ويقول تعالى:
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود * وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير * وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
5
كيف رفع إبراهيم البيت مثابة للناس وأمنا، ليتوجه الناس فيه إلى الله مؤمنين به وحده، ثم أصبح من بعد ذلك موئل الأصنام وعبادتها؟ وكيف كانت أوضاع العبادة تؤدى فيه بعد إبراهيم وإسماعيل، وفي أية صورة كانت تؤدى؟ ومتى تغيرت هذه الأوضاع وتغلبت عليها الوثنية؟ هذا ما لا يحدثنا التاريخ المعروف عنه، وكل ما هنالك فروض يحسبها أصحابها تصف ما كان واقعا. فالصابئون من عباد النجوم كان لهم سلطان كبير في بلاد العرب. وقد كان هؤلاء - فيما يقولون - لا يعبدون النجوم لذاتها، وإنما كانوا في بداءة أمرهم يعبدون الله وحده. ويعظمون النجوم على أنها مظاهر خلقه وقدرته. ولما كانت كثرة الناس الكبرى أقصر من أن يحيط ذهنها بمعنى الألوهية السامي، فقد اتخذوا من النجوم آلهة. وكانت بعض الأحجار البركانية يخال الناس أنها ساقطة من السماء منحدرة لذلك من بعض النجوم؛ ومن ثم اتخذت أول أمرها مظاهر لهذه الآلهة الرفيعة وقدست بهذه الصفة، ثم قدست لذاتها، ثم كانت عبادة الأحجار، ثم بلغ من إجلالها أن كان العربي لا يكفيه أن يعبد الحجر الأسود بالكعبة، بل يأخذ معه في أسفاره أي حجر من أحجار الكعبة يصلي إليه ويستأذنه في الإقامة والسفر، ويؤدي إليه كل ما يؤدى للنجوم وخالق النجوم من أوضاع العبادة. وعلى هذا النحو استقرت الوثنية وقدست التماثيل وقربت لها القرابين.
هذه صورة يصورها بعض المؤرخين لتطور الأمر في بلاد العرب من بناء إبراهيم البيت لعبادة الله، وكيف آل أمره بعد ذلك فصار مستقر الأصنام. وقد ذكر هيرودوت، أبو التاريخ المكتوب، عبادة اللات في بلاد العرب، وذكر ديودور الصقلي بيت مكة الذي يعظمه العرب؛ فدل ذلك على قدم الوثنية في شبه الجزيرة، وعلى أن دين إبراهيم لم يستقر فيها طويلا.
ولقد قام في هذه القرون أنبياء دعوا قبائلهم في بلاد العرب إلى عبادة الله وحده، فرفض العرب وأصروا على وثنيتهم: قام هود فدعا عادا - وكانت تقيم في شمال حضرموت - إلى عبادة الله وحده؛ فما آمن به إلا قليل؛ فأما كثرة قومه فاستكبروا وقالوا له:
يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين .
6
وأقام هود يدعوهم السنين، فلا تزيدهم دعوته إلا عتوا في الأرض واستكبارا. وقام صالح يدعو للإيمان ثمود، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى في الجنوب الشرقي من أرض مدين القريبة من خليج العقبة؛ ولم تثمر دعوة صالح ثمود أكثر مما أثمرت دعوة هود عادا. وقام شعيب في شعب مدين، وكانوا بالحجاز، يدعوهم إلى الله، فلم يسمعوا له فهلكوا ونزل بهم ما نزل بعاد وثمود، وغير هؤلاء من الأنبياء قص القرآن قصصهم ودعوتهم قومهم لعبادة الله وحده، واستكبار قومهم وإقامتهم على عبادة الأوثان وعلى التوجه بقلوبهم لأصنام الكعبة وحجهم إليها كل عام من كل صوب وحدب في بلاد العرب. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
Halaman tidak diketahui