مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
Halaman tidak diketahui
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
Halaman tidak diketahui
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
Halaman tidak diketahui
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
قالوا
Halaman tidak diketahui
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
Halaman tidak diketahui
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
Halaman tidak diketahui
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
Halaman tidak diketahui
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
قالوا
Halaman tidak diketahui
حياتي
حياتي
تأليف
أحمد أمين
مقدمة الطبعة الأولى
لم أتهيب شيئا من تأليف ما تهيبت من إخراج هذا الكتاب. فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض أو غيري الموصوف وأنا الواصف، وأما هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة. والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق. أو بمحاولة للتجرد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه.
ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إن النفس إما أن تغلو في تقدير ذاتها فتنسب إليها ما ليس لها، أو تبالغ في تقدير ما صدر عنها، أو تبرر ما ساء من تصرفها. وإما أن تغمطها حقها ويحملها حب العدالة على تهوين شأنها فتسلبها ما لها، أو تقلل من قيمة أعمالها، أو تنظر بمنظار أسود لكل ما يأتي منها؛ أما أن تقف من نفسها موقف القاضي العادل، والحكم النزيه، فمطلب عز حتى على الفلاسفة والحكماء.
ثم إن للنفس أعماقا كأعماق البحار، وغموضا كغموض الليل، فالوعي واللاوعي، والعقل الباطن والظاهر، والشعور البسيط والمركب، والباعث السطحي والعميق، والغرض القريب والبعيد - كل هذا وأمثاله يجعل تحليلها صعب المنال، وفهمها أقرب إلى المحال.
وقد يخدع الإنسان فيكون من السهل اكتشاف الخديعة والوقوف على حقيقتها، وتبين أمرها، وتفهم بواعثها ومراميها؛ أما أن يخدع الإنسان نفسه فأمر غارق في الأعماق مغلف بألف حجاب وحجاب.
من أجل هذا كان قول سقراط: «اعرف نفسك بنفسك» تكليفا شططا، وأمرا يفوق الطاقة.
Halaman tidak diketahui
ولكن على المرء أن يبذل جهده في تعرف الحق، وتحري الصدق، ليبرئ نفسه ويريح ضميره، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
على ذلك وضعت هذا الكتاب، ولم أذكر فيه كل الحق، ولكني لم أذكر فيه أيضا إلا الحق، فمن الحق ما يرذل قوله وتنبو الأذن عن سماعه، وإذا كنا لا نستسيغ عري كل الجسم فكيف نستسيغ عري كل النفس؟ - إلا أحداث تافهة حدثت لي أو لغيري معي، لا نفع في ذكرها، والإطالة في عرضها.
ثم إن حديث الإنسان عن نفسه - عادة - بغيض ثقيل، لأن حب الإنسان نفسه كثيرا ما يدعوه أن يشوب حديثه بالمديح ولو عن طريق التواضع أو الإيماء أو التلويح، وفي هذا المديح دلالة على التسامح والتعالي من القائل، ومدعاة للاشمئزاز والنفور من القارئ والسامع. ولذلك لا يستساغ الحديث عن النفس إلا بضروب من اللباقة، وأفانين من اللياقة. •••
وترددت - أيضا - في نشره: ما للناس و«حياتي»؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، أو مخبآت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ. ولا أنا بالمغامر الذي استكشف مجهولا من حقائق العالم، فحاول وصفه وأضاف ثروة إلى العلم، أو مجهولا من العواطف - كالحب والبطولة أو نحوهما فجلاه وزاد بعمله في ثروة الأدب وتاريخ الفن - ولا أنا بالزعيم المصلح المجاهد، ناضل وحارب، وانتصر وانهزم، وقاوم الكبراء والأمراء، أو الشعوب والجماهير، فرضوا عنه أحيانا، وغضبوا عليه أحيانا، وسعد وشقي، وعذب و كرم، فهو يروي أحداثه لتكون عبرة، وينشر مذكراته لتكون درسا.
لست بشيء من ذلك ولا قريب من ذلك، ففيم أنشر «حياتي»؟
ولكن سرعان ما أجيب بأن عصر الأرستقراطية كاد يزول من غير رجعة، وينقضي من غير عودة. وأزهرت الديمقراطية فحلت محلها، ونشرت سلطانها، وتغلغلت حتى في الفن والأدب؛ كان الشعر في الشرق لا يعيش إلا في قصور الخلفاء والأمراء فعاش في الناس بعيدا عن القصور. وكانت أهم موضوعاته المديح وخير أساليبه المزوق المطرز، فصارت مواضيعه كل شيء إلا الإفراط في الزينة؛ وكانت الروايات التمثيلية في الغرب لا تتخذ موضوعها إلا من حياة الملوك والأمراء. ولا تعرج على شيء من حياة الفقراء، إلا لإضحاك الأغنياء. ثم دار الزمن دورته، فصار كل شيء موضوعا للرواية، كوخ الفقير وقصر الأمير، وعيشة المترف الناعم وعيشة المجهد البائس، والفلاحة في الحقل والأميرة في القصر - وقد كان المؤرخ إنما يؤرخ للخلفاء وأعمالهم، ومبانيهم وحروبهم وإقطاعهم، ومن اتصل بهم، وما صدر عنهم من فعل، وما روي لهم من قول، ولا شيء غير ذلك؛ ثم صار المؤرخ يؤرخ للشعب كما يؤرخ للسلطان. ويؤرخ الفقر كما يؤرخ الغنى، ويؤرخ الزراعة كما يؤرخ الإمارة - فحياة المغمورين مهمة كحياة المشهورين.
فلماذا - إذا - لا أؤرخ «حياتي» لعلها تصور جانبا من جوانب جيلنا، وتصف نمطا من أنماط حياتنا. ولعلها تفيد اليوم قارئا، وتعين غدا مؤرخا. فقد عنيت أن أصف ما حولي مؤثرا في نفسي، ونفسي متأثرة بما حولي.
نبتت عندي فكرة تاريخ حياتي، منذ أول عهد شبابي، فقد رأيتني أدون مذكرات يومية عن رحلاتي، وعن حياتي في الأسرة وأيام زواجي. ووجدتني أسجل في المفكرات السنوية أهم أحداث السنة، وما يسوء منها وما يسر، ولكن لم يكن كل ذلك عملا منظما متواصلا، بل كان يحدث في فترات متقطعة - ثم نمت الفكرة وشغلت بالي في العام الماضي، فكنت أعصر ذاكرتي لأستقطر منها ما اختزنته من أيام طفولتي إلى شيخوختي، وكلما ذكرت حادثة دونتها في إيجاز ومن غير ترتيب - فلما فرغت من ذلك ضممته إلى مذكراتي اليومية، ثم عمدت - في الأشهر القريبة - إلى ترتيبه وكتابته من جديد على النحو الذي يراه القارئ، من غير تصنع ولا تأنق.
والله هو الموفق
الجيزة 26 مارس (آذار) 1950
Halaman tidak diketahui
أحمد أمين
مقدمة الطبعة الثانية
كنت أخرجت هذا الكتاب - كما قلت في الطبعة الأولى - وأنا خائف متردد، للأسباب التي ذكرتها، وأحمد الله إذ تقبله القارئون قبولا حسنا، ومدحوا فيه ما يدل عليه من صراحة وصدق في الخير والشر، والنعيم والبؤس.
وقد نفدت الطبعة الأولى ومضى على نفادها نحو سنة. ثم طلب مني أن أعيد طبعته، فأجزت، وأعدت قراءته من جديد، فزدت عليه زيادات في أمور كنت نسيتها. وحصلت في السنتين الأخيرتين حوادث ألحقتها بالكتاب؛ حتى يساير «حياتي» حياتي.
والله المسئول أن ينفع بالطبعة الثانية، ما نفع بالأولى.
