ثم إن إبراهيم أفضى إلى ابنه برؤياه وسأله رأيه في الأمر. قال: يا أبت افعل ما تؤمر. ثم قال في رواية القصة الشعرية: يا أبتاه! إذا أردت ذبحي فاشدد وثاقي لئلا يصيبك شيء من دمي فينقص أجري. وإن الموت لشديد، ولا آمن أن أضطرب عنده إذا وجدت مسه، فاشحذ شفرتك حتى تجهز علي. فإذا أنت أضجعتني لتذبحني فاكببني على وجهي ولا تضجعني لجنبي، فإني أخشى إن أنت نظرت إلى وجهي أن تدركك الرقة فتحول بينك وبين أمر ربك في. وإن رأيت أن ترد قميصي إلى أمي فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني فافعل. قال إبراهيم: نعم العون يا بني أنت على أمر الله! ثم إنه هم بالتنفيذ، فشد كتاف الغلام وتله للجبين ليقتله، فنودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وافتدي بكبش عظيم وجده إبراهيم على مقربة منه فذبحه وحرقه.
هذه قصة الذبح والفداء. وهي قصة الإسلام لأمر الله غاية الإسلام، والتسليم لقضائه كل التسليم.
وشب إسحاق إلى جانب إسماعيل، وتساوى عطف الأب على الاثنين، فأغضب ذلك سارة أن رأت هذه التسوية بين ابنها وابن هاجر أمتها غير لائقة بها. وأقسمت لا تساكن هاجر ولا ابنها حين رأت إسماعيل يضرب أخاه. وأحس إبراهيم أن العيش لن يطيب وهاتان المرأتان في مكان واحد. عند ذلك ذهب بهاجر وبابنها ميمما الجنوب حتى وصل إلى الوادي الذي تقوم مكة اليوم به. وكان هذا الوادي - كما قدمنا - مضرب خيام القوافل في الأوقات التي تفصل فيها القوافل من الشام إلى اليمن، أو من اليمن إلى الشام، ولكنه كان فيما خلا ذلك أشد أوقات السنة خلاء أو يكاد. وترك إبراهيم إسماعيل وأمه وترك لهما بعض ما يتبلغان به. واتخذت هاجر عريشا أوت إليه مع ابنها ... وعاد إبراهيم أدراجه من حيث أتى. فلما نفد الماء والزاد جعلت هاجر تجيل طرفها فيما حولها فلا ترى شيئا. فجعلت تهرول حتى نزلت الوادي تلتمس ماء وهي - فيما يقولون - لا تنفك في هرولتها بين الصفا والمروة، حتى إذا أتمت السعي سبعا عادت إلى ولدها وقد ملكها اليأس فألفته قد فحص الأرض بقدمه فنبع الماء من الأرض فارتوت وأروت إسماعيل معها. وحبست الماء عن السيل حتى لا يضيع في الرمال، وأقام الغلام وأمه ترد عليهم العرب أثناء رحلاتهم، فينالان من الخير ما يكفيهم أسباب العيش إلى أن تمر بهم قوافل أخرى.
استهوت زمزم وماؤها المتفجر بعض القبائل للمقام على مقربة منها. وجرهم أولى القبائل التي أقامت والتي يقول بعض الرواة إنها كانت هناك قبل أن تجيء هاجر وابنها، على حين تذهب روايات أخرى إلى أنها لم تقم إلا بعد أن تفجرت زمزم وجعلت العيش في هذا الوادي الأجرد مستطاعا. وشب إسماعيل وتزوج فتاة من جرهم، وأقام وإياها مع الجرهميين في هذا المكان الذي شيد به البيت الحرام، وقامت مكة بعد ذلك من حوله. ويذكرون أن إبراهيم استأذن سارة يوما في زيارة إسماعيل وأمه فأذنت له فذهب. فلما سأل عن بيت إسماعيل وعرفه قال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد ما نعيش به. فسألها أعندها ضيافة من طعام أو شراب؟ فأجابت بأن ليس عندها شيء، فانصرف إبراهيم بعد أن قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له: غير عتبة بيتك، فلما أخبرت إسماعيل بما ذكر أبوه سرحها وتزوج جرهمية أخرى بنت مضاض بن عمرو. قد أكرمت وفادة إبراهيم لما جاء بعد ذلك بزمن. فلما انصرف طلب إليها أن تقرئ زوجها السلام وتقول له: الآن استقامت عتبة بيتك. وولد لإسماعيل من هذا الزواج اثنا عشر ولدا، هم آباء العرب المستعربة، وهم العرب الذين ينتمون من ناحية خئولتهم في جرهم إلى العرب العاربة أبناء يعرب بن قحطان؛ فأما أبوهم إسماعيل بن إبراهيم فيمت من ناحية أمومته إلى مصر بأوثق نسب، ومن ناحية أبوته إلى العراق وإلى فلسطين وإلى حيث نزل إبراهيم من أرض الله.
