كانت نائلة الدمشقية وقد خنقت الستين لا تزال تحتفظ بأطياف هزيلة من الجمال الغابر، فكانت تشبه حديقة أهملها صاحبها سنوات فصوح
4
فيها ما صوح، وذبل ما ذبل، وتهدلت أغصان لم تمتد إليها يد بتشذيب، وتهدمت أسوار بقيت أنقاضها حولها صرعى حزينة كأنها ملت طول القيام. أو لعلها كانت تشبه بيت شعر أصابه التحريف، وتوالت عليه أغاليط الرواة، حتى كاد يفقد وزنه ومعناه. أو مزهرا ذهب طلاؤه، وتراخت أوتاره فأصبحت رناته طنينا مائتا، وأصواتا موصولة الأنين. أو رسالة غرام خط على ما فيها من غزل ونسيب، وأبقى على ما بها من شكوى السهاد وتبريح السقام.
كانت نائلة طويلة بادنة مترهلة اللحم، سطت على وجهها التجاعيد، وعلى جلدها آثار السنين، فعجزت التطرية، ولم تجد الأدهان والأصباغ في إصلاح ما أفسد الدهر إلا قليلا، واستبدت الطبيعة فأبت إلا أن تظهر آثارها، على الرغم مما يبذل في سبيل إخفائها من صنعة وفنون. كانت شاهدا صادقا على جريمة السنين، ومثلا قائما لمن يترك خلفه أجيالا ليدخل في جيل جديد. ومن العجيب أن الدهر مع عبثه بجمالها، لم يستطع أن ينال من سحر عينيها وحسن صوتها، فقد كان للمحاتها بريق ولألاء لا تعتز بهما فتاة في العشرين وكان لصوتها رنين ونغم لم تظفر بمثلهما أفنان الخمائل.
دخلت ولادة البهو فتلقفتها نائلة بين ذراعيها في وله وشغف، وأخذت تمطر خديها قبلات كان لها صوت متلاحق كزقزقة العصافير في الصباح، وبعد أن حيتها ابنة المستكفي في سرور وترحيب انطلقت نائلة تقول: لا لا يا حبيبتي! لقد أطلت هجري، وأصررت على قطيعتي على شدة حبي لك، وطول حنيني إلى رؤيتك! هذه هي المرة الثالثة التي أزورك فيها دون أن تسعد داري بإلمامة منك تشرق بها رحابها، وتشمخ على السماء قبابها. لقد كان أبوك - عليه ألف رحمة - مولعا بي، مشغوفا بمجالستي والاستماع إلى حديثي، وكنت أعرض عنه أحيانا، فعاقبني الله بإعراض ابنته عني. كان رجلا يقطر ظرفا وأدبا. ثم ضحكت وقالت: وكان أعرف بسياسة الحياة منه بسياسة الملك. زرته بعد أن خلع بيوم واحد، وقد انصرف عنه الناس، وجفاه أقربهم إليه، فأخذت أنضح
5
عنه الهم، وأسري عن نفسه بعض ما تجد بالفكاهات والأضاحيك، حتى زال عنه الحزن والأسى، وعندما ودعته شد على يدي وهو يقول باسما: لو أن الناس كانوا في وفائك يا نائلة لنسيت مرارة العزل؛ والملك امرأة فروك،
6
لا تكاد تنعم النفس بوصلها حتى تعاني صدها وقطيعتها. فأجبته مسرعة: أنتم يا بني أمية ولدتم ملوكا، وستموتون ملوكا، وإن لكم من أخلاقكم وقوة نفوسكم تاجا وصولجانا، إذا فقدتم التاج والصولجان. هذا كان حديثي مع أبيك، وهذا كان آخر العهد به. والآن أصبحت أقاسي الهجر والملال من فتاته المدللة اللعوب ولادة!
فابتسمت ولادة ابتسامة مشرقة وقالت: إن هذه الفتاة يا سيدتي تكن لك أخلص الحب وأصدق الوفاء، ولولا وعكة أصابتني ما حجبني عن زيارتك حاجب. - إنه البرد يا سيدتي! حاذريه ولا تستهيني به، فإنه كالحب يبدأ خفيف الوقع ضعيف الأثر، ثم يعظم ويستشري حتى يصبح داء عضالا. ثم اعتدلت في جلستها وقالت: أتخرجين في المساء يا بنيتي؟ نزهة مثلا في قارب في ليالي البدر، أو قضاء ليلة في منية الرصافة، أو تسلية مع بعض الصديقات في حانة «راميرز» فإن بهذه الحانة فتيات أسبانيات لهن رقص عجيب. - أحيانا قليلة يا سيدتي. - أحسنت أحسنت يا بنيتي! فإن هذه الدنيا أقصر من أن تضع بين هم وأحزان. ثم رمت ذراعيها إلى جانبيها في ألم وحسرة وقالت: آه لو عرف الشباب ما وراء المشيب! زارني بالأمس الشيخ مجاهد الأنصاري خطيب مسجد أم سلمة، وهو رجل متزمت متحرج، يخاف أن يتكلم فيأثم، أو يرسل نظرة فتهوى به في قعر جهنم. وهو فقيه مقلص، ولا يلبس «القالص» فوق رأسه بقرطبة إلا من حفظ الموطأ للإمام مالك. لم يزرني الشيخ إلا لأن له ابنا يريد أن يجعله مسجلا لأموال الزكاة، بعد أن عرف صلتي بالوزير أبي حفص بن برد. قابلني وهو مطرق مغمض العينين، يجمع ثيابه في تحرز كأنه يخشى أن يمسها طرف ثوبي. فقلت في نفسي ساخرة: أفق أيها الأبله وافتح عينيك، فإنك إن فعلت فلن تصاب بسوء، وأقسم لو زرتني من ثلاثين عاما لحملقت في كما يحملق النمر الفاتك؛ أخبرني بما شاء من شأن ابنه، ورجاني في أن ألح على الوزير في قبوله، ثم انطلق كأنه السيل الهدار
Halaman tidak diketahui