1952/12/18
أحمد أمين
الفصل الأول
ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مر علي وعلى آبائي من أحداث، فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني، قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام، ولكنها تتحلل في تراب الأرض فتغذي النبات والأشجار، وقد يتحول النبات والأشجار إلى فحم، ويتحول الفحم إلى نار، وتتحول النار إلى غاز، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم، حتى أشعة الشمس التي تكون الغابات وتنمي الأشجار تختزن في الظلام، فإذا سلطت عليها النار تحولت إلى ضوء وحرارة وعادت إلى سيرتها الأولى.
وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والأفكار والأخيلة، تبقى أبدا، وتعمل عملها أبدا، فكل ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته، بل من يوم أن كان علقة، بل من يوم أن كان في دم آبائه، وكل ما يلقاه أثناء حياته، يستقر في قرارة نفسه، ويسكن في أعماق حسه ، سواء في ذلك ما وعى وما لم يع، وما ذكر وما نسي، وما لذ وما آلم، فنبحة الكلب يسمعها، وشعلة النار يراها، وزجرة الأب أو الأم يتلقاها، وأحداث السرور، والألم تتعاقب عليه - كل ذلك يتراكم ويتجمع، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل أساسا لكل ما يصدر عن الإنسان من أعمال نبيلة وخسيسة - وكل ذلك أيضا هو السبب في أن يصير الرجل عظيما أو حقيرا، قيما أو تافها - فكل ما لقينا من أحداث في الحياة، وكل خبرتنا وتجاربنا، وكل ما تلقته حواسنا أو دار في خلدنا هو العامل الأكبر في تكوين شخصيتنا - فإن رأيت مكتئبا بالحياة ساخطا عليها متبرما بها، أو مبتهجا بالحياة راضيا عنها متفتحا قلبه لها، أو رأيت شجاعا مغامرا كبير القلب واسع النفس، أو جبانا ذليلا خاملا وضيعا ضيق النفس، أو نحو ذلك، فابحث عن سلسلة حياته من يوم أن تكون في ظهور آبائه - بل قد تحدث الحادثة لا يأبه الإنسان بها وتمر أمام عينيه مر البرق، أو يسمع الكلمة العابرة ولا يقف عندها طويلا، أو يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة، فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبئ في عالمه اللاشعوري، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات لسبب من الأسباب فتكون باعثا على عمل كبير أو مصدرا لعمل خطير. وكل إنسان - إلى حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه، وما اكتسبه من بيئته التي أحاطت به.
Halaman tidak diketahui
ولو ورث أي إنسان ما ورثت، وعاش في بيئة كالتي عشت لكان إياي أو ما يقرب مني جدا.
لقد عمل في تكويني إلى حد كبير ما ورثت عن آبائي، والحياة الاقتصادية التي كانت تسود بيتنا، والدين الذي يسيطر علينا، واللغة التي نتكلم بها، وأدبنا الشعبي الذي كان يروى لنا ونوع التربية الذي كان مرسوما في ذهن أبوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو ذلك؛ فأنا لم أصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سنه من قوانين الوراثة والبيئة.
عجيب هذا العالم، إن نظرت إليه من زاوية رأيته كلا متشابها، يتجانس في تكوين ذراته، وفي بناء أجزائه، وفي خضوعه لقوانين واحدة؛ وإن نظرت إليه من زاوية أخرى رأيت كل جزئية منه تنفرد عن غيرها بميزات خاصة بها، لا يشركها فيها غيرها، حتى شجرة الوردة نفسها تكاد تتميز كل ورقة فيها عن مثيلاتها، فمن الناحية الأولى نستطيع أن نقول: ما أشبه الإنسان بالإنسان، ومن الناحية الثانية نقول: ما أوسع الفرق بين الإنسان والإنسان.
وعلى هذه النظرة الثانية فأنا عالم وحدي، كما أن كل إنسان عالم وحده. تقع الأحداث على أعصابي، فأنفعل لها انفعالا خاصا بي، وأقومها تقويما يختلف - قليلا أو كثيرا - عن تقويم كل مخلوق آخر غيري. فالحادثة الواحدة يبكي منها إنسان، ويضحك منها آخر؛ ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث، كأوتار العود الواحد، يوقع عليها كل فنان توقيعا منفردا متميزا لا يساويه فيه أي فنان آخر.
فأنا أروي من الأحداث ما تأثرت به نفسي. وأحكيها كما رأت عيني. وأترجمها بمقدار ما انفعل بها شعوري وفكري
1 ...
الفصل الثاني
نظر مرة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك - كما يدل عليه علم السلالات - رأس كردي.
ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية، فأسرة أبي من بلدة «سمخراط» من أعمال البحيرة.. أسرة فلاحة مصرية. ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى. فقد يكون جدي الأعلى، كما يقول الأستاذ، كرديا أو سوريا أو حجازيا أو غير ذلك. ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم. ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي. وهذه الأسرة كانت كسائر الفلاحين تعيش على الزرع، وحدثني أبي أنهم كانوا يملكون في بلدهم نحو اثني عشر فدانا. ولكن توالى عليهم ظلم «السخرة» وظلم تحصيل الضرائب فهجروها.
وكانت السخرة أشكالا وألوانا، فسخرة للمصالح العامة كالمحافظة على جسور النيل أيام الفيضان؛ فعمدة البلدة يسخر الفلاحين ليحافظوا على الجسور حتى لا يطغى النيل فيغرق البلد فإذا تخلف أحد ممن عين لهذه الحراسة عذب وضرب، وهو يعمل هذا العمل من غير أجر؛ وسخرة للمصالح الخاصة فالغني الكبير والعمدة ونحوهما لهم الحق أن يحشدوا من شاءوا من الفلاحين المساكين ليعملوا في أرضهم الأيام والليالي من غير أجر - ولما أبطل رياض باشا السخرة والضرب بالكرباج في عهد الخديوي توفيق نقم عليه الوجوه والأعيان صنعه، وعدوا ذلك من عيوبه، وقالوا إنه أفسد علينا الفلاحين، وهكذا كان في كل ناحية من نواحي القطر عدد قليل من الوجوه والأعيان هم السادة، وسواد الناس لهم عبيد، بل هؤلاء الوجوه والأعيان سادة على الفلاحين وعبيد للحكام.
Halaman tidak diketahui
وأما الضرائب فلم تكن منظمة ولا عادلة، فأحيانا يستطيع أن يهرب الغنى الكبير من دفعها أو يدفع القليل مما يجب عليه منها ويتخلص من الباقي بالرشوة أو التقرب إلى الحكام. ثم يطالب الفقراء المساكين بأكثر مما يحتملون، فإن لم يدفعوا بيعت بهائمهم الهزيلة، وأثاث بيوتهم الحقيرة، ثم ضربوا بالكرباج وعذبوا عذابا أليما - فكان كثير منهم إذا أحس أنه سيقع في مثل هذا المأزق حمل أثاث منزله على بهائمه، وخرج هو وأسرته هائمين على وجوههم في ظلمة الليل، وتركوا أراضيهم، ونزلوا على بعض أقربائهم أو على البدو في الخيام أو حيثما اتفق - فعلت ذلك أسرة علي باشا مبارك وفعلته أسرتي وأسر كثير من الناس.
ففي ليلة من الليالي خرج أبي الصغير وعمي الكبير من سمخراط يحملان معهما القليل من الزاد والأثاث، تاركين الأطيان حلا مباحا لمن يستولي عليها ويدفع ضرائبها، ونزلا في حي المنشية ( في قسم الخليفة) ولا قريب ولا مأوى. وقسم الخليفة كقسم بولاق أكثر أحياء القاهرة عددا وأقلها مالا وأسوؤها حالا، يسكنها العمال والصناع والباعة الجوالون وكثير من الطبقة الوسطى وقليل من العليا، ولم تمسهما المدينة الحديثة إلا مسا خفيفا، فمن شاء أن يدرس حياة سكان القاهرة كما كانوا في العصور الوسطى فليدرسها في هذين الحيين ولاسيما أيام ولادتي.
