أين يكون الفن في حبل المشنقة الذي يمسح بالصابون كي يأخذ بعنق المشنوق، ويضغطه كما يقول تولستوي؟ أين يكون الفن في البغي تبيع عرضها لكل قادم كي تجد القروش التي تأكل بها كما يقول برنارد شو؟ أين يكون الفن في ويلز وهو يكافح من أجل التنظيم العالمي، ويبحث الوسائل لإلغاء الحروب والجوع والجهل؟
الحق أن قصص ه. ج. ويلز ودرامة برناد شو هي جميعها لإبراز الأفكار، وليست لإبراز الأشخاص، وهي جميعها لعرض المشكلات وليست للفن، لقد عالج هؤلاء المؤلفون أقذارنا وقروحنا، ولطخوا أيديهم في المعالجة بالوحل والدم، كي نتعلم النظافة والصحة، فلم يجدوا مع الوحل والدم مجالا للفن، فإذا ذكرت لي أن دستوفسكي قد عالج الوحل والدم وكان مع ذلك فنانا، فإني أجيب بأنه لم يكن من البشر إنه كان قديسا فوق البشر. وأخيرا يجب أن نختم الكلام عن ويلز بأن نتعمق قلبه ونسأل عن إيمانه وديانته.
والقارئ لمؤلفاته العديدة يستطيع أن يقول إن هذا الإيمان أو هذه الديانة هما العالمية أو البشرية، من حيث إن تنظيم العالم يؤدي في النهاية إلى خدمة البشر. وقد انتهى إلى النفور من الغيبيات، بل إلى القول بضرورة مكافحتها، وألف في ذلك رسائل وكتبا. وعند ويلز أن الدين، وهو الدين البشري، ضرورة حتمية للنفس، وهو يعرفه بأنه تشوف الإنسان إلى ما هو أعلى منه وسعيه لمصلحة عالمية تعلو على مصلحته الشخصية، وهو يقول هنا إنه ليس هناك هناءة أو سعادة إلا حين نلغي ذواتنا ومصالحنا في سبيل ذات ومصلحة تعلوان علينا، وهذه الذات هي البشرية جميعها وهذه المصلحة هي العالم كله، والهدف الذي يهدف إليه هذا الإيمان هو بكلمات ويلز نفسها: «الانتصار المتدرج على الجوع، والعطش، والمناخ، والمادة، والقوة الآلية، والألم الجسمي، أو العقلي، والفضاء، والمسافة، والوقت، وعلى الأشياء التي تبدو لنا كأنها قد فقدت في الماضي، وكذلك على الأشياء الممكنة في المستقبل. وسيبقى نوعنا، النوع البشري، في امتداد هذا الكون الأوسع كي نعيش فيه على وجدان أكبر.»
كلمات مادية صرفة، ولكنها تهدف إلى خدمة البشر فاختراع آلة «لتكييف الهواء» هو انتصار على المناخ فهو دين، ومخترع البنسيلين هو رجل دين أيضا؛ لأنه تغلب بهذا العقار على ألم جسمي أو عقلي، فإذا سألنا ويلز: ما هي هذه البشرية التي تهدف في ديانتك إلى خدمتها، لأجاب بأنها البشرية المتدرجة في التفوق، وقبل سنين دعته جريدة الماتان الفرنسية إلى أن يدلي برأيه بشأن المشروع الذي كانت تعده الحكومة؛ كي تصدر قانونا لمساعدة العائلات على زيادة التناسل، فكتب يقول بأن الآباء الذين يستحقون هذه المساعدة هم الأكفاء جسما وعقلا، أما من كانوا غير أكفاء؛ أي من كانوا ناقصين في صحة الجسم أو صفاء العقل، فليس من المصلحة البشرية أن ندعوهم إلى زيادة التناسل، وهذا اتجاه تطوري دارويني. أجل إن نظرية التطور قد غمرت العالم المثقف بروح ديني جديد؛ لأن الإنسان يجب أن يعلى عليه؛ إذ هو معبر بين القرد والسبرمان.
