وها هو ذا هلدرلين يؤكد هذا المعنى في قصيدة له (شجر البلوط) فيقول: «كل واحد منكم عالم مستقل، أشبه بالنجوم في السماء، فعيشوا معا في اتحاد حر.»
Halaman tidak diketahui
هو إذا يريد أن يعيش الإنسان فردا في اتحاد حر أو جماعة حرة يقوم بين أعضائها حوار مشترك. وإذا كان قد اضطر أن يلوذ بوحدته فرارا من قسوة الحياة والمجتمع، فإنه لم يمجد تلك الوحدة التي تعني الانعزال والانطواء على الألم والمرارة. وإذا كنا نقول إنه وحيد فإن وحدته لا تعني انفراده في مواجهة قدره البائس فحسب، بل تعني كذلك تفرده بين شعراء بلده وعصره.
إن من الخطأ أن نحاول وضعه في تيار أو حركة أو مدرسة أدبية، لأنه سيخرج منها جميعا ويبقى ظاهرة فريدة في حياته وشعره جميعا. قد يضعه بعض النقاد ومؤرخي الأدب في الحركة الهيللينية الجديدة التي اتجهت للمحاكاة الخلاقة للروائع الإغريقية والمثل الإغريقية، وقد يضمه البعض للتراث الإنساني والديني (البروتستنتي) بوجه عام أو لنزعة التصوف والتطهر التي ازدهرت في منطقة «شفابن» التي نشأ فيها،
1
وقد يتحدث عنه البعض حديثهم عن شاعر كلاسيكي أو رومانتيكي بحسب نظرتهم إليه من جهة الأسلوب الرصين والشكل المحكم أو من جهة العاطفة الأسيانة والموقف المأساوي الحزين. وقد نضمه إلى طائفة كبيرة من الشعراء من مختلف البلاد والعصور، شاركهم الإيمان بوظيفة الشعر الدينية قبل كل وظيفة سواها. قد نفعل هذا كله، ولكن هلدرلين يظل شاعرا وحيدا وفريدا بكل معنى الكلمة .. بل إن كتب تاريخ الأدب نفسها لا تضعه مع الكلاسيكيين ولا الرومانتيكيين، وإنما تفرد له مكانا بينهما مع أديب آخر عذبه قدره وصارعه حتى سقط، وهو الكاتب المسرحي والقصصي العظيم هينريش فون كلايست.
ومن الصعب تفسير هذه الوحدة أو تحديد هذا التفرد. فهلدرلين شاعر اجتمعت في إنتاجه الخصائص القومية والأجنبية. لقد تأثر في صباه وشبابه الباكر بشعر «كاوبشتوك» (1724-1803م) الديني وعاطفته المتدفقة وعنايته بالبحور والأوزان القديمة. ثم تأثر بشعر «شيلر» (1759-1805م) الفلسفي والمثالي ولغته الخطابية العالية قبل أن يكتشف لغته وأنغامه الخاصة به. كما تأثر منذ صباه بالشعراء والكتاب الإغريق والرومان الذين درسهم وأحبهم وترجم عن بعضهم - مثل بندار وسوفوكليس وأوفيد وفرجيل وهوراس - وشعره يحقق التآلف التام بين العاطفية والروحانية وبين ما سماه «سكون الجمال»، بين الألم والجلال، والعذاب والأحكام، والرغبة في الإصلاح إلى حد الغضب والتمرد، والرؤية الغيبية المحلقة في آفاق السماويين والخالدين. وهو في هذا كله لا يجاريه شاعر ألماني آخر. فطبيعة موهبته الشعرية هي المسئولة عن تميزه ومأساته في آن واحد. لقد كان شاعرا وحسب، ولم يسمح له الشعر بأن يكون شيئا آخر أو يطمح إلى شيء آخر. ولذلك عاش للشعر وهلك بسببه. وليس من الممكن أن نفصل بين شعره وقدره. وليس من الممكن أيضا أن نفصله عن تطوره المذهل في غضون ست سنوات هي التي أتيحت له منذ بدأ يكتب شعره الناضج الواضح الصافي سنة 1797م إلى أن بدأ يغوص في لجة الجنون حوالي سنة 1804م، أي منذ أن أصبح على وعي كامل برسالته كشاعر «وسيط» بين الرب والبشر، واجبه أن يبلغهم وحيه الذي يهبط عليه، على نحو يذكرنا بما كان يفعله الكاهن في الديانات القديمة أو الشاعر بالمعنى العريق الأصيل (الفاتيس كما كان يسميه الرومان)
2
الذي يعبر كذلك عن الساحر والعراف والمتنبئ بالمستقبل ورائد القوم ولسانهم الناطق بوحي الأرباب والآباء.
ولد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة 1770م في بلدة «لاوفن» الصغيرة على نهر النيكر. ومات أبوه الذي كان معلما في مدرسة الدير القائمة في هذه البلدة وهو طفل صغير، فتزوجت أمه عمدة مدينة «نورتنجن». ودخل المدرسة اللاتينية في هذه المدينة ثم انتقل منها إلى مدرسة الدير في بلدتي ماولبرون ودنكندورف. واستجاب لرغبة أمه الطيبة المسكينة - التي كان يشعر أنه مسئول عن بكائها الذي لا ينقطع، كما كان يحبها حبا يقرب من العبادة - فدخل معهد الوقف الديني الشهير في مدينة «توبنجن» ليدرس اللاهوت من سنة 1788م إلى سنة 1793م. واحتمل مرارة الحياة الخشنة الصارمة بين جدران هذا المعهد أو بالأحرى هذه الزنزانة اللاهوتية. ولكنه صمم بينه وبين نفسه على الهروب من أغلال اللاهوت والانصراف إلى موهبته الشعرية المتفتحة.
كان هلدرلين في الثامنة عشرة من عمره عندما دخل هذا المعهد. وكان في هذه الفترة متأثرا بشخصية شيلر وشعره الفلسفي، فكتب قصائده الغنائية التي وجهها إلى المثل الإنسانية (كالحقيقة والحرية والجمال والصداقة والحب والشباب والجسارة). ودخل «هيجل» (1770-1831م) المعهد نفسه في خريف ذلك العام (1788م) وأصبحا صديقين حميمين، وعاشا معا في حجرة واحدة من حجرات المعهد الرطبة المظلمة. ثم دخل «شيلنج» (1775-1854م) المعهد بعدهما بسنتين، وتعرف إليه الشاعر عن طريق هيجل. وكان شيلنج موضع إعجاب المعهد كله، لصغر سنه وعبقريته المبكرة. ولكن الشاعر لم يستطع أن يكسب صداقته الحقيقية أبدا؛ إذ كان الفيلسوف الصغير شديد الاعتزاز بنفسه، ميالا إلى النفور بطبعه. أما هيجل فكان أقرب إلى نفسه. فقد جمعت بينهما طباع وعادات وتقاليد غرسها الوطن الواحد فيهما، كما ألف بينهما الطموح الفكري الذي لا يعرف حدا يقف عنده. واشتركا معا في قراءة أفلاطون وروسو وشيلر وكانت ورسائل «ياكوبي» عن مذهب اسبينوزا، وهي التي تعلم منها هلدرلين الكلمة اليونانية القديمة «الواحد والكل»
3
Halaman tidak diketahui
التي أثرت على حياته كلها بعد ذلك وظلت شعاره المعبر عن حضور الإله في كل ما يتجلى لعينيه (وجدير بالذكر أنه سجلها في ألبوم هيجل الشخصي سنة 1791م)!