وهكذا ألاعيب القدر. ظلم صراف البلدة أخرج أبي من سمخراط وأسكنه القاهرة حيث ولدت وتعلمت، ولولا ذلك لنشأت فلاحا مع الفلاحين أزرع وأقلع، ولكن تتوالد الأحداث توالدا عجيبا، فقد ينتج أعظم خير من أعظم شر كما ينتج أعظم شر من أعظم خير، ولا تستبين الأمور حتى يتم هذا التوالد ويظهر على مسرح الكون.
سكن الشريدان في بيت صغير في حارة متواضعة
1
في حي المنشية، وعاشا على القليل مما ادخرا، ولابد أن يكونا قد لقيا كثيرا من البؤس والعنت في أيامهما الأولى، ولكن سرعان ما شق الأخ الكبير طريقه في الحياة فكان صانعا كسوبا. وكان أكبر الظن يأخذ أخاه الأصغر معه «وهو أبي» ليكون صانعا بجانبه، يعينه على الكسب أول أمره، ولكن نزعة طيبة غلبت عليه فوجهه نحو التعلم واحتمل نفقته، فهو يحفظ القرآن، ويلتحق بالأزهر، ويخجل من أخيه أن يرهقه بالإنفاق عليه فلا يطالبه إلا بالضروري، وإذا احتاج إلى كتاب يقرأ في الأزهر خطه بيمينه، وقد أحسن خطه فكان خطا جميلا قل أن يكون له نظير بين طلاب الأزهر وعلمائه، يكتبه في أناقة ويشتري له ورقا متينا صقيلا، ويسطره بمسطرة هي عبارة عن ورقة سميكة قد شد عليها خيط في مكان السطور وثبتت عليها بالصمغ، فإذا وضعت الورقة التي يراد الكتابة عليها وضغطت بانت الخيط، فكتب الكاتب عليها خطا منتظما. وقد خلف أبي كتبا كثيرة من هذا القبيل، فقد كان كلما عثر على كتاب مخطوط جيد نقله بخطه، ولا أدري أين وجد الزمن الذي قام فيه بمثل هذا العمل. وأكبر الظن أن الذي أعانه على ذلك أنه لم يتعود لعبا قط، ولا جلس على مقهى قط، وإنما كانت حياته «جد في جد»، مما أرهقه وأتلف صحته. فلما توفي جمعت هذه الكتب في صناديق وأهديتها إلى مكتبة الأزهر باسمه. وكان أكثرها كتب نحو وفقه شافعي.
ويتقدم أبي في الدراسة فيبحث عن عمل يكسب منه بجانب دراسته فيكون مصححا بالمطبعة الأميرية ببولاق أحيانا، ومدرسا في مدرسة حكومية
2
أحيانا. وكانت الدراسة في الأزهر صعبة مملة طويلة لا يجتازها إلا من منح صبرا طويلا، واحتمل عبئا ثقيلا، يطلب هذه الدراسة كثيرون ولا يتمها إلا القليلون فيكونون كالماء يبتدئ نهرا كبيرا، ويمر أخيرا في قناة. ويقضي الطالب في ذلك نحو عشرين سنة أو أكثر، ثم قد ينجح أو لا ينجح. وهكذا نجح أبي في دراسته بصبره وقوة احتماله، واستطاع أن يحمل عبئه ويرد الجميل لأخيه.
وأما أسرة أمي فأصلها على ما روي لي من «تلا» من أعمال المنوفية، ولا أدري أهجرتها كما هجرتها أسرة أبي فرارا من الظلم أو لشيء آخر، وكل ما أعلمه أن أخوالي سكنوا في حي في وسط القاهرة قريب من باب الخلق، وكانوا يشتغلون في تجارة (العطارة)، وكانوا ناجحين في تجارتهم، وكانوا مع - مهنتهم التجارية - يحفظون القرآن، ويحسنون قراءته، ويلتزمون شعائر الدين. وكان أحد أخوالي سمحا كريما، كثير الإحسان للفقراء، وقد منح بسطة في الرزق، وسعة في النفس. وأما خالي الآخر، فكان كزا شحيحا مضيقا عليه في رزقه. ولست أدري: أكانت سماحة الأول سببا في سعة رزقه، أم سعة رزقه سببا في سماحته؟ كما أني لست أدري أكانت كزازة الثاني سببا في ضيق رزقه، أم كان ضيق رزقه سببا في كزازته.
Halaman tidak diketahui
الفصل الثالث
كانت أول مدرسة تعلمت فيها أهم دروسي في الحياة بيتي، وقد بنى أبي - بعد أن تحسنت حاله - بيتا مستقلا في الحارة التي يسكنها هو وأخوه منذ هجرتهما. يتكون من دورين غير الأرضي، ففي الدور الأرضي منظرة للضيوف وكل دور به ثلاث غرف وتوابعها.
وطابع البيت كان البساطة والنظافة. فأثاث أكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة، وإذا كانت حجرة نوم رأيت في ركن من أركانها حشية ولحافا ومخدة، تطوى في الصباح وتبسط في المساء. فلم نكن نستخدم الأسرة، وأدوات المطبخ في غاية السذاجة. وهكذا، ولو أردنا أن ننتقل لكفتنا عربة كبيرة لنقل الأثاث؛ أما أكثر ما في البيت وأثمنه وما يشغل أكبر حيز فيه فالكتب - المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب، وحجرة أبي مملوءة بالكتب وحجرة في الدور الأول ملئت كذلك بالكتب.
وكان أبي مولعا بالكتب في مختلف العلوم، في الفقه.. والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والأدب والنحو والصرف والبلاغة، وإذا كان الكتاب مطبوعا طبعتين: طبعة أميرية وطبعة أهلية لم يرتح حتى يقتنيه طبعة أميرية، وقد مكنه عمله مصححا في المطبعة الأميرية أن يقتني كثيرا مما طبع فيها وكانت هذه المكتبة أكبر متعة لي حين استطعت الاستفادة منها، وقد احتفظت بخيرها نواة لمكتبتي التي أعتز بها وأمضي الساعات فيها كل يوم إلى الآن.
في حجرة في هذا البيت ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحا من أول أكتوبر سنة 1886، وكأن هذا التاريخ كان إرهاصا بأني سأكون مدرسا فأول أكتوبر عادة بدء افتتاح الدراسة. وشاء الله أن أكون كذلك. فكنت مدرسا في مدرسة ابتدائية، ثم في مدرسة ثانوية ثم في عالية، وكنت مدرسا لبنين وبنات، ومشايخ وأفندية. وكنت رابع ولد ولد، ولم يكن أبي يحب كثرة الأولاد شعورا منه بالمسئولية، ولما لقي من الحزن العميق في وفاة أختي أبشع وفاة.
فقد كان لي أخت في الثانية عشرة من عمرها شاء أبي ألا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها إلى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز، وقامت يوما تعد القهوة لضيوف المعلمة فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت أن تطفئ نفسها أول الأمر فلم تنجح فصرخت، ولكن لم يدركوها إلا وهي شعلة نار، ثم فارقت الحياة بعد ساعات، وكان ذلك وأنا حمل في بطن أمي، فتغذيت دما حزينا ورضعت بعد ولادتي لبنا حزينا، واستقبلت عند ولادتي استقبالا حزينا، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس، ولا أبتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم.
وكان من محاسن أسرتنا استقلالنا في المعيشة وفي البيت، فلا حماة ولا أقارب إلا أن يزوروا لماما.
وكان بيتنا محكوما بالسلطة الأبوية، فالأب وحده مالك زمام أموره، لا تخرج الأم إلا بإذنه، ولا يغيب الأولاد عن البيت بعد الغروب خوفا من ضربه، ومالية الأسرة كلها في يده يصرف منها كل يوم ما يشاء كما يشاء، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل، يشعر شعورا قويا بواجبه نحو تعليم أولاده، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في مدارسهم، سواء في ذلك أبناؤه وبناته، ويتعب في ذلك نفسه تعبا لا حد له، حتى لقد يكون مريضا فلا يأبه بمرضه، ويتكئ على نفسه ليلقي علينا درسه. أما إيناسنا وإدخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت إليه. ولا يرى أنه واجب عليه. يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته؛ وتتجلى هذه الرحمة في المرض يصيب أحدنا، وفي الغيبة إذا عرضت لأحد منا، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي، يأكل وحده ويتعبد وحده، وقلما يلقانا إلا ليقرئنا. أما أحاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع أمنا.
