كانت نسبة المواليد في الحارة نسبة عكسية مع الطبقات، فأفقر الطبقات أكثرها عددا؛ تلد سيدة ستة أو ثمانية أو عشرة والبيت الغني الوحيد ليس به ولد - وكما كثر عدد المواليد كثر عدد الوفيات، فالحالة الصحية أسوأ ما يكون، لا عناية بنظافة ماء ولا بنظافة أكل؛ وهم لا يعرفون طبيبا، وإنما يمرض المريض فيعالجه كل زائر وزائره - كل يصف دواء من عند العطار جربه فنجح، والمريض تحت رحمة القدر. وقد يصاب أحد بالحمى فيزوره كل من أراد، ويسلم عليه ويجلس بجانبه طويلا، ويحدثه طويلا، فتكون العدوى أمرا سهلا ميسورا، ولذلك كان كثيرا ما يتخطف الموت أصدقائي من الأطفال حولي.
لا تعجبن من هالك كيف ثوى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا
ومنظر آخر عجيب شاهدته في صباي ثم انقرض، ذلك أن فتيان حينا ممن يشتغلون في الحرف والصنائع قد يتخاصمون مع فتيان أمثالهم من الحي الآخر، كأن يتخاصم حي المنشية مع حي الحسينية، فيتواعدون على الالتقاء في جبل المقطم في يوم معين، ويجتمعون إذ ذاك فينقسمون إلى معسكرين، معسكر المنشية ومعسكر الحسينية، وتقوم الحرب بينهما، وأدوات الحرب الطوب والحجارة الصغيرة والعصي الغليظة. وتشتد المعركة وتسفر عن جرحى أو أحيانا عن قتلى وشاهدت هذا المنظر يوما فرعبت منه، حتى إذا أمسى المساء وقف القتال وتواعدوا على يوم آخر، وطووا صدورهم على الانتقام والأخذ بالثأر، وتمتد الخصومة وراء المعسكرين، فيتربص أهل المنشية لزفة عريس من أهل الحسينية ويفاجئونهم في أشد أوقات فرحهم، وينهالون عليهم ضربا، ويقلبون الفرح غما، وهكذا دواليك.
وعلى رأس كل مجموعة من الحارات سوق، فيها كل ما تحتاجه البيوت، وهو يمثل الوحدة الاقتصادية للأمة. وبجانب السوق كل مرافق الحياة الاجتماعية: مكتب لتعليم الأطفال، ومسجد لصلاة أهل الحي، وحمام للرجال أياما، وللنساء أياما، ومقهى يقضون فيه أوقات فراغهم، ويتناولون فيه كيوفهم، من قهوة وشاي وتنباك ونحو ذلك. وفي الحي مقاه متعددة، منها ما يناسب الطبقة الدنيا، ومنها ما يناسب الطبقة الوسطى وهكذا. فقل أن يحتاج أهل الحي إلى شيء أبعد من حيهم، ومن أجل هذا كانت دنياي في صباي هي حارتي وما حولها. وأطول رحلة أرحلها خارج حينا كانت يوم تذهب أمي وتأخذني معها إلى الغورية أو حي الموسكي لشراء الأقمشة، أو تأخذني إلى بيت خالي قريبا من باب الخلق، وهذه كل دنياي.
كانت الحارة وما حولها مدرسة لي، تعلمت منها اللغة العامية القاهرية الصميمة، من ألفاظها وأساليبها وأمثالها وزجلها. وكان حينا - كما قلت - يمثل الحياة القاهرية الخالصة، فمثلها مثل مراكز اللغة الفصيحة التي كان يرحل إليها علماء اللغة لعليا قيس وسفلى هوازن، وتعلمت منها كل العادات والتقاليد البلدية، ورأيت كيف تقام الأفراح عند الطبقة الدنيا وكيف يفرحون ويمرحون وكيف يغنون وما يغنون، ورأيت الفروق في كل ذلك بين عادات الطبقة الدنيا والوسطى والعليا، ورأيت كيف تقوم لذائذ الحياة وآلامها عند كل طبقة.
ومرة شاهدت حفلة «زار» لسيدة تدعي أنه ركبها عفريت سوداني فاجتمعت السيدات عندها والأطفال وحضرت شيخة الزار وهي المسماة بالكدية وأعوانها من السيدات والرجال بطبولهم وطبولهن وبدءوا في ضرب على الطبل على نغمة «يا سلام سلم» فلم يتحرك أحد لأن الأعصاب لم تكن خمدت بعد ثم طلب إلى الكودية أن تضرب نغمة سودانية على نغمة «صلوات الله عليه وسلم» فبدأ بعض الحاضرات يترنح ويفقر وبعضهن يرقص رقصا بديعا على الأسلوب الحديث في الرقص فهن يهززن رءوسهن ويدلين شعورهن مرة ويرفعن رءوسهن ليدلين شعورهن مرة أخرى وادعى بعضهن وقد يكون صحيحا أنهن فقدن الوعي وأن حركاتهن تأتي عن غير شعور، وأطلق البخور في بيت صاحبة الزار مما هدأ الأعصاب وحرك النفوس، ثم ذبح خروف وأفراخ وغمست بعض ثياب السيدة في الدم ووضعت عليها وفي كل ذلك كانت تغني الكدية وأتباعها بأغان ذات كلمات أعجمية لم أتبينها، ومع المحاولات الكثيرة في أن أفقر كما يفقرن لم تتحرك أعصابي ولم تهتز نفسي، وكان منظرا غريبا جميلا وادعت فيه سيدة الزار بعد ذلك أنها قد هدأت أعصابها وشفيت من مرضها، والظاهر أن مرضها كان مرض وهم زال بالزار الذي هو عمل الوهم. وهكذا شاهدت في الحارة الزار والأفراح والمآتم واستفدت من كل ما سمعت ورأيت.
ثم رأيت المعاملات الاقتصادية بين أهل الحارة وأهل السوق، والشعائر الدينية تقام في المسجد، والحمامات يستحم فيها الرجال والنساء، كل ذلك كان دروسا عملية وتجارب قيمة لا يستهان بها، فإذا أنا قارنت بين نفسي في تجاربي هذه التي استفدتها من حارتي، وأولادي في مثل سني التي أتحدث عنها وقد ربوا تربية أخرى، فلا جيران يعرفون، ولا بأهل حارة يتصلون، ولا مثل هذه العلاقات التي ذكرتها يشاهدون؛ أدركت الفرق الكبير بين تربيتنا وتربيتهم، وكثرة تجاربنا وقلة تجاربهم، ومعجم لغتنا ومعجم لغتهم، ومعرفتنا بصميم شعبنا وجهلهم.
الفصل السابع
أما المدرسة الثالثة فكانت الكتاب. وقد كان في ذلك العصر كتاتيب ومدارس ابتدائية وثانوية قليلة، راقية بعض الرقي. ولكن هذه الكتاتيب الراقية كانت بعيدة عن بيتي، فاختار لي أبي أقرب كتاب، يكاد يكون على باب حارتي، هي حجرة متصلة بالمسجد
Halaman tidak diketahui