وإذا خرجنا من أسوار الدير الضيقة لنلقي نظرة على الحياة الفكرية والروحية في ألمانيا في ذلك الحين وجدنا هناك ثلاث قوى تطبع هذه الحياة بطابعها؛ بعث الروح الإغريقية ومحاكاة الروائع القديمة محاكاة خلاقة، وازدهار الحياة الأدبية والفلسفية في أواخر القرن الثامن عشر على يدي جوته وشيلر وكانت وهمبولت وهيردر وأدباء حركة «العصف والاندفاع»، والثورة الفرنسية التي أشرقت فجأة على القارة الأوروبية كأنها فجر الخلاص والأمل في الحرية وتقدم الإنسان، وأرسلت عليها عاصفة مدوية تنذر بالقضاء على ظلم الاستبداد. ولا شك أن شباب ذلك الجيل والأصدقاء الثلاثة قد تعلقت أبصارهم بهذه الأنوار الساطعة وهبت عليهم نسمات من هذه العاصفة الجارفة على حين كانوا يستذكرون دروس الفلسفة واللاهوت في حجراتهم البائسة.
كان شباب الجيل مؤمنين بأن الإنسانية والجمال متجسدان عند اليونان على صورة نموذجية، وكان هيجل وهلدرلين من أشدهم إيمانا بهذه الفكرة. لقد سبقهما فنكلمان؛ مؤرخ الفن القديم وباعث الروح اليونانية الجديدة ببحوثه وأفكاره وإخلاصه المثالي في الكشف عن خصائص تلك الروح
4
وآمنا مثله بأن أفلاطون هو المعبر الأصيل عن تلك النزعة الإنسانية، واشتركا في التحمس لهذه الروح وتزكية شعلتها في نفوس أقرانهما وأبناء جيلهما. وانطلق هيجل من فكرته العميقة عن القدر عند شعراء المأساة اليونانيين، ووجدها شيلنج متحققة في أساطيرهم ونظرتهم الطبيعية القائمة على وحدة الوجود. أما هلدرلين فقد سبر أغوارها ونفذ إلى صميم قلبها عندما اكتشف أنها تعتمد على صلة القرابة الحميمة بين الطبيعة والبشر والأبطال والآلهة الخالدين. كانت التجربة الإغريقية في نظره تعبيرا أصيلا عن علاقة الإنسان بالطبيعة، وكان فنهم تمجيدا للجمال الذي يقوم على هذه الوحدة الحيوية، واحتراما للعواطف العظيمة والانفعالات المقدسة .. وكانت طقوسهم وعاداتهم تخليدا للصداقة والرجولة والشوق إلى حياة بطولية رائعة. ولم يتخل هلدرلين أبدا عن هذه النظرة حتى بعد أن حاصره ليل الجنون، بل لقد زاده بؤس الحياة الاجتماعية شوقا إلى ذلك العالم المنهار.
أما الحركة الفلسفية فكانت قوة أخرى هزت عقول الشباب وقلوبهم. نادى كانت وشيلر وفيلهلم فون همبولت بالحرية والمثالية والكرامة والشخصية الإنسانية المتجانسة الخلاقة، وعبر عنها الكتاب والأدباء الذين ولدوا في السبعينيات من القرن الثامن عشر. وكان لكتابات شافتسبري (1671-1713م) وأشعار شيلر ورسائله الفلسفية والجمالية أثرها في النظر إلى العالم بوصفه كلا واحدا متصل الأجزاء، وهذا الإحساس بكلية العالم - إن صح هذا التعبير - هو الذي جعل هلدرلين يبحث طوال حياته عن الرموز الشعرية الصالحة للتعبير عن العلاقة الباطنة التي تربط الإله بالطبيعة الحية .. بالإنسان أو بالأحرى بطبيعته الإلهية النبيلة ..
أما القوة الروحية الأخيرة التي هزت أبناء ذلك الجيل فهي الثورة الفرنسية. أحسوا أنها فتحت لهم أبواب عصر جديد وفجر جديد. وهل كان من الممكن أن ينجوا من سحر أفكارها وهم يرزحون تحت نير الطغيان الحاكم في مدينة شتوتجارت وفي مدينتهم الصغيرة توبنجن؟ وأسس الطلبة ناديا سياسيا انضم إليه الأصدقاء الثلاثة. وعندما أعلنت الثورة الفرنسية في سنة 1793 أنها خلعت المسيحية عن عرشها ليبدأ عصر العقل احتفل الطلبة في «توبنجن» بغرس شجرة الحرية في ميدان السوق، وراحوا يغنون ويهللون ويرقصون حولها، بل إنهم فوجئوا ذات يوم بالدوق الحاكم يقف أمامهم في قاعة الطعام بالمعهد الديني ويلقي عليهم خطبة مملة غاضبة تنذرهم كل كلماتها بالويل والثبور بعد أن سمع عن أغنياتهم التي كتبوها عن الحرية وأناشيدهم التي رددوا فيها المرسيلييز! ومن يدري؟ فربما بلغت مسامعه إحدى القصائد التي تغنى فيها هلدرلين بالحرية و«بيوم الحصاد حين تحرز عصبة الأبطال النصر، وتقفر كراسي الطغاة ويتعفن عبيرهم».
لقد خيل إليه هو وأصدقاؤه أن ساعة الحرية قد دقت، وأن البطولة الإغريقية بعثت حية في أبطال الثورة الفرنسية. وانتظر الشباب من الثورة الفرنسية والفلسفة الكانتية والأدب الألماني أن يرتفعوا بالوجود الإنساني والعقل الإنساني. وبدا أن المثل الأعلى الذي دعا إليه ليسنج واتخذ أشكالا مختلفة في كتابات هيردر وجوته في شبابه ثم اتخذ أشكالا أخرى أكثر عمقا في مسرحية «إفيجينيا» لجوته ومسرحية دون كارلوس لشيلر؛ بدا أن هذا المثل الأعلى قد أوشك على التحقق. وارتفعت الأصوات في كل مكان منادية بالحرية والمثالية والنهوض بالإنسان والمجتمع. والتف الشباب حول «فشته» - زعيم الفلسفة المثالية ورائد موكب الحرية والقومية - في مدينة «يينا»، وأعلن ناقد الرومانتيكية فريد ريش شليجل من برلين تأييده للفلسفة الجديدة والثورة الفرنسية بوصفهما أبرز اتجاهين في حياة العصر. وظهر لكل إنسان أن الأدب والفكر هما الروضة الوحيدة المزدهرة وسط صحراء البؤس والظلم والإقطاع والاستبداد.
