وتوثقت الصلة بيننا فكأنني من أسرتها، وهي لا تعنى بي من ناحية اللغة الإنجليزية وآدابها فحسب، بل هي تشرف على سلوكي وأخلاقي. لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على إصلاحهما، ووضعت لي مبدأين تكررهما علي في كل مناسبة.
رأتني شابا في السابعة والعشرين أتحرك حركة الشيوخ، وأمشي في جلال ووقار، وأتزمت في حياتي، فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئا حتى من اللهو البريء وأصرف حياتي بين دروس أحضرها ودروس ألقيها، ولغة أتعلمها، ورأتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن عميق، ورأتني لا أبتهج بالحياة ولا ينفتح صدري للسرور، فوضعت لي مبدأ هو: «تذكر أنك شاب» تقوله لي في كل مناسبة وتذكرني به من حين إلى حين.
والثاني أنها رأت لي عينا مغمضة لا تلتفت إلى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال انسجام وترتيب، فوضعت لي المبدأ الآخر: «يجب أن يكون لك عين فنية» فكنت إذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس وأتكلم في موضوعه صاحت في: «ألم تر في الحجرة أزهارا جميلة تلفت نظرك وتثير إعجابك فنتحدث عنها؟» وكانت مغرمة بالأزهار تعنى بشرائها وتنسيقها كل حين، وتفرقها في أركان الحجرة وفي وسطها، ويؤلمها أشد الألم أن أدخل على هذه الأزهار فلا أحييها ولا أبدي إعجابي بها وإعجابي بفنها في تصفيفها.
ويوما آخر أدخل الحجرة فأتذكر الدرس الذي أخذته في غزل الزهور فأحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل ما أحضرت من أزهار، فتلتفت إلي وتقول: «أليست لك عين فنية؟» أعجب من هذا الاستنكار، وقد حييت الأزهار، فتقول: ألم تلحظ شيئا؟ فأجيل عيني في الحجرة وقد غير وضع أثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا، وكانت الأريكة هنا فصارت هاهنا، وتقول: قد سئمت الوضع القديم وتعبت عيني من رؤيته، فغيرت وضعه لتستريح عيني، وهكذا..
لازمتها أربع سنوات، استفدت فيها كثيرا من عقلها وفنها ولكني لا أظن أنني استفدت كثيرا من تكرارها على سمعي أن أتذكر دائما أني شاب.
انتهيت من الجزء الثالث، واخترت أن أقرأ معها كتبا أخرى، في الأخلاق أحيانا وفي الاجتماع أحيانا، وفي آخر المرحلة قرأت معها فصولا كثيرة من جمهورية أفلاطون بالإنجليزية، فكان هذا الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها؛ فكنت أقرأ الفصل فتشرحه لي، وتبين ما طرأ على فكرة أفلاطون من التغير وما بقي من آرائه إلى اليوم، وكيف طبق هذا المبدأ في المدنية الحديثة في الأمم المختلفة، وهكذا.
ولا أدري ما الذي انتابها فقد رأيتها تكثر من القراءة في كتب الأرواح، ثم تمعن في قراءتها، ثم تذكر لي أنها خصصت ساعتين تغلق عليها حجرتها، وترخي ستائرها، وتغمض عينيها، وتركز روحها في مريض تعالجه وهو في داره وهي في دارها ، أو تجرب تجربة أخرى أن ترسل من روحها إشارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه أن يحضر أو لا يحضر، وأن يعد كذا أو لا يعد، وهكذا، وقد نجحت في بعض الأحوال دون بعض فلم تشأ أن تعتقد أن هذا مصادفة؛ ولكنها اعتقدت أن ما نجحت فيه فإنما نجحت لأن الأمر قد استوفى شروطه، وما لم تنجح فيه لم تستكمل عدته، فزاد اجتهادها، وطالت ساعات عزلتها، وأمعنت في تركيز روحها، كل ذلك وأنا أنصحها ألا تفرط في هذا خشية عليها فلا تسمع، لأنها تأمل أن تصل من ذلك إلى نجاح باهر.
وذهبت إليها يوما فرأيتها مصفرة الوجه مضطربة الأعصاب خفاقة العينين، فسألتها عما بها، فأخبرتني أنها ذهبت اليوم صباحا إلى كوبري قصر النيل وهمت أن ترمي نفسها في النيل، ثم رأيتها تذكر لي أنها أخفقت هذه المرة في الانتحار، ولكنها ستنجح في مرة أخرى، فخرجت من عندها آسفا باكيا، واتصلت بطبيب للأمراض العقلية فحضر ورآها، وأخبرني أنه لابد من إرسالها فورا إلى مستشفى المجاذيب، وكذلك كان. وكنت أعودها من حين إلى حين، فإذا جلست إليها تحدثت كعادتها حديثا هادئا معقولا، وسألتها مرة: ماذا بها؟ فقالت، لا شيء بي إلا أنني فقدت الإرادة فإذا أطلق سراحي الآن لا أدري أين أتجه، ثم تولت أمرها القنصلية الإنجليزية فأسفرتها إلى بلدها. وأخيرا - وبعد نحو سنتين - جاءني خطاب بعنواني بمدرسة القضاء عليه طابع إيطالي ففضضته فإذا هو من «مس بور» تخبرني أنها شفيت من مرضها، وأنها الآن في روما، تتمتع بجمال مناظرها ودقة فنونها وروعة كنائسها، فرددت عليها فرحا بشفائها، ثم انقطعت عني إلى اليوم أخبارها رحمها الله.
وفي هذه الفترة التي كنت أدرس فيها مع «مس بور» جاءني صديق وقال إنه يعرف أسرة إنجليزية تتكون من زوج وزوجة يريدان أن يتعلما العربية وأنا أعلم الزوج فهل لك أن تعلم الزوجة؟ قلت: لا أعلمها بمال ولكن أتبادل معها، فأعلمها العربية وتعلمني الإنجليزية، وعرض عليها ذلك فرضيت.
سيدة إنجليزية في ريعان الشباب جميلة الطلعة لها عينان تبعثان في النفس معنى الصفاء والطهارة والثقة، تعيش مع زوجها الإنجليزي المدرس بالمدرسة الخديوية الثانوية عيشة أرستقراطية فخمة؛ مولعان بركوب الخيل والتروض عليها عصر كل يوم، يستمتعان بالزواج الجديد السعيد؛ كنا نقضي ساعتين في الدرس مرتين في الأسبوع، ساعة تعلمني الإنجليزية وساعة أعلمها العربية واختارت لي أن أقرأ معها كتاب «قصص شكسبير للامب».
Halaman tidak diketahui