وهو بسيط في أكله وشربه ولبسه ونومه، حتى ليأكل ما قدم إليه من غير ضجر، وينام على حشية من غير سرير، ويلبس في دقيقة ملبسه البسيط في غير أناقة.
يشتد على أولاده فلا يعطيهم من المال إلا بقدر الحاجة حتى لا يفسدوا، ويحاسبهم على تعلمهم محاسبة عسيرة، فهو يمتحنهم دائما في حفظ القرآن وحفظ المتون وفي فهم دروسهم، فإذا أخطئوا حسبل وحوقل وقد يغضب ويضرب، وكل صحبتنا له صحبة درس جديد أو امتحان في درس قديم. ولا أذكر أنه مزح معنا وقل أن ضحك في وجوهنا. ولذلك كان اطمئناننا ومرحنا القليل ساعة يغيب عن البيت، وخوفنا ورهبتنا وحبس أنفاسنا ساعة يحضر؛ ومن مزاياه أنه كان يرى تعليم البنت كما يعلم الابن، فأرسل أختي الكبرى إلى المدرسة السيوفية وكانت المدرسة الوحيدة المصرية لتعليم البنات، في حين أن أكثر الناس كان يرى تعليم البنت في المدارس جريمة لا تغتفر.
دنياه التي يعرفها أزهره ومسجده وكتبه ومن يتصل به من أهل حيه. أما السياسة والاحتلال وأما شئون الاقتصاد وأما الحياة الاجتماعية والمدنية مما يجري وراء حيه فلا يعلم عنها شيئا، فهو لا يقرأ الجرائد إلا إذ وقعت في يده عرضا، ولا يجتمع بالناس يتكلمون في الشئون العامة إلا قليلا.
يحب الريف ويحن إليه، وفي بعض الأيام كان عندنا حمار يركبه ويركبني معه فيخرج به إلى الجزيرة أو الجيزة، ونقضي النهار تحت شجرة أو بجوار ساقية أو على شاطئ النيل ومعه كتاب يقرؤه، ثم يعود وقد غذى عواطفه، وهذه هي كل رياضته. فإذا لم يكن حمار فمشي على الأقدام إلى كوبري قصر النيل حيث يختار مكانا يجلس إليه .
وله صديقان من الفلاحين في جزيرة أمام مصر القديمة يزورهما - وأنا معه - من حين إلى حين وبخاصة في موسم الشمام والبطيخ، فنقضي هناك اليومين والثلاثة بين المزارع وعلى شاطئ النيل، ولا ندخل البيوت - حتى الليل نقضيه تحت سقف السماء - كأنه لما حرم مزارعه في بلده كان يعوضها بمثل هذه الجولات.
ذكي يجيد فهم الكتب الأزهرية، وله شوق إلى قراءة الكتب الأدبية والتاريخية من غير تعمق فيها أو قراءة منظمة لها؛ يقرض الشعر أحيانا في مناسبات ولا يقرضه حتى يتخير قصيدة من ديوان شعر يحاكيها في الوزن والقافية ويتخير من معانيها فتأتي أشعاره متكلفة لا روح فيها. ولا أدري لماذا لم يحاول التأليف في أي فرع من فروع العلم مع توفر الأسباب لديه.
ومع شدته على أولاده كان رحيما بهم، وتظهر رحمته في قلقه على ولده إذا مرض، وحرقة قلبه إذا مات، وحنينه إليه إذا غاب ونحو ذلك.
وكان يؤثرني على إخوتي في العناية لما كان يظهر له من استجابتي وطاعتي؛ فإليه يرجع أكبر الفضل في أساس تعلمي من يوم أن ذهبت إلى الكتاب إلى يوم أن دخلت مدرسة القضاء، ولولاه لم أنجح في دراستي الأزهرية لصعوبتها وكثرة العوائق فيها، فقد سهلها علي بأسلوبه وقرب عبارته ووضوح معانيه، ولولا نجاحي على يده في العلوم الأزهرية ما نجحت في الدخول في مدرسة القضاء؛ بل منه تعلمت الصبر على الدرس واحتمال العناء في التحصيل. ومنه كسبت وضوح العبارة وبساطة الأسلوب، ومن مكتبته المتنوعة الغنية بكتب الأدب والتاريخ نبت في نفسي حب الأدب والتاريخ؛ وعلى الجملة فقد ورثت منه - إلى حد ما - كثيرا مما لي من مزايا وعيوب.
لهذا كله بعد أن كبرت ودخلت مدرسة القضاء وتحررت من رعايته لي وقسوته علي بدأت أشعر بفضله، وينقلب خوفي منه إلى حب وإجلال له، وبعد أن أصيب بفقد ولديه زاد عطفي عليه وبذل كل جهد في عمل ما يرضيه. ومن جانبه بادلني عطفا بعطف وحنانا بحنان، وترك لي التصرف في ماله وشئونه، وتفرغ لحزنه ومرضه، ودينه .
فلما مات أحسست لذعة أليمة وركنا تهدم ولم يعوض، وفراغا لم يملأ - رحمه الله.
Halaman tidak diketahui