عاش هلدرلين بعد تخرجه من المعهد الديني في توبنجن عشر سنوات مليئة بالحرمان والسعي الخائب من بيت إلى بيت في سبيل لقمة العيش التي كان يشقى في الحصول عليها بالدروس الخصوصية؛ إذ كانت مهنة التعليم وتربية أبناء الأسر هي المهنة الوحيدة الباقية أمام المثقفين والأدباء البائسين الذين بخل عليهم الحظ برعاية ملك أو أمير. وحاول أن يستقل بنفسه ويتفرغ لرسالته وموهبته. وتوسط له شيلر عند السيدة «شارلوته فون كالب» التي كانت على صلة بالحياة الأدبية، ليعمل مربيا لأبنائها في بيتها ببلدة «فالترزهاوزن» (الواقعة في منطقة تورنجن بالقرب من مدينة «جوتا»). وهناك بدأ يكتب روايته «هيبريون» التي نشر شيلر شذرة منها في مجلته «تاليا». وأخفق في مهمته التربوية، وتأكد له إخفاقه في الحياة العملية عندما حاول بعد ذلك أن يستقر في مدينة «يينا» - كعبة المثالية في ذلك الحين - ويعمل مدرسا للفلسفة بجامعتها. وتبين له عجزه مرة أخرى عندما سعى للاتصال بفشته وجوته وهردر، فتجاهلوه ولم يستطيعوا تقدير موهبته حق قدرها. وشعر أن مثالية فشته وكلاسيكية عملاقي فيمار
5
Halaman tidak diketahui
أصبحت غريبة على روحه التي ارتفعت فوق حظوظ هذه الدنيا وتخلت عن كل طموح وعاشت للشعر وحده وفنيت فيه وحده. وأشفق شيلر عليه ورعاه رعاية إنسانية ثم بدأ يضيق به وانصرف عنه. ولا شك أن هذه التجربة كانت من أمر التجارب التي ذاقها في حياته؛ إذ كان شيلر موضع إعجابه واحترامه ومثله الأعلى. وعاد يجرب حظ المعلم الخصوصي البائس بعد أن أخفق في الاستقلال بنفسه والتفرغ الكامل لشعره. وقضى ما يقرب من ثلاث سنين في مدينة فرانكفورت في بيت رجل من رجال المال والبنوك يدعى جونتار. وهناك لقي من المهانة ما لا تحتمله نفسه الحساسة المتكبرة، ولكن القدر عوضه عن ذلك حين وهبه النعمة الوحيدة التي عرفها في حياته. فقد أحب سوزيته جونتار زوجة رجل البنوك والأعمال وبادلته السيدة الرقيقة حبه اليائس، ومدت يدها الحنون إلى روحه الغريقة في الكآبة والظلام. ووجد فيها مثال الإنسانية الجميلة الطاهرة التي جعلته يشعر أنه قريب من الروح الإلهي الخالد، لا بل يشعر أنه تجسد حيا فيها! إن الروح الإلهي لا يستطيع أن يؤمن به إلا الإلهيون كما سيقول في إحدى قصائده المتأخرة. ولقد تمثل له الروح الإلهي في الطبيعة والعناصر، والسماء والأثير، والأرض والنهر، كما تمثل له في «ديوتيما» التي يعيش الآن بقربها ويعبدها ويقدسها. كانت سوزيته هي «ديوتيما» نموذج الجمال والانسجام والحكمة الإغريقية الذي طالما داعب أحلامه وهو يكتب روايته الوحيدة أو يفكر فيها، بل كانت هي الروح الإغريقية نفسها التي طالما اشتاق إليها وانتظر ميلادها الجديد وتعزى بها عن محنة الظلم والفساد والاستبداد الذي انتشرت ظلماته من حوله. ولكنه اضطر أن يغادر البيت مهانا مدحورا، وافترق عن حبيبته التي لم تجد حيلة في الفراق فحبست حبها في صدرها الذي عشش فيه السل وافترس حياتها بعد ذلك بسنوات قليلة. وتعلقت عينه الباكية بتراث ذلك الشعب الذي أتاحت له طبيعته الحرة المتجانسة أن يتحد بالقوى الإلهية الغريبة على عصر يحيا ممزقا بين الطبيعة والروح، والواقع والمثال، والشعور والوعي، والموضوع والذات .. وكان شيلر قد ألم بنفس المشكلة في رسائله الجمالية وقصائده الفلسفية وحاول أن يتغلب عليها بالدعوة إلى التربية الجمالية التي تعيد للإنسان توازنه وانسجامه.
ولكن المشكلة أصبحت عند هلدرلين هي مأساة وجوده كله. وأصبح العالم الأسطوري الذي يحلم بإحيائه هو تجربته الكبرى، ورمز الطهر والقداسة التي يراها ماثلة في كل مظاهر الحياة والطبيعة. وصارت رسالة الشاعر في رأيه هي إعادة القوى الإلهية إلى الحياة عن طريق التغني «بالخالدين» ومناجاتهم بالكلمة الشاعرة. ولم تنفصل هذه التجربة عن تجربة الحزن العميق الذي أحسه وهو يعيش أسير قدر غريب على عالم الآلهة؛ قدر يحطمه ويقهره ويدنس قداسته. لقد حكم على الإنسان أن ينتزع من أحضان الكل الذي كان يحيا معه في سلام وألقى به في هاوية الوحدة والضياع، كما حكم على الشاعر أن يواجه محنته ومحنة عصره البعيد عن نور الخالدين وحكمتهم وجلالهم، وأن يتغنى بهذا العالم وينتظره ويذكر به البشر اللاهين عنه.
عاش هلدرلين من شهر أكتوبر سنة 1798م إلى شهر يونية سنة 1800م مع صديقه ورفيق دراسته الحميم إسحاق فون سنكلير في مدينة هومبورج القريبة من فرانكفورت. وأتم رواية «هيبريون» وبدأ العمل في مسرحية «موت أنبادوقليس»، وكتب عددا كبيرا من قصائده الغنائية الكبرى ومقالاته الفلسفية. وحاول أن يؤسس مجلة «أيدونا» لنشر المبادئ الإنسانية التي يؤمن بها ، ولكن المشروع مات قبل ولادته. وعاد يهيم في البلاد بحثا عن لقمة العيش فعمل فترة قصيرة في بلدة «هاوبتفيل» بسويسرا ثم هجرها وقام برحلته الأخيرة إلى مدينة «بوردو» الفرنسية ليتولى تعليم أبناء القنصل الألماني المقيم فيها. ولكنه لم يلبث أن ترك عمله في ظروف غامضة، وعبر الحدود على قدميه حتى وصل إلى وطنه وقد ظهرت عليه أمارات الاضطراب النفسي والعقلي ... ورجع إلى بلدته «نورتنجن» وعاش مع أمه حتى سنة 1804م، وهناك عكف على ترجمة مسرحيتي أوديب ملكا وأنتيجونا لسوفوكليس، وبعض قصائد «بندار» وأناشيده الأوليمبية والبيثية، وكتب مجموعة من أنضج أشعاره. وازداد عليه المرض فغادر بيت الأم وعاد يتنقل بين البلاد حتى استقر في مصحة الأمراض العقلية في مدينة «توبنجن». ولما تأكد الأطباء من خطورة مرضه ويئسوا من شفائه تسلمه النجار الطيب «تسيمر» وآواه في بيته فعاش فيه بقية عمره كالشبح الهادئ الهائم في ليل الجنون. وأقبل الموت فخلصه من حلمه أو من نومه الطويل في اليوم السابع من شهر يونيو سنة 1843م.
ظل هلدرلين يقول الشعر حتى بعد أن غاب عن الوعي والحياة ولم يعد يهزه شيء مما يجري حوله في عالم السياسة أو الأدب.
