ويوما لقيت في هذه المكتبة الإنجليزية كتيبا صغيرا عنوانه «مبادئ الفلسفة» تأليف رابوبورت، قرأته فأعجبني لسهولته وبساطته وشموله، كتبه مؤلفه لطلبة المدارس الثانوية يعرفون به معنى الفلسفة وموضوعها، فشغفت بترجمته وكنت أقف في جمل كثيرة منه رجعت فيها إلى صديق
3
لي أستوضحه ما غمض حتى أنهيت ترجمته، وبذلت فيه جهدا كبيرا إذ كان أول عهدي بالترجمة، ثم طبعته ونشرته، فكان هذا أول نتاج لي وكان ذلك سنة 1918، وقوبل الكتاب بما شجعني أن أعيد النظر في مذكراتي التي أعددتها للطلبة في علم الأخلاق، وأزيد عليها وأحولها إلى كتاب سميته كتاب الأخلاق، وطبعته بعد مبادئ الفلسفة بقليل.
الفصل العشرون
وكان لي بجانب هذه المدرسة من الأصدقاء - ذوي الثقافة الإنجليزية - جمعية من أصدقاء آخرين ذوي ثقافة فرنسية غالبا، عميدها صديقي المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان شيخا للأزهر فيما بعد، ومن بينهم الدكتور منصور فهمي والمرحوم الأستاذ عزيز مرهم والأستاذ محمد كامل البنداري، والدكتور محمود عزمي وغيرهم وكان مكانها في بيته، وكان أكثر أعضائها من خريجي الجامعات الفرنسية ومما ألف بينهم إقامتهم في فرنسا وتعلمهم بها؛ وإذا كان يكثر في الجامعات الأولى ذكر شكسبير وديكنز وماكولي وبرناردشو وه. ج ولز، فقد كان يكثر في هذه الجمعية ذكر جان جاك روسو وفولتير وراسين وموليير ودركهايهم، وإذا كانت الجمعية الأولى تغلب عليها المحافظة والاعتدال فهذه يغلب عليها التحرر والثورة على القديم - كنا نجلس في هذه الجمعية، وقد يحضر فيها أحيانا بعض السيدات الفرنسيات زوجات بعض المصريين، وبعض العلماء من الأزهر، ويتشقق الموضوع ويثار الجدل، ويكون الحديث مزاجا بين حرية فرنسية واعتدال إنجليزي ومحافظة أزهرية، نتحدث في السياسة وحرية المرأة، وفي المقارنة بين فرنسا ومصر.
وكان من أعجب من عرفت في هذه الجمعية شاب تثقف ثقافة قانونية امتاز بالشجاعة الأدبية والصراحة، فكان لا يقول إلا ما يعتقد، ولا يعمل إلا وفق ما يعتقد، على حين أن كثيرا من الشبان يرون الرأي ثم لا يقولونه، وإذا قالوه لا يعملون على وفقه، كالذي سمعت أن جماعة كانوا يجتمعون في منظرة في بيت وكانوا يتجادلون في سفور المرأة وحجابها، وكان صاحب البيت أكثرهم تحمسا للسفور ودفاعا عنه وتأييدا له، فبينما هم في المناظرة إذا بصوت سيدة عجوز هي جدة صاحب البيت يصل إلى آذان المتناظرين في المناظرة فيخجل صاحب البيت ويصعد إلى جدته يؤنبها على علو صوتها وقد نسي محاضرته في السفور.
أما صاحبنا هذا فكان شجاعا جريئا في كل ما يقول ويعمل، تزوج فتاة مصرية، وإذ كان يعتقد السفور حملها على السفور فأطاعته، في وقت عز فيه السفور، وعلا الصوت في نقده ومقته، فكان يخرج بها في المجتمعات ويزور معها الأصدقاء، ويجلس هو وهي في مقهى ولا يعبأ بنقد الناقدين ولا عيب العائبين، وكان وكيل نيابة في أسيوط وأسيوط بلد محافظ، فعابوا عليه تصرفه وشكوه للحقانية فلفتت نظره فصمم على عمله فنقل إلى الإسكندرية ولم يتحول عن طريقته. وأخيرا رماه الزمان الذي لا يرحم بداء السل وألح عليه المرض فألزمه السرير، وتفرق عنه أهله وأقرباؤه، فعكف وهو على سرير الموت يكتب كتابا عنوانه «كلمتي إلى أمتي» ثم لفظ النفس الأخير.
1
كنا نجلس يوما مع نخبة من هذه الجماعة وكان أحدها يصدر جريدة اسمها «السفور»
2
Halaman tidak diketahui