أبي يرجع من الخارج كأنما هو راجع من خناقة، زر طربوشه مفقود، عقدة رباط عنقه غائصة في ثنية الياقة. جاكتته تنضح بالعرق والتراب، صوته مبحوح كأنه سعل دهرا، ولكن عينيه تتألقان بنور ظافر، يستلقي على الكنبة ويقول : هتفت حتى ضاع صوتي، نسيت نفسي تماما.
ثم بارتياح عميق: تجمعت الدنيا كلها في ميدان السيدة، سبحانك يا ربي، ما أكثر عبادك!
ويجتاح الحارة إحساس غامض بالنصر، ويعتقد كل قلب أن الحرية تدق الأبواب، وتطبق المظاهرات على حينا لا تريد أن تنتهي. سعد .. سعد .. يحيا سعد! وتلهب حرارة الهتافات خيالي، وآسف على أن المظاهرات لا تدخل حارتنا شبه المسدودة التي لا مخرج لها من طرفها الآخر إلا الممر الضيق المحاذي للتكية، والمفضي إلى القرافة.
وأسأل أمي: سيرحل الإنجليز؟
فتجيبني بيقين: إلى غير رجعة.
وفي الليل تحتفل حارتنا بعودة الزعيم احتفالا خاصا، تضاء الكلوبات في هامات الدكاكين. ترتفع الأعلام، تدوي الزغاريد وتتطوع العالمة ألماظية بإحياء الليلة، تقيم سدتها في الوسط أمام الوكالة، يحف بها تختها، ترص الكراسي أمامها، وعلى أنغام العود والقانون والناي والرق يرقص الرجال، وتغني هي:
ليالي الأنس عادت بالليالي
وتغني أيضا:
يا بلح «زغلول» يا حليوة يا بلح
وتختم بأغنية ضاحكة مطلعها:
Halaman tidak diketahui