6
ولكنه لم يزد عن بضع قصائد قصيرة أو أبيات قليلة كتبها مرضاة لزواره المحبين أو المتطفلين، وكانت أشبه بالبروق المفاجئة أو الكلمات التي تند عن شفتي أخرس. أما قصائده الكبرى المتأخرة التي كتبها خلال صراعه مع المرض بين سنتي 1801م و1804م (كالعودة للوطن والتجوال ونهر الراين والاحتفال بالسلام والوحيد وباطموس وذكرى وإلى العذراء ... إلخ، وغيرها من القصائد التي ستجد مقتطفات منها في هذا الكتاب) فقد أخذت تحلق في أجواء بعيدة موغلة في الغموض والوحشة والظلام، وصارت كلماتها أشد وحدة وكتمانا مما كانت في قصائده السابقة، وطرقت معاني جديدة وصورا ورموزا كثيفة توشك أن تستعصي على الفهم. إنها الآن تأتي من بعد سحيق، وتعبر عما يتعذر التعبير عنه، وتحطم القواعد المنطقية والنحوية، وتميل إلى التركيز والانغلاق حتى تكاد الجملة أن تكون قوقعة مستقلة عن جاراتها، وتكاد الكلمة أن تحمل من المعاني أكثر مما تحتمل، وتتعمد أن تخفي وتكتم أكثر مما تعبر وتفصح. ويبدو أن هلدرلين في هذه الحالة العصيبة من حياته قد ازداد وعيا برسالته كشاعر عراف ملهم ومنشد وبشير ونذير، بالمعنى الأصيل الذي أشرت إليه من كلمة الشاعر. لقد ابتعد عن عذابه الذاتي، وأصبح شعره - إن جازت هذه الصفة! - شعرا «موضوعيا» يعبر عن قوى كونية وإلهية أكبر منه ومن قدره، واتحدت في رؤيته صورة شعبه بصورة الشعب اليوناني القديم، وتعانقت الروح الكلاسيكية والروح المسيحية، وديوتيما والعذراء، وديونيزيوس والمسيح، وآسيا وأوروبا. لم يعد في الحقيقة يكتب الشعر، بل صار الشعر - كما قال رامبو عن نفسه - يملى عليه وينطق بلسانه، كما أصبح كل ما يعنيه أن يقول كلمته، سواء سمعها الناس أو لم يسمعوها:
لأن كل السماويين يطلبون الضحايا،
وكلما توانى الناس عن تقديمها
لم ينتج عن ذلك خير أبدا؛
لقد خدمنا أمنا الأرض
Halaman tidak diketahui
وخدمنا - دون أن ندري - نور الشمس
7
في هذا الزمن الأخير،
أما أكثر ما يحبه الأب
الذي يدبر شأن جميع الكائنات
فهو أن نصون الحرف الثابت،
ونفسر (التراث) القائم تفسيرا حسنا.
هذا ما تحرص عليه الأغنية الألمانية.
8
ظهر الجزء الأول من رواية هلدرلين الوحيدة «هيبريون» أو الناسك في بلاد اليونان
Halaman tidak diketahui
9
في سنة 1797م. وقد وصفها بنفسه فقال إنها لوحة من الأفكار والمشاعر.
10
والحق أنه صدق في هذا الوصف الذي أطلقه عليها؛ فهي فقيرة في الأحداث، مفعمة بروح شاعرية فياضة بالأنغام العذبة المتألمة، ولغتها عاطفية ساحرة الإيقاع محكمة البناء، يشيع فيها لحن بكائي يجعلها قريبة من الصلوات والاعترافات والتراتيل الجنائزية. إنها تعبر عن سعادة إنسان استغرقته تجربة الحب والاتحاد بالطبيعة وشوقه اليائس للاتصال «بالكل» الإلهي. ولكن الواقع لا يلبث أن يصدمه في سعادته وشوقه، ويكشف له عن الهوة الفاصلة بين المثال والواقع والفكرة والفعل.
وبطل الرواية شاب يوناني يحيا في القرن الثامن عشر ويتطلع لإحياء ماضي شعبه. غير أنه يخفق إخفاقا مرا في بعث الإحساس بالعزة والنبل والجمال وغيرها من القيم الخالدة التي عرفها في تاريخه المجيد. وتدور الرواية في إطار تاريخي هو الثورة التي قام بها الشعب اليوناني في سنة 1770م للخلاص من نير الحكم التركي. ويحكي البطل الشاب هيبريون قصة حبه وكفاحه واتحاده بالطبيعة «الإلهية» في سلسلة من الرسائل الشاعرية إلى صديقه الألماني بيلارمين. فقد عاش في صباه في عالم أسطوري هداه إليه معلمه أداماس، وهو عالم زاخر بآلهة الإغريق وأبطالهم الذين أرخ لهم بلوتارك. وعثر على «ديوتيما» فوجد فيها مثال الجمال والحب والبراءة، بل وجد الروح الإلهي نفسه مجسما فيها. وتندلع نار الثورة فيهب البطل للكفاح مع الشعب المقهور لاسترداد حريته، ويشجعه صديقه «ألاباندا» ويقوي في نفسه الإيمان بالمستقبل السعيد. ولكن سرعان ما يخيب أمله في صديقه إذ يكتشف أنه عضو في جماعة سرية أفرادها أبعد ما يكونون عن تحقيق مثله وآماله. ويلجأ إلى جزيرة كالاوريا فيجد شفاءه في حبه لديوتيما الجميلة. وتدعوه الحبيبة لأداء واجبه نحو الوطن بعد رجوعه إلى صديقه القديم الذي يتأكد من نبله وتضحيته. وتقول له الحبيبة التي تشجعه على النضال في سبيل الحرية: «أنت الذي ستربي شعبنا.» وتفصل الثورة بين المحبين. وتذبل الحبيبة وتدفن حبها في صدرها قبل أن تدفنه معها في قبرها ... ويمضي هيبريون مع صديقه للكفاح في سبيل مملكة المثل الأعلى والحرية والجمال. وينتصر الثوار ويفتحون مدينة ميسيسترا أو إسبرطة القديمة. ويكتشف أن رفاق الثورة قد قتلوا ونهبوا ودمروا وأفسدوا بلا خلق أو ضمير. وتتبدد المثل في غبار المذبحة، وتسقط الأحلام الوردية تحت سنابك الخيل وجثث القتلى. ويعرف أن الفعل يلوث، وأن ساعة ميلاد الحياة الجديدة والإنسانية الجديد لم تدق بعد، وأن العصر الذي يعيش فيه لم يزل بعيدا عن «العصر الذهبي» الذي تزدهر فيه الحرية والوحدة والكرامة والجمال والسعادة. وينفض يده من الثورة والثوار. وينضم فترة من الزمن للأسطول الروسي الذي كان في حرب مع الأتراك ثم يهجر العمل فيه. ويبلغه نبأ وفاة حبيبته بعد صراعها مع المرض والحب اليائس، ويتحول في النهاية إلى التنسك في معبد الطبيعة، ويتجه إليها بكل كيانه، ويعانق الحياة الإلهية التي تطالعه في كل مظاهرها : «أنت أيتها الطبيعة .. هكذا فكرت في أمر إلهتك. لقد أفقت من حلم البشر، وأقول الآن أنت وحدك التي تحيين حقا، وكل ما افتعله المزعجون وتفننوا فيه يذوب كلآلئ الشمع في نار لهيبك ... إن الناس يسقطون كما تسقط عنك الثمار الفاسدة. دعيهم يسقطون وسوف يعودون إلى جذعك مرة ثانية، ودعيني يا شجرة الحياة أخضر على غصونك من جديد وأستنشق بعمق وسلام نسيم ذراك وفروعك وبراعمك النضرة، لأننا جميعا قد نمونا من البذرة الذهبية ...»
