هو إذا يريد أن يعيش الإنسان فردا في اتحاد حر أو جماعة حرة يقوم بين أعضائها حوار مشترك. وإذا كان قد اضطر أن يلوذ بوحدته فرارا من قسوة الحياة والمجتمع، فإنه لم يمجد تلك الوحدة التي تعني الانعزال والانطواء على الألم والمرارة. وإذا كنا نقول إنه وحيد فإن وحدته لا تعني انفراده في مواجهة قدره البائس فحسب، بل تعني كذلك تفرده بين شعراء بلده وعصره.
إن من الخطأ أن نحاول وضعه في تيار أو حركة أو مدرسة أدبية، لأنه سيخرج منها جميعا ويبقى ظاهرة فريدة في حياته وشعره جميعا. قد يضعه بعض النقاد ومؤرخي الأدب في الحركة الهيللينية الجديدة التي اتجهت للمحاكاة الخلاقة للروائع الإغريقية والمثل الإغريقية، وقد يضمه البعض للتراث الإنساني والديني (البروتستنتي) بوجه عام أو لنزعة التصوف والتطهر التي ازدهرت في منطقة «شفابن» التي نشأ فيها،
1
وقد يتحدث عنه البعض حديثهم عن شاعر كلاسيكي أو رومانتيكي بحسب نظرتهم إليه من جهة الأسلوب الرصين والشكل المحكم أو من جهة العاطفة الأسيانة والموقف المأساوي الحزين. وقد نضمه إلى طائفة كبيرة من الشعراء من مختلف البلاد والعصور، شاركهم الإيمان بوظيفة الشعر الدينية قبل كل وظيفة سواها. قد نفعل هذا كله، ولكن هلدرلين يظل شاعرا وحيدا وفريدا بكل معنى الكلمة .. بل إن كتب تاريخ الأدب نفسها لا تضعه مع الكلاسيكيين ولا الرومانتيكيين، وإنما تفرد له مكانا بينهما مع أديب آخر عذبه قدره وصارعه حتى سقط، وهو الكاتب المسرحي والقصصي العظيم هينريش فون كلايست.
ومن الصعب تفسير هذه الوحدة أو تحديد هذا التفرد. فهلدرلين شاعر اجتمعت في إنتاجه الخصائص القومية والأجنبية. لقد تأثر في صباه وشبابه الباكر بشعر «كاوبشتوك» (1724-1803م) الديني وعاطفته المتدفقة وعنايته بالبحور والأوزان القديمة. ثم تأثر بشعر «شيلر» (1759-1805م) الفلسفي والمثالي ولغته الخطابية العالية قبل أن يكتشف لغته وأنغامه الخاصة به. كما تأثر منذ صباه بالشعراء والكتاب الإغريق والرومان الذين درسهم وأحبهم وترجم عن بعضهم - مثل بندار وسوفوكليس وأوفيد وفرجيل وهوراس - وشعره يحقق التآلف التام بين العاطفية والروحانية وبين ما سماه «سكون الجمال»، بين الألم والجلال، والعذاب والأحكام، والرغبة في الإصلاح إلى حد الغضب والتمرد، والرؤية الغيبية المحلقة في آفاق السماويين والخالدين. وهو في هذا كله لا يجاريه شاعر ألماني آخر. فطبيعة موهبته الشعرية هي المسئولة عن تميزه ومأساته في آن واحد. لقد كان شاعرا وحسب، ولم يسمح له الشعر بأن يكون شيئا آخر أو يطمح إلى شيء آخر. ولذلك عاش للشعر وهلك بسببه. وليس من الممكن أن نفصل بين شعره وقدره. وليس من الممكن أيضا أن نفصله عن تطوره المذهل في غضون ست سنوات هي التي أتيحت له منذ بدأ يكتب شعره الناضج الواضح الصافي سنة 1797م إلى أن بدأ يغوص في لجة الجنون حوالي سنة 1804م، أي منذ أن أصبح على وعي كامل برسالته كشاعر «وسيط» بين الرب والبشر، واجبه أن يبلغهم وحيه الذي يهبط عليه، على نحو يذكرنا بما كان يفعله الكاهن في الديانات القديمة أو الشاعر بالمعنى العريق الأصيل (الفاتيس كما كان يسميه الرومان)
2
الذي يعبر كذلك عن الساحر والعراف والمتنبئ بالمستقبل ورائد القوم ولسانهم الناطق بوحي الأرباب والآباء.
ولد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة 1770م في بلدة «لاوفن» الصغيرة على نهر النيكر. ومات أبوه الذي كان معلما في مدرسة الدير القائمة في هذه البلدة وهو طفل صغير، فتزوجت أمه عمدة مدينة «نورتنجن». ودخل المدرسة اللاتينية في هذه المدينة ثم انتقل منها إلى مدرسة الدير في بلدتي ماولبرون ودنكندورف. واستجاب لرغبة أمه الطيبة المسكينة - التي كان يشعر أنه مسئول عن بكائها الذي لا ينقطع، كما كان يحبها حبا يقرب من العبادة - فدخل معهد الوقف الديني الشهير في مدينة «توبنجن» ليدرس اللاهوت من سنة 1788م إلى سنة 1793م. واحتمل مرارة الحياة الخشنة الصارمة بين جدران هذا المعهد أو بالأحرى هذه الزنزانة اللاهوتية. ولكنه صمم بينه وبين نفسه على الهروب من أغلال اللاهوت والانصراف إلى موهبته الشعرية المتفتحة.
كان هلدرلين في الثامنة عشرة من عمره عندما دخل هذا المعهد. وكان في هذه الفترة متأثرا بشخصية شيلر وشعره الفلسفي، فكتب قصائده الغنائية التي وجهها إلى المثل الإنسانية (كالحقيقة والحرية والجمال والصداقة والحب والشباب والجسارة). ودخل «هيجل» (1770-1831م) المعهد نفسه في خريف ذلك العام (1788م) وأصبحا صديقين حميمين، وعاشا معا في حجرة واحدة من حجرات المعهد الرطبة المظلمة. ثم دخل «شيلنج» (1775-1854م) المعهد بعدهما بسنتين، وتعرف إليه الشاعر عن طريق هيجل. وكان شيلنج موضع إعجاب المعهد كله، لصغر سنه وعبقريته المبكرة. ولكن الشاعر لم يستطع أن يكسب صداقته الحقيقية أبدا؛ إذ كان الفيلسوف الصغير شديد الاعتزاز بنفسه، ميالا إلى النفور بطبعه. أما هيجل فكان أقرب إلى نفسه. فقد جمعت بينهما طباع وعادات وتقاليد غرسها الوطن الواحد فيهما، كما ألف بينهما الطموح الفكري الذي لا يعرف حدا يقف عنده. واشتركا معا في قراءة أفلاطون وروسو وشيلر وكانت ورسائل «ياكوبي» عن مذهب اسبينوزا، وهي التي تعلم منها هلدرلين الكلمة اليونانية القديمة «الواحد والكل»
3
Halaman tidak diketahui