فقال أحدهم في سخرية: وهذا يا ابن عبد الله أظلم السراديب وأشدها إبهاما! - الأمر في غاية الوضوح للسياسي الداهية، والخطة لعب أطفال للبصير الحاذق الفطن. - كيف يا سيدي؟ - يحبس ابن زيدون لخروجه على ابن جهور، ويلاقي صنوف العذاب. ثم يفر إلى إشبيلية موتورا ساخطا على ابن جهور، فيتلقاه ابن عباد بالسرور والغبطة، وينزله أكرم منزل، ويثق به فيطلعه على خفايا مملكته وأسرارها، ويعود ابن زيدون فيفر من إشبيلية وقد أحاط علما بمواطن الضعف فيها، وفي أسهل طريق وآمنة لغزوها، وتكر جيوش ابن جهور على المدينة، فلا تمضي ساعة من نهار إلا وهي تحت قدميه فقال أحدهم - مرحى مرحى وقال ثان يجوز، وقال ثالث الحيلة معقولة جدا. وابتسم البلنسي لمخالفيه في عطف وإشفاق وقال: غدا ستكشف لكم الأيام صدق ما أقول، وتحمس شاب منهم فقال: ليس في المسألة سياسة، وليس فيها خديعة، والذي أعلمه علم اليقين أن ابن جهور سقط على رسالة بعث بها ابن زيدون إلى ابنته رملة، فكبر عليه الأمر، وخاف إن هو انتقم منه على فعلته أن يشيع الخبر بين الناس، ويكثر فيه اللغط، فاختار أن يختلق له ذنبا بعيدا كل البعد عما يتصل بأهله، فدبر له هذه الأخلوقة وسجنه.
وتحرك شاب هادئ مستكين في مكانه وقال مترددا: ولم لا يكون اعتقال الرجل صحيحا، وأنه كان يكيد لعميد الجماعة حقا؟ فقال البلنسي: ما أظن.
وبينما هم في الحديث إذ دخل أحد أصدقائهم، وحين عرف ما يتمارون فيه صاح: على رسلكم أيها الإخوان. لقد أخطأتم جميعا، وكل ما شاع عن اعتقال ابن زيدون كذب وهراء، فقد قابلت في طريقي أبا القاسم ابن رفق، فسألته فأخبرني أن الخبر غير صحيح، وأنه من إشاعات قرطبة التي تولد في اليوم ألف مرة وتموت ألف مرة، وبعد أن فارقته لمحت من بعيد شخصا يشبه ابن زيدون على بغلته الشهباء وخلفه الخدم والعبيد.
فاضطرب القوم بين مصدق ومكذب، وكثر الحوار والجدال حتى ملئوا المكان ضجيجا.
وطار الخبر ليلا إلى دار عائشة بنت غالب فاستخفها السرور، ووقفت ترقص أمام مرآتها كأن بها مسا من جنون. ولذة الانتقام لدى النفوس المريضة أقوى من لذة الخير والإحسان في نفوس المحسنين.
وجلس ابن جهور وإلى جانبه ابنه أبو الوليد، فأخذ ينظر في وجوه وزرائه صامتا حزينا ينفخ من الهم، ويتململ من هول الحادثة. لقد كان يعرف ابن زيدون طموحا، ويعرفه قلقا متوثبا جريئا، ولكنه لم يكن يظن أن تطرحه المطامع هذا المطرح، وأن يصل به الأمر إلى إشعال فتنة طائشة لن يكون لها إلا حطبا. لقد كان يقدر نبوغ ابن زيدون ويعلي مواهبه، وكان يرد كل ما يرد إليه من وشايات به إلى حسد أنداده له وغيظهم من عجزهم عن الوصول إلى مرتبته، ولكنه علم الآن والأسف يملأ جوانحه أنهم كانوا فيما يرمونه به غير مبطلين. والتفت إلى ابن عباس وقال: ماذا ترى أن نفعل بهذا الرجل؟ - أرى أن نبقيه في السجن حينا حتى تتحطم شوكته، وتنطفئ حدته، ثم ننفيه إلى الشمال، وقال الوزير عبد العزيز بن حسن: الرأي يا سيدي أن نقتله ونستريح منه، وبذلك يحسم الداء، وتستأصل شأفة الفتنة. أما بقاؤه في السجن فمدعاة إلى الخوف الدائم، وإغراء لمن لف لفه وسلك مذهبه. وقد يتحين نصراؤه فرصة لفراره فيقتنصونها.
وأسرع ابن عبدوس فقال: هذا هو الرأي الحاسم الحازم، فإن السجن سيزيد ابن زيدون عنفا وسخطا وإصرارا وحبا للانتقام، وهو لن يعدم وسيلة للفرار، وإذا فر فذلك هو الشر المستطير ، فانتقل أبو الوليد عميد الجماعة إلى جانب ابن برد وهمس في أذنه كلمات. فوقف ابن برد عابسا وهو يقول: مهلا أبا عامر. إن ابن زيدون ليس من الهوان على الدولة بحيث تستطيع أن تمحو اسمه من سجل الحياة بكلمة هادئة راضية، والدولة التي تقتل أبناءها لزلة طائشة هي الهرة المضطربة الغريرة التي تأكل صغارها، وهي في جنونها الوحشي لا تدري ما تفعل. إن ابن زيدون قليل الأنداد والنظراء، وهو عمود هذه الدولة، وخير لنا إذا مال العمود أن نقومه حتى يثبت ما عليه من بناء، ولعله دفع إلى ما قاله بالأمس دفعا ولم يكن فيما قال صادقا.
ودخل الحاجب في هذه اللحظة يقول: إن امرأتين محجبتين بالباب تلحان في لقاء سيدي. فالتفت ابن جهور إلى وزرائه كالمتعجب وهو يقول: من هاتان المرأتان؟
فقال الحاجب: إنهما تقولان يا مولانا، إنهما جاءتا للنصح للدولة ودرء الخطر عنها. - أي خطر ويحك تدرؤه النساء؟ لتدخلا.
وفتح الباب فحسرت المرأتان عن وجهيهما القناع، فإذا نائلة الدمشقية، وولادة بنت المستكفي. فلما رآهما عميد الجماعة ظهر على وجهه الدهش وقال في عبوس: شر ما جاء بكما إلينا.
Halaman tidak diketahui