ومن الصعب أن نصور روعة اللوحات التي تصف الطبيعة في بلاد اليونان، أو رسائل الحب المتبادلة بين هيبريون وحبيبته ديوتيما، فهي نماذج خالدة في أدب الحب والمحبين. ويكفي أن نقرأ هذه العبارات التي تأتي في ختام الرواية معبرة عن رؤية الشاعر وفكره، شاهدة على السلام الذي استظل به في محنته، واطمأن إلى روحه الهادئ في أثناء حياته وبعد جنونه، وقوى في نفسه الأمل في الخلود والثقة في عودة الخالدين: «أيتها الروح! أيتها الروح! أنت يا جمال العالم! أيتها الصامدة! يا واهبة النشوة والبهجة والنعيم بشبابك الخالد! أنت حية وباقية، وما الموت وكل آلام البشر بالقياس إليك؟ آه! كثيرة هي الكلمات الجوفاء التي اخترعها هؤلاء المدهشون. فكل شيء يصدر عن الفرح وينتهي إلى السلام. وكل مظاهر الشذوذ والنشوز التي نراها في العالم أشبه بالخلافات التي تقع بين العشاق. إن الوفاء موجود في صميم الشقاق، وكل ما تفرق سيلتقي من جديد ...»
إن البطل الحقيقي في هذه الرواية هو الطبيعة المثالية التي تحاول أن تفرض نفسها على العالم كله، ولكنها تصاب بخيبة الأمل في الواقع فترجع إلى عالمها الباطن، أي إلى الفكر والشعر والحلم والانتصار. وهيبريون هو هلدرلين نفسه، بكل مثله وأشواقه إلى إنسانية أرقى وعصر أجمل، باتحاده بالطبيعة الإلهية مصدر كل أمومة وحياة، ودموعه التي لا تجف على ماض يتمنى لو يعود.
وقد كتبت الرواية بغير شك تحت تأثير «روسو» واتجاه الثقافة في ذلك الحين إلى «الباطن» وتربية الشخصية الفردية بالجمال والكمال. فقد كانت الشخصية هي أقصى سعادة ينالها أبناء الأرض كما عبر عن ذلك شيلر. وكان معظم الكتاب والشعراء يسجلون تجربتهم مع الحياة والحب والطبيعة والمجتمع على لسان بطل يتقلب بين النجاح والفشل والسعادة والشقاء .. وتوالت الروايات «التربوية» التي تتتبع حياة إنسان - شاب في أغلب الأحيان - في رحلته لمعرفة نفسه ومجتمعه وعالمه. ولذلك فإن «هيبريون» تعد حلقة في سلسلة هذه الروايات التي بدأها فيلاند بروايته «أجاتون» وكارل فيليب موريتس برواية «أنطون رايزر» وجوته برواية «فيلهلم ميستر» وجان باول «بهسبيروس» ونوفاليس بروايته التي لم تتم «هينريش فون أو فتردنجن»، وكلهم شباب يبحثون عن أنفسهم ومعنى وجودهم في الحب والفعل والحياة والمسرح والأدب والطبيعة.
أما مسرحية «موت أنبادوقليس» التي كتبها هلدرلين بين سنتي 1798م و1799م في مسرحية شعرية غنائية أو بالأحرى قصيدة درامية صاغها ثلاث مرات وظلت مع ذلك شذرة لم تتم.
ولم يقصد هلدرلين أن يضعها للمسرح، ولا يمكن أن نطبق عليها أصول المسرح وقواعده كما تصورها كتاب مثل لسينج، بل يجب أن ننظر إليها على أنها قصة نفس وحيدة في صراعها الباطن مع قدرها وأقدار عالية غير منظورة، بعيدا عن ضجيج الحياة اليومية وكل ما يأتي من العالم الخارجي. ولذلك فهي أبعد ما تكون عن دراما الحدث والمشاهد المتنوعة والمصائر والشخصيات والانفعالات المتطرفة كما نجدها مثلا عند شكسبير. وإذا بحثنا لها عن مكان في سياق التطور المسرحي فليكن مكانها مع الدراما النفسية بين مسرحيات سوفوكليس وراسين وجوته. لقد حاول هلدرلين أن يعبر فيها عن مرارة الإخفاق الذي أحسه شاعر أراد أن يبشر بعالم مثالي وتم له ما أراد، ولكن لم يفهمه أحد في عصره واضطهده مواطنوه وطردوه من مدينته.
Halaman tidak diketahui
صور هلدرلين تجربته الشخصية والشعرية في صورة ذلك الفيلسوف الطبيعي القديم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد في مدينة أجريجنت عاصمة جزيرة صقلية، وروى عنه أنه اختار الموت بإلقاء نفسه في فوهة بركان إتنا . وهو شخصية عجيبة اختلط فيها الواقع التاريخي بالأسطورة والخرافة. كان فيما يروى عنه شاعرا وفيلسوفا وكاهنا وسياسيا وخطيبا وطبيبا وساحرا، كما كان مصلحا دعا إلى ديانة روحانية تكون أساسا لنظام الحكم والحياة. ويذكر عنه في تاريخ الفلسفة والعلم أنه قال بقوة الحب التي تؤلف بين أجزاء العالم، والعلاقة الحميمية التي تجمع الكائنات ونوع من تقمص الأرواح. وكلها آراء شديدة القرب من روح هلدرلين الذي جذبته شخصية هذا الفيلسوف العجيب .. ويقال أيضا إنه نشأ في أسرة نبيلة في مدينة أجريجنت وشارك في سقوط النظام الأرستقراطي الذي تولى الحكم لفترة قصيرة ثم أصبح زعيم الحزب الديمقراطي المنتصر، ورفض التاج الذي قدمه له أهالي صقلية، ثم اضطره خصومه بعد ذلك إلى مغادرة وطنه.
وجد هلدرلين في شخصية أنبادوقليس الرمز الحي المعبر عن رسالته التي شعر أنه مدعو لتبليغها. فهو شاعر وفيلسوف وساحر استطاع أن يسيطر على قوى الطبيعة ويكتشف أسرارها، وهو قائد متكبر شامخ أراد أن يصلح الأحوال في مدينته ويخلص أهلها من عبودية الكهنوت والتقاليد، ويهديهم إلى الاتحاد بالروح الإلهي الماثل في كل مظاهر الكون فرفضته المدينة وطاردته نظمها المستقرة واتهمه الكهنة بالغرور، وإذاعة أسرار الآلهة والتشبه بها ...
ويبدو أن هلدرلين كان يفكر في كتابة مسرحية عن سقراط وموته الذي اختاره بإرادته عندما جذبته شخصية أنبادوقليس بغموضها وسحرها وكبريائها وتضحيتها وزهدها. ويبدو أيضا أنه شغل بهذه المسرحية أثناء كتابة روايته هيبريون التي نقرأ فيها هذه السطور «بالأمس كنت هناك فوق بركان «إتنا» وخطر الصقلي العظيم على بالي، ذلك الذي سئم عد الساعات ودفعته صلته الحميمة بروح العالم وفرحته الجسورة بالحياة إلى إلقاء نفسه في اللهب الرائع ...»
