فرغ العمدة من صلاة العصر وخرج إلى مجلسه من شرفة الدوار ينتظر رفاقه، وإن كان في هذه الأيام لا يطيق أن يرى أحدا، فالمركز يطلبه دائما وهو حائر لا يدري ماذا يفعل، والمأمور لم تجد معه الهدايا والتزلف، فإن الجرائم التي ارتكبت كانت أكبر من كل الهدايا مهما تعظم، ومن أي تزلف مهما يبلغ، حتى لقد هدده المأمور بالوقف إن هو لم يقبض على الفاعل، وطلب إليه أن يكون على صلة دائمة به ليبلغه كل إشاعة تروج، فلعل لإشاعة منها امتدادا للحقيقة.
ولم يطل الانتظار المنفرد بالعمدة فقد قدم إليه نور الكحلة وما كان يتوقعه، ولكنه فرح بلقياه فهو يعرف عنه أنه خريج سجون ويعرف المجرمين، وداخل العمدة أمل أن يجد عند نور ما يضيء له بصيصا مهما يكن خافتا يهديه في هذا الظلام الحالك، وقال في نفسه: إن لم يرشدني إلى الفاعل فلعله يرشدني إلى اسم أقدمه إلى المأمور فيلهيه عني بعض الحين، وهكذا وجد نور نفسه فجأة محل ترحيب لم يكن ينتظره. - أهلا وسهلا كيف حالك يا نور، أين أنت يا أخي؟ من زمن طويل لم أرك. - تحت أمرك يا حضرة العمدة تشوقت إليك والله فقلت أزورك. - والله جئت في وقتك يا نور. - تحت أمرك يا حضرة العمدة. - يا أخي المصائب تتلاحق على البلدة ولا أجد أحدا منكم يساعدني، لا، لم أكن أنتظر هذا منكم يا نور. - نحن خدامك يا حضرة العمدة ماذا نفعل؟ أنت تعرف طبعا أننا لا شأن لنا بهذه الأعمال. - سبحان الله يا أخي! وهل قلت إن لكم شأنا؟ إنني أعرف خطواتكم جميعا، وطالما سكت عما يفعله منصور والنمرود والولد الزهار أيضا، وكنت أقول ما داموا يبتعدون عن البلدة فليفعلوا ما شاءوا. - والله يا حضرة العمدة إن هذه الجرائم لم ندر بها إلا بعد وقوعها. - أعرف، ولكني كنت أنتظر منكم أن تبحثوا معي عن الفاعل وتدلوني إليه، أيرضيكم أن يصبح عمدة بلدكم ضحكة في أفواه العمد؟! - لا قدر الله يا حضرة العمدة. - لقد قدر فعلا، وأنا من أسكت عنكم، وأعرف أن النمرود يبيع الحشيش ويساعده في ذلك الزهار ولم أتكلم، بينما أستطيع أن أبلغ عنهما، وأعرف أن منصورا قتل الفرماوي، وأعرف كل من قتلهم منصور ومع ذلك لم أتكلم. - إنهم يا حضرة العمدة يدعون لك دائما ويعرفون أنك تكرمهم، وهم في انتظار الإشارة منك. - ألم تسمعوا شيئا عن الفاعل في هذه الجرائم؟ - يا حضرة العمدة هذه المصيبة جاءت من الخارج، رجال لطيف بك غاضبون، وأصبحوا يخشونه بعد مقتل الفرماوي، وهو يعرف تخوفهم هذا، فأصبح لا يعطيهم ما كان يعطيهم، فأظن أن واحدا منهم أو بعضهم خرج إلى الطرقات المظلمة ليعوض ما أكله عليه لطيف بك. - يا أخي قل كلاما غير هذا، ومن أين يعرفون بخروج الشيخ عبد الودود، وبمجيء الخواجة استاورو إلى البلدة، وبسفر السلامي وعودته؟ لا يا عم، شرع الله عند غيرك إنه واحد من أهل السلام. - والله يا حضرة العمدة أنت أدرى ولكن هذا ما بلغنا، ورجال لطيف لا تخفى عليهم خافية، وأولاد الحرام كثير. - جائز، ولكن لا أظن، على أي حال يا نور لك عندي جائزة كبيرة إن أنت عرفت الفاعل وأرشدت إليه. - ربنا معنا يا حضرة العمدة.
وقبل أن يجيب العمدة صعد إلى الشرفة الشيخ رضوان والحاج علي، ورحب العمدة بالرجلين، وبدأ الحاج علي الحديث: أسمعت يا حضرة العمدة الإشاعة التي ملأت البلد اليوم؟ - هيه. - يقولون إن رجال ... - لطيف بك؟ - نعم، أبلغك هذا؟ - والله نور هو الذي قال لي الآن. - الإشاعة في البلد كلها يا حضرة العمدة. - كلام فارغ، المجرم من البلد ولكن من هو، لا أعرف، مجرم جديد لا نعرفه ...
وقال الشيخ رضوان: سنريحك من حديث الجرائم قليلا بحديث فارغ؟ - خير؟ - لا والله إنه ليس خيرا ولكنه أهون من هذه الجرائم، إنه تسلية على كل حال. - ماذا؟ - سعدية أم الخير ... - وصالح ثانية. - يا حضرة العمدة، العيشة لا تمكن بينهما، لا تمكن أبدا. - لماذا؟
فقال الحاج علي: غضبت منه ثانية. - قل عاشرة.
فضحك الجميع من نكتة العمدة، وتابع الحاج علي حديثه: وذهبت إلى دارها، وأظنها ستجيئ إليك الآن. - عظيم لم يبق أمامنا إلا سعدية وصالح نقيم لهما عمودية ثانية خاصة بهما، عظيم، عظيم!
وقبل أن يكمل العمدة سخطه يصعد صالح إلى الشرفة ... - السلام عليكم يا حضرة العمدة.
ويجد العمدة مصدر سخطه أمامه، فيقول في سخرية مريرة وفي ضيق بلغ مداه: عليكم السلام يا سيدي ورحمة الله وبركاته، نعم! - البنت سعدية. - ما لها؟ - تركتني وذهبت. - في ستين داهية، اسمع يا بني اقترب هنا، خذ ...
ويضع العمدة يده في جيب صداره ويخرج حافظته ويخرج منها جنيهين، ويكمل حديثه: خذ يا صالح جنيهين ثمن الفراخ وأنت حر مع زوجتك، تطلقها تطلقك، تقيم معك تتركك، المهم أن تتركني أنت يا بني، ارحمني يا أخي! - يا حضرة العمدة وهل طلبت منك ثمن الفراخ؟ - من غير طلب يا بني، يا بني ابعد عني، اعمل لي هذا المعروف يا بني. - وإلى من أذهب يا حضرة العمدة، إنها ...
وقبل أن يكمل صالح حديثه تصعد سعدية إلى الشرفة وترتمي على قدمي العمدة. - خلصني يا حضرة العمدة، أنا خادمتك، ليس لي في الدنيا غيرك يا حضرة العمدة، أنت الذي رميتني وأمرتني أن أصالحه، أرجوك يا حضرة العمدة، أبوس رجلك يا حضرة العمدة.
Halaman tidak diketahui