وقد كان لنا جدة - هي أم أمنا - طيبة القلب شديدة التدين؛ يضيء وجهها نورا، تزورنا من حين لآخر، وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها، وكانت تعرف من القصص الشعبية - الريفية منها والحضرية - الشيء الكثير الذي لا يفرغ، فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها ولا نزال كذلك حتى يغلبنا النوم، وهي قصص مفرحة أحيانا مرعبة أحيانا، منها ما يدور حول سلطة القدر وغلبة الحظ، ومنها ما يدور حول مكر النساء ودهائهن، ومنها حول العفاريت وشيطنتها، والملوك والعظماء وذلهم أمام القدر «إلخ»، وتتخلل هذه القصص الأمثال الشعبية اللطيفة والجمل التي يتركز فيها مغزى القصة. وأحيانا كان أخي الكبير يقرأ لنا في ألف ليلة وليلة، فإذا أتى إلى جمل ماجنة متهتكة تلعثم فيها وخجل واضطرب وحاول أن يتخطاها، وأحيانا يزل لسانه فيقرؤها فيضحك بعض من حضر، وتخجل أمي وجدتي فيهرب أخي من هذا الموقف المربك، وتقف القراءة.
ولكن كان بيتنا - على الجملة - جدا لا هزل فيه، متحفظا ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير، وذلك من جد أبي وعزلته وشدته.
Halaman tidak diketahui
ولم تكن المدنية قد غزت البيوت، ولاسيما بيوت الطبقة الوسطى أمثالنا، فلا ماء يجري في البيوت وإنما سقاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت تملأ منه القلل وتغسل منه المواعين وكلما فرغت قربة أحضر قربة. والسقاء دائم المناداة على الماء في الحارة، وحسابه لكل بيت عسير، إذ هو يأخذ ثمن مائه كل أسبوع، فتارة يتبع طريقة أن يخط خطا على الباب كلما أحضر قربة. ولكن بعض الشياطين يغالطون فيمسحون خطا أو خطين، ولذلك لجأ السقاء إلى طريقه «الخرز» فيعطي البيت عشرين خرزة، وكلما أحضر قربة أخذ خرزة، فإذا نفذت كلها حاسب أهل البيت عليها.
وأخيرا - وأنا فتى - رأيت الحارة تحفر والأنابيب تمد والمواسير والحنفيات تركب في البيوت وإذا الماء في متناولنا وتحت أمرنا، وإذا صوت السقاء يختفي من الحارة ويريحنا الله من الخطوط تخط أو الخرز يوزع.
وطبيعي في مثل هذه الحال ألا يكون في البيت كهرباء فكنا نستضيء بالمصابيح تضاء بالبترول، ولم أستضئ بالكهرباء حتى فارقت حينا إلى حي آخر أقرب إلى الأرستقراطية.
وطعامنا يطهى على الخشب ثم تقدمنا فطهونا على رجيع الفحم (فحم الكوك) ثم تقدمنا أخيرا فطهونا على (وابور بريمس)..
وكل أعمال البيت تقوم بها أمي، فلا خادم ولا خادمة ولكن يعينها على ذلك أبناؤها فيما يقضون من الخارج، وكبرى بناتها في الداخل.
وكان أبي مدرسا في الأزهر ومدرسا في مسجد الإمام الشافعي وإمام مسجد ويتقاضى من كل ذلك نحو اثني عشر جنيها ذهبا، فلم نكن نعرف جنيهات الورق، وأذكر - وأنا في المدرسة الابتدائية - أن ظهرت عملة الورق فخافها الناس ولم يؤمنوا بها وتندرت الجرائد الهزلية عليها. وكانت لا تقع في يد الناس - وبخاصة الشيوخ - حتى يسرعوا إلى الصيارف فيغيروها ذهبا. وكانت الاثنا عشر جنيها تكفينا وتزيد عن حاجتنا ويستطيع أبي أن يدخر منها للطوارئ، إذ كانت قدرتها الشرائية تساوي الأربعين جنيها والخمسين اليوم. فعشر بيضات بقرش. ورطل اللحم بثلاثة قروش أو أربعة، ورطل السمن كذلك وهكذا، ومن ناحية أخرى كانت مطالب الحياة محدودة ومعيشتنا بسيطة؛ فأبي من بيته إلى عمله إلى مسجده ثم إلى بيته، لا يدخن ولا يجلس على مقهى. وملابسنا جميعا نظيفة بسيطة، ومأكلنا معتدل ليس بضروري فيه تعدد أصنافه، ولا أكل اللحم كل يوم، ولم نر فيمن حولنا عيشة خيرا من معيشتنا نشقى بالطموح إلى أن نعيش مثلها، ولا سينما ولا تمثيل، ولكن من حين لآخر تنصب خيمة على باب حارتنا يلعب فيها «قره جوز» أدخل إليها بنصف قرش ويكون ذلك مرة في السنة أو مرتين.
ويغمر البيت الشعور الديني، فأبي يؤدي الصلوات لأوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحا ومساء، ويصحو مع الفجر ليصلي ويبتهل، ويكثر من قراءة التفسير والحديث، ويكثر من ذكر الموت ويقلل من قيمة الدنيا وزخرفها ويحكي حكايات الصالحين وأعمالهم وعبادتهم، ويؤدي الزكاة ويؤثر بها أقرباءه ويحج وتحج أمي معه - ثم هو يربي أولاده تربية دينية فيوقظهم في الفجر ليصلوا ويراقبهم في أوقات الصلاة الأخرى ويسائلهم متى صلوا وأين صلوا. وأمي كانت تصلي الحين بعد الحين - وكلنا يحتفل برمضان ويصومه - وعلى الجملة فأنت إذا فتحت باب بيتنا شممت منه رائحة الدين ساطعة زاكية، ولست أنسى يوما أقيمت فيه حفلة عرس في حارتنا، وقدمت فيه المشروبات الروحية لبعض الحاضرين فشوهد أخي المراهق يجلس على مائدة فيها شراب، فبلغ ذلك أبي فمازال يضربه حتى أغمي عليه - وكان معي يوما قطعة بخمسة قروش فحاولت أن أصرفها من بائع سجائر فشاهدني أخي الكبير فأخذ يسألني ويحقق معي تحقيق «وكيل نيابة» مع المتهم، خوفا من أكون أشتري سجائر لأدخنها إذ ليس أحد في البيت يحدث نفسه أن يشرب سيجارة.
وبعد، فما أكثر ما فعل الزمان، لقد عشت حتى رأيت سلطة الآباء تنهار، وتحل محلها سلطة الأمهات والأبناء والبنات وأصبح البيت برلمانا صغيرا، ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل فلا تؤخذ فيه الأصوات ولا تتحكم فيه الأغلبية، ولكن يتبادل فيه الاستبداد، فأحيانا تستبد الأم، وأحيانا تستبد البنت أو الابن وقلما يستبد الأب، وكانت ميزانية البيت في يد صراف واحد فتلاعبت بها أيدي صرافين، وكثرت مطالب الحياة لكل فرد وتنوعت، ولم تجد رأيا واحدا يعدل بينها، ويوازن بين قيمتها، فتصادمت وتحاربت وتخاصمت، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته.
وغزت المدنية المادية البيت فنور كهربائي وراديو وتليفون ، وأدوات للتسخين وأدوات للتبريد، وأشكال وألوان من الأثاث. ولكن هل زادت سعادة البيت بزيادتها؟
وسفرت المرأة وكانت أمي وأخواتي محجبات - لا يرين الناس ولا يراهن الناس إلا من وراء حجاب - وهذا من أمور الانقلاب الخطير، ولو بعث جدي من سمخراط ورأى ما كان عليه أهل زمنه وما نحن عليه اليوم لجن جنونه؛ ولكن خفف من وقعها علينا أنها تأتي تدريجا، ونألفها تدريجيا، ويفتر عجبنا منها وإعجابنا بها على مر الزمان، ويتحول شيئا فشيئا من باب الغريب إلى باب المألوف.