والواقع أن البطل في الرواية والمسرحية شاعر، وكلاهما تسري فيه نغمة واحدة هي نغمة الشوق إلى الحياة والفعل والموت. وكلاهما ممزق بين المثال والواقع، واللامتناهي والمتناهي في طبيعته، والإحساس بشمول الوجود وتجانسه وشعوره بأنه «يحيا مع كل حي» والضرورة التي تدفعه للضياع والتشتت بين أفعال جزئية مخيبة للآمال. ويظل البطل الشاعر يصارع هذا التمزق حتى يدفعه الشوق للاتحاد بالطبيعة إلى الموت بإرادته ليرجع إلى هذه الطبيعة التي هي الأم والمنبع والأصل. وهكذا يقدم روحه وجسده قربانا للروح الإلهي الماثل في الكون، وكأنه مسيح وثني قديم أراد أن يكفر عن ذنوب الإغريق الذين أساءوا فهمه وسخروا منه وشهروا به وطردوه من مدينتهم. لقد أدرك أنبادوقليس كما أدرك هلدرلين أنه «لا بد أن يذهب من تكلمت الروح من خلاله»، وأن «الإلهي» لا بد أن يسقط بين البشر، لأن الإلهيين وحدهم هم القادرون على الإحساس به، ولأن هذا هو قدر الشاعر والبطل الملهم على أرض فقدت نعمة السماء ووسط أناس غاب عنهم نورها. ولذلك سلم الشاعران بهذا القدر، فسقط أنبادوقليس في جحيم البركان كما تسقط الفراشة في لهيب الشمعة، وغاص هلدرلين في ليل الجنون في صمت وكبرياء وهدوء ...
كان من نصيب هلدرلين أن يكون شاعرا عظيما ومنسيا في وقت واحد. لقد ظل مجهولا أو شبه مجهول حتى أوائل هذا القرن، عندما اكتشفه الباحثون قبل الحرب العالمية الأولى بقليل. وظل الناس يرددون الحديث عن مرضه وجنونه واكتئابه حتى التفتوا إلى قيمة شعره، وتوالت الدراسات عن عبقريته، ورأى البعض أنه مثال الشاعر «النبي» و«العراف» ومنشد الشعب ورسوله الملهم. وتحمس له الأدباء والنقاد من مختلف المدارس والاتجاهات ابتداء من الرومانتيكيين الذين أساءوا فهمه وتصوروا أن مأساة حياته وعذابه وجنونه تجعله واحدا منهم، حتى «هيدجر» فيلسوف الوجود المعاصر الذي أسرف في حبه واستخرج من أشعاره ما يؤيد فلسفته وسماه «شاعر الشاعر» والمعبر عن ماهيته وحقيقته الخالدة ... وتأثر به المتشائمون من أمثال نيتشه وليوباردي وشوبنهور، وذهب بعض المحدثين من أبناء وطنه إلى القول إنه أعظم عبقري نطق بلغتهم، ووصفوه بأنه نبي الأمة - وضحيتها في آن واحد - ومجدد الروح ورائد شعراء المستقبل.
ومهما يكن الرأي في هذه الأحكام فليس هناك شك في أن هلدرلين واحد من أعظم الشعراء في كل اللغات والعصور، وأنه جدير بالقراءة والفهم والحب. وليس هذا الكتاب إلا محاولة متواضعة لتأكيد بعض معاني الحب والتعاطف والإجلال التي يجب أن نوقظها في أنفسنا ونحن نواجه هذا الشعر وكل شعر أو فن عظيم.
احتفل العالم في شهر مارس سنة 1970م بذكرى مرور مائتي عام على ميلاد هلدرلين، كما احتفل في نفس الوقت بذكرى هيجل وبيتهوفن اللذين ولدا في نفس العام. وقد أردت بهذا الكتاب أن يكون محاولة متواضعة للوفاء بهذه الذكرى، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه للاتصال بروح الشعر الخالص، والقرب من نبعه النقي الأصيل، والالتزام برسالته ومسئوليته .. كما أردت في نفس الوقت أن يكون محاولة لتذكير شعرائنا برسالة الشعر والشاعر بالمعنى الخالد الذي فهمه القدماء من هذه الكلمة عندما نظروا إليه نظرتهم إلى العراف الملهم والمتنبئ والمبشر والنذير ورائد القوم وموقظهم من غفلة النعاس والضلال. وأول ما نتعلمه من هذا الشاعر أن الشعر الحقيقي فوق كل طموح إلى الشهرة والمنفعة، وأنه لا يعطي شيئا إلا لمن يعطيه كل شيء.
وأردت من الكتاب أيضا أن يكون تمهيدا لقراءة هذا الشاعر العسير؛ ولذلك أكثرت من النصوص بقدر الإمكان، وتناولت حياته وتجاربه من خلال شعره في مراحل تطوره المختلفة. ومع أنني لا أميل إلى الربط بين حياة الشاعر أو المفكر وإنتاجه، وأفضل العناية بالنص والتوفر على دراسته، فقد اضطررت إلى الخروج قليلا عن هذا المنهج، لأن هلدرلين من الشعراء القلائل الذين اتحدت حياتهم وفنهم على نحو يجعل من الصعب التمييز بينهما، بل يجعل من المستحيل الحديث عنهما، كأن الحياة شيء والفن شيء آخر. وكل ما أرجوه أن يخرج القارئ من هذا الكتاب بأن هذا الكلام ليس من باب الإنشاء ولا التحمس العاطفي.
ولم أقصد أيضا أن يكون الكتاب «بحثا» في شعر هلدرلين أو ظروف حياته بالمعنى المفهوم من تلك الكلمة. ورأيي في هذا بسيط، ففي ظني أننا لم نصل بعد إلى مرحلة البحث المتخصص الدقيق في إنتاج الأدباء والمفكرين الذين لا نكاد نعرف عنهم شيئا؛ إذ ينبغي علينا قبل ذلك أن نقرأ لهم ونترجم عنهم ونحاول أن نحبهم ونتعاطف معهم ونتعرف إلى إنتاجهم بقدر ما نستطيع .. وعسى أن تنجح هذه الصفحات في التعريف بهلدرلين أو تشجيع القارئ على قراءته والتعاطف معه والتعلم منه.