هذه القصة من قصص التاريخ يكاد ينعقد الإجماع على جملتها من ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى مكة وإن وقع خلاف على التفاصيل. والذين يعرضون لتفاصيل حوادثها بالنقد يروونها على أن هاجر ذهبت بإسماعيل إلى الوادي الذي به مكة اليوم، وكانت به عيون أقامت جرهم عندها، فنزلت هاجر منهم أهلا وسهلا لما جاء إبراهيم بها وبابنها. فلما شب إسماعيل تزوج جرهمية ولدت له أولاده، وكان لهذا التلاقح بين إسماعيل العبري المصري وبين هؤلاء العرب ما جعل ذريته على جانب من العزم وقوة البأس والجمع بين فضائل العرب والعبريين والمصريين. أما ما ورد عن حيرة هاجر لما نضب الماء منها، وعن سعيها سبعا بين الصفا والمروة، وعن زمزم وكيف نبع الماء منها، فموضع شك عندهم.
ويرتاب وليم موير في ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز، وينفي القصة من أساسها، ويذكر أنها بعض الإسرائيليات ابتدعها اليهود قبل الإسلام بأجيال ليربطوا بها بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوة إبراهيم لهم أجمعين، أن كان إسحاق أبا لليهود. فإذا كان أخوه إسماعيل أبا العرب فهم إذن أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، وتيسر لتجارة اليهود في شبه الجزيرة. ويستند المؤرخ الإنكليزي في رأيه هذا إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم لأنها وثنية مغرقة في الوثنية، وكان إبراهيم حنيفا مسلما. ولسنا نرى مثل هذا التعليل كافيا لنفي واقعة تاريخية؛ فوثنية العرب بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرون كثيرة لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم إلى الحجاز وحين اشترك وإسماعيل في بناء الكعبة. ولو أنها كانت وثنية يومئذ لما أيد ذلك سير موير؛ فقد كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام، وحاول هو هدايتهم فلم ينجح. فإذا دعا العرب إلى مثل ما دعا إليه قومه فلم ينجح وبقي العرب على عبادة الأوثان لم يطعن ذلك في ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى مكة. بل إن المنطق ليؤيد رواية التاريخ. فإبراهيم الذي خرج من العراق فارا من أهله إلى فلسطين وإلى مصر، رجل ألف الارتحال وألف اجتياز الصحاري؛ والطريق ما بين فلسطين ومكة كان مطروقا من القوافل منذ أقدم العصور؛ فلا محل إذن للريبة في واقعة تاريخية انعقد الإجماع على جملتها.
والسير وليم موير والذين ارتأوا في هذه المسألة رأيه يقولون بإمكان انتقال جماعة من أبناء إبراهيم وإسماعيل بعد ذلك من فلسطين إلى بلاد العرب واتصالهم وإياهم بصلة النسب. وما ندري، وهذا الإمكان جائز عندهم في شأن أبناء إبراهيم وإسماعيل، كيف لا يكون جائزا في شأن الرجلين بالذات؟! وكيف لا يكون ثابتا قطعا ورواية التاريخ تؤكده؟! وكيف لا يكون بحيث لا يأتيه الريب وقد ذكره القرآن وتحدثت به بعض الكتب المقدسة الأخرى؟!
ورفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت الحرام.
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا .
4
Halaman tidak diketahui