Halaman tidak diketahui
الفصل الرابع
كان هذا البيت أهم مدرسة تكونت فيها عناصر جسمي وخلقي وروحي، فإذا تغيرت بالنمو أو الذبول وبالقوة أو الضعف، فمسائل عارضة على الأصل - لقد كانت أمي قصيرة النظر فورثت عنها قصر النظر، ولقيت من عنائه في حياتي الشيء الكثير، فإذا تقدمت للدخول في دار العلوم حرمت من ذلك لقصر نظري، وإذا تقدمت للدخول في مدرسة القضاء فكذلك إلا أن تحدث معجزة. وإذا أريد تثبيتي في وظيفة سقطت في امتحان النظر، ولم أثبت إلا بمعجزة أخرى. وتحدث أحداث كثيرة مخجلة وغير مخجلة نتيجة لقصر نظري. فقد لا أسلم على أحد يجلس بعيدا عني فيظن بي الكبر؛ وقد أكون على موعد في مقهى فأدخل ولا أرى من وعدتهم إلا أن يروني. وقد أمر في الشارع على من أنا في حاجة إليه، فلا أراه. وقد أحب أن أذهب إلى السينما أو التمثيل للاسترواح فلا أذهب - وهكذا وهكذا من أحداث سيئة لا تحصى صادفتني في حياتي إلى أن اضطررت من شبابي إلى أن ألبس نظارة، وكنت من سنة إلى أخرى أغير النظارة بأخرى أسمك منها، حتى صارت في آخر الأمر نظارة سميكة. واعتادت عيني هذه النظارة. وكانت لها كذلك سيئات. فإذا كسرت أو نسيتها في البيت، صرت كأني أعمى. وقد رأيتني فيما بعد أحتاج إلى نظارتين، نظارة للقراءة ونظارة للسير والعمل. ولا تسأل عن متاعب ذلك. ومع قصر النظر هذا، كان النظر القصير نعمة كبيرة إذا قارنت بينه وبين العمى. فكل الأشياء الجوهرية من رؤية أشخاص ورؤية مناظر جميلة، كان يكفى قصر نظري لإدراكها.
وربما كان هذا عاملا من عوامل حبي العزلة حتى لا أقع في مثل هذه الأغلاط، ولكن أحمد الله أن كان نظري على قصره سليما، فقد احتملني على كثرة قراءتي ومداومة النظر في الكتب حتى جاوزت الستين.
ثم إن كل خصائص البيت التي ذكرتها انعكست في طبيعتي وكونت أهم مميزات شخصيتي. فإن رأيت في في إفراطا في جانب الجد وتفريطا معيبا في جانب المرح، أو رأيت صبرا على العمل وجلدا في تحمل المشقات، واستجابة لعوامل الحزن أكثر من الاستجابة لعوامل السرور، فاعلم أن ذلك كله صدى لتعاليم البيت ومبادئه. وإن رأيت دينا يسكن في أعماق قلبي، وإيمانا بالله لا تزلزله الفلسفة ولا تشكك فيه مطالعاتي في كتب الملحدين، أو رأيتني أكثر من ذكر الموت وأخافه، ولا أتطلع إلى ما يعده الناس مجدا ولا أحاول شهرة، وأذكر في أسعد الأوقات وأبهجها أن كل ذلك ظل زائل وعرض عارض، أو رأيت بساطتي في العيش وعدم احتفائي بمأكل أو بمشرب أو ملبس، وبساطتي في حديثي وإلقائي، وبساطتي في أسلوبي وعدم تعمدي الزينة والزخرف فيه، وكراهيتي الشديدة لكل تكلف وتصنع في أساليب الحياة، فمرجعه إلى تعاليم أبي وما شاهدته في بيتي.
لقد قرأت الكثير مما يخالف هذه التعاليم، وصاحبت أهل المرح وسمعت آراء الإلحاد، وأنصت إلى من ينصحني بالابتهاج بالحياة وتعاقبت أمام ناظري أنواع الحياة المختلفة والمظاهر المتباينة ونحو ذلك. ولكن تسرب بعض هذه الأشياء إلى عقلي الواعي كان على السطح لا في الصميم، أما شعوري العميق وما له الأثر الكبير في الحياة من اللاوعي فمنشؤه البيت، كانت الصفحة بيضاء نقية تستقبل ما يقع عليها وتدخره في خزانتها، ثم تكون له السيطرة الكبرى على الحياة مهما طالت.
نعم إني لأعرف من نشئوا في بيت كبيتي تغمره النزعة الدينية كالنزعة التي غمرت بيتي. ومع هذا ثاروا على هذه النزعة في مستقبل حياتهم. وانتقلوا من النقيض إلى النقيض. ولم يعبئوا بالسلطة الدينية التي فرضت عليهم في صغرهم. فلماذا كان موقفهم غير موقفي واتجاههم غير اتجاهي؟ هل كان ذلك لأن الدين يتبع المزاج إلى حد كبير، أو لأن شخصية أبي كانت قوية غرست في ما لم يستطع الزمان اقتلاعه، أو أن عوامل البيئة زادت هذه النزعة الدينية نموا، فلم جاءت العاصفة جاءت متأخرة؟ لعله شيء من ذلك أو لعله كل ذلك أو لعله شيء غير ذلك.
وهكذا الشأن في كثير من شئون الحياة، نرى رجلين نشآ في بؤس من العيش وقلة من المال، ثم بسط لهما في العيش وتدفق عليهما المال، فتعلم أحدهما من بؤسه الأول حرصا على المال وفرط تقويم له، على حين أن الآخر انتقم من بؤسه بنعيمه، ومن بخل الزمان الأول عليه بإسرافه.
لقد رأينا طرفة بن العبد وأبا العتاهية، كلاهما تمثلت أمام عينيه حقيقية الموت. فاستنتج منها طرفة وجوب انتهاب اللذائذ وقال:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
Halaman tidak diketahui
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
واستنتج منها أبو العتاهية احتقار اللذائذ وتهوين شأنها والصد عنها فقال:
عجبت لذي لعب قد لها
عجبت ومالي لا أعجب
أيلهو ويلعب من نفسه
تموت ومنزله يخرب
وعلى كل حال فالبيت يبذر البذور الأولى للحياة ويتركها للتربة التي تعيش فيها، والجو الذي يعاكسها أو ينميها، حتى تعيش عيشتها المقدورة لها وفقا لنظام الكون وقوانينه.
الفصل الخامس
عصرت ذاكرتي لأذكر أقدم أحداث طفولتي فذكرت منها ثلاثة - أولها أني وأنا في الرابعة من عمري خرجت من حارتي فوجدت بناء وله باب مفتوح فدخلته، كان هذا البناء «جباسة» رأيت فيها عجبا، ثور كبير علقت على عنقه خشبة وربطت هذه الخشبة في أسطوانة من الحديد كبيرة، فإذا الثور دار دارت الحديدة - وقد وضع تحت الحجر حجر أبيض إذا دارت عليه طحنته فكان جبسا.
Halaman tidak diketahui
أعجبني هذا المنظر، والناس - وبخاصة الأطفال - تعجبهم الحركة أكثر مما يعجبهم السكون، فلعبة القطار إذا كان يجري «بزنبلك» خير من لعبة القطار الساكن، والإعلان المتحرك في المحال التجارية خير من الإعلان الثابت، على هذا الأساس النفسي كانت الصور المتحركة للأطفال في السينما وهكذا؛ جميل هذا المنظر: ثور يتحرك ويدور فتتحرك معه الأسطوانة الحديدية، وحجر جامد يتحول إلى دقيق ناعم - وشغلت به عن نفسي فجلست أمامه وقضيت الساعتين أو أكثر في الاستمتاع به؛ في هذه الأثناء بحثت عني أمي في البيت فلم تجدني، فنادت أخي وأختي فبحثا عني في الحارة فلم يجداني، فجن جنونها، وكان يشاع في أوساطنا أن هناك قوما يخطفون الأولاد ويسفرونهم إلى البلاد النائية للعمل، وأن هناك آخرين شريرين يسمى كل منهم «سماوي» يخطفون الأولاد ويذبحونهم أو يضعونهم في ماعون كبير يغلي بهم على النار وهكذا، فخافت أمي أن يكون قد حدث لي شيء من هذا.