وأخيرا فقد اعتمدت على طبعة أعمال هلدرلين الكاملة التي صدرت عن دار النشر «إنزل» وعني بتحقيقها وترتيبها الأستاذ فريدريش بيسنر، كما اعتمدت اعتمادا كبيرا على كتاب الأستاذ ألريش هويسرمان عن حياة هلدرلين الذي ظهر في سلسلة «روفولت» التي قامت بنشره في سلسلة الكتب التي تصدرها عن أعلام الأدب والفن والفكر من مختلف البلاد والعصور بأقلام المتخصصين، مع عدد كبير من الصور والوثائق المتصلة بحياتهم وإنتاجهم .. وأحب أن أسجل اعترافي بفضل هذا الكتاب القيم علي؛ فقد سرت على نفس الخط الذي سار عليه، واهتديت به في كل ما قرأت لهلدرلين أو قرأته عنه في المراجع الأخرى التي استطعت التوصل إليها، وهي قليلة جدا إذا قيست بالمكتبة الضخمة التي صدرت عنه. ومن هذه المراجع كتاب فيلسوف العلوم الإنسانية «فيلهلم دلتاي» عن التجربة والشعر، وبه فصل قيم عن هلدرلين، وكتاب «هلدرلين، كتاب مطالعة لعصرنا» وقد صدر عن دار الشعب في فيمار ضمن السلسلة المعروفة بهذا الاسم وأشرف على نشره والتقديم له وشرح الكلمات والاصطلاحات الكلاسيكية فيه الأستاذان تيلي بيرجر ورودلف ليونهارد، إلى جانب تاريخ الأدب الألماني للأستاذ فريتز مارتيني، وروح عصر جوته للأستاذ كورف، والروح اليونانية وعصر جوته لأستاذي المرحوم فالترريم. وأود أن أنوه بالترجمة الإنجليزية الممتازة لعدد كبير من قصائد هلدرلين في مراحل تطوره المختلفة؛ وهي الترجمة النثرية الدقيقة التي قام بها الأستاذ «ميخائيل هامبورجر» ومهد لها بمقدمة قيمة عن حياة هلدرلين وشعره وظهرت سنة 1961م في سلسلة «بنجوين» المشهورة .. وقد استفدت منها فائدة لا تقدر في فهم كثير من غوامض النص الأصلي، وبخاصة في القصائد الكبرى المتأخرة مثل خبز ونبيذ، وباطموس والوحيد، والاحتفال بالربيع، وذكرى، وغيرها من القصائد التي ستجد مقتطفات منها على صفحات الكتاب، أو تجدها مع النصوص الكاملة التي انتقيتها لك. أما عن الترجمة فقد التزمت الدقة والإخلاص لروح النص وكلماته بقدر ما استطعت. ولست أدري هل أعتذر عن بعض الأبيات التي جاءت موزونة في سياق الكتاب، ومن بينها قصيدة كاملة فرضت نفسها فرضا، أم يغتفر لي الشعراء هذا التطفل غير المقصود .. ولكني أحب أن أطمئن القارئ إلى أنني توخيت الأمانة التامة في نقلها، ووضعت بين قوسين كل كلمة اضطررت لزيادتها سواء في هذه الأبيات أو ما عداها من النصوص، توضيحا للمعنى أو مراعاة لمقتضيات الأسلوب العربي.
Halaman tidak diketahui
ولا بد من الاعتراف أخيرا بأنني شغلت بهذا الكتاب في فترة أصبت فيها باليأس وخيبة الأمل في الحياة والناس. ولست أريد أن أشغل القارئ بحياتي الشخصية التي لا تهم أحدا، ولا أريد أيضا أن ألوم هلدرلين أو أحمله مسئولية هذه الكآبة التي تشع من حياته وأعماله، وإنما أسجل تجربة عشتها معه حتى كدت أن أتقمص روحه النقية الحزينة .. وأنا أعلم أن هذا شيء مكروه في الدراسات العلمية والموضوعية. ولكن عذري الوحيد أنني قصدت من الكتاب أن يكون تمهيدا متواضعا لقراءة هذا الشاعر الوحيد.
القاهرة في سبتمبر 1971م
عبد الغفار مكاوي
هلدرلين
الوطن
«وسأبقى ابنا للأرض، للحب خلقت وللألم.»
يقول سيد شعراء الألمان «جوته» في مقدمة دراساته وتعليقاته على ديوانه الشرقي: «من أراد أن يفهم الشاعر فليذهب إلى وطن الشاعر.» فكيف يبدو وطن شاعرهم العبقري المسكين هلدرلين؟ وكيف أثرت عليه طبيعة هذا الوطن، وسماؤه الصافية، وتلاله الوديعة، وغاباته الغامضة، وأنهاره الهادئة الحنون؟
لكلمة الوطن عند هلدرلين سحرها الغريب. فليس أرضا تقيدها الجمارك والحدود والحكومات، بل هو قوة وسر وحياة .. الفراق عنه وداع أسطوري، والعودة إليه عيد بهيج. هو الأرض التي يمشي فيها وحيدا، والحقل الذي تنمو فيه الكلمة «زهرة الفم»
1
كالزنبقة البرية، نقية وأبية، خشنة وبسيطة وبريئة من الخوف:
Halaman tidak diketahui
وما ينبغي لأحد
أن يلومني على جمال اللغة،
لغة الوطن،
كلما سرت، وأنا الغريب الوحيد،
إلى الحقل الذي تنمو فيه
الزنبقة البرية،
بلا خوف ...
2
والوطن كذلك مملكة مسحورة، أنغامه وعطوره لا تبارح ذاكرة الطفل. فإذا ما صحت صحا الوطن كله في خياله كأنما مسته عصا سحرية:
وأشواك الورد
Halaman tidak diketahui
والزيزفون الحلو يتضوع بالأريج ...
وهواء الوطن ليس كمثله هواء. إنه نسيم يهب من النهر الذي نشأ على ضفته، ويرف من جبال الألب التي تشرف عليه. ونهر الوطن هو صاحبه الوحيد ورفيق صباه وألعاب طفولته. ها هو ذا يخاطبه في أغنيته عن نهر «النيكار»:
3
في وديانك صحا قلبي على الحياة،
أمواجك لاعبتني،
وكل التلال الحبيبة التي تعرفك - أنت أيها المسافر الوحيد -
ليس بينها من هو غريب عنك.
فوق ذراها كان نسيم السماء
يحررني كثيرا من آلام العبودية،
ومن الوادي، كالحياة من كأس الفرح،
Halaman tidak diketahui
كانت تلمع الموجة الفضية الزرقاء.
ينابيع النهر كانت تسرع هابطة إليك،
ومعها قلبي أيضا، وأنت أخذتها معك،
إلى «الراين» الساكن المجيد؛
إلى مدنه وجزره المرحة.
والمدينة التي ولد فيها الشاعر بقعة مقدسة، يحج إليها بالكلمة في تقوى وخشوع:
مقدس عندي هو المكان، على الضفتين، وكذلك الصخر
الذي يرتفع مخضرا من بين الأمواج مع البيت والبستان.
هناك تلاقينا، آه أيها النور الحنون!
حيث أصابني لأول مرة أحد أشعتك
Halaman tidak diketahui
التي تلمس الفؤاد في الصميم.
قرية لاوفن على نهر النيكار (حفر يرجع لسنة 1800م).
في بلدة «لاوفن» الصغيرة، على ضفة نهر النيكار في منطقة «شفابن»، وفي دير قديم يسميه الفلاحون هناك «القرية الصغيرة»، ولد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة 1770م ...
هناك كان وطنه المقدس الحبيب ...
عرف هلدرلين الوطن، وأحبه واشتاق دائما للرجوع إليه. ومع هذا فلم يعرف (قبل أن يصيبه الجنون على الأقل) مكانا يستريح إليه أو يقيم فيه. فهو دائما الغريب والمتجول الوحيد. لهذا تحمل كلماته التي يثني فيها على الوطن نغمة الكآبة والأنين. لقد أحب الوطن وصبر على الجراح العميقة من أجله وأعطاه كل ما يستطيع الإنسان أن يعطيه من قلبه وضميره. وظل هذا الوطن بالنسبة إليه عالما يفوح بالعطر ويموج بالسحر وترفرف عليه أجنحة الأساطير وأرواح الخالدين والأبطال. ولكنه لم يجد «البيت» الذي يهدأ تحت سقفه، ويشعر بالاطمئنان أمام موقده. شاء له القدر أن يبقى غريبا، قلقا، لا يكاد يستريح إلى مكان حتى يهجره إلى غيره. هو دائما التائه الذي يتردد نداؤه: إلى أين؟ وهو الغريب بلا وطن ولا سكن. يفتقد السعادة والزوجة والدفء والأمان. يفتقد الأرض الراسخة تحت قدميه. وتتكرر في شعره صورة الغريب الذي قدر عليه أن يقضي حياته بلا جذور، ويطارد كالوحش الجريح الذي لا يجد ظلا يأوي إليه ولا نبعا يبل فيه جراحه. وهو لهذا يتحسر على الحياة البعيدة كالحلم:
سعيد من يحب زوجته الطيبة في هدوء،
ويحيا أمام موقده في الوطن المجيد،
على أرض ثابتة تشع السماء
للرجل المطمئن بضوء جميل.
