واستطاع أن يتعلم ويصل إلى كلية العلوم حيث تخصص في البيولوجي - أي «علم الحياة» - وألف كتابا عن تشريح الأرنب. وكان الدكتور هيوم، الذي كان يدير مصلحة الجيولوجيا في حكومتنا، زميله في الكلية. وحوالي عام 1890 حين شرع ويلز يكتب كانت الأصداء للمناقشات الفلسفية والعلمية لنظرية التطور تتردد في ذهنه، ومن هنا مؤلفاته الأولى التي تنزع إلى الخيال العلمي وتجري على نسق «جول فيرن»، وإن تكن على مستوى أعلى، وهي تتدرج من التافه مثل قصة «طعام الآلهة» إلى الجليل مثل «حرب العوالم».
ورويدا رويدا ينجذب العالم ويلز إلى الأدب والفلسفة والاقتصاد والسياسة بضغط الحوادث؛ إذ هو يعيش في مجتمع حي ويقرأ صحفا مرآوية تنقل إليه صورة العالم المعذب بالإمبراطورية البريطانية والاستعمار الفرنسي، والتعطل الذي يشقي ملايين العمال، والجهل إلى يعم الفقراء والمرض الذي يبليهم، فيشرع في الدراسة وينتهي إلى تأليف كتاب «عوالم جديدة للقدامى» يقول فيه إن العلاج الوحيد للعالم هو الاشتراكية، وليس شيء غير الاشتراكية.
وهنا يتعين موقفه فهو اشتراكي ارتقائي يساري، وعندئذ يدعوه زعماء الجمعية الفابية كي يكون عضوا فيها حتى تنتفع بمواهبه الأدبية في نشر الاشتراكية. ويدخل الجمعية ويلقي المحاضرات ، ولكنه يصطدم ببرنارد شو، وينهزم فيخرج من الجمعية، فهذه هي الحزازة الأولى بين الأديبين، وقد تركت على لسانه مرارة جعلته ينطق بتلك الكلمات الحاقدة عن موت برنارد شو وحياة بافلوف.
وكان الخلاف بشأن برنامج الجمعية، فإن ويلز أصر على أن يكون ضمن هذا البرنامج، وفي أساسه تحرير المرأة، والتحرير هنا يزيد عشرة أضعاف على ما يفهمه القارئ المصري عن معنى التحرير. وعارض برنارد شو هذا الاقتراح، لا لأنه يكره التحرير؛ بل لأنه كان يرى أن الجمعية يجب أن يقتصر نشاطها على نشر الاشتراكية، وحسبها هذا دون التطلع إلى أية دعوة أخرى.
حدث هذا حوالي عام 1906، ومن ذلك العام إلى يوم وفاته في عام 1945 نجد في ويلز المجاهد المتوسع في جهاده، وجهاده هذا للعالم وليس لبريطانيا وحدها، فهو يدعو إلى إيجاد قانون أساسي عام ينص فيه على حق كل إنسان، فلكل إنسان الحق في العيش وفي العمل، كما أن له حق التفكير والعمل، وكذلك الحق في المعرفة؛ أي يجب أن يتعلم.
وهو يدعو إلى ارتباطات ونظم عالمية لا تزال في نمو وارتقاء، حتى تتقلص الحكومات العديدة القائمة وتزول في حكومة عالمية واحدة، وهو يدعو إلى إيجاد قانون عام لصيانة الثروات العامة باعتبارها ملكا مشاعا للأمم، للبشر، أي يجب أن يحافظ على مناجم الفحم في إنجلترا أو عيون البترول في إيران، وغابات أفريقيا والهند ووحوش الغابات، باعتبار أن كل هذه الكنوز إنما هي ملك عام مشاع للبشر، وليس للأمة أن تستأثر بواحد منها.
وهو يطلب التنظيم العلمي للإنتاج، ويذكرنا أن مدينة برمنجهام وحدها تستخدم من القوة في أيامنا لإنتاج مصنوعاتها مقدار ما كانت تستخدمه بريطانيا جميعها أيام الملكة إليصابات حوالي عام 1600، وأن العلم هو الذي أدى إلى ذلك، وأننا حين نستخدم العلم في الزراعة والصناعة والبناء في أقطار العالم، فإن الجوع يزول كما أن الوقت يتوافر لجميع أبناء البشر كي يهنئوا بالسعادة، وكي يتعلموا طوال أعمارهم.
والتعليم هو وسواس ويلز، وسواسه النبيل؛ فإنه يرى أن التنظيم العلمي لأحوال عالمنا جدير بأن يهيئ الفرصة لكل إنسان كي يحظى بتعليم جامعي. وبداية هذا التعليم هو إخراج الموسوعة التي أشرنا إليها.
لست أشك في أن هناك من يحبون أن يسألوني حين أكتب عن أحد الأدباء عن قيمته الفنية، وإذن ما هي قيمة ويلز الفنية؟
وجوابي أن الفن؛ أي العناية بالتعبير الجميل، وتصوير الأهداف، والصور الجميلة ليست في ويلز أو شو أو تولستوي أو أي أديب آخر أحببته، وإنما أحببته لأنه انغمس في مهمة أكبر وأخطر وأجل وأسمى من هذا الذي يسميه البادئون والذاهلون والمموهون فنا.
Halaman tidak diketahui