وكان في كل حي «مناد» يستأجر لينادي على الأولاد التائهين، فيقول بأعلى صوته: «يا من رأى ولدا صفته كذا يلبس جلبابا أحمر أو أصفر، وعلى رأسه طاقية أو عاري الرأس، وفي رجله نعل أو حافي القدمين فمن وجده فله الحلاوة» وينتقل في الشوارع والحارات المجاورة ينادي هذا النداء ثم يختمه كل مرة بقوله «يا عدوي» والعدوي هذا شيخ من أولياء الله الصالحين موكل برد التائه إلى أهله.
وأذكر - بهذه المناسبة - حادثة طريفة: أن المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري ألف كتابا سماه «أين الإنسان؟» قرأه المرحوم «فتحي باشا زغلول» فلم يعجبه. فأخذ القلم وكتب تحت «أين الإنسان» يا عدوي.
على كل حال كان المنادي ينادي علي وأنا في الجباسة حتى جاء رجل وطردني، وشتمني وشتمته، فعدت إلى البيت، فنهرتني أمي وقالت: أين كنت؟ قلت في الجباسة. وحكيت القصة وما رأيت وما قاله لي الرجل وما رددت عليه، بلغة مكسرة ولسان ألثغ. فكانت القصة تستخرج الضحك من كل من سمعها، وكثيرا ما طلب مني أن أعيد روايتها ولهذا ثبتت في ذاكرتي.
وحدث مرة أن أخذني والدي إلى المسجد بجوار بيتنا ليصلي ولم يكن بالمسجد غيرنا. فخلع والدي جبته وجوربه وشمر أكمامه وذهب إلى «الميضأة» ليتوضأ والميضأة حوض ماء نحو ثلاثة في ثلاثة يملأ بالماء من حين لآخر. وفي العادة يملأ من بئر بجانبه ركبت عليها بكرة، وعلق فيها حبل في طرفية دلوان، ينزل أحدهما فارغا ويصعد الآخر ملآن.
ومن أراد أن يتوضأ من الميضأة جمع الماء بين كفيه وغسل وجهه ثم يعود الماء إلى الميضأة بعد الغسل كما أخذ، وكانت هذه الميضأة مصدر بلاء كبير، فقد يتوضأ المريض بمرض معد كالرمد ونحوه فيتلوث الماء ويعدي الصحيح، هذا إلى قذارته. فالمتوضئ يغسل وجهه بعد أن غسل من قبله رجليه، ولكن الاعتقاد الديني يغطي كل هذه العيوب والأخطار، فلما دخل القاهرة نظام جري الماء في الأنابيب والحنفيات لم تعد حاجة إلى الميضأة، وأصبحت الحنفيات أنظف وأصح، ولكن إلف الناس للقديم جعلهم يحزنون لفراق الميضأة، ولذلك كان مما أخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أن أبطل ميضأة الأزهر وأحل محلها الحنفيات، وهكذا يألف الناس القديم الضار ويكرهون الجديد النافع ويدخلون في الدين ما ليس في الدين.
توضأ أبي وذهب يصلي، وبقيت أنظر إلى البئر وإلى الميضأة وأتجول بينهما فتزحلقت وغرقت في الميضأة، وغمر الماء رأسي ولولا أن أبي كان قريبا مني وسمع الحركة وأسرع إلى الميضأة وانتشلني ما كنت من ذلك الحين من الأحياء.. وهكذا نجوت من هذا الحادث على هذا الوجه، وكان يمكن أن تختصر حياتي كلها وتقف عند هذا الحد لو تأخرت في الماء دقيقة ولم يلتفت أبي إلى هذه الرجة - وكم من أرواح نجت بمثل هذا وأرواح ضاعت بمثل هذا أيضا - وعلى كل فلسفة الحوادث وفلسفة القدر غامضة عجيبة.
وبعد ذلك حدثت لي حادثة ثالثة، فقد مر بحارتنا قبيل الغروب سائل يستجدي بالفن؛ فمعه دف يوقع عليه توقيعا لطيفا وينشد مع التوقيع قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينوع النغمات حسب القصائد، ويناغم بين القصيدة والضرب على الدف. أعجبني هذا وطربت له فتبعته، وخرج من حارتنا إلى حارة أخرى فكنت معه حتى أتم دورته، وإذا نحن بعد العشاء وأبي ينتظرني لتأخري، فلما دخلت البيت أخذ يضربني من غير سؤال ولا جواب - ولو كان أبي فنانا لقبلني لأنه كان يكتشف في أذنا موسيقية وعاطفة قوية، ولكنه لم ينظر في الموضوع إلا أني تأخرت عن حضور البيت بعد غروب الشمس.
الفصل السادس
وكانت المدرسة الثانية هي «حارتي» فقد لعبت مع أبنائها وتعلمت منهم مبادئ السلوك، وتبادلت معهم عواطف الحب والكره، والعطف والانتقام، والألفاظ الرقيقة وألفاظ السباب - وانطبعت منها في ذهني أول صورة للحياة المصرية الصميمة في سلوكها وأخلاقها وعقائدها وخرافاتها وأوهامها ومآتمها وأفراحها وزواجها وطلاقها إلى غير ذلك - وكانت حارتنا مثالا للأسر في القرون الوسطى قبل أن تغزوها المدنية بماديتها ومعانيها - فقد ولدت عقب الاحتلال الإنجليزي بنحو أربع سنوات، ولم يكن الفرنج قد بثوا مدنيتهم إلا في أوساط قليلة من الشعب، هي أوساط بعض من يحتك بهم من الأرستقراطيين وأشباههم. أما الشعب نفسه - وخاصة الأحياء الوطنية كحينا - فلم يأخذ بحظ وافر منها، فحارتنا ليس فيها من يتكلم كلمة أجنبية، بل ليس فيها من يلبس البدلة والطربوش إلا عددا قليلا جدا من الموظفين. وليس في بيوتها أثر من وسائل الترف التي أنتجتها المدنية الحديثة. وليس فيها من يقرأ كتابا حديثا مترجما أو مكتوبا بالأسلوب الحديث. ومن يقرأ منهم فإنما يقرأ القرآن والحديث والقصص القديمة كألف ليلة وعنترة، أو الكتب الأدبية الخفيفة، ككليلة ودمنة، والمستطرف في كل فن مستظرف.
Halaman tidak diketahui
ولم تكن قد سادت النزعة الأوربية التي لا تقدر الجوار فيسكن الرجل منهم بجوار صاحبه السنين ولا يعرف من هو بل قد يسكن معه في بيت واحد أو في شقة بجانب شقته ولا يكلف نفسه مئونة التعرف به والسؤال عن حاله، إنما كانت تسود النزعة العربية التي تعد الجار ذا شأن كبير في الحياة، فكان أهل حارتنا كلهم جيرانا يعرف كل منهم شئون الآخرين وأسماءهم وأعمالهم، ويعود بعضهم بعضا عند المرض، ويعزونهم في المآتم ويشاركونهم في الأفراح، ويقرضونهم عند الحاجة ويتزاورون في «المناظر» فكل بيت من طبقة الأوساط كانت فيه حجرة بالدور الأرضي أعدت لاستقبال الزائرين تسمى «المنظرة» وينطقونها بالضاد، ويتبادل في هذه «المناظر» أهل الحارات الزيارات والسمر.
كانت حارتنا تشمل نحو ثلاثين بيتا، يغلق عليها في الليل باب ضخم كبير في وسطه باب صغير وراءه بواب، وهذا الباب بقية من العهد القديم، يحميها من اللصوص ومن ثورات الرعاع وهياج الجنود، فإذا حدث شيء من ذاك أغلق الباب وحرسه البواب، فلما استقر الأمن وسادت الطمأنينة استمر فتح الباب واستغني عن البواب.