لأن روح المخلوق الفاني،
Halaman tidak diketahui
الذي يتجول مع ضوء النهار وحيدا
مسكينا فوق الأرض المقدسة؛
تنطفئ وتخبو
إن لم تمد جذورها في الأرض كالنبات.
هو المتجول الوحيد المسكين، يشعر أن روحه تنطفئ وتخبو، وأنه مهما تغنى بالأرض والوطن فسيبقى بلا وطن ولا بيت ولا حب. أكان هذا إحساسا منه بأن جذوة العقل ستنطفئ بعد توهج؟ أكان تنبؤا منه بليل الجنون الذي سيحاصره نصف حياته على الأرض؟
والكنز المقدس الذي يحمله الغريب في صدره ويحرص عليه ويرعاه هو كنز العذاب. والعذاب هدية السماء لكل من يجسر على اقتحام مملكة الشعر والحب. وجرح الحب المحروم يدمي قلبه ويبدد راحته، ويشرده في الآفاق، ينفي عنه الاطمئنان لشيء أو التعلق بإنسان. فإذا عاد يوما إلى وطنه أحس لأيام أو شهور قليلة كأنه يعود لنفسه. وإذا أبصر ضفاف نهره الغالي شعر من جديد بأنه «عذابه المقدس ممتد بلا ضفاف»:
مرحا يعود الملاح إلى وطنه على النهر الهادئ
من الجزر النائية حيث كان يجمع الحصاد،
هكذا كنت أعود لوطني.
لو أنني حصدت من الخيرات مثل ما حصدت من عذاب
Halaman tidak diketahui
أيتها الضفاف الغالية التي نمتني ذات يوم،
أتراك تسكنين عذاب الحب،
أتراك يا غابات شبابي
تعدينني بالهدوء لو رجعت من جديد؟
ثم يناجي الجدول الرطب، والنهر الذي يهدهد السفن كالأم التي تهدهد أطفالها في المهد، والجبال الحبيبة التي رعته ذات يوم، والأم والأشقاء الذين سيعانقونه ويقبلونه ويشفون قلبه. ثم يعود فيقول إنه يعلم أن عذاب قلبه ليس له شفاء، وأنه سيظل محروما من أغنية المهد التي يترنم بها الفانون للعزاء:
لأن الآلهة التي تعيرنا النار السماوية
تنعم كذلك علينا بالعذاب المقدس،
لذلك سأبقى ابنا للأرض،
خلق للحب والعذاب.
هكذا يصبح الوطن هو الأم التي تغني أغنية المهد، فتربي وترعى وتعانق وتشفي من الداء. وتكتسب الأم البعيدة كل ما في الأسطورة من عمق وسكون وجلال. بيد أنه يعلم أنه في صميم قلبه مطارد غريب، لا تستطيع أغنية المهد أن تعزيه عن حزنه ولا الأنغام أن تسكن ألمه ... إن حبه مطلق وبغير حدود. ومتى عرف الحب الحقيقي شفاء أو عزاء؟!
Halaman tidak diketahui
وشخص الشاعر يتوارى خلف هذه القوى الأسطورية (ومنها الوطن) التي يهديها أغنيته. وهو يكتم قدره أو يظهره في بعض الأحيان على استحياء. إنه فرح بلقاء الوطن والأم والبيت وأشجار الغابة، فرح بالشمس والنور في العيون، والوفاء في الأصوات والصدور، وطائر السلام الذي يرفرف على الذكريات القديمة. وهو من فرحته يتحول إلى طفل بريء طائش: «أتكلم في طيش. إنه الفرح!».
4
هذه النغمة البريئة الطاهرة، هذا الصوت البعيد عن جفاف العقل وإسراف العاطفة، هذا النقاء والصفاء هو أهم ما يميز شعر هلدرلين وحياته.
كان وهو صبي صغير يرى أمه كل يوم في ملابس الحداد، تذرف الدموع على أبيه الذي مات وهو صغير. ولم تفارقه الكآبة أبدا بعد ذلك، لم يفارقه الجد والعبوس، لم يفارقه العذاب: «الحياة تتغذى بالعذاب ...»
إنه يرى نفسه في مرآة أمه الحزينة. يعرف أن حزنها من حزنه، وحدادها من حداده، وأساها من أساه. بل إن الشفقة لتأخذه عليها فينصحها ألا تفنى في الألم ولا تستسلم له: «كوني أكثر مرحا يا أمي الحبيبة ...»
لكنه هو نفسه كان يفنى في الألم والعذاب كل الفناء. يكفي أن نقرأ هذه السطور من روايته الوحيدة «هيبريون» لنعرف مدى عمق جراحه: «أجل .. أجل! إن الألم جدير بأن يرقد على قلوب البشر ويكون أليفك، يا أيتها الطبيعة .. لأنه هو وحده الذي يقودنا من بهجة إلى بهجة، وليس لنا من رفيق سواه ...»
لكنه مع هذا حزن صابر، ساكن، مطمئن على صدر الإيمان، وجد حقيقته الأخيرة في الكلمة الخالدة التي قالها من قبل أوديب : «كل شيء حسن .. طيبة كل الأشياء.»
5
وهو حزن من لا يملك أن يخفف من أحزان غيره. فقد كانت أمه التقية الهادئة دائمة الاكتئاب، حتى بعد زواجها الثاني من عمدة مدينة نورتنجن المجاورة . وما أكثر ما فعل هلدرلين مرضاة لخاطرها! وما أكثر ما احتمل من آلام لكيلا يخيب أملها فيه أو يزيدها حزنا على حزن! وفي إنتاج كل أديب، بل في حياة كل رجل، بصمات لا تنكر من أمه. لكن الأم الحزينة تصبح بلمسة الفن صورة وشكلا وكيانا أسطوريا. إنها تتحول في يد الشاعر فتصبح هي الأرض والطبيعة والسماء. وتذوب تجربة الأمومة في تجربة الأرض والطبيعة، بحيث تصبح الأرض والطبيعة هي جسد الأم الحي. وتكتسب الأبيات التي يقولها عن الأرض الأم وشاحها الأسطوري الذي يكسو كل شعره ويلفه برداء السر والجلال. ويصبح الشاعر هو الكاهن الذي يقدم فروض العبادة للأم؛ يقدمها على استحياء، لأنه يقترب من صورتها كأنما يقترب من سر الغابة الأزلية:
مع ذلك، يا أيتها السماوية، مع ذلك
Halaman tidak diketahui
أريد أن أحتفي بك وما ينبغي لأحد
أن يلومني - وأنا الغريب - على جمال العبارة،
جمالها (المستمد) من الوطن،
لأنك نائية، خفية أنت،
في قبو الغابة الأزلية ...
الطفل والصبي
«رباني نغم يهمس في البرية، وتعلمت الحب، بين الأزهار.»
ذلك لأن أب الأرض يفرح أيضا
بأن الأطفال موجودون،
بهذا يبقى يقين الخير.
Halaman tidak diketahui