ويلز فيلسوف الصحافة، هو ثمرة الاندفاع العلمي في القرن التاسع عشر، قد وجد في ديمقراطية القرن العشرين الجديدة ميدانا لتعاليمه؛ لأن هذه الديمقراطية عممت التعليم بالمدارس، حتى أصبح العالم الإنجليزي يطبع في العام أكثر من عشرين ألف كتاب جديد، وهذه زيادة على مئات الجرائد اليومية والمجلات التي تعلم وتثقف هؤلاء المتعلمين الديمقراطيين وكان ويلز قوة توجيه لهم، وكانت النبرة العالمية في صوته هي: هذا العالم هو عالمنا، هو قريتنا ، هو حديقتنا وعلينا أن نصلحه وننظمه.
وإني أكتب هذه الكلمات في صبيحة أول يناير من عام 1951 اليوم الأول من النصف الثاني من القرن العشرين فأحس كلمات ويلز بل أحس قوة الصدق فيها؛ ذلك أننا قبل أربعين أو خمسين سنة كنا نقول إن حربا قد تقع بين دولتين أو ثلاث دول لا شأن لنا بها، ولكن هذا القول لم يعد يصدق في أيامنا، فإن حربا تقع بين روسيا وأمريكا هي حرب أهلية للعالم كله، هي قتال جنوني يشتبك فيه جميع سكان هذه القرية، هذا العالم، في تشنجات دموية تزلزل وتحطم ... هذه هي عبارة ويلز وهذه هي رسالته.
شفايتزر
صديق الزنوج
السيكلوجية هي التجسس على النفس، وقد تعودت بما كسبته من الدربة السيكلوجية، أن أتجسس على المؤلفين وأن أسأل عن حياتهم ومكانتهم الاجتماعية، وتربيتهم حين أرغب في الوقوف على البواعث التي حملتهم على الدعوة إلى فكرة معينة أو اتخاذ أسلوب خاص. ثم كثيرا ما أحس كما سبق لي أن أشرت إلى ذلك، أن حياة المؤلف هي نفسها كتابه الأول، وأنه إذا لم يكن قد أحسن تأليفها فإنه لن يحسن شيئا آخر، وأن مشكلاته الخاصة التي عاناها في حياته هي نفسها المشكلات العامة التي عالجها في مؤلفاته.
اعتبر مثلا تولستوي فإنه جحد مناعم الحضارة، والانغماسات الكئولية والجنسية، وحياة الترف والثراء، بل إنه بعد أن قضى سني النضج والإيناع وأخرج المؤلفات الفنية البديعة، عاد فجحد الفن وعده استهتارا يجب أن نتجنبه وأن نقنع بسذاجة العيش بل بالفقر والكفاف، وكل هذه المؤلفات كانت ثمرة حياته أو مرآة حياته، فقد انغمس في اللذات الجنسية أيام شبابه ثم نفضها وجحدها، ولكنه أحس من التوترات ما جعله يكافح جسمه ويضغط أعصابه، وكانت مؤلفاته تفريجا أو شرحا أو علاجا لهذه التوترات والضغوط. وكان يقول بأننا يجب أن نتجنب المرأة إلا بغية التناسل، ثم كان ينهزم أمام هذا العزم فيطلب زوجته ويترضاها، وبلغ من كراهته للفن أن قاطع تأليف القصة باعتبارها تسلية وخيمة تنأى عن جد الحياة، ولكنه وهو فوق الثمانين، كان يؤلف القصة ثم يخبئها في درج المنضدة. وكان يحاول أن يعيش بالكفاف، وأن يحترف صنع الأحذية وأن ينزل عن أرضه للفلاحين، ولكنه كان ينهض في الفجر و«يأمر» خادمه بأن يلجم جواده ويخرج به إلى الحقول فيعدو به في وجه الريح ويلتذ هذه «السيادة» على الأرض بل هذا الكفاح للريح والطبيعة.
Halaman tidak diketahui