وتمثل هذه البيوت طبقات الشعب، فكان من هذه الثلاثين بيتا بيت واحد من الطبقة العليا، ونحو عشرة من الطبقة الوسطى ونحو عشرين من الطبقة الدنيا.
فالغني من الطبقة العليا كان شيخا معمما، يدل مظهره على أنه من أصل تركي، وجهه أبيض مشرب بحمرة، طويل عريض وقور، ذو لحية بيضاء، مهيب الطلعة له عربة بجوادين، يدقان بأرجلهما فتدق معها قلوب أهل الحارة، هو نائب المحكمة العليا الشرعية وسيد الحارة، إذا حضر من عمله تأدب أهلها، فلا ترفع نساء الطبقة الدنيا أصواتهن، وإذا جلس في فناء بيته تأدب الداخل والخارج، وإذا تجرأت امرأة على رفع صوتها أتى خادمه الأسود فأحضرها أمام الشيخ وزجرها زجرة لم تعد لمثلها، وعلى ألسنتنا نحن الأطفال: الشيخ جاء، الشيخ خرج، وبيته الواسع الكبير لا يشمل إلا سيدة تركية، وخدما من الجواري السود اللاتي كن مملوكات وعبيدا سودا - فقد كان في القاهرة أسواق وبيوت لبيع الجواري البيض والسود، يذهب من أراد الشراء فيقلب العبد أو الجارية ويكشف عن جسدها ليرى إن كان هناك عيب، ثم يساوم في ثمن من أعجبه فيشتريه ويكون له ملكا. وظل هذا الحال إلى عهد إسماعيل، فتدخلت الدول الأوربية ووضعت معاهدة لإلغاء الرقيق وأعتق كل مالك رقيقه، ومع ذلك بقي كثير من العبيد والجواري في بيوت أسيادهم للخدمة ونحوها - وكان يشاع فيما بيننا أن الشيخ يملك ذهبا كثيرا، وأنه يضعه في خزائن حديدية، وأنه يضع كل جملة من الجنيهات في صرة، وأن له يوما في السنة يفرغ فيه هذا الذهب في طسوت مملوءة بالماء ثم يغسله بالماء والصابون ثم يعده ويعيده، وكان بخيلا مع أنه لم يرزق ولدا، فلم يسمع عنه أنه ساعد أحدا من أهل الحارة بشيء. ولما جاوز السبعين ماتت زوجته فتزوج شابة لعبت بماله وغير ماله، وكثيرا ما يجتمع في منظرته أبي وبعض أهل العلم يتدارسون المسائل الفقهية. وفي يوم المحمل أو الاحتفال بالمولد النبوي يلبس الشيخ «فرجية» مقصبة مذهبة ويركب بغلة ويذهب بها إلى مكان الاحتفال، وعلى الجملة فكان المستبد في حارتنا كاستبداد أبي في بيتنا، واستبداد الحكام في مصالح الحكومة.
أما الطبقة الوسطى، فكانت تتألف من موظفين في الدواوين هذا كاتب في ديوان الأوقاف، وهذا كاتب في الدفترخانة، وهذا يعيش من غلة أملاكه وهكذا، دخل كل منهم في الشهر ما بين سبعة جنيهات واثني عشر، يعيشون عيشة وسطا لا ترف فيها ولا بؤس، ويعلمون أولادهم في الكتاتيب ثم المدارس. وكان أكبر الأثر من هذه البيوت في نفسي لبيتين بجوار بيتنا: بيت موظف في ديوان الأوقاف دين لطيف مرح، فقد اتخذ منظرته مجمعا لأصدقائه من أهل الحارة وغيرهم يسمرون فيها ليلا، فأحيانا يحضر مقرئا جميل الصوت يقرأ القرآن، وأحيانا يقصون القصص الفكاهية يتعالى معها ضحكهم، وأحيانا يتبادلون النوادر والنكت، وكنت أتمكن أحيانا من سماع أحاديثهم فتكون متعة للنفس.
والآخر كان كاتبا صغيرا في ديوان الأوقاف أيضا، ولكنه يهوى الدف والضرب عليه ويجيده، ويؤلف مع زملائه تختا يدعى للأفراح والليالي الملاح، هذا يضرب على العود، وهذا على القانون وهذا يغني، فكان من حين إلى حين يدعو زملاءه إلى إقامة حفلة في بيته، وكثيرا ما يكون ذلك، فيقضون ليالي لطيفة في أدوار موسيقية وغناء، وكنت أغذي بها نفسي يوم لم يكن راديو ولا فونوغراف - وكان رئيس البيت - وهو والد هذا المغني صالحا ظريفا لا تفوته صلاة. وكان صاحب البيت الثاني وهو الفتى المغني سكيرا لا يكاد يفيق مع أن أباه كان إمام مسجد الحي.
وبيوت الطبقة الدنيا يسكنها بناء أو مبيض أو خياط أو طباخ أو صاحب مقهى صغير أو بائع جوال على عربة يدفعها بيديه. وهؤلاء كثيرو الأولاد بؤساء ولا يشعرون ببؤسهم. يعيشون أغلب أيامهم على الطعمية والفول المدمس والبيسار والسمك يشترى مقليا من الدكان، وقليلا ما يستطيعون أن يطبخوا، كما أن أولادهم لا يعلمون في كتاب ولا مدرسة. وإنما يتركون ليكبروا فيعملوا عمل آبائهم. نساؤهم قد يجلسن سافرات على باب البيت، وكثيرا ما تقوم بينهن الخصومات فيتبادلن السباب أشكالا وألونا. ويستعملن في سبابهن كل أنواع البلاغة من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية، ويتناولن فيه الآباء والأمهات والأعراض والتعبير بالفقر وبالفجور وفظائع الأمور، ويطول ذلك ويقصر تبعا للظروف وقد يتحول السباب إلى ضرب، ويتحول تضارب النساء إلى تضارب الرجال - ولولا الشيخ في حارتنا لكان من ذلك الشيء الكثير.
ولكن مع اختلاف هذه الطبقات فقد كنا - نحن الأطفال - ديمقراطيين، لا نقيم كبير وزن لغنى ولا فقر ولا تعلم ولا جهل، فكنا نلعب سواسية، ونتخاطب بلغة واحدة ليس فيها تكبر ولا ضعة، وكان أحب أصدقائي إلي ابن كاتب في الدفترخانة وابن صاحب مقهى وابن فقيه كفيف يقرأ في البيوت كل يوم صباحا.
وكان من أعجب الشخصيات في حارتنا «الشيخ أحمد الشاعر» رجل بذقن طويل أسود، يلبس جلبابا أبيض وعمامة، ويتأبط دائما كتابا لف في منديل أحمر، له صوت أجش، وظيفته التي يعيش منها أنه بعد صلاة العشاء يذهب إلى مقهى قريب من الحارة ويصعد فوق كرسي عال، يجلس عليه ويتحلق حوله الناس، ثم يفك المنديل ويخرج الكتاب وهو قصة عنترة أو «الزير سالم» أو «الظاهر بيبرس» ويقرأ فيه بصوته العالي. متحمسا في موضع التحمس متخاذلا في موضع التخاذل، مغنيا بما يعرض من الشعر فإذا كان في القصة بطلان تحمس فريق لبطل وتحمس فريق لآخر. وقد يرشوه أحد الفريقين ليقف في نهاية الجلسة على موقف رائع لبطله - وله أجر من صاحب المقهى لأنه يكون سببا لازدحام مقهاه بالزائرين.
