فهذا حر العقل واسع التفكير يذهب مذهب الاعتزال، وهذا يتقيد بالنص وينهج منهج الرواية والجمع فيكون محدثا، وهذا يحب عليا ويترحم على ابنه الحسين ويعطف بقلبه على من اضطهد من العلويين فيكون شيعيا، وهذا يحب أبا بكر وعمر ويمجد أعمالهما ويفضلهما على علي فيكون سنيا، وهذا يميل إلى منصب وجاه، وتقرب إلى الخلفاء بالمذهب فيكون عباسيا، وهذا بدوي لا يحب الرياسة ولا يميل إلى التأقلم ومتابعة الظروف فيكون خارجيا، وهذا يعتنق الإسلام ظاهريا والوثنية باطنيا ويكره العرب من صميم قلبه ويود رجوع دولة الفرس إلى حالتها الأولى، قبل أن يهزمهم العرب ويأخذوا بلادهم فيكون وثنيا، وهكذا، وهكذا ... من تعدد المذاهب، وتنوعها مما ليس له نظير في مجتمع آخر.
الأدب والأدباء
الأدب والشعراء
أوجدت العوامل التي ذكرناها في الفصل السابق نشاطا عقليا غريبا، وتناحرا بين الأديان المختلفة يشبه التناحر على العصبيات المختلفة، وأخذ العلماء يشرحون أنواع الأدب، ويرون أن الأدب والنقد نتيجة لبيئات مختلفة ... فصبها العلماء في العراق كلها صبا واحدا؛ فمثلا كان أدب الحجاز غير أدب الشام، غير أدب بغداد.
كان أدب الحجاز - بحكم تنحية الحجازيين عن السياسة في أيام العهد الأموي، وبحكم كثرة الغنائم وكثرة الفراغ - مجالا للترف والنعيم، ولذلك كان رافع لواء ذلك الأدب: عمر بن أبي ربيعة، وغزله، ثم ما تبعه من مدرسته تعمل عمله وتنقده.
وكان أدب الشام متأثرا ببيئته؛ إذ كانت دمشق عاصمة الخلفاء يأتيها الناس من كل فج عميق للمديح، وفيها التناصر السياسي، لهذا كان أغلب الشعر فيها مديحا وسياسة.
وكان العراق على حدود البادية؛ فكان الشعر فيها امتدادا للشعر الجاهلي، وأنشأوا فيها المربد يتسابقون فيه إلى الشعر كعكاظ، ويتحلقون حول جرير والفرزدق، فكان أدبهم من جنس الأدب الجاهلي: هجاء، وفخرا، واعتدادا بالعصيان، ونحو ذلك، فلما تحولت الحاضرة من دمشق إلى بغداد في العهد العباسي تغير الأدب؛ فأخذ الأدباء العباسيون يقفون في بغداد موقف الأمويين من دمشق والعكس، وكل الأدب الذي نتج من هذه البيئات صب جميعه في العراق بفضل ما جمعه العلماء، فكان كل ذلك أدبا عربيا يتولاه النقد.
ثم كانت الحياة الاجتماعية في العصر العباسي حياة جديدة تخالف الحياة في الحجاز والشام والعراق قبل العباسيين، وكان لا بد من زعماء جدد يشعرون بمواجهة الحياة الاجتماعية الجديدة، وهذا ما قام به بشار بن برد، وأبو نواس، وأمثالهم، وكما تأثروا بالحياة الاجتماعية تأثروا أيضا بالثقافات المختلفة التي فشت في عصرهم، فرأينا شعرا عن الأديرة، وشعرا عن عيد النيروز، وشعرا عن يوم الشعانين، وشعرا عن الأزهار الجديدة وغير ذلك، ولما ألبست زبيدة بعض الفتيات لبس الشبان أنشد أبو نواس شعر الغزل في المذكر استجابة لهذه الدعوة.
وحتى البيئات الخاصة كان لها أدب خاص؛ فقد كان جزء من العراق يعيش فيه الخوارج ... فشعروا شعرا على مذهبهم ، وقال قائلهم:
أيها المادح العباد ليعطي
Halaman tidak diketahui