ولكن أعجب من هذا «الشيخ أحمد الصبان»، لقد كان يبيع الفحم في دكان على باب الحارة، وكانت حالته لا بأس بها، ثم دهمه الزمن الذي لا يرحم، فعمي وكسدت تجارته ولم يجد له مرتزقا، وهجر بيته الكبير وسكن حجرة أرضية هو وزوجته يأكلان من الصدقة، فما هو إلا أن سكنت جسمه العفاريت وصار يغيب عن الوجود حينا، ثم يتغير صوته العادي ويتكلم بصوت جديد يخبر به عن المغيبات، وإذا هو يصير الشيخ أحمد الصبان، بعد أن كان عم أحمد؛ وإذا هو يشتهر في الحارة بأنه يعلم الغيب ويخبر بالمستقبل، وفي قدرته بواسطة التعازيم والأحجبة أن يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته، وأن يخبر بالولد المفقود والمال المسروق؛ ثم ينتقل الخبر من حارتنا إلى ما جاورها وإلى ما وراء ذلك. فكان الناس يأتونه من مكان سحيق ليشهدوا عجائب الشيخ أحمد الصبان. واتسع رزقه وصلح حاله، وانتقل من حجرته الضيقة إلى مسكن فسيح، وانقسم فيه أهل الحارة قسمين: قليل منهم يقول إنه نصاب وكثيرون يقولون «سبحانه ما أعظم شأنه، يضع سره في أضعف خلقه»؟!..
Halaman tidak diketahui
كانت نسبة المواليد في الحارة نسبة عكسية مع الطبقات، فأفقر الطبقات أكثرها عددا؛ تلد سيدة ستة أو ثمانية أو عشرة والبيت الغني الوحيد ليس به ولد - وكما كثر عدد المواليد كثر عدد الوفيات، فالحالة الصحية أسوأ ما يكون، لا عناية بنظافة ماء ولا بنظافة أكل؛ وهم لا يعرفون طبيبا، وإنما يمرض المريض فيعالجه كل زائر وزائره - كل يصف دواء من عند العطار جربه فنجح، والمريض تحت رحمة القدر. وقد يصاب أحد بالحمى فيزوره كل من أراد، ويسلم عليه ويجلس بجانبه طويلا، ويحدثه طويلا، فتكون العدوى أمرا سهلا ميسورا، ولذلك كان كثيرا ما يتخطف الموت أصدقائي من الأطفال حولي.
لا تعجبن من هالك كيف ثوى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا
ومنظر آخر عجيب شاهدته في صباي ثم انقرض، ذلك أن فتيان حينا ممن يشتغلون في الحرف والصنائع قد يتخاصمون مع فتيان أمثالهم من الحي الآخر، كأن يتخاصم حي المنشية مع حي الحسينية، فيتواعدون على الالتقاء في جبل المقطم في يوم معين، ويجتمعون إذ ذاك فينقسمون إلى معسكرين، معسكر المنشية ومعسكر الحسينية، وتقوم الحرب بينهما، وأدوات الحرب الطوب والحجارة الصغيرة والعصي الغليظة. وتشتد المعركة وتسفر عن جرحى أو أحيانا عن قتلى وشاهدت هذا المنظر يوما فرعبت منه، حتى إذا أمسى المساء وقف القتال وتواعدوا على يوم آخر، وطووا صدورهم على الانتقام والأخذ بالثأر، وتمتد الخصومة وراء المعسكرين، فيتربص أهل المنشية لزفة عريس من أهل الحسينية ويفاجئونهم في أشد أوقات فرحهم، وينهالون عليهم ضربا، ويقلبون الفرح غما، وهكذا دواليك.
وعلى رأس كل مجموعة من الحارات سوق، فيها كل ما تحتاجه البيوت، وهو يمثل الوحدة الاقتصادية للأمة. وبجانب السوق كل مرافق الحياة الاجتماعية: مكتب لتعليم الأطفال، ومسجد لصلاة أهل الحي، وحمام للرجال أياما، وللنساء أياما، ومقهى يقضون فيه أوقات فراغهم، ويتناولون فيه كيوفهم، من قهوة وشاي وتنباك ونحو ذلك. وفي الحي مقاه متعددة، منها ما يناسب الطبقة الدنيا، ومنها ما يناسب الطبقة الوسطى وهكذا. فقل أن يحتاج أهل الحي إلى شيء أبعد من حيهم، ومن أجل هذا كانت دنياي في صباي هي حارتي وما حولها. وأطول رحلة أرحلها خارج حينا كانت يوم تذهب أمي وتأخذني معها إلى الغورية أو حي الموسكي لشراء الأقمشة، أو تأخذني إلى بيت خالي قريبا من باب الخلق، وهذه كل دنياي.
كانت الحارة وما حولها مدرسة لي، تعلمت منها اللغة العامية القاهرية الصميمة، من ألفاظها وأساليبها وأمثالها وزجلها. وكان حينا - كما قلت - يمثل الحياة القاهرية الخالصة، فمثلها مثل مراكز اللغة الفصيحة التي كان يرحل إليها علماء اللغة لعليا قيس وسفلى هوازن، وتعلمت منها كل العادات والتقاليد البلدية، ورأيت كيف تقام الأفراح عند الطبقة الدنيا وكيف يفرحون ويمرحون وكيف يغنون وما يغنون، ورأيت الفروق في كل ذلك بين عادات الطبقة الدنيا والوسطى والعليا، ورأيت كيف تقوم لذائذ الحياة وآلامها عند كل طبقة.
ومرة شاهدت حفلة «زار» لسيدة تدعي أنه ركبها عفريت سوداني فاجتمعت السيدات عندها والأطفال وحضرت شيخة الزار وهي المسماة بالكدية وأعوانها من السيدات والرجال بطبولهم وطبولهن وبدءوا في ضرب على الطبل على نغمة «يا سلام سلم» فلم يتحرك أحد لأن الأعصاب لم تكن خمدت بعد ثم طلب إلى الكودية أن تضرب نغمة سودانية على نغمة «صلوات الله عليه وسلم» فبدأ بعض الحاضرات يترنح ويفقر وبعضهن يرقص رقصا بديعا على الأسلوب الحديث في الرقص فهن يهززن رءوسهن ويدلين شعورهن مرة ويرفعن رءوسهن ليدلين شعورهن مرة أخرى وادعى بعضهن وقد يكون صحيحا أنهن فقدن الوعي وأن حركاتهن تأتي عن غير شعور، وأطلق البخور في بيت صاحبة الزار مما هدأ الأعصاب وحرك النفوس، ثم ذبح خروف وأفراخ وغمست بعض ثياب السيدة في الدم ووضعت عليها وفي كل ذلك كانت تغني الكدية وأتباعها بأغان ذات كلمات أعجمية لم أتبينها، ومع المحاولات الكثيرة في أن أفقر كما يفقرن لم تتحرك أعصابي ولم تهتز نفسي، وكان منظرا غريبا جميلا وادعت فيه سيدة الزار بعد ذلك أنها قد هدأت أعصابها وشفيت من مرضها، والظاهر أن مرضها كان مرض وهم زال بالزار الذي هو عمل الوهم. وهكذا شاهدت في الحارة الزار والأفراح والمآتم واستفدت من كل ما سمعت ورأيت.
ثم رأيت المعاملات الاقتصادية بين أهل الحارة وأهل السوق، والشعائر الدينية تقام في المسجد، والحمامات يستحم فيها الرجال والنساء، كل ذلك كان دروسا عملية وتجارب قيمة لا يستهان بها، فإذا أنا قارنت بين نفسي في تجاربي هذه التي استفدتها من حارتي، وأولادي في مثل سني التي أتحدث عنها وقد ربوا تربية أخرى، فلا جيران يعرفون، ولا بأهل حارة يتصلون، ولا مثل هذه العلاقات التي ذكرتها يشاهدون؛ أدركت الفرق الكبير بين تربيتنا وتربيتهم، وكثرة تجاربنا وقلة تجاربهم، ومعجم لغتنا ومعجم لغتهم، ومعرفتنا بصميم شعبنا وجهلهم.
الفصل السابع
أما المدرسة الثالثة فكانت الكتاب. وقد كان في ذلك العصر كتاتيب ومدارس ابتدائية وثانوية قليلة، راقية بعض الرقي. ولكن هذه الكتاتيب الراقية كانت بعيدة عن بيتي، فاختار لي أبي أقرب كتاب، يكاد يكون على باب حارتي، هي حجرة متصلة بالمسجد
